“لم يكن يخطر ببالنا أن تستمر تلك الحرب اللعينة لعام كامل، هو الأسوء على الإطلاق بحياتنا، لم أحسب كم مرة نجوت من الموت المحتم، فلا مكان آمن في غزة منذ السابع من أكتوبر 2023”. تلك كلمات سندس (اسم مستعار) صاحبة العقد الثاني من عمرها، وهي نازحة غزيّة من الشمال إلى الجنوب.
تقول: “أقمت مع عائلتي بمنطقة جباليا في شمال قطاع غزة، وما إن بدأت قوات الاحتلال الإسرائيلي هجومها على القطاع حتى أصبحت منطقة الشمال خط النار الأول، إثر ذلك فقدنا بيتنا؛ ما أجبرنا على النزوح إلى الجنوب لاسيما مع تحذيرات قوات الاحتلال بإخلاء المنطقة”. مشيرة إلى أنها نزحت مع أسرتها أكثر من ثلاث مرات خلال العام، من الشمال إلى خانيونس ومنها إلى رفح ثم دير البلح وعادوا مرة أخرى إلى رفح، وفي كل مرة يشهدون أهوال متصاعدة، إضافة إلى انتشار كثير من الأمراض المختلفة.
مرّ عام على استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، حيث استخدمت خلالها قوات الاحتلال مجموعة واسعة من الأسلحة، ما أدى إلى مقتل نحو 42 ألف شخص، غالبيتهم من الأطفال والنساء، وإصابة حوالي 97 ألفًا آخرين، وفقًا لإحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية ومرصد شهداء فلسطين. كما تعرضت منظومتا الصحة والتعليم، بالإضافة إلى المنازل والمنشآت والبنية التحتية، لأضرار جسيمة، مع تدمير واسع النطاق طال القطاعات الحيوية في القطاع.
وبحسب تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة، فإن الدمار لحق بأكثر من 70 ألفًا من الوحدات السكنية في غزة، في حين وصل عدد النازحين قسرًا إلى 1.9 مليون.
في السياق نفسه، أعلن خبراء من الأمم المتحدة أنّ الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها تل أبيب بحق الفلسطينيين خاصة في غزة، تشير إلى وقوع إبادة جماعية. وعرضوا أدلة على تفاقم التحريض على الإبادة الجماعية، والنية العلنية “بالقضاء نهائيًا على الشعب الفلسطيني المحتلّ”، والدعوات الصارخة لـ “نكبة ثانية” في غزة وبقية الأراضي الفلسطينية المحتلّة، واستخدام أسلحة قوية ذات آثار عشوائية أدت إلى خسائر فادحة في الأرواح وتدمير البنية التحتية للقطاع.
يتعرض الأمن الصحي لسكان غزة لضغوط متزايدة نتيجة انهيار البنية التحتية للرعاية الصحية والخدمات الأساسية. وفقًا لتقرير البنك الدولي، بلغ متوسط الأسرّة المتاحة في مستشفيات قطاع غزة قبل الصراع الأخير 1.4 سرير لكل ألف شخص، وهو أقل بكثير من المتوسط العالمي البالغ 2.9. كما انخفض عدد المستشفيات بشكل ملحوظ من 36 قبل الحرب إلى 15، مما زاد من الضغط على الموارد الصحية المتاحة. إلى جانب ذلك، يعاني القطاع من نقص في عدد الأطباء، حيث يبلغ متوسط مقدمي الرعاية الصحية 2.2 طبيب لكل ألف شخص، مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 3.5. وقد أصبحت إحالة الحالات الطبية العاجلة تحديًا إضافيًا، حيث يمكن أن تستغرق الأسابيع أو الشهور. حتى قبل النزاع الحالي، كانت طلبات إحالة المرضى للعلاج خارج القطاع تواجه صعوبات، حيث سجلت منظمة الصحة العالمية أن 33% من تلك الطلبات إما تأخرت أو رُفضت.
استمرت الهجمات على المرافق الصحية قبل السابع من أكتوبر وبعده، مما زاد من تعقيد التحديات التي يواجهها السكان في الحصول على الرعاية الطبية. وفقًا لتوثيقات منظمة الصحة العالمية، تم تسجيل 410 هجمات على خدمات الرعاية الصحية في غزة بين أكتوبر 2023 و 23 أبريل 2024، ما أدى إلى مقتل 723 شخصًا وتأثر 101 منشأة صحية، منها 84 منشأة توقفت عن العمل تمامًا.
سندس، التي فقدت حياتها الطبيعية مع اندلاع الحرب، تعاني اليوم من الحياة في الخيام التي تجعل الصيف عذابًا والشتاء معاناة لا تُحتمل. كانت تأمل في عودة الحياة إلى طبيعتها خلال العام الجاري لتتمكن من استئناف دراستها. وتزيد من معاناتها حالة الشتات التي تعيشها عائلتها؛ إذ اضطرت إلى ترك أختها وأطفالها في الشمال بعد إصابة زوجها بشلل كامل، وفقدانها العديد من أفراد عائلتها بمن فيهم أعمامها وخالتها وأبناؤها.
نوصي للقراءة: الاحتلال يستهدف القطاع الصحي.. (ملخص الحرب على غزة)
بين العبور والمعاناة
رغم أن محمد أبو عدنان (اسم مستعار) استطاع مغادرة غزة إلى مصر مع عائلته قبل اندلاع الحرب بأيام قليلة، إلا أن التحديات التي تواجههم في مصر باتت تثقل كاهلهم. يجد محمد، كغيره من النازحين، صعوبة في الإقامة القانونية، إذ لا يمتلك سوى جواز سفره وتصريح العبور، مما يعوق حصوله على حقوق أساسية مثل التعليم والعمل. ورغم تمكنه من إلحاق أطفاله بمدرسة خاصة، إلا أن التكلفة المرتفعة تفوق قدراته، خاصة بعد فقدانه وظيفته التي حصل عليها قبل أربعة شهور، واستنزافه لمدخراته.
محمد يستأجر شقة صغيرة في إحدى المناطق الشعبية بمحافظة الجيزة هربًا من الإيجارات المرتفعة، لكنه يعيش مع عائلته دون أثاث أساسي، حيث لم تسمح له الظروف بتوفير احتياجاتهم الأساسية.
استقبلت مصر عبر معبر رفح البري أكثر من 19 ألف حافلة قادمة من قطاع غزة، على متنها ما يزيد عن 89 ألف شخص، بينهم أكثر من 21 ألف طفل حصلوا على التطعيمات الضرورية، مثل التطعيم ضد شلل الأطفال والحصبة الألمانية والنكاف.
وفي حديثه مع زاوية ثالثة، أوضح عصام عبد الرحمن، مدير المركز الإعلامي لمؤسسة صناع الخير للتنمية وعضو التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي، أن غرفة عمليات خاصة تم تشكيلها لتنسيق الدعم الإنساني المقدم لغزة بالتعاون مع الأجهزة التنفيذية المصرية. يشمل هذا الدعم مساعدات طبية تتضمن التبرع بالدم، الأدوية، والأجهزة الطبية، إلى جانب مساعدات غذائية وأخرى متنوعة.
وأكد عصام أن التحالف الوطني أطلق سلسلة من قوافل المساعدات تحت شعار “مسافة السكة”، مشيرًا إلى أن المساعدات المصرية تشكل أكثر من 80% من إجمالي المساعدات التي تم إرسالها إلى غزة على مستوى العالم. رغم ذلك، يعتبر تعنت قوات الاحتلال الإسرائيلي في السماح بدخول الشاحنات إلى غزة العائق الأكبر أمام وصول تلك المساعدات بشكل فعّال.
نوصي للقراءة: حياة مع وقف التنفيذ: مسارات النزوح والمرض خلف أبواب غزة
إصابات جسيمة وانهيار شامل
“لم أواجه مثل هذه الإصابات من قبل في حياتي. قوات الاحتلال تستخدم أسلحة تتسبب في إصابات شديدة ومتعددة، حتى مع توفر الأدوية فإن الفائدة منها أصبحت محدودة”، يقول نائل عبد الله (اسم مستعار) في حديثه مع زاوية ثالثة.
نائل، طبيب متخصص في جراحة العظام في منطقة جباليا شمال غزة، يوضح أن معظم الإصابات التي يشهدها هي حالات بتر وفقدان للأطراف. وفقًا له، فإن خمسة من كل عشرة مصابين في غزة يفقدون أحد أطرافهم نتيجة الإصابات الشديدة.
ويصف نائل الوضع الصحي في غزة بأنه شبه منهار، مشيرًا إلى أن التدهور لا يقتصر على القطاع الصحي فحسب، بل يمتد ليشمل الوضع الغذائي والتعليمي أيضًا. ويضيف أن الوضع في غزة لا يزال خطيرًا للغاية، حيث تتواصل الهجمات الإسرائيلية على المدينة وسكانها طوال العام، مما يجعل المنطقة واحدة من أكثر الأماكن دموية في العالم.
وفقًا لبيانات وزارة الصحة حتى السادس من أكتوبر الجاري، بلغ العدد الإجمالي للضحايا أكثر من 41 ألفًا، بينما يُقدر عدد المفقودين بنحو عشرة آلاف، إضافة إلى أكثر من 97 ألف مصاب، يعاني العديد منهم من إصابات خطيرة تهدد حياتهم. وأوضحت الوزارة أن 15 مستشفى فقط من أصل 36 في غزة تعمل، وكلها تعمل جزئيًا في ظل نقص حاد في الإمدادات الطبية، فيما تعرضت 32 مستشفى للتدمير الكامل جراء الهجمات الإسرائيلية.
أفادت وزارة الصحة بأن عدد الضحايا بين العاملين في القطاع الصحي بلغ نحو 986 شخصًا، بالإضافة إلى اعتقال 310 آخرين وإصابة المئات، مما زاد من تعقيد تقديم الخدمات الطبية. كما تم تدمير 130 سيارة إسعاف، ما حرم المدنيين من الوصول إلى الرعاية الصحية الأساسية. وأشارت الوزارة إلى أن قوات الاحتلال نفذت أكثر من 340 هجومًا استهدفت مرافق الرعاية الصحية والعاملين فيها.
رغم الحاجة الماسة للمساعدات الإنسانية في ظل تفاقم الأزمة، فإن إيصال هذه المساعدات يواجه صعوبات متعددة. وذكرت وكالة الأونروا أن “الأسر في غزة تعاني من التهجير القسري والجوع، ولا تجد ما تحتاجه للبقاء في ظل ظروف صعبة ودرجات حرارة مرتفعة.”
وفي تقرير مشترك صادر عن البنك الدولي والأمم المتحدة بدعم مالي من الاتحاد الأوروبي، قُدرت الخسائر التي لحقت بالبنية التحتية والمباني في قطاع غزة بنحو 18.5 مليار دولار، وهو ما يعادل 97% من الناتج المحلي الإجمالي للضفة الغربية وغزة معًا لعام 2022. كما أشار التقرير إلى أن 84% من المستشفيات والمنشآت الصحية قد تضررت أو دُمرت، مما قلص بشدة إمكانية الحصول على الرعاية الصحية اللازمة في ظل نقص الكهرباء والمياه لتشغيل ما تبقى منها.
نوصي للقراءة: 20 شاحنة مساعدات دخلت غزة:كافية؟
تدمير 397 مدرسة وجامعة في غزة
تعرض قطاع التعليم في غزة لأضرار جسيمة جراء الحرب، حيث أفادت مؤسسة الدراسات الفلسطينية أن 124 مدرسة حكومية تعرضت لأضرار بالغة، بينما تم تدمير 62 مدرسة حكومية بالكامل. كما تعرضت 126 مدرسة أخرى لأضرار جزئية، بالإضافة إلى قصف وتدمير 65 مدرسة تابعة لوكالة “الأونروا”. أما في مجال التعليم العالي، فقد تضررت 20 مؤسسة تعليمية، وتم تدمير 35 مبنى جامعيًا بالكامل و57 مبنى آخر بشكل جزئي.
على قطاع غزة، بينما فقد 416 من الكوادر التعليمية حياتهم وأصيب أكثر من 2463 معلمًا في المدارس والجامعات.
بالإضافة إلى ذلك، تسببت الحرب في حرمان 39 ألف طالب وطالبة من التقدم لامتحانات “التوجيهي”، إما بسبب سقوطهم ضحايا أو نتيجة الانقطاع عن التعليم بسبب الدمار الشامل الذي طال العملية التربوية.
ويُحرم نحو 630 ألف طالب وطالبة في غزة من حقهم في التعليم منذ السابع من أكتوبر 2023، يتوزعون بين مدارس الحكومة ومدارس وكالة الغوث والمدارس الخاصة. كما يشمل هذا الحرمان 88 ألف طالب جامعي و80 ألف طفل بلغوا سن الالتحاق برياض الأطفال.
وفقًا لدراسة “الحرب على غزة وتداعيات الأمن الصحي” التي أعدها المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، يعتبر الصراع في قطاع غزة واحدًا من أبرز الأمثلة على المعاناة الإنسانية الناتجة عن النزاعات الجيوسياسية المستمرة في المنطقة. منذ أكتوبر 2023، تسبب هذا الصراع في نزوح كبير وخسائر في الأرواح، ما أثر بشكل عميق على السكان المدنيين وزاد من تعقيد حياتهم اليومية.
من جانبها، تشير نجوى قطفان، المسؤولة الإعلامية لاتحاد المرأة الفلسطينية في القاهرة، إلى أن النازحين من غزة يواجهون تحديات كبيرة في مصر، أهمها صعوبة الحصول على تصريح الإقامة الذي يعد ضروريًا لتنسيق أوضاعهم القانونية. كما أن ارتفاع تكاليف الإيجارات وتحديات التعليم والرعاية الصحية تزيد من معاناتهم، حيث لا يتمتع النازحون الفلسطينيون في مصر بالدعم الذي توفره المؤسسات الدولية مثل مفوضية اللاجئين أو “الأونروا”.
وتوضح نجوى أن الفلسطينيين النازحين يأتون إلى مصر مع ما تبقى لديهم من أموال، التي قد لا تكفي إلا لفترات قصيرة، ما يزيد من صعوبة توفير الاحتياجات الأساسية مثل الطعام والمأوى والرعاية الصحية. وتضيف أن العائلات التي تضم أطفالًا تواجه تحديات إضافية تتعلق بتوفير التعليم، خاصة في ظل غياب الأوراق الرسمية التي تمكن الأطفال من الالتحاق بالمدارس الحكومية. كما أن الانضمام إلى المدارس والجامعات الخاصة يتطلب مبالغ مالية كبيرة، مما يجعل ذلك مستحيلًا بالنسبة للعديد من الأسر.
وتؤكد نجوى على أهمية تسهيل إجراءات الإقامة للفلسطينيين في مصر، لضمان حصولهم على فرص العمل وتوفير احتياجاتهم الأساسية. كما تدعو إلى تخفيف الرسوم الدراسية لتسهيل انضمام الطلاب إلى المدارس والجامعات في ظل هذه الظروف الصعبة، لحين انتهاء الحرب وعودتهم إلى ديارهم في غزة.