مُذنبون بالولادة: أبناء السجينات بين الوصم والحرمان من التعليم

انقطعوا عن التعليم، طُردوا من منزل والدهم، ولا تزال المدرسة تعاملهم كـ”أبناء سجينة”. أين العدالة حين يصبح الغياب المؤقت للأم عقوبة دائمة للطفل؟
Picture of سحر عزازي

سحر عزازي

في إحدى ليالي الشتاء الباردة، جلست مروة سيد (اسم مستعار) بين أطفالها، تشجعهم على الاستعداد الجيد لامتحانات نصف العام. فجأة، دوي الطرق على باب شقتها، لتتلقى قرار استدعائها إلى قسم الشرطة بسبب إيصالات أمانة لم تتمكن من سدادها بعد توقف مشروعها الخاص نتيجة أزمة كورونا. تركت خلفها حلا، الطالبة بالصف الثالث الإعدادي، ومحمود في الصف السادس الابتدائي، ومليكة ذات العام الواحد، إلى جانب الحمل الذي فقدته أثناء وجودها في السجن.

تحكي مروة، إلى زاوية ثالثة أنها خرجت وطفلتها الصغيرة على كتفها أمام أعين أبنائها، في لحظة تركت أثرًا بالغًا في نفوسهم، حيث تراجع مستواهم الدراسي وفقدوا الرغبة في التعلم، خاصة بعد وفاة والد حلا ومحمود، وتخلي والد ابنتها الصغرى عنها، وطرده لأطفالها من منزله وإلقاء أثاثهم في الشارع “لولا أمي وأخي، كان أولادي تشردوا”.

دخلت مروة السجن في ديسمبر 2020 قبل امتحانات نصف العام، وخرجت في يونيو 2021 بعد انتهاء امتحانات آخر العام. خلال تلك الفترة، لم يجد الصغار من يسد فراغ أمهم أو يلبي احتياجاتهم، خاصة أن جدتهم مسنة لا تستطيع الحركة.

تجنب الأطفال الحديث مع أقرانهم وامتنعوا عن المشاركة في الأنشطة، حيث كانوا يشعرون بأن الجميع يراقبهم ويعرف ما حدث مع والدتهم، فيما يلاحقهم كابوس مشهد القبض عليها أمام الجيران ونزولها من الطابق السابع إلى الشارع، مشهد لا يفارق مخيلتهم ليلًا ونهارًا: “لن أنسى ذلك اليوم أبدًا، فقد كنت أحمل صغيرتي على كتفي ومظهري أمام أولادي لا يُنسى”، بحسب حديث مروة.

تقول إن ابنها محمود تراجع مستواه الدراسي وامتنع عن الذهاب للمدرسة نتيجة ما حدث معها، وكذلك ابنتها التي كانت معروفة بتفوقها بين زملائها، لكنها لم تتمكن من مواصلة ذلك في ظل غياب الأم “، مضيفة: “عاد محمود الآن إلى تلقي دروس في اللغة العربية ليجيد القراءة والكتابة، وقد بدأ مستواه يتحسن، وهو يواصل تعلّمه في الصف الثالث الإعدادي بعد أن انقطع عن الدراسة فترة من الزمن”.

من القاهرة إلى سوهاج، حكاية سجينة أخرى دفعت الثمن وحدها، بعد أن اختفى زوجها فجأة تاركًا خلفه أربع فتيات، كانت أصغرهن رضيعة. اضطرت نفسية علي (اسم مستعار) إلى الاستدانة لتُنفق على صغيراتها، خاصة بعد طردها من منزل عائلة زوجها.

أخذت أموالًا بالفائدة لتؤمّن قوت يومها، لكن صاحب الإيصالات استغل جهلها، وجعلها توقّع ببصمتها على مبالغ كبيرة لم تقترضها، وعجزت عن السداد، فكان السجن بانتظارها.

عاشت صاحبة الـ49عامًا أيامًا قاسية، خرجت بعدها بستة أشهر، لتجد بناتها ممتنعات عن الذهاب إلى المدرسة بسبب ما تعرضن له من نبذ ووصم اجتماعي، إذ لم يقدرن على تحمّل المعايرة والإيذاء النفسي. تقول: “أشعر بالذنب حتى الآن”، ذلك الإحساس الذي لا يفارق نفسية رغم مرور عشر سنوات على الواقعة، لما تركته من أثر بالغ في نفوس فتياتها، إذ حرمتهن من التعليم وجعلهن يتعثرن الآن في الزواج:” الجميع ينظر إليهن باعتبارهن بنات سجينة فقط، رغم علمهم بما حدث وكيف تم استغلالي لكوني امرأة غير متعلمة” بحسب ما تحكي إلى زاوية ثالثة.

يتأثر الأبناء بغياب الأم، أكثر من الوالد، لارتباطهم العاطفي والوجدان بها، خاصة إن كان ذلك الغياب مرتبط بوصمة يحاولون التخلص منها لكن دون جدوى. في هذا السياق، ترى جيهان النمرسي، أستاذ علم النفس والإرشاد الأسري، أن غياب الأم عن الأبناء في مرحلة التعليم الأساسي يترك أثرًا نفسيًا مباشرًا، يتمثل في اضطراب التعلق وفقدان الأمان العاطفي، وقد يدفع الطفل إلى الشعور بالنقص والقلق أو الخوف من الهجر، ما ينعكس سلبًا على تقديره لذاته وأدائه الأكاديمي وسلوكه الاجتماعي.

وتضيف، في حديثها إلى زاوية ثالثة أن بعض الأطفال قد يظهرون سلوكيات عدوانية أو يميلون للانطواء نتيجة مشاعر داخلية من الحزن أو الغضب، الأمر الذي يتطلب دعمًا نفسيًا مستمرًا من مقدمي الرعاية لتعزيز شعورهم بالأمان والثقة. 

وتوضح، أن الوصمة الاجتماعية المرتبطة بسجن الأم تمثل تحديًا إضافيًا، إذ تؤدي إلى انعدام الثقة بالنفس وصعوبة إقامة علاقات اجتماعية سليمة، فضلًا عن شعور الأطفال بالعزلة والرفض من أقرانهم. مشيرة إلى أن هذه الوصمة قد تترك آثارًا أعمق مرتبطة بأزمة الهوية والانتماء، وتزيد احتمالية إصابتهم بالاكتئاب والقلق.

تواصلنا مع المجلس القومي للمرأة ممثل في أمل عبدالمنعم مدير مكتب الشكاوي، للسؤال عن ما يقدمه المجلس لدعم للسجينات وأبنائهن وجاء الرد، بأن وزارة التضامن الاجتماعي هي المعنية بهذا الأمر عن طريق الجمعيات الأهلية، وأن دورهم يقتصر فقط على مساعدة السجينات فيما يتعلق بالأحوال الشخصية أو النفقة، مضيفة: “لكن الدعم يكون من خلال التضامن فقط”.

يفتقد أبناء السجينات، القوانين واللوائح التي تضمن لهم الرعاية والدعم خلال فترة غياب الأم، ويبقى دور المجتمع المدني متصدرًا لتوفير بعض الاحتياجات الأساسية لهؤلاء الصغار، ومساعدتهم في الحصول على فرصة أفضل من التعليم والرعاية. تقول نوال مصطفى، رئيسة ومؤسسة جمعية رعاية أطفال السجينات، إن أكبر تحدٍّ يواجهه أبناء السجينات هو عدم القدرة المالية على دفع مصروفات المدرسة وشراء الملابس والحقائب والاحتياجات الأساسية التي يحصل عليها باقي الأطفال “نعيش فترة يعاني منها الجميع، فما بالك بالطبقات الكادحة ومحدودة الدخل، أو المعدومة”.

تساعد الجمعية غير القادرين من أبناء السجينات، على دفع المصروفات المدرسية، وتوزيع حقائب عليهم، فضلًا عن توفير كافة المستلزمات قبل بدء العام الدراسي لتشجيعهم على التعلم “لدينا مركز إبداع الطفل تابع للجميعة يقدم أنشطة مهمة، بشكل يومي خلال الصيف، ويعمل في عطلة نهاية الأسبوع أثناء الدراسة”، بحسب “نوال”، مؤكدة أنهم يقدمون الدعم للأطفال بدورات تدريبية وكورسات تساعدهم على تنمية مواهبهم وتطوير مستواهم مثل الرسم، والكورال الموسيقي، ودورات في اللغة الإنجليزية أو الفرنسية.

 

بعد الحمل أو الولادة… صحفيات يُضطّهدهن بيدِ نساء


مرافقة الأطفال لأمهاتهم في السجن

تفرض السلطات شروطًا لاصطحاب الأم لأبنائها داخل السجن، بحسب نص القانون لا يسمح بتواجد الطفل مع والدته بعد بلوغه أربعة سنوات، ويتم تسليمه للأوصياء عليه، حيث جاء في قانون الطفل المصري رقم 12 لسنة 1996 والمعدل بالقانون 126 لسنة 2008، في مادته (31 مكررًا)، على الدولة إنشاء دار للحضانة في كل سجن للنساء، يسمح فيها بإيداع أطفال السجينات حتى بلوغ الطفل سن أربع سنوات، على أن تلازم الأم طفلها خلال السنة الأولى من عمره، مع تنظيم كيفية اتصال الأم بطفلها وتلقيه رعايتها، دون حرمانها من رؤيته أو رعايته كجزاء لمخالفة ترتكبها.

ويوضح محمود البدوي، المحامي بالنقض والخبير الحقوقي، في حديث إلى زاوية ثالثة أنه بعد الفترة المنصوص عليها في القانون يُفصل الطفل عن أمه ليعيش في بيئته الطبيعية بما يضمن له فرص التعلم والتواصل مع المجتمع الخارجي. مؤكدًا أن التشريعات وحدها لا تكفي، بل يحتاج الأمر أيضًا إلى دعم اجتماعي ونفسي موازٍ لضمان حقوق الطفل “غياب هذا الجانب ينتقص من حقوقه، رغم الخطوات الواسعة التي قطعتها مصر في طريق حماية حقوق الطفل”.

ويشير البدوي إلى أن قضية سجن الأم أعقد من ذلك “في ثقافتنا الشعبية نقول إن الأم وحدها لا تستطيع تربية الطفل، وكذلك الأب وحده، فما بالك إذا غابت الأم تمامًا عن حياة الطفل؟”، خصوصًا إذا كان الأب متخليًا عن مسؤولياته أو عاجزًا أو إذا كانت الأم مطلقة أو الطفل يتيمًا. في هذه الحالات، من يتولى رعاية الطفل قد لا يستطيع توفير كل مقومات الرعاية الاجتماعية والتعليمية المناسبة له.

منذ اعتماد اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل عام 1989، تحقق تقدّم كبير في حماية حقوق الأطفال وتحسين حياتهم، إلا أن كثيرين منهم ما زالوا محرومين من طفولة مكتملة، من بينهم أبناء السجينات الذين يعانون من غياب الأم والوصمة المجتمعية، في ظل غياب نصوص قانونية واضحة تكفل لهم حق الرعاية والاهتمام.

فرغم أن الاتفاقية تضم 54 مادة، لكنها لم تتحدث بشكل صريح عن حقوق تلك الفئة وكانت من بين المواد الأقرب المادة 20، التي نصت على أن “”للطفل المحروم بصفة مؤقتة أو دائمة من بيئته العائلية أو الذي لا يسمح له، حفاظًا على مصالحة الفصلي، بالبقاء في تلك البيئة، الحق في حماية ومساعدة خاصتين توفرهما الدولة. كما تضمن الدول الأطراف، وفقًا لقوانينها الوطنية، رعاية بديلة لمثل هذا الطفل.

فيما تنص المادة 9 على أنه لا يجوز فصل الطفل عن والديه إلا إذا كان ذلك ضروريًا لحمايته وبقرار قضائي عادل، مع ضمان حق جميع الأطراف في المشاركة وإبداء آرائهم. كذلك تكفل للطفل المنفصل عن والديه الحق في الحفاظ على علاقة منتظمة معهما، وتلزم الدول بإبلاغ الأسرة بمكان وجود أي فرد يُحتجز أو يُرحل، شريطة ألا يضر ذلك بمصلحة الطفل. وبالتالي تؤكد هذه المادة من الاتفاقية على التزام الدول بتوفير رعاية بديلة للأطفال المحرومين من أسرهم.

في عام 2024 نشرت مجلة الفنون والأدب وعلوم الإنسانية، في عددها رقم 102، بحث بعنوان “الحاجات الاجتماعية لأبناء السجناء من وجهة نظر الأمهات” ورغم أن الدراسة كانت مطبقة على لجنة التراحم بمدينة جدة بالسعودية، إلا أنها أشارت إلى إحدى الدراسات السابقة التي طُبقت على أحد السجون المصرية وتحديدًا بمدينة الزقازيق محافظة الشرقية، وقد توصلت الدراسة إلى أن السجين يتعرض لتغيرات عديدة من جراء دخوله السجن، فغالبًا ما تكون لها انعكاسات على الأسرة في أوضاعها الاجتماعية، والاقتصادية، والنفسية.

وتوصلت الدراسة إلى أن (41.22%) من الأسر تعرضت لظروف اجتماعية واقتصادية ونفسية سيئة، وأن الأوضاع المعيشية لأسر السجناء تدهورت نتيجة لدخول عائلهم السجن. كما توصلت الدراسة إلى أن (46.66%) من السجناء كانوا يعولون أسرهم قبل دخولهم السجن، الأمر الذي أدى إلى تعرض أسرهم للحرمان.

 

العنف ضد نساء مصر.. بين فصول القوانين الغائبة وسنوات التراجع

العدالة التصالحية

ويلفت “البدوي”، إلى أهمية تبني مبدأ العدالة التصالحية في بعض القضايا البسيطة أو الجنح، خاصة إذا كانت السجينة أو السجين أبًا أو أمًا لأطفال صغار، قائلًا: “لماذا لا نفكر في بدائل للعقوبة السالبة للحرية، مثل العمل لصالح الدولة بأجر، على أن يعود الأب أو الأم إلى بيته في نهاية اليوم لرعاية أسرته؟ هذه مقاربة واقعية تحمي الأسرة من التفكك وتقلل الآثار السلبية على الأطفال”.

من جهته، يوضح محمد ممدوح، رئيس أمناء “الشباب المصري” وعضو “القومي لحقوق الإنسان”، أن قطاع الحماية المجتمعية التابع لوزارة الداخلية يضم إدارة الرعاية اللاحقة التي تهتم بملف المرأة، بالتنسيق مع مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني لدعم أسر السجينات، لافتًا إلى أن الدعم لا يقتصر على فترة السجن فقط، بل يشمل متابعة السجينات بعد الإفراج لضمان توظيفهن وفق ما تدربن عليه داخل السجن بالتعاون مع القطاع الخاص، وكذلك توجيه من يعيشن بأمراض مزمنة إلى مستشفيات قريبة لتلقى العلاج.

ويضيف ممدوح، أن المجلس يراقب أوضاع النساء داخل السجون، من حيث الخصوصية، وتأهيل أماكن الاحتجاز، ورعاية الأطفال، مشيرًا إلى أن القانون الحالي يمنح الأم الحق في رعاية طفلها داخل السجن حتى عمر أربع سنوات، بعد أن كان يسمح بعمر السنتين فقط. ويوجد حضانات مجهزة داخل السجون.

ويلفت إلى أن الطفل بعد سن الرابعة يُسلّم لأحد أفراد الأسرة، حيث تتدخل منظمات المجتمع المدني مثل “الشباب المصري”، “مؤسسة حياة للدمج المجتمعي”، و”جمعية رعاية أبناء السجينات” وغيرها لدعم الأطفال في التعليم والاحتياجات الأساسية، حيث تقوم بتنفيذ عدد من المشروعات الخاصة بهم، سواء تقديم المستلزمات المدرسية، أو تسهيل بدفع مصروفات المدارس، وغيرها من الملفات التي تضمن استمرار هؤلاء الأطفال في التمتع بالحق في التعليم.

من جانبه، يقول محمد حمودة، طبيب نفسي، إن الطفل في مرحلة التعليم الأساسي يكون شديد الاعتماد على أمه، وبالتالي فإن غيابها بسبب السجن يؤثر على اهتمامه بالدراسة وتأسيسه بشكل جيد، ما ينعكس سلبًا على السنوات الدراسية اللاحقة. ويضيف: “غياب الأم يهز ثقة الطفل بنفسه ويجعله عرضة للتأثر بالآخرين وإيذائهم، كما يزيد احتمالية تعرضه للتنمر”. ويؤكد على أهمية الدعم النفسي والأنشطة الترفيهية لإعطاء الأطفال شعورًا بالتميز والانتماء.

رغم أن فترة سجن مروة لم تكن طويلة، إلا أن أثرها على أبنائها كان عميقًا وظل يلازمهم حتى بعد الإفراج عنها. تقول: “مرت خمس سنوات على تلك الظروف القاسية التي عاشها أبنائي، وما زالت آثارها حاضرة، إذ ينظر إليهم المجتمع والمدرسة باعتبارهم أبناء سجينة، ونفسيتهم كانت مدمرة”.

وقد ساعدتهم جمعية “أطفال السجينات” من خلال برامج تأهيل نفسي شملت أنشطة تعليمية وترفيهية، بالإضافة إلى تعلم الحرف اليدوية. وتضيف “بنتي بدأت ترسم وتلوّن على القماش، وتتعلم الكروشيه والمكرمية والديكوباج”.

تقول نوال مصطفى، “بدأنا أيضًا نشاطًا بعنوان ‘نحن نحب القراءة’، حيث يقرأ متطوعو الجمعية للأطفال لتشجيعهم على عادة القراءة. موضحة، أن الجمعية تقدم برامج لمناقشة قضايا مثل التنمر والتحرش وقبول الآخر، عبر ألعاب، ورسومات، لتفريغ الطاقة السلبية، وزرع الأمل في نفوس الأطفال، إلى جانب طرح قصص عن مشاهير تغلبوا على ظروف صعبة.

 

نوصي للقراءة: للرجال فقط.. العفو الرئاسي لا يشمل “سجينات الرأي” في مصر

محو آثار الغياب

تعود “مروة” للحديث مرة أخرى قائلة، أنها كانت قلقة على ابنها الذي رفض التعليم بسبب مشكلتها، لكنه التحق بدروس تقوية في اللغة العربية والإنجليزية لتحسين قدرته على القراءة والكتابة، مضيفة: “الجمعية وفّرت لنا كل شيء، حتى المصاريف التي كانوا يدفعونها نيابة عني”. كما تم مساعدتها بماكينة خياطة لتوفير مصدر دخل.

وتشير  نوال، إلى وجود أمثلة مشرفة لأبناء السجينات، فمنهم فتاة حققت بطولات في الكاراتيه على مستوى الجمهورية، وأخرى تبلغ 13 عامًا تكتب قصصًا وتنشرها، فضلًا عن أطفال يشاركون في كورال الجمعية “العمل مع الأطفال ممتع، لأن أثره يظهر بسرعة، وتغيير الطفل يساعد على تغيير أسرته كلها من دون قصد”.

في أوروبا تأسست منظمة أطفال السجناء (COPE)  سنة 2000، وهي تعمل من أجل الأطفال الذين يقضي أحد والديهم عقوبة في السجن، وتخدم نحو 2.1 مليون طفل، منهم 800 ألف طفل في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة. هؤلاء الأطفال لا يواجهون فقط ألم الانفصال، بل يتعرضون أيضًا لخطر الوصم الاجتماعي، وعدم الاستقرار، والفقر، والعنف. وعلى الرغم من إحراز تقدم في أوروبا بفضل دعم الاتحاد الأوروبي، إلا أن بعض الدول ما زالت تعاني ضعف الوعي وتفاوت مستوى الخدمات. وتسعى (COPE) إلى زيادة الوعي وابتكار طرق جديدة للتعامل مع قضايا الأطفال المتأثرين بسجن أحد والديهم. بالإضافة لمنع انتهاك حقوق الأطفال الذين لديهم والد مسجون، والتصدي لها منذ لحظة الاعتقال وحتى إعادة الاندماج بعد انتهاء العقوبة، مع ضمان تلبية احتياجاتهم الفردية بشكل دائم. 

رغم الدور الذي تلعبه بعض الجمعيات التي تدعم أبناء السجينات والسجناء في مصر، إلا أنه لا يزال عددهم قليل جدًا، ويتركز معظمهم في القاهرة الكبرى. بالإضافة إلى عدم توافر بيانات أو إحصائيات بأعداد السجينات وأبنائهن، في حين نشرت منظمة أطفال السجناء إجمال عدد السجينات في أوروبا والمقدر بـ 28 ألف 387 سجينة بحسب آخر أرقام نشرتها. بينما وصلت عدد الأطفال لأمهات سجينات 36 ألف و903 طفل تقريبًا.

وتشير نرمين البحطيطي، رئيس جمعية رعاية السجناء وأسرهم ومؤسسة حياة للدمج المجتمعي، إلى أن عدد المستفيدين الكلي من الجمعية سواء أسر وسجناء سابقين ونساء وأطفال، حوالي 12 ألف أسرة و3 آلاف و500 سجين سابق، و5 آلاف سيدة و9 آلاف طفل، مؤكدًا أن النساء تحظى بدعم يصل لـ75%، لافتة إلى أن الجمعية قدمت خلال هذا العام 2025 الدعم إلى 500 سجينة داخل السجن و300 طفل، بالإضافة إلى دعم مقدم لـ220 أسرة من الأوصياء، وتقول: “دعم السجناء وأطفالهم قليل جدًا بسبب الوصم المجتمعي، معظم الناس تفضل مساعدة الغارمات، لكننا نساعد الكل وللأسف الدعم قليل جدًا”.

بعد أزمتين قلبيتين وفشل كلوي.. أسرة هدى عبد المنعم تناشد الرئيس بالعفو عنها

فئة موصومة

توافقها الرأي نوال مصطفى، قائلة: “هذه الفئة مظلومة في التبرعات، إذ يظن البعض أن دعمنا يعني دعم مجرمين، لكن الطفل بريء مهما كانت أخطاء والدته. هؤلاء الأطفال وُصموا دون إنصاف، ولا يسأل أحد: ماذا فعلوا؟”.

في 2013، قدمت اللجنة الأفريقية لخبراء حقوق ورفاهية الطفل، دليل بشأن الأطفال الذين يحتجز أو يسجن أولياء أمورهم،  وأكد على أنه يجب أن يتمتع الأطفال الذين يكون أولياء أمورهم خاضعين النظام العدالة الجنائية بحقوق متساوية مقارنة مع سائر الأطفال الآخرين، ويجب أن لا تتأثر تلك الحقوق جراء حالة آبائهم أو أولياء أمورهم. ومن أجل منع التمييز، يجب على الدول أن توفر للأطفال المسجونين مع آبائهم أو أولياء أمورهم الرئيسيين خدمات متساوية لتلك الخدمات التي يتلقاها الأطفال عادة في المجتمع مثل تلك التي تتعلق بخدمات التعليم والرعاية الصحية. كما يجب على الدول أن تضمن عند ولادة أطفال أثناء الاحتجاز عدم الإشارة إلى موقع حدوث الولادة في سجلات ولادتهم.

ولفت البحطيطي إلى أن وجود السيدة داخل السجن يؤثر بشكل سلبي على الأطفال، وبالتالي يحتاج الأبناء أيضًا جلسات دعم نفسي سواء فردية أو مع أسرهم، بجانب تطبيق آليات خصوصية وحماية لأطفال السجينات، فضلًا عن المساعدة في المدارس للتأكد من أن الطفل لا يتعرض للإيذاء أو التنمر، وأن الإخصائية الاجتماعية تحتفظ بسرية المعلومات.

وأوضحت أن عدد كبير من أبناء السجينات متسرب من التعليم، وبدورها تحاول الجمعية إعادتهم للمدارس أو فتح فصول محو أمية لو تخطى سن المدرسة: “بدأنا نشتغل معاهم مؤخرًا في مجال التعليم الفني ونوفر لهم فرص، وذلك في حالة تعثر الطفل في دراسته نتيجة وجود الأسرة داخل السجن، لتغيير مساره للأفضل”.

وتقدم الجمعية تبرعات مادية وأخرى عينية مثل توزيع الملابس في الأعياد والمناسبات، بجانب مطبخ البيت المصري الذي يقدم وجبات للأسر ويقوم بتوصيلها لهم.

فيما يركّز المجلس القومي لحقوق الإنسان، على التمكين الاقتصادي للمفرج عنهم، والتواصل مع جمعيات وأصحاب أعمال لتوفير فرص عمل للنساء المفرج عنهن، لمواجهة تحدي رفض التوظيف بسبب السجل الجنائي، لضمان عدم عودتهن مرة أخرى لإرتكاب جريمة يعاقب عليها القانون. بحسب محمد ممدوح عضو المجلس.

كما يشير  إلى التحديات المرتبطة بالوصمة الاجتماعية التي تواجه الأبناء، مؤكدًا تعاونهم مع منظمات المجتمع المدني ووزارة التربية والتعليم لضمان حماية بيانات الطلاب من أبناء السجينات ومنع التنمر والإيذاء.

وأشاد ممدوح، بنموذج مُلهم في هذا المجال، نرمين البحطيطي، سجينة سابقة، قائلًا: “أصبحت اليوم واحدة من أبرز الحقوقيات العاملات على ملف الدمج المجتمعي، والتي تم تكريمها مؤخرًا في إسبانيا تقديرًا لدورها الفعال في هذا المجال”. بحسب وصفه.

إعادة تأهيل ودمج السجينات

تقول نرمين، إنهم يعملون على إعادة تأهيل ودمج السجناء السابقين وأطفالهم، بالتوازي مع عمل مؤسسة حياة للتنمية التي تترأسها أيضًا وتهتم بنفس الملف: “نعمل على إعادة تأهيل ودمج السجناء وتقديم الدعم للحالات المستهدفة بعد عمل دراسة ميدانية لمعرفة احتياجاتهم” بحسب حديثها.

وأكدت، أن الجمعية تقدم لهم دعم اجتماعي وقانوني ونفسي، بالإضافة إلى توفير بعض الوظائف والتشغيل عن طريق رجال الأعمال، أو الإدارة العامة للرعاية اللاحقة التابعة لوزارة الداخلية، مضيفة: “نبدأ من داخل السجن نتابع المدة المتبقية للسجينة وفاضل لها كام شهر للخروج، لإعادة تأهيلها ودمجها داخل المجتمع، وتقديم جلسات نفسية متخصصة لها”.

تؤكد مروة، أنها تغيّرت خلال السنوات الخمس الماضية وأصبحت أكثر اهتمامًا بشؤون أبنائها، فحلا بدأت عامها الأول في كلية السياحة والفنادق، بينما يستعد محمود للشهادة الإعدادية، والصغرى التحقت بالمرحلة الابتدائية. تحاول تعويض آثار الغياب ومساعدة أبنائها على تجاوز الوصمة التي التصقت بهم: “ابنتي كانت غاضبة مني لفترة طويلة، وابني فقد الرغبة في التعليم، وأحاول الآن تعويض ذلك”.

فيما تعمل نفسية اليوم بالأجر اليومي برفقة بناتها الثلاثة بعد أن زوجت فتاة واحدة فقط منهن في بلدة بعيدة عنها، في انتظار أن تتوقف عقوبتها وتطمئن على باقي فتياتها. 

تحكي أنها كانت قد تلقت حكمًا بالحبس ثلاث سنوات، لكن أهالي القرية وبعض الجمعيات الخيرية تضامنوا معها وسددوا عنها الدين، فخرجت بعد ستة أشهر فقط. وتشير إلى أنه رغم علم الأهالي بقصتها وأنها كانت ضحية، فإنهم لا يزالون يخشون تزويج أبنائهم من فتياتها اللاتي أصبحن الآن في سن الزواج. وتعيش حاليًا ظروف قاسية بسبب الوصم الاجتماعي الذي التصق بها، وذنب كُتب عليها أن تدفع ثمنه مدى الحياة.

وتنصح جيهان النمرسي المدرسين والأوصياء بتوفير بيئة مدرسية آمنة وداعمة، متابعة أي تغيرات سلوكية أو عاطفية، الاستماع للطفل بعناية، وتعزيز ثقته بنفسه من خلال التشجيع والدعم النفسي، وتشجيعه على التعبير عن مشاعره عبر الحديث أو الأنشطة الفنية.

كما تشير إلى أهمية دعم مهارات التواصل الاجتماعي لتسهيل اندماج الطفل مع أقرانه، والتعاون مع الأسرة ومقدمي الرعاية لضمان استقرار روتيني ودعم نفسي مستمر، والاستعانة بمختصين نفسيين عند ظهور علامات اضطرابات شديدة، وإدماج الأنشطة الرياضية والترفيهية لتفريغ الطاقات السلبية ورفع المعنويات.

في النهاية، تبقى معاناة أبناء السجينات جرحًا مفتوحًا لا تلتئم آثاره بمرور الوقت، إذ تتشابك فيه خيوط الغياب والوصم المجتمعي وضعف الحماية القانونية، ليصبح الطفل ضحية مرتين: مرة لذنب لم يقترفه، ومرة لإهمال مؤسسي لا يضعه في أولويات الرعاية. وبينما تبذل بعض الجمعيات جهودًا متفرقة لاحتواء آثار الغياب وتوفير الدعم المادي والنفسي، يبقى غياب استراتيجية وطنية واضحة لرعاية أبناء السجينات أحد أبرز مظاهر العجز في منظومة العدالة الاجتماعية.

Search