تجار المناسك: كيف تسببت تأشيرات مزيفة في وفاة حجاج مصريين؟

موسم الحج هذا العام شهد وفاة أكثر من ألف شخص بسبب الإجهاد الحراري، بينهم نحو 658 مصريًا بدون تصاريح حج. الكثير من هؤلاء تم دفنهم في السعودية دون إبلاغ ذويهم.
Picture of آية ياسر

آية ياسر

كانت هناء أبوالفتوح، التي شارفت على الستين من عمرها وعلى وشك التقاعد من عملها بوزارة التربية والتعليم، تحلم بقضاء العمرة في شهر رمضان الماضي، ليرشدها بعض معارفها إلى سمسار للحج والعمرة ينتمي إلى مدينتها كفر الدوار بمحافظة البحيرة، الذي اعتاد احضار تأشيرات زيارة للمملكة العربية السعودية، لأهالي المحافظة، بغرض استخدامها لتأدية الحج والعمرة.

“السمسار أكد لنا أنه لا توجد أي مشكلات وأن الموضوع آمن للغاية، وأن من سبقونا إلى السفر العام الماضي لم يواجهوا عقبات، واقنعني الناس باستخدام التأشيرة لقضاء فريضة الحج بدلاً من العمرة، عرفنا السمسار على زميل له يعمل بمكتبة الإسكندرية، جمع من كل شخص مبالغ مالية تتراوح ما بين 85 – 110 ألف جنيه، وأخبرنا أنه يعمل لحساب شركة آل عزيز للرحلات في قرية البصارطة في دمياط، لكن لم أستطع السفر إلى دمياط للتأكد من صحة حديثه”.. تحكي هناء إلى زاوية ثالثة

تضيف: “كنا نحو 52 شخصًا، أغلبهم من البحيرة والإسكندرية ودمياط وأسيوط، ومن الفلاحين كبار السن الأُمييّن، الذين لا يعلمون الفرق بين تأشيرتي الحج والزيارة، ووصلنا إلى مطار جدة في الـ 11 من الشهر الجاري، ذهبنا إلى مكة حيث قضينا ثلاث ليالٍ في فندق هناك، ثم نقلنا السمسار السكندري إلى سكن في منطقة نائية بمكة، تسمى حي الغسالة؛ لكن سرعان ما داهمت الشرطة سكننا وأجبرتنا على العودة إلى جدة، وهناك تم تصويرنا وأخذ بصماتنا، وتفاجئنا بأن السمسار أخذ أموالنا التي دفعناها وفر هاربًا وتركنا خلفه وحيدين”.

تتذكر”أبو الفتوح” كيف اضطررت ومن معها إلى استئجار حافلات تعيدهم إلى مكة من طريق جبلي بعيدًا عن رقابة الشرطة السعودية، نظير ألفي ريال من كل شخص، وفي حين وصلت الحافلة التي تحملها بسلام إلى مكة فإن حافلة آخرين قادمين من الإسكندرية تعرضت لحادث على الطريق الجبلي، واختبئت السيدة المسنة مع رفاقها في سكن نائي، حتى سمعوا بشائعة العفو الملكي عن الحجاج غير الشرعيين والسماح لهم بتأدية مناسك الحج، فاندفعوا إلى الأراضي المقدسة؛ لكنهم صدموا يوم عرفة باستمرار مطاردات الشرطة السعودية لهم، إضافة إلى قوات من الجيش ومتطوعين، لمنعهم من تأدية المناسك، في ظل تحليق طائرات هليكوبتر كانت ترصد حافلات الحجاج المخالفين، وتقوم بتصويرها؛ لذا اضطر الكثيرون للسير على الأقدام إلى نحو 16 كيلو متر، وسط حرارة بلغت 56 درجة مئوية آنذاك، حسب وصفها.

تستطرد أنها لم تتمكن من صعود جبل عرفات؛ بل وصلت إلى أطرافه فقط، وتورمت قدماها، بينما توفي عدد كبير من أبناء مدينتها بسبب الحر الشديد والسير لمسافات طويلة، بينما نقل بعض منهم وقد أصيبوا إلى المستشفى.

وحسب رواية “أبو الفتوح” فقد نجحت أخيرًا في الوصول إلى المزدلفة ولم تجد وسيلة مواصلات لنقلها، فاضطرت إلى السير على قدميها، ووصلت إلى منى لرمي الجمرات، بعد غروب الشمس؛ ما اضطرها لقضاء ليلة شاقة في الطرقات مع آلاف من الحجاج غير الشرعيين.

 

التعرض للخداع

وفي حين علمت “أبو الفتوح” قبل سفرها إلى السعودية بأن تأشيرتها للزيارة؛ فإن هيام حسني، ابنة محافظة الإسكندرية، لم تدرك ذلك، وتعرضت للخداع من شركتين للسفر بالإسكندرية،  تدعى إحداهما “إيثار للرحلات والنقل السياحي” والأخرى “آل نمرة للحج والعمرة”، بعدما عثرت على إعلان لهما على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، يتضمن برامج مشترك للحج والعمرة، فقصدت مقر شركة “إيثار”، والتقت بشخص يدعى “متولي” زعم أنه مالك الشركة، وأخبرها بأن أمها ستحصل على تصريح بالحج واسورة وبطاقة هوية وتتمكن من دخول الحرم وقتما تريد وإقامة مصرحة بفندق في منطقة “العزيزية” وستوفر لها وسيلة مواصلات، وعرض عليها صورًا للفندق، كان كل ذلك في مقابل مبلغ مالي قدرته بـ 135 ألف جنيه.

“بعد وصول والدتي إلى السعودية صدمت كلتانا بأن كل ما قيل لنا كان كذبًا؛ فما حصلت عليه هي تأشيرة زيارة وليس مصرح لنا بالحج وأصبحنا مهددتان بمطاردة الشرطة، ولم يتم تسكيننا في فندق كما كان متفقًا عليه، بل في بناية متردية مليئة بالحشرات في منطقة بـ العزيزية بعيدة عن الحرم”. تحكي “حسني”.

في يوم وقفة عرفات تم تركها في الشارع هي ومن معها دون وسيلة مواصلات، ليسيروا على الأقدام مسافة طويلة وصولاً إلى جبل عرفات، ثم السير من عرفات إلى منى لرمي الجمرات، وهي سيدة مسنة مريضة قلب وسبق لها الخضوع لعملية تركيب دعامات في القلب، تضيف: “أتمت والدتي والفوج الذي جاءت معه، مناسكهم دون مشرف”. 

أما “نسرين محمد” فلم تكن تتصور أنها لن ترى والدتها “عفاف عبدالعال” ذات الأعوام ال٧٢، مجددًا، بعد سفرها في السادس عشر من مايو الماضي إلى السعودية، عبر تأشيرة زيارة، لقضاء فريضة الحج؛ فقد كانت تنتظر هي وأشقاءها بفارغ الصبر عودة أمهم إلى مصر في التاسع من يوليو المقبل، بعد قضاءها المناسك.

تحكي”نسرين”، لزاوية ثالثة كيف كانت والدتها التي كانت تقيم بشبرا الخيمة في محافظة القليوبية، تحلم بالحج، لكنها لا تمتلك المبلغ اللازم لذلك والذي يصل لنحو ٣٠٠ ألف جنيه، لكن أحد معارفها دلها على شركة في شارع فيصل بالجيزة، تسمى الإسراء لخدمات الحج والعمرة، والتي قال لها أحد موظفيها بأنهم سيجعلونها تحج بتكلفة أقل، ولم يشرح لها أحد أن تأشيرة الزيارة غير مصرح لها بالحج، مبينة أنها سددت للشركة مبلغ ٨٠ ألف جنيه وحصلت منها على إيصال بذلك، كما سددت مبلغ ٢٥ ألف جنيه نظير استخراج تأشيرة الزيارة لها.

“بعد وصول أمي إلى السعودية جعلتها الشركة تقيم في سكن بمنطقة العزيزية في مكة ومعها ١٠٠ شخص آخرين جاؤوا للحج، لكن الشرطة السعودية داهمت سكنهم أربع مرات، حكت لي أمي أنها اضطرت ذات مرة للاختباء مع ٥ نساء مسنات مثلها وسط القمامة فوق أحد الأسطح للهروب من الشرطة، وأنهم أجبروهم عدة مرات على العودة إلى جدة، ودفعت أمي مبلغ ٥٠٠ ريال سعودي للحافلة لتتمكن من العودة إلى سكنها في مكة، لكن في المرة الخامسة التي تعرض فيها السكن للمداهمة من الشرطة عرضت إحدى زميلات أمي على الشرطي رشوة ليتركهم لأنهم تعبوا من الهروب وأغلبهم مسنين ومرضى، فجعل كل واحد منهم يسدد له ١٥٠ ريال وتركوهم في السكن”.. تقول نسرين.

فصل آخر من المعاناة واجهته السيدة السبعينية “عفاف” بدأ مع بداية مناسك الحج، سرعان ما كبدها حياتها لاحقاً؛ إذ لم توفر الشركة لها ولزملائها وسيلة مواصلات تنقلهم من العزيزية إلى جبل عرفات، فاضطروا للسير على الأقدام، وتحت وطأة الإجهاد والحر الشديد شعرت بأنها ستفقد وعيها، فحاولت الحصول على زجاجة ماء أو أي طعام مما يتم توزيعه على الحجاج، لكن المسؤولين عن تنظيم ذلك رفضوا إعطاءها أي شيء لأنها لا تحمل تأشيرة حج، حتى سقطت مغشياً عليها.

بعد فترة استعادت الحاجة “عفاف” وعيها بحسب ما تحكي ابنتها “نسرين”، لكنها اكتشفت أن الفوج الذي جاءت معه تحرك إلى منى وتركها وحيدة؛ فتحاملت على نفسها لتسير إلى منى آملة اللحاق بهم وتأدية بقية المناسك، لكن جسدها الضعيف لم يحتمل، حاولت الاستغاثة بسيارة إسعاف لكنهم رفضوا مساعدتها لأنها حاجة غير شرعية، فسقطت على الأرض ودخلت في غيبوبة، ونقلتها الإسعاف إلى المخيمات في منى، وأبقوها هناك طيلة أيام العيد معلقة بأجهزة، بينما أهلها يموتون قلقاً عليها ويبحثون عنها في كل مكان، قبل أن يتم نقلها إلى مستشفى المعيصم جثة هامدة في رابع أيام العيد.

“كانت أعداد الوفيات رهيبة، ظل قريب لنا متواجد في الحج، يبحث عنها، ورأى الكثير من الجثث المنتفخة والملقاة في الشارع، أغلبهم لم يكن قد استدل على هويتهم، أما والدتي فكان معها جواز سفرها؛ فقاموا بدفنها هناك دون أن يخبرنا أحد، كنا نموت قلقاً عليها، بينما هرب مندوب الشركة وأغلق هاتفه ولم يستعدنا أي مسؤول بالشركة في البحث عنها، ولكن ساعدنا مصري مقيم في السعودية على معرفة مصيرها بعدما سأل عنها رئيسة الأطباء في مستشفى المعيصم، ليكتشف أنها دفنت بالفعل!”.. تضيف “نسرين”.

الخداع الذي مارسته بعض مكاتب الرحلات، طال أيضًا محمد عطية وزوجته الطبيبة البيطرية أنوار مصطفى، المقيمان بمدينة بنها في محافظة القليوبية، بعدما قصدا مكتب للرحلات الداخلية والخارجية يدعى “الفريد”، ليقوم بتسفير الزوجة إلى السعودية لقضاء فريضة الحج، ضمن برنامج شامل يفترض أن يتضمن تأشيرة الحج و الطيران على الخطوط الجوية السعودية والسكن والمخيمات والوجبات والتصعيد، نظير مبالغ تتراوح ما بين 180 ألف إلى 230 ألف جنيه، تقاضاها من كل فرد من الفوج البالغ عددهم 30 فرد.

يقول: “تفاجئنا عند سفر زوجتي بأن المكتب قام بتغيير حجز الطيران الخاص بهم من رحلة القاهرة/ جدة إلى رحلة القاهرة/ الرياض، ثم طيران داخلي إلى جدة، وهناك تركهم مالك المكتب في سكن وأخبرهم أن سيذهب إلى مكة مدة يومين للتحضير لدخولهم؛ حيث كانت هناك محاولات لدخول حاملي تأشيرات الزيارة، لكنه اختفى تمامًا، واضطر حجاج الفوج لتحمل تكاليف التصعيد من مكة المكرمة ومشعر منى إلى صعيد عرفات، على نفقتهم الشخصية والذهاب إلى أماكن المناسك سيرًا على الأقدام، وكثير منهم ضل طريقه، وعادوا بصعوبة إلى السكن، ونفذت أموالهم وأصبحوا غير قادرين على الذهاب إلى المدينة المنورة”. 

يؤكد “عطية” أن مالك مكتب السفريات لم يحجز يقدم في الحقيقة بحجز سكن لهم، كما أنهم ظلوا عاجزين عن العودة إلى مصر لأنه لم يقم بحجز تذاكر الطيران لعودتهم.

 

مئات الوفيات والمفقودين

شهد موسم الحج هذا العام أزمة غير مسبوقة أسفرت عن وفاة أكثر من ألف شخص أثناء أداء مناسك الحج بسبب الإجهاد الحراري، بينهم نحو 658 مصري منهم 630 لا يحملون تصاريح للحج، إلى جانب 1400 مفقود، بحسب وكالة الأنباء الفرنسية، في حين اطلعت “زاوية ثالثة” على كشف يضم 323 حالة وفاة من الحجاج حاملي تأشيرة الزيارة، و 581 مصابًا، ووفقًا لبيان الهيئة العامة للاستعلامات؛ فقد توفي 28 حاجًا فقط من البعثة المصرية الرسمية للحج والبالغ عددها 50752 مصريًا.

في بيان لها، أكدت وزارة الداخلية المصرية أنه لا يوجد مفقودين من الحجاج المصريين (القرعة، والسياحة، والتضامن)، المسجلين ضمن المنظومة الخاصة بالبوابة المصرية الموحدة للحج، وأن المفقودين غادروا البلاد لأداء فريضة الحج بمعرفتهم الشخصية.

وأفاد عدد من أهالي الضحايا، لـ”زاوية ثالثة”، أن ذويهم من الحجاج غير الشرعيين كانوا في عداد المفقودين، وأنهم بحثوا عنهم لأيام قبل أن يكتشفوا أنهم توفوا خلال مناسك الحج، وما يدعو للاستنكار أن السلطات السعودية قامت بدفنهم دون إعلام ذويهم بذلك، أو إتاحة الخيار لهم لاستلام الجثامين ودفنها في مصر.

وكرد فعل على الأزمة، أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي توجيهاته بتشكيل خلية أزمة برئاسة رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، لمتابعة وإدارة الوضع الخاص بحالات وفاة الحجاج المصريين، بينما أعلن “مدبولي” في بيان له، أن حكومته تقوم بتنسيق فوري مع السلطات السعودية؛ لتسهيل استلام جثامين المتوفين من المصريين، والحصر الدقيق للضحايا والمفقودين، لكن نظرًا لعدم وجود أي بيانات مسجلة للحجاج غير النظاميين لدى البعثة الطبية، تعذر متابعة أحوالهم الصحية؛ ما صعّب من مهمة الحكومة، وتعهد بمعاقبة كل من تسبب في السفر غير النظامي.

 

ضحايا النصب والاحتيال

صفحة على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” لشركة تطلق على نفسها “دريم للسياحة”، أوهمت الطبيب محمد سعد، المقيم في محافظة البحيرة، والمتواجد الآن بالسعودية؛ لتأدية مناسك الحج عبر تأشيرة زيارة، أنها ستقوم بحجز تذكرة الطيران له ذهابًا وعودة، وتقاضت منه مبلغ 22 ألف و400 جنيه. حسب شهادته ظلت الشركة تماطل دون أن تقوم بإرسال التذكرة؛ ليكتشف في النهاية أنه وقع فريسة للنصب والاحتيال وتقدم ببلاغ إلى مديرية أمن البحيرة.

“عثرت على الصفحة عن طريق مجموعة على فيسبوك لحجوزات الطيران، وتواصلت معهم على رقمهم عبر تطبيق واتساب، وطلب مني صاحب الشركة تحويل المبلغ له عبر حساب بنكي على بنك الأهلي الكويتي، باسم شخص يدعى رامي إسماعيل، ثم اتضح لي أنني تعرضت للنصب؛ فتقدمت ببلاغ إلى مباحث الإنترنت في مديرية الأمن، واضطررت للسفر للحج، فيما يتابع المحامي الخاص بي سير القضية”.

عمليات النصب والاحتيال من مكاتب للرحلات و كيانات وهمية وسماسرة للحج والعمرة، لم تقتصر على موسم الحج الحالي، وما تعرض له بعض الحجاج المصريين الذين دخلوا إلى السعودية عبر تأشيرة زيارة؛ بل سبق وأن تعرض لها ضحايا تم إيهامهم من سماسرة بأنهم يسافرون لقضاء العمرة عن طريق تأشيرة المرور/ الترانزيت عبر السعودية، وتقاضي مبالغ مالية ضخمة منهم قبل أن يكتشفوا أنهم وقعوا فريسة للنصب والاحتيال.

كانت سارة مختار واحدة من 30 شخصًا انضموا إلى مجموعة عبر تطبيق “فيسبوك” لعمرة الترانزيت مدة أربعة أيام، تعرفوا من خلالها على سمسارة للحج والعمرة، تدعى “الشيماء” وتقيم بالإسكندرية، حصلت منهم قرابة الثلاثة ملايين جنيه، أوهمتهم بأنها ستحضر لكل منهم تأشيرة ترانزيت وتحجز لهم تذاكر الطيران وتوفر لهم التنقلات والإقامة في فندق؛ لكنهم صدموا في اليوم المتفق عليه لسفرهم بأنها كاذبة، ولم يسافر من مجموعتهم سوى أربعة أشخاص فقط، تركوا وحدهم في ظروف قاسية، دون توفير فندق أو وسائل تنقل لهم.

تسرد سارة ابنة مدينة طهطا بمحافظة سوهاج، في حديثها إلى زاوية ثالثة، كيف خدعتها السمسارة، وكيف أنها دبرت شهادات كاذبة عبر حسابات وهمية على مواقع التواصل الاجتماعي تشيد بها. إذ سددت لها مبلغ 78 ألف جنيه، لتقوم بتسفيرها هي وعدد من أقاربها لتأدية العمرة؛ لكن السمسارة أحضرت تأشيرات لأربعة أشخاص فقط، و اصطحبت جزء من المجموعة معها إلى المطار بلباس الإحرام، وأخبرتهم أنها تستخرج لهم التأشيرة الآن وحصلت منهم على أموال إضافية، ثم زعمت أن شخصًا ما ألغى حجز الطيران الخاص بهم، ما دفعهم إلى مطالبتها برد أموالهم، لكنها رفضت فأجبروها على الذهاب إلى قسم الشرطة، حينها اكتشفوا تعرضهم للاحتيال.

 تواصلوا مع “سارة” ورفاقها وتقدم 15 منهم بمحضر ضدها في 15 ديسمبر من العام الماضي، يحمل الرقم 19161 جنح، تم توقيفها بموجبه وإحالتها إلى النيابة، ليصدر بحقها حكمًا بالسجن ثلاثة سنوات، لكنها خرجت بكفالة على ذمة القضية حتى موعد جلسة الاستئناف، ولم تحضر الجلسة، وتم تأييد الحكم الصادر ضدها، لكنها لا تزال هاربة، بحسب ما تقول “سارة”.

 

التستر على السماسرة

حاولنا في زاوية ثالثة التواصل مع عدد من سماسرة الحج والعمرة، لكن أغلبهم تحفظوا على الرد، بينما أغلق بعضهم حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي؛ نظرًا لتوجيه أصابع الاتهام لهم بالتورط في مذبحة الحجاج هذا العام.

نجحنا في التواصل مع أحدهم، ويدعى محمد حسن (من مركز الواسطى بمحافظة أسيوط، إحدى محافظات صعيد مصر)، يقول إنه يعمل لحساب نفسه كسمسار للحج والعمرة، لكنه يتقاضى المبالغ المالية المتفق عليها عقب الانتهاء من كافة الإجراءات الخاصة بالتأشيرة والسفر، ويشير إلى أنه يرافق حاليًا فوجًا من حجاج التأشيرة في السعودية، مؤكدًا أن التأشيرات متوقفة حاليًا لحين انتهاء موسم الحج. ووفق حديثه إلينا، فإنه يتقاضى نحو 80 ألف جنيه من عملائه نظير خدماته.

قريب أحد ضحايا حج الزيارة أرشدنا إلى مكتب الحاق عمالة بالخارج، يقع في المحلة الكبرى بمحافظة الغربية، وتدعى “الحسام”؛ تواصلنا معها وكان رد المسؤول علينا بأنهم يوفرون تأشيرة الزيارة الشخصية السارية لمدة سنة، نظير مبلغ 25 ألف جنيه، ويمكنهم حجز تذاكر الطيران، لكنهم غير مسؤولين عن برنامج الحج والعمرة، كما لا يوفرون تأشيرة الترانزيت للراغبين في العمرة، مؤكدًا هو الآخر أن تأشيرات الزيارة متوقفة حاليًا.

تعليقًا على انتشار السماسرة، تقول شويكار إبراهيم – مالكة شركة الثريا للسياحة-، إن ما يقوم به سماسرة أو مناديب الحج والعمرة يتسبب في توجيه الاتهامات لشركات السياحة، مبينة أن السماسرة يعملون في القطاع منذ سنوات بسبب وجود ثقافة مجتمعية في القرى والأقاليم تجعل الناس يثقون في أبناء بلدتهم أو منطقتهم أكثر من شركات السياحة، وتجعلهم يتسترون عليهم ويتغاضون عن أخطائهم.

بمرور الوقت أصبحت هناك شركات بعينها تبيع التأشيرات فقط، ومؤخرًا أطلقت السعودية أنواع مختلفة من تأشيرات الزيارات، تضمنت التأشيرة التجارية والتأشيرة الشخصية التي لا تشترط مهنة أو سن، والتأشيرة السياحية والتي تتطلب حجز فنادق وكشف حساب ومهنة، وكانت معظم تلك التأشيرات يتم رفضها دون إبداء سبب؛ ولكن العام الماضي سهلت المملكة الشروط وأعطت للسعوديين الحق في إرسال مستند تأشيرة شخصية لعدد خمسة أفراد بتكلفة منخفضة؛ ما دفع أعداد كبيرة للسفر إلى الحج العام الماضي مستخدمة تأشيرة الزيارة.

تضيف: “حذرنا العملاء من السماسرة والسعودية غضت البصر عن ما حدث العام الماضي، وأوقفت عدد قليل من حجاج الزيارة للحصول على بصماتهم، وسمحت للجميع بالحج، وهو ما شجع السماسرة على استخراج تأشيرات زيارة بغرض الحج لأعداد كبيرة؛ لكنهم لم يوفروا لهم وسائل مواصلات، ومع العدد الهائل والذي لا يتناسب مع حجم الخدمات المتوفرة، وارتفاع درجات الحرارة، وقعت حالات الوفاة، بينما فقد غيرهم”.

 تبين “إبراهيم” أن سبب إقبال هؤلاء على تأشيرات الزيارة هو انخفاض التكاليف مقارنة مع الحج الشرعي، الذي جاء بسبب تأثير انخفاض قيمة الجنيه وزيادة قيمة الريال السعودي لتبلغ 12 جنيه وصعوبة توفير العملة الأجنبية لشركات السياحة؛ ما يضطرهم للتعامل مع السوق السوداء لتدبير الريالات اللازمة لدفع قيمة 70% من البرامج، وهو ما انعكس على تكلفة خدمات الحج والعمرة وأسعار الطيران والرسوم التي تفرضها وزارة السياحة على استخراج الباركود، عبر البوابة المصرية للعمرة التي يذهب 90% منها إلى خزينة الدولة و10% فقط لغرفة السياحة.

بحسب البوابة المصرية للعمرة، فإن تأشيرات السعودية التي يجب على حاملها الحصول على باركود البوابة المصرية للعمرة كشرط للخروج من المنافذ المصرية هي، تأشيرات الزيارة الشخصية والسياحية، وتأشيرات زيارة الفعاليات والزيارة الحكومية لغير الحكوميين وزيارة المضيف.

وتبلغ تكلفة حج القرعة الحكومي في مصر 149 ألف جنيه مصري بدون تذكرة الطيران، وتتراوح بين 35 و50 ألف جنيه، وحج الجمعيات الأهلية (حكومي)، يتراوح سعره بين 151- 235 ألف جنيه من دون تذكرة الطيران.

 

 

تعدد جهات إصدار التراخيص

تُعزي شعبة السياحة والطيران بالغرفة التجارية بالإسكندرية، في بيان لها، قيام الكثير من المواطنين المصريين بالسفر لأداء فريضة الحج بتأشيرات الزيارة غير الصالحة للحج، لوجود العديد من السماسرة وخاصة في القرى و النجوع والذين ليس لهم أي علاقة بمنظومة الحج الرسمية، بغرض التربح و بالمخالفة لقوانين الدولة وخاصة قانون بوابة الحج المصرية رقم 84 لسنة 2022.

يوضح حسام  الحلو – رئيس شعبة السياحة والطيران بالغرفة التجارية بالإسكندرية-، أن قيام شركات السياحة المرخصة بإصدار الباركود لتأشيرة الزيارة غير الصالحة للحج لا يعتبر مخالفة للقانون، مؤكدًا أن المخالفة هي إصدار باركود بغرض تنظيم رحلة حج خارج بوابة الحج، بالمخالفة للقانون، وأن من يثبت تورطه فى تنظيم رحلات الحج بتأشيرات الزيارة، يتم عقابه.

وبسؤاله عن عمرة الترانزيت وعمرة الفعاليات، أكد “الحلو” أن تنظيم رحلات العمرة خارج بوابة العمرة كلها مخالفة أيًا كانت مسمياتها، مضيفًا أن الحج بطريقة شرعية، تقوم بتنظيمه ثلاث جهات في مصر، وكلها يتم اختيار الحجاج فيها بواسطة القرعة، وأن الجهات هي وزارة الداخلية ووزارة التضامن الاجتماعي وشركات السياحة.

بدورها، نفت غرفة شركات ووكالات السفر والسياحة، في بيان لها، وجود علاقة بين شركات السياحة المصرية المنظمة لرحلات الحج والمواطنين الذين سافروا لأداء الحج هذا العام من خلال تأشيرات الزيارة، وأنها تقوم بتنظيم رحلات الحج طبقًا لضوابط صارمة تضعها وزارة السياحة والآثار وتمنع تلك الضوابط تنظيم رحلات الحج إلا بالتأشيرات النظامية المخصصة للحج السياحي فقط. ويتعرض من يخالف تلك الضوابط لعقوبات مشددة، وأنها تعاني من السماسرة والوسطاء والكيانات غير الشرعية والشركات الوهمية ومكاتب الخدمات السياحية التي تعمل بدون ترخيص من وزارة السياحة والآثار وتعرض حياة المواطنين للخطر.

ويحمل أيمن عبداللطيف – عضو غرفة شركات ووكالات السفر والسياحة، مسؤولية أزمة الحج الأخيرة المتعلقة بتأشيرات الزيارة إلى بعض شركات العمالة وبعض مكاتب الرحلات التابعة للغرفة التجارية وغير المرخصة من وزارة السياحة المصرية وشركتي “أبشر” و”تساهيل” والخطوط الجوية السعودية، معتبرًا أن 75% من السماسرة يتبعون جهات كبعض المساجد والأندية والشركات، وأن الحج والعمرة تحولا بالنسبة إليهم إلى تجارة، ولا تتم محاسبتهم ويتم توجيه اللوم لشركات السياحة المرخصة، رغم أن شرطة السياحة لا تراقب إلا الكيانات المقننة وليس مكاتب الرحلات والعمالة والسماسرة، لافتًا لأن 90% من شركات السياحة لا علاقة لها بتأشيرات الزيارة، وأن 10% منها انزلقت إلى إصدار الباركود لصالح السماسرة.

ويكشف عضو غرفة شركات ووكالات السفر والسياحة، أن 99% من الوفيات والمفقودين في موسم الحج 2024، جاؤوا بتأشيرات زيارة، لكون الحج النظامي يتضمن توفير وسائل الأمان والراحة كـ السكن والمواصلات والوجبات وتواجد المشرفين والمطوفين، مضيفًا أن وزارة السياحة كان لديها 51 ألف تأشيرة للحج وأجرت القرعة على 23 ألف منها فقط، وعرضت البقية للبيع بقيمة خمسة آلاف دولار للتأشيرة الواحدة، لكنها لم تتمكن من بيع سوى ألفين منها فقط، وأعادت البقية للسعودية بدلًا من إجراء القرعة عليها، ما خلق فراغ في الحج النظامي.

يقول عبد اللطيف، إن السعودية في رؤيتها لـ 2030 فتحت الباب لـ30 مليون سائح، وأتاحت تأشيرات الترانزيت والزيارة الشخصية والتأشيرات السياحية والتجارية وتأشيرات رجال الأعمال وتأشيرات الشينجن، إلا أن غالبية من يزورون السعودية يأتون للحج والعمرة، لكونها تحتوي على المزار الديني الأول للمسلمين في العالم، مطالبًا بتغيير بعض قوانين وزارة السياحة التي ساهمت في لجوء البسطاء إلى أساليب غير شرعية للحج والعمرة، ومنها منع من سبق لهم الحج عن الدخول إلى القرعة، حتى لو مر على ذلك 20 عام، إضافة لضرورة إلغاء تعدد جهات إصدار تراخيص الشركات العاملة بمجال الخدمات السياحية، ومنها شعبة السياحة بالغرفة التجارية، وقصرها على وزارة السياحة لمنع التداخل في تنظيم الحج والعمرة، مضيفًا أن غرفة شركات ووكالات السفر والسياحة، سبق أن تقدمت بعدة بلاغات للوزارة بشأن ما تقوم به تلك الشركات والسماسرة من تنظيم رحلات غير شرعية للحج والعمرة، لكن الوزارة ردت بأنها لم تتلق شكاوى بذلك، وأن السلطات كانت مهتمة بالحصول على رسوم إصدار الباركود من وزارتي السياحة والداخلية نظير ألفي جنيه، إلا أن السماسرة أصبحوا يبيعون الباركود الذي تصدره لهم بعض شركات السياحة، للراغبين في الحج والعمرة بالمخالفة للقانون، بأسعار تصل إلى 10 آلاف جنيه.

 

محاسبة المتورطين

 النائبة غادة عجمي – عضو لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب-، تؤكد لـ”زاوية ثالثة” أنها تقدمت بطلب إحاطة لرئيس مجلس النواب بمحاسبة الشركات المتورطة في إصدار تأشيرات الزيارة لأغراض الحج، بالمخالفة لقوانين السعودية، ورغم تحذيراتها، ما أدى لوفاة الكثير من المصريين نتيجة الإصابة بضربات الشمس، مطالبة بسحب تراخيص الشركات وإجبارها على دفع تعويضات للضحايا وعائلاتهم، مشيدة بجهود القنصلية المصرية في جدة لاستخراج تصاريح الدفن ومساعدة المفقودين والمصابين.

وترى “عجمي” ضرورة تشكيل لجنة تحقيق من البرلمان والخارجية، بشكل عاجل، لمحاسبة المتسببين عن المأساة الإنسانية التي حدثت للحجاج المصريين، بشكل عسير، مبينة أن أعداد المفقودين كبيرة للغاية، لم يتم حصرها بعد، وأنها تتابع المستجدات مع عائلات الضحايا والمفقودين عبر مجموعات على مواقع التواصل، مشددة على ضرورة احترام قوانين السعودية لعدم وضع مصر في مواقف حرجة أو التسبب في مأساة أخرى، وعدم استغلال شغف الناس للحج وتعريض حياتهم للخطر.

يشار إلى أن الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، كلف، بسحب رخص 16 شركة سياحية تحايلت لـ تسفير الحجاج بصورة غير نظامية وإحالة مسؤوليها للنيابة العامة. وفي سياق متصل، أوقفت السلطات السعودية، إصدار تأشيرة العمرة الترانزيت للمصريين، والمعروفة بـ تأشيرة B2C.

وفي حين تشعر “هناء” بالندم وتعتزم بعد عودتها إلى مصر هي وزملائها التقدم ببلاغ رسمي ضد المتورطين الذين أوهموهم بأن حج الزيارة مشروع وآمن، وتقاضوا منهم مبالغ مالية كبيرة؛ فإنها ممتنة لكونها لم تفقد والدتها خلال أزمة الحج هذا العام، وتتمنى أن تأخذ العدالة مجراها وتعاقب من احتال عليها، وينتظر كل من “محمد” و”سارة” أن يتم ضبط المتهمين بالنصب عليهما، أما “أنوار” فلا زال مصيرها مجهولاً بالنسبة إلى زوجها، وتبقى معاناتهم جميعًا نقطة في بحر معاناة ضحايا تجار وسماسرة المناسك، وينتظر الضحايا وأسرهم تحركات جادة من السلطات المصرية لوضع حد لها، كي لا تتكرر مأساة موسم الحج 2024.

آية ياسر
صحافية وكاتبة وروائية مصرية حاصلة على بكالوريوس الإعلام- جامعة القاهرة.

Search