تزايد معدل البلاغات المقدمة من محامين مصريين ضد من يرونه مخالفًا سواء سياسيًا أو أخلاقيًا كما يدعون خلال السنوات الأخيرة، ووجهت تلك البلاغات ضد فنانين وصانعي محتوى وسياسيين معارضين. من بين تلك البلاغات التي قدمت مؤخرًا ثلاثة بلاغات قُدمت ضد المعارض السياسي والشاعر أحمد دومة، بعد عام واحد على خروجه من السجن بعفو رئاسي بعد حبسه لنحو عشرة أعوام، على خلفية حكم صدر عليه بالسجن 15 عامًا، في القضية المعروفة بأحداث مجلس الوزراء.
وكانت نيابة أمن الدولة قد أخلت في 10 نوفمبر المنقضي، سبيل دومة بكفالة 20 ألف جنيه، بعدما وجهت له اتهامات بإذاعة أخبار كاذبة في الداخل والخارج، على ذمة القضية 5892 لسنة 2024 حصر أمن الدولة العليا، وفقًا للمادة 102 مكرر من قانون العقوبات رقم 58 لسنة 1937، بعد تحقيق استمر نحو خمس ساعات، حضره دومة ومعه عدد من أعضاء هيئة الدفاع.
جاءت التحقيقات على إثر البلاغ الذي تقدمت به المحامية دينا المقدم، عضو تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، إلى النائب العام ضد دومة في 31 أكتوبر الماضي، متهمة إياه بنشر شائعات تهدد استقرار الأمن العام وتبث الخوف بين المواطنين، ما قد يلحق ضررًا بالمصلحة العامة. وطالبت المقدم في بلاغها بتشديد العقوبة عليه، نظرًا لما وصفته بارتكاب جريمة في زمن الحرب، استنادًا إلى نصوص المواد 102 مكرر و188 من قانون العقوبات.
ويأتي البلاغ عقب نفي القوات المسلحة المصرية وجود أي نوع من التعاون العسكري مع الاحتلال الإسرائيلي، على خلفية أزمة دخول السفينة “كاثرين” ميناء الإسكندرية، رغم ما يحوم حولها من شبهات بحملها مواد متفجرة ومتجهة إلى جيش الاحتلال.
وأصدرت النيابة العامة في 5 أكتوبر الماضي، على حسابها الرسمي على منصة التواصل الاجتماعي “فيسبوك” بيانا أشارت فيه إلى أنها تحقق في بلاغات تقدم بها العدد من الأشخاص، تتعلق بديوان شعري “يتضمن عبارات تحوي اعتداء على الذات الإلهية وازدراء للأديان”. وقالت النيابة إنه بمطالعة الديوان محل البلاغ عبر الإنترنت، تبين أنه تضمن هذه العبارات. وطلبت النيابة تحريات الشرطة بشأن الواقعة، وطلبت رأي الأزهر.
نوصي للقراءة: من الإسكندرية إلى تل أبيب: سفينة متفجرات تثير استياءً واسعًا ونفيًا عسكريًا
اتهامات فضفاضة
لم يذكر بيان النيابة اسم “دومة” بشكل صريح، لكن وفقًا لما يؤكده في حديثه مع زاوية ثالثة فإنه المقصود بالبيان، وديوانه الذي يحمل اسم”كيرلي” الذي كتبه أثناء فترة حبسه على خلفية الحكم الصادر ضده المشار إليه في البلاغات.
جاءت هذه الخطوة بعد شهرين من قرار دار المرايا للإنتاج الثقافي، بتأجيل ندوة كان من المقرر عقدها في 19 يوليو الماضي، لإطلاق ومناقشة ديوان “كيرلي”. ولم تحدد الدار أسباب التأجيل، مكتفية بتوضيح أنها “ظروف خارجة عن إرادة الجميع”. وجاء القرار بعد تصريحات لشيوخ اتهموا فيها دومة بالجنون والكفر والخروج من الملة، وطالبوا مجمع البحوث الإسلامية بمصادرة ديوانه ومنع طبعه وتداوله.
تعليقًا عن هذا، يقول دومة: “على مدار سنوات نشاطي العام، تعرضت لدعاوى حسبة سياسيّة ودينيّة، أو تلفيقات من أناس تدعمهم الأجهزة أمنيّة يحملون كارنيه نقابة المحامين. استهدفتني تلك البلاغات بسبب نشاطي ومواقفي السياسية، غالبًا تكون أجهزة الأمن محركها الأساسي.”
وعن البلاغ المقدم ضده مؤخرًا، يبين: “تهمة ازدراء الأديان ورفيقتها الاعتداء على الذات الإلهيّة تعتبر تحريض على القتل بوضوح”، معتبرًا أن كل من وجه له هذا الاتهام سواء بالترويج أو الفتاوى من شيوخ محسوبين على الأجهزة الأمنية أو تحقيقًا أو تلفيقًا على أي وجه، شريك في جريمة التحريض على القتل، وتهديد سلامه وأمنه الشخصي.
ويوضح أن لا أحد من هؤلاء مطلقًا يمتلك نسخة من الديوان، والنائب العام قال إن نسخة إلكترونيّة وصلته، رغم أن الديوان لم يطبع له نسخة إلكترونيّة مطلقًا. مضيفًا “ربّما صادرت أجهزة الأمن ملفّ يحتوي على درافت (نسخة لم تنشر) من الطبعة الثانية، وتم تسريبه لتبدأ اتهامات التكفير والازدراء.”
يشير دومة إلى أن الخطوة تأتي تمهيدًا لخطوة من اثنتين؛ إما خلق مبرر لاعتداء تأديبي أو تصفية (لعدم انصياعه للأوامر التي تصلني)، أو تمهيد لإعادة الاعتقال. وأن الجريمة الوحيدة في كلّ هذا هي سرقة ملف من على جهازه الشخصي، إضافة لجريمة الادّعاء بأن هذه النسخة متاحة للعامة. مستنكرًا عدم اهتمام النيابة العامة بفتح أي تحقيق في البلاغات التي قُدمت منذ سنوات بشأن تعذيب وإصابات ووفاة بين المعتقلين، في الوقت الذي تهتم فيه النيابة بمتابعة وسائل التواصل الاجتماعي والتحرك سريعًا بدعوى الدفاع عن الأديان والذات الإلهية.
تنص المادة 98(و) من قانون العقوبات على أن يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر ولا تتجاوز الـ5 سنوات أو بغرامة لا تقل عن 500 جنيه ولا تتجاوز الـ1000 جنيه كل من استغل الدين في الترويج بالقول أو الكتابة أو بأية وسيلة أخرى لأفكار منطوقة بقصد الفتنة أو تحقير أو ازدراء الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعي.
وفي بيان أصدرته منظمات حقوقية مصرية غير حكومية، للمطالبة بحماية المؤسسات الثقافية في مصر، أدانت فيه اقتحام قوات الأمن لدرا المرايا بعد أيام من إلغاء حفل توقيع الديوان، وقالت المنظمات إن تلك التحركات تتناغم مع السياسات الأمنية المقيدة لحرية الإبداع والتعبير الفني وفي القلب منها تشديد الخناق على المنظمات الثقافية المستقلة عبر إرهابها بعدة طرق، على رأسها الاستهداف الأمني واستخدام المصنفات والضرائب لإبعاد الشبهات حول الاستهداف السياسي لتلك المنظمات.
وأوضح البيان أن المؤسسات الثقافية والمبدعين في مصر يعانون من انتهاكات جسيمة على خلفية نشر أعمال إبداعية لا تتوافق مع توجهات النظام السياسي، بالمخالفة لنص المادة 67 من الدستور المصري التي تحمي حرية الإبداع، فلا يزال الشاعر جلال البحيري قيد الحبس الاحتياطي بعد تدويره عقب قضائه عقوبة السجن التي أقرتها ضده محكمة عسكرية على خلفية ديوان شعر حمل اسم “خير نسوان الأرض”، كما لا تزال دار تنمية تُمنع من المشاركة في معرض الكتاب للسنة الرابعة على التوالي بعد حبس مؤسسها خالد لطفي عسكريًّا لمدة خمس سنوات، بعد القبض عليه في 2018، بتهمة إفشاء أسرار عسكرية لتوزيعه النسخة العربية من كتاب “الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل”، إضافة إلى انتهاكات عديدة طالت عددًا كبيرًا من المنظمات الثقافية والمبدعين على خلفية أعمالهم الإبداعية خلال العشر سنوات الأخيرة.
في يناير الماضي، تقدم أيمن محفوظ المحامي بالنقض، ببلاغ للنائب العام، يتهم أحمد دومة بتكدير السلم العام ونشر أخبار كاذبة، بعد أن ظهر وآخرين على سلم نقابة الصحفيين ردد خلالها شعارات تنتقد الموقف المصري والعربي تجاه ما تتعرض له غزة من إبادة على يد قوات الاحتلال.
وفي الأسبوع الأول من أكتوبر الجاري، تقدم المحامي صبرة القاسمي مؤسس الجبهة الوسطية لمكافحة التطرف، ببلاغ إلى النائب العام، حمل رقم 936183 لسنة 2024، ضد أحمد دومة، وآخرين مالك دار نشر ومديرها التنفيذي والعاملين بها، وذلك لصدور ديوان حمل عنوان “كيرلي” اشتمل على ألفاظ اعتبرها المحامي “سبًا وقذفًا وتطاولًا على الذات الإلهية”.
نوصي للقراءة: أحمد دومة عن ديوانه “كيرلي”.. كتبته في السجن فرارًا من الهزيمة أو الانفجار
ازدراء الأديان
تطورت القضايا المعروفة بازدراء الأديان تاريخيًّا في مصر بداية من مسماها القديم: “قضايا الحسبة”، إلى النص الحالي المتضمن في المادة 98 من قانون العقوبات المصري، بعد أحداث عرفت بـ”أحداث الفتنة الطائفية بالزاوية الحمراء” عام 1981.
تقدمت الحكومة المصرية حينها بمشروع قانون لتعديل عدد من مواد قانون العقوبات، وإضافة مواد أخرى؛ منها مواد تتعلق بتغليظ العقوبة المنصوص عليها في المادة 160، المتعلقة بالحق في ممارسة الشعائر الدينية بعيدًا عن أعمال العنف، وتعديل المادة 201 الخاصة بتجريم إساءة استخدام خطاب ديني. وكان الهدف من هذه التعديلات معاقبة رجال الدين الذين يسيئون استخدام الخطاب الديني، للتحريض على أعمال عنف وتهديد أمن المواطنين، لكن بعد سنوات تم توسيع نطاق التجريم، ليشمل كل المواطنين بدلًا عن رجال الدين فقط- وفقًا لورقة بحثية أصدرتها مؤسسة حرية الفكر والتعبير(مؤسسة حقوقية غير حكومية) في ديسمبر 2020، بعنوان “ازدراء الأديان.. ذريعة لقمع الحرية الأكاديمية“.
وجرى التوسع في استخدام تهمة “ازدراء الأديان” ضد من يعبِّرون عن آراء مخالفة للمعتقدات السائدة في المجتمع، سواء كان ذلك نقدًا للأديان أو الإيمان بملل وطوائف غير منتشرة داخل المجتمع، أو تعبيرًا حرًّا عن الرأي، طالما اقترب ولو من بعيد من الأديان السماوية. وأصبح من الممكن أن يؤدِّي أي عمل -حتى لو كان عملًا أدبيًّا أو علميًّا- بصاحبه إلى الحبس بتهمة ازدراء الأديان.
لم تتوقف القضايا ضد المخالفين من الأدباء والمثقفين بسبب آرائهم الخاصة بالمعتقدات وحسب، بل طالت من يعرفون بـــ المؤثرين والبلوجرز على منصات التواصل الاجتماعي ضمن “حملة تطهير المجتمع“، التي أسسها المحامي أشرف فرحات، إذ اتهمهم بأن الشيطان يقودهم لنشر الفساد وتحقيق الأرباح. وتناوب بعض المحامين على توجيه الاتهامات المتباينة إليهم ما بين خدش الحياء وتهديد قيم الأسرة المصرية، ووصل الأمر أحيانًا إلى صدور أحكام بالحبس ضد المتهمين في بعض البلاغات.
ففي الأول من أكتوبر الماضي، قضت محكمة جنح الطفل في مصر، بسجن “البلوجر” سوزي أيمن (المعروفة باسم سوزي الأردنية) عامين وتغريمها 300 ألف جنيه بتهمة “التعدي على القيم الأسرية”، على خلفية البلاغ الذي تقدم به المحامي أيمن محفوظ بتهمة مخالفة القانون وهدم القيم المجتمعية ونشر مقاطع فيديو خادشة للحياء العام، بسبب البث المباشر التي ظهرت فيه تتشاجر مع والدها بعد أن استولى على أموالها أثناء مرضها.
تعتبر سوزي الأردنية ضمن فتيات ونساء منصات التواصل الاجتماعي اللاتي دخلن دوامة الملاحقة الأمنية منذ أن بدأت السلطات الأمنية استهدافهن بدعوى حماية المجتمع والأسرة المصرية. وكانت البداية مع الفتاة الجامعية حنين حسام، أول من اتهمت بتهديد القيم الأسرية أثناء التحقيق معها بعد القبض عليها في إبريل 2020، على إثر بلاغ قدمه المحامي سمير صبري، قبل أن تُبرء وتحاكم مرة أخرى بنفس التهم أمام محكمة الجنايات، ومنذ ذلك التاريخ توالت البلاغات ضد النساء والفتيات على منصات التواصل الاجتماعي بدعوى حماية القيم الأسرية من التهديد.
تنص المادة 25 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات لعام 2018، على أن “يعاقب بالحبس، مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة 50 حتى 100 ألف جنيه أو بأحد هاتين العقوبتين من اعتدى على أي من المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري أو انتهك حرمة الحياة الخاصة أو أرسل بكثافة رسائل إلكترونية لشخص دون موافقته …..”
تقول المحامية الحقوقية انتصار السعيد – رئيسة مجلس أمناء مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون-، إن النساء والفتيات اللاتي اتهمن بتهديد قيم المجتمع والقيم الأسرية تم إحالتهم للمحاكمة بموجب المادة 10 من دستور 2014 على أن “الأسرة هي نواة المجتمع وهي تقوم على الدين والأخلاق والوطنية. تضمن الدولة تماسكها واستقرارها وترسيخ قيمها.”
وترى المحامية الحقوقية أن التهم التي توجه للفتيات والنساء من التحريض على الفسق والفجور وتهديد المجتمع والقيم الأسرية، تهم فضفاضة غير محددة تفتح المجال للأهواء والتقديرات الشخصية. مشيرة إلى أنه سواء الفسق والفجور أو قيم الأسرة ليس لهما تعريف محدد في القانون، والقيم تختلف من مجتمع لآخر، والملابس التي يرتديها هؤلاء الفتيات والنساء وتحاكمن على أساسها، يرتديها الفنانات في المهرجانات والمناسبات المختلفة وتعتبر عادية، لكن فتيات ونساء التيك توك من خلفيات اجتماعية بسيطة؛ ما يثير حفيظة المجتمع ضدهم، ويعتبر تمييز طبقي وله علاقة بالنوع الاجتماعي يتم تطبيقه ضدهن.
نوصي للقراءة: بعد حبس طبيبة كفر الدوار.. هل تُوقف الحلول الأمنيّة ثقافة الانتهاك ضد النساء؟
الحسبة ذراع السلطة
أشارت ورقة بحثية أصدرتها الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان في يونيو عام 2019 (قبل أن تعلن توقفها عن العمل في مصر العام الماضي بسبب التضييق الأمني) بعنوان “المحتسبون الجدد… محاكم تفتيش دينية وأخلاقية ووطنية”، إلى ظهور المحتسبين في ثوبهم الجديد منذ عام 2013، بعد أن أضافوا سمات أخرى غير التي اشتهروا بها، فقد يزايدون بالوطنية، والأخلاق، والدين أيضًا، يلاحقون من يتحدث بشكل يخالف آرائهم.
وبحسب دراسة أعدها الكاتب حلمي النمنم وأشارت إليها الورقة البحثية، فإن الحسبة منصب مستعار من الدولة البيزنطية، شأنها في ذلك شأن الكثير من نظم الإدارة التي استعارها العرب من البيزنطيين والفرس، إذ أنهم لم يكن لهم خبرة سابقة في إدارة الدول، وكان عليهم، عقب الغزوات العربية، اللجوء لنظم إدارة مستمدة من الدول المحيطة الأكثر خبرة وحداثة. ومثل كل الوظائف والمهن البائدة، تلاشت مهنة الحسبة رويدًا حتى حلت أجهزة الدولة محلها تمامًا. فيما ظهر تعبير الحسبة مرة أخرى في بداية القرن 21، ليصف أولئك الذين يضعون الناس تحت المجهر ويلاحقونهم قضائيًا، ليصادروا على حريتهم في الفكر والتعبير.
ويعتمد هؤلاء المحامون في تقديم هذه البلاغات على المادة 25 من قانون الإجراءات الجنائية، التي تنصُّ على أن “كل مَن علم بوقوع جريمة يجوز للنيابة العامة رفع الدعوى عنها أن يبلغ النيابة أو أحد مأموري الضبط القضائي عنها”.
في هذا السياق، ترى المحامية الحقوقية آية حمدي، أن ما يدفع بعض المحامين لتقديم بلاغات ضد المواطنين خلفياتهم الثقافية والاجتماعية وليس القانونية، وأن هؤلاء يستغلون علمهم وعملهم بالقانون لخدمة قناعاتهم الخاصة، وتسليط القانون سيف على رقاب المواطنين لخدمة ما يؤمنون به وبخاصة عندما يكون من سيتم البلاغ المقدم ضد فتاة أو سيدة.
توضح أن السلطة تستغل تلك البلاغات، لتقويض النساء أو أشخاص بعينها مثل دومة، مشيرة إلى أن نفس الواقعة إن كانت من قبل أحد أعضاء أحزاب الموالاة، لم يكن البلاغ سيتحرك ويتم التحقيق فيه بنفس السرعة.
وتؤكد آية أن أجهزة السلطة تستغل تلك البلاغات واستخدام قوانين تتضمن عبارات واتهامات مطاطة غير محددة وتم الاعتراض عليها. موضحة أن السلطة إذا كانت تريد ردع جريمة معينة فـ الردع يتطلب نص قانوني صريح، لكن وضع نص متعدد التأويل بهذا الشكل معناه أن السلطة تقصد هذا لتسهيل استغلال تلك القوانين وقتما تريد.
في السياق ذاته، يرى المحامي بالنقض إسلام عبد المجيد أن هناك محامون الشأن العام وهم محامون لديهم اهتمامات تتجاوز اهتمامات المحامين العادية المرتبطة بتمثيل المصالح الخاصة، وهؤلاء أحيانًا يهتمون بنوع من القضايا يمثلون فيها مصالح عامة مثل: قضايا التقاضي الاستراتيجي (اختيار قضية معينة والتقدم بها للمحكمة بغرض إحداث تغيير واسع النطاق في المجتمع)، وهناك أجيال من محامين الشأن العام والجيل الرائد يعتبر محامو اليسار على رأسهم المحامي الحقوقي اليساري الراحل أحمد سيف الإسلام، في المقابل هناك محامين آخرين ترى المهنة في إطارها المهني فقط.
ويضيف في حديثه معنا: “خروج محامو البلاغات عن الإطار والقواعد المهنية ينفي عن هؤلاء صفة الشأن العام، ومن الممكن أن يطلق عليها محامين حسبة، رغم أن القانون لا يوجد بها هذا المسمى لكنه منتشر وتعتبر بمثابة السخرية من هؤلاء المحامين لعدم التزامهم بالمهنية، وهناك جهات محافظة داخل السلطة تلتقط هذه القضايا. مشيرًا إلى ما حدث مع فتيات التيك توك والبلوجرز مؤخرًا.”
من جهتها، تقول إلهام عيداروس – وكيلة مؤسسي حزب العيش والحرية تحت التأسيس-، إن “من حيث المبدأ أنا ليس مع تقييد حق التقاضي، لأنها هذا المبدأ يستغل أحيانًا للصالح العام وحقوق المجتمع”. مشيرة إلى دور النيابة العامة ووجود قوانين مقيدة للحرية يستند إليها، سواء مقدمي هذه البلاغات أو جهاز العدالة نفسه في تقييد حقوق المواطنين في حرية الفكر والتعبير؛ مثل النصوص القانونية التي تنص على خدش الحياء العام وازدراء الأديان والقيم الأسرية.
وتضيف أن قانون ازدراء الأديان صدر في نهاية عهد الرئيس محمد أنور السادات، تحت ذريعة حماية المسيحيين من التحريض الطائفي، لكن في الواقع استخدم لتقييد حرية الفكر والتعبير ولحماية تصور السلطة والمؤسسات الرسمية لحماية الدين الإسلامي، لأنه استخدم لسنوات ضد منتقدي الدين الإسلامي ومؤخرًا فقط بدأ استخدامه ضد منتقدي الدين المسيحي.
وترى إلهام أن “هناك ضرورة لـ تنقية قانون العقوبات من كل المواد المقيدة للحرية والتعبير مثل. النصوص التي ذكرتها، وما نحتاجه في منظومتنا التشريعية قوانين معرفة وتعاقب على ما يسمى بجرائم القول التي تهدد حياة المواطنين بشكل مباشر مثل. التحريض على العنف ضد فئة أو أفراد، ولا تهدد أفكار والتي يعتبر انتقادها ضمن إطار حرية الرأي والتعبير”، مشيرة إلى أن هناك آلاف البلاغات التي تقدم يوميًا وأن السلطات تبدي اهتمامًا بالبلاغات التي تكون على هواها.
ذكرت مؤسسة حرية الفكر والتعبير في ورقة بعنوان “استهداف المبدعين.. ما بين النقابة والنيابة” نشرت في ديسمبر 2017، أن التعليمات الرقابية على الأعمال الفنية ظهرت منذ عقود مع ظهور أعمال فنية قُبيل الثورة العرابية تمتدح أحمد عرابي، فما كان من السلطة آنذاك إلا أنها وضعت قيود رقابية لم يكن من بينها “الحياء العام”، وركزت فقط على حفظ الأمن والنظام.
في عام 1946، تطورت هذه القيود بعد انتفاضة وظهرت حينها تعليمات رقابية جديدة عام 1947، منعت التعرض للنظام السياسي بالكامل وكافة الموالين له، وأيضًا لم تذكر هذه التعليمات شيئًا عن الحياء العام سواء بالإيجاب أو السلب سوى أنها ذكرت “يراعى في تصوير الكباريهات ألا تكون قذرة”.