شهدت السنوات الأخيرة منذ صعود الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى كرسي الحكم، تصاعدًا في حالات الوفيات والانتهاكات المسجلة داخل مقار الاحتجاز؛ لكنها صوحبت بغموض شديد، ما يجعل المعلوم عن ملابسات هذه الحالات، ومسبباتها والأطراف المسؤولة عنها محدود، مستفيدة من حالة التعتيم الإعلامي وعدم حرية تداول المعلومات؛ إلا أن منظمات حقوقية ومدافعين عن حقوق الإنسان حاولوا رصد تلك الانتهاكات.
فحسب تقرير حديث في مايو الماضي، لمركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب، كشف عن 314 انتهاكًا في مقابل 343 انتهاكًا في أبريل الماضي، بينها ستّ حالات وفاة نتيجة الإهمال الطبّيّ وظروف الاحتجاز (في مقابل حالتا وفاة في أبريل)، وتسع حالات تعذيب (مقابل ثماني حالات تعذيب في أبريل)، و36 حالة تكدير، وأربع حالات تكدير جماعيّ (مقابلات عشر حالات في أبريل)، و21 حالة تدوير متّهمين على ذمّة قضايا جديدة (مقابل 78 حالة في أبريل)، و19 حالة إهمال طبّيّ متعمّد (مقابل 15 في أبريل)، و19 حالة إخفاء قسريّ (مقابل 17 حالة في أبريل)، وظهور 171 مختفيًا قسريًّا بعد مدد وفترات متفاوتة من الاختفاء (مقابل 137 في أبريل)، و29 حالة عنف من قبل الدولة (مقابل 40 حالة عنف في أبريل).
أيضًا، كشف تقرير لجنة العدالة – مؤسّسة حقوقيّة غير رسميّة- عن رصدها نحو 3537 انتهاكًا بمصر في عام 2023. ضمن مشروعها لـ “مراقبة الانتهاكات داخل السجون ومراكز الاحتجاز المصريّة”، الّذي أبرز بعضًا من أهمّ تلك المستجدّات على الواقع الحقوقيّ في مصر، كما رصدت فيه اللجنة الانتهاكات الّتي وقعت بحقّ ضحايا داخل مراكز ومقارّ الاحتجاز في البلاد. وحسب التقرير فقد وقعت الانتهاكات داخل 49 مقرّ احتجاز، وتنوّعت بين أنماط متعدّدة من الانتهاكات، جاءت النسبة الأكبر منها ضمن الحرمان من الحرّيّة تعسّفيًّا (نحو 90%) بواقع 3185 انتهاكًا مرصودًا، تليها الانتهاكات ضمن الاختفاء القسريّ بواقع 174 انتهاكًا مرصودًا، ثمّ 106 انتهاكًا مرصودًا ضمن سوء أوضاع الاحتجاز، يليهم الانتهاكات ضمن التعذيب والوفيات داخل مقارّ الاحتجاز بواقع 36 انتهاكًا لكلًّا منهما.
الموت في مقرات الاحتجاز في عهد مبارك
حسب تقرير صادر عن الجبهة المصرية لحقوق الإنسان، مثلّت علاقة المواطنين بمنظومة العدالة الجنائية (أجهزة أمن الدولة، والشرطة المدنية، وقوات الأمن المركزي تحديدًا)، أحد أبرز الملفات المهيمنة على صعيد العدالة الجنائية في مصر خلال العشرين عامًا الماضية، وكان ذلك أحد أبرز أسباب قيام ثورة عام 2011، إذ اتسم نظام مبارك بتمدد أجهزة الأمن الداخلي في الحياة العامة والمدنية، وتطبيق قانون الطوارئ، الذي منح سلطات الأمن صلاحيات واسعة ضد المواطنين، خاصة مع انفجار تمرد التيار الإسلامي منذ نهاية الثمانينات، مرورًا بالتسعينات.
وقد تميز جهاز أمن الدولة (الأمن الوطني حاليًا) باستخدام التعذيب والاعتماد على أساليب قسرية في الاستجواب، ورغم ذلك لم يبرز للعلن من تلك الوقائع سوى حالات قليلة في الفترة التي سبقت قيام ثورة 2011، وتعزو الجبهة المصرية لحقوق الإنسان ندرة التوثيق إلى اعتبارات بعضها قد يرتبط بغياب التغطية الواسعة المتخصصة لهذا النوع من الانتهاكات والأداء الأمني، وأيضًا تعمد الجهاز ممارسة انتهاكات “محسوبة ومقدرة“، تتم في الغالب بوجود رعاية طبية في جلسات التعذيب والاستجواب؛ لضمان استمرار الشخص على قيد الحياة، ما أبقى حالات الوفاة في حدها الأدنى.
وكان لـ جهاز الشرطة المدنية، نصيبًا ضخمًا من تلك الممارسات أيضًا، إذ تركزت الانتهاكات التي سُجَلت وقتئذٍ في شكل تعذيب أو انتهاكات جنسية، من قبل أفراد الشرطة في مقرات الاحتجاز الشرطي ضد النساء والرجال على حد سواء.
ومن أبرز أمثلتها قضية السائق عماد الكبير، التي تعود إلى عام 2006، حين احتجزته شرطة قسم بولاق الدكرور (تقع في محافظة الجيزة)، وقامت بتعذيبه وهتك عرضه، وهو ما أُثبت بعد مقطع مصور تم تداوله؛ ما أجبر السلطة على تقديم الضابط المسؤول للمحاكمة، ليصدر بحقه وأمين شرطة متعاون، حكمًا بالحبس مدة ثلاث سنوات فقط. في حين ظهر مقطع مصور آخر لسيدة تتلقى ضربات وعنف شديد داخل أحد مقار الاحتجاز تبين أنها إحدى الموظفات بمبنى الإذاعة والتليفزيون ماسبيرو، وقد أثار تلك القضية حينئذٍ المحامي الحقوقي ناصر أمين، فيما عرف إعلاميا بقضية “كليبات التعذيب“.
ولعل أبرز وقائع القتل التي اتهم فيها جهاز الشرطة في ظل نظام مبارك ولاقت دعمًا إعلاميًا وشعبيًا، مقتل خالد سعيد، وسيد بلال الذي لقى حتفه قبل أيام قلائل من اندلاع الثورة. وقد وثق الصحفي والمدون حسام الحملاوي، بعض من تلك القضايا حينئذٍ، مثل مقتل البائع المتجول محمد حسن في عام 2004 على يد شرطة قسم الأزبكية بوسط القاهرة. وحسب “الحملاوي” وصلت حالات القتل إلى فئة القُصَر أيضًا.
وانتهت تلك المرحلة رغم الإنكار الشديد للوقائع، بإدانة ستة على الأقل من ضباط الشرطة في الفترة ما بين عامي 2006/ 2009. وقد تراوحت العقوبات بين السجن على خلفية هذه الاتهامات، والإيقاف عن العمل، والنقل للأعمال الإدارية، أو النقل لمقار احتجاز شرطية أخرى بعيدة.
العهد الحالي
وفق تقرير الجبهة المصرية للحقوق، فإنه في أعقاب عام 2013، حظيت السجون المصرية باهتمام حقوقي محلي ودولي موسع؛ نظرًا لشيوع حالات الوفاة داخل مقرات الاحتجاز؛ خاصة مع تزايد أعداد المحتجزين (السياسيين والجنائيين وغيرهم)، وحسب تقديرات فإن عددهم ما بين 40 إلى 60 ألف سجين.
ومع تنامي أعداد المحتجزين تفاقمت أوضاعهم سوءًا، وخرجت تسع منظمات حقوقية، العام الماضي، مطالبة بالإفصاح عن عدد المسجونين الحقيقي في السجون المصرية، مشيرة إلى أن الإفصاح الرسمي الأخير كان في تسعينيات القرن الماضي، وأن
“السلطات المصرية دأبت في السنوات الأخيرة على نشر مقاطع مصورة ومواد دعائية أخرى حول منشآت الاحتجاز الجديدة، تُقدم صورة جيدة عن معاملة السجناء، بينما حجبت جميع أماكن الاحتجاز عن التفتيش المستقل من قبل الصحفيين والمنظمات غير الحكومية”.
في الوقت نفسه، فإن هناك تسامحًا من السلطة تجاه ممارسات العنف من قبل الشرطة المدنية، والأمن الوطني، وقوات الأمن العاملة في قضايا ذات طابع سياسي، خاصة القوات العاملة في نطاق مكافحة الإرهاب – حسب وصف المنظمات الحقوقية-، وقد انعكس ذلك في تعديلات قانونية، كان من أبرزها ما لحق بـ قانون الإرهاب الصادر في عام 2015، من السماح لقوّات إنفاذ القانون باستخدام القوّة في حالات المواجهات دون مساءلة أو مراجعة.
يأتي ذلك في ظلّ موادّ دستوريّة وقانونيّة تعمل على تنظيم أوضاع الاحتجاز، لكنّها غير مطبقة بشكل فعليّ، إذ جاء الدستور المصريّ لعام 2014 والمعدّل في عام 2019، متضمّنًا عدد من النصوص الدستوريّة، الّتي تقرّ المبادئ العامّة الكافلة للحقّ في الحياة، والسلامة البدنيّة والجسديّة. فقد جاء في نصّ المادّة 52 من الدستور تجريمًا واضحًا للتعذيب، إذ نصّت على أنّ: “التعذيب بجميع صوره وأشكاله، جريمة لا تسقط بالتقادم”.
واشترطت المادّة 54 من الدستور في حالات تقييد حرّيّة الأشخاص أن يمكّنوا من التواصل مع ذويهم ومحاميهم فورًا لإبلاغهم بالاحتجاز، فنصّت المادّة على أنّ: “يجب أن يبلغ فورًا كلّ من تقيّد حرّيّته بأسباب ذلك، ويحاط بحقوقه كتابة، ويمكن من الاتّصال بذويه وبمحاميه فورًا”. وتابعت المادّة 55 على ذلك بالنصّ على أنّ: “كلّ من يقبض عليه، أو يحبس، أو تقيّد حرّيّته تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامته، ولا يجوز تعذيبه، ولا ترهيبه، ولا إكراهه، ولا إيذاؤه بدنيًّا أو معنويًّا، ولا يكون حجزه، أو حبسه إلّا في أماكن مخصّصة لذلك لائقة إنسانيًّا وصحّيًّا”.
وعلى صعيد القوانين، فينظّم قانون مثل قانون الإجراءات الجنائيّة رقم 150 لعام 1950 الجهات المسؤولة عن القبض والاحتجاز، ومسؤوليّتها، والإشراف عليها، كما نظّم قانون تنظيم السجون في مادّته 91 مكرّر على عقاب كلّ موظّف عامّ أودع أو أمر بإيداع من تسلب حرّيّته على أيّ أوجه في غير أماكن الاحتجاز القانونيّة، وهي الممارسة الّتي تشيع في حالات الاحتجاز الّتي تتمّ على أيدي الأمن الوطنيّ.
وقد أقرّت المادّة 20 مكرّر من قانون تنظيم السجون المعدّل بالقانون 106 لسنة 2015 بمعاملة كلّ من سلبت حرّيّته بغير حكم قضائيّ في السجون، المعاملة المقرّرة للمحبوسين احتياطيًّا، وهي المعاملة الّتي تشمل إمكانيّة الاستعانة بالحاجيّات الأساسيّة من غرف مؤثّثة، واحتياجات أخرى قد يعدّ منها العلاج.
وتوفّر القوانين واللوائح المنظّمة للسجون في مصر نصوصًا منظّمة لمسألة الأوضاع الصحّيّة للسجناء، والّذين يفترض أن يقضوا عقوبتهم في مقرّ الاحتجاز لفترات؛ ما يعني أنّ إدارة السجن هي المسؤولة قانونًا عن سلامتهم، وحمايتهم إلى حين تنفيذهم العقوبة.
الموت في عهد السيسي
تقول الجبهة في تقريريها الأخير أنه على خلاف سنوات نظام مبارك حيث حظّت الأقسام بالزخم والاهتمام في ظلّ تزايد حالات التعذيب والموت بداخلها، فقد انضمّت إلى القائمة مؤسّسات مثل السجون، الّتي ضمّت النصيب الأكبر من وقائع ودعاوى الانتهاكات الجسديّة، والموت، إضافة لوقائع القتل خارج القانون في مقرّات مجهولة، يغلب على الظنّ كونها مقرّات تابعة للأمن الوطنيّ في مصر.
يشمل الوضع المتدهور كذلك تورّط أطراف ومؤسّسات أخرى في هذه الوقائع، على خلاف الوضع المعتاد في سنوات مبارك، مثل مؤسّسات العدالة كـالنيابة العامّة، وبعض من العاملين في القطاع الطبّيّ التابع لوزارة الداخليّة ومصلحة السجون.
وتكشف الحالات المسجّلة عن وقائع وأحداث الوفاة منذ 2013 عن وجود تسجيل حالات وفاة ناتجة عن تعذيب وانتهاكات جسديّة؛ لكن يصاحبها نمطان جديدان يظهران على السطح، والّذي يمكن تصنيفهما كأسباب غير مباشرة للوفاة؛ إلّا أنّها تطرح مسألة المسؤوليّة القانونيّة، والمادّيّة لأجهزة الأمن والشرطة عنها في كلّ الأحوال، وهو المرض الطبّيّ، والعنف بين السجناء.
وقد سجّلت بالفعل عدد من الحالات، الّتي مرّت بانتهاكات على صعيد التوقيف دون سند قانونيّ، والتعرّض بالتعدّي البدنيّ على الضحيّة أمام مرأى شهود أو مواطنين آخرين.
وقد سُجلت وفيات عدد من الضحايا الموجودين بالفعل في أحد أقسام الشرطة، الذين اُستجوبوا على أيدي مسؤولي الأمن الوطني بالقسم، وأخضعوا لجلسات من التعذيب والتعدي البدني القاسي، وانتهي بالفعل لوفاتهم. ويبرز هذا النمط ويسود في حالة الضحايا المتهمين على خلفية قضايا سياسية، إذ يقضي بعضهم بالفعل عقوبات داخل القسم.
وقد شهدت السنوات الأخيرة نمطًا آخر للقتل، وهو القتل في الأماكن العامة خارج مقرات الاحتجاز على أيدي قوات الشرطة المدنية؛ منها حالة مواطن في المنيا اتهم بتجارة المخدرات، تعددت الروايات حول طريقة وفاته ما بين الرواية الرسمية التي عزت قتله لاستخدام القوة إزاء قوات الضبط أثناء محاولته الهروب من الأمن؛ في مقابل رواية أسرة الضحية ومحاميه، إذ أكدت على نشوب مشادة كلامية بين الضابط، والقتيل، أدت لهروب الأخير، وتعقب الشرطة له، لترديه قتيلا أثناء المطاردة.
وقد وثقت الجبهة المصرية حالات لمواطنين قتلوا في أماكن مجهولة، منهم مواطن أُلقي القبض عليه من منزله، ونُقل لمكان مجهول مدة 12 يومًا، انتهت باستدعاء جهاز الأمن الوطني لزوجته لإعلامها بالوفاة، وتوجيهها لدفن الضحية دون عزاء مناسب.
هناك نمط ثان، تزخر به قصص وشهادات الأفراد والذي يُمكن تسميته بـ “قتل الأقران”، وينتشر في مقار أقسام الشرطة، إذ توجد حالات عدة لـ وقائع عنف بين نزلاء الحجز في الأقسام، تصل في حالات عدة لإصابات خطيرة ومميتة، وفي حالات أخرى تصل حد الموت. ويُرجع حقوقيون هذا النمط إلى واقع ظروف الاحتجاز السيئة التي يُمارس فيها السجناء عنف وتعدي إزاء بعضهم البعض؛ للتنازع حول مساحات غرف الاحتجاز.
ويأتي النمط الثالث، الذي يمثل نمطًا عابرًا بين مقرات الاحتجاز الشرطية، والسجون، متمثلًا في أعداد الوفيات المسجلة نتاج الإهمال الطبي الجسيم والتجاهل للحالات المرضية.
ويُعد هذا النمط من الوفاة ضمن فئة القتل غير المباشر، ويتميز هذا النمط بعدم تفرقة السياسة الشرطية بين المحتجزين الجنائيين والسياسيين. وترجع حالات الوفاة لتداخل اعتبارين؛ الإهمال الطبي، وظروف الاحتجاز في مصر ومرافقه السيئة، التي تتكفل بإسقاط العديد من الضحايا والقتلى دون تدخل مباشر، وهو ما تعمد قوات إنفاذ القانون للاستفادة منه بشكل موسع لتجهيل مسؤولية القتل والوفاة في وقائع كثيرة في مواجهة أسر الضحايا وغيرهم.
التفاوض حول حالات احتواء الموت
لا توفر أوضاع العدالة الجنائية المتدهورة في مصر، فرصًا حقيقية لإنصاف الضحايا، رغم سعي ذويهم وهيئات الدفاع عنهم. ويختلف التعامل الرسمي مع كل فئة منهم عن الأخرى؛ ففي حالة الضحايا من الجنائيين تكون فرص الأهل وهيئة الدفاع في التصعيد أوفر، وغالبًا ما توفر ظروف مقتل الجنائيين في مقرات الاحتجاز مناسبة لوجود شهود عيان على ما تعرضت له الضحية من قتل وما قبل القتل، سواء كان هؤلاء الشهود من الأسرة، أو الجيران، أو رفاق الحجز، والذي يتولون نشر وقائع القتل.
وفي المناطق التي تتنامى فيها المحددات القبلية والعائلية كما في صعيد مصر، ومناطقها الحدودية، تضغط أسرة الضحية والدائرة الاجتماعية المنتمية له على القيادات الأمنية ومؤسسات العدالة والقضاء وممثليهم في هذه المناطق لفتح تحقيق في الواقعة، وتعيين فرد الشرطة المسؤول عن القتل، والسماح للأسرة باستلام جثمان الضحية، في حال تعنت مركز الشرطة المحلي في تسليم الجثمان خشية التصعيد..
أما في حالة الضحايا من السياسيين، والمختفين قسريًا ممن قتلوا على خلفية تهم سياسية، فتتراجع بشدة فرص العائلات وممثليهم القانونيين في الإفصاح عما لحق بذويهم. ولا يسمح بوجود شهود على وقائع القتل، نتيجة وجودهم قيد الاختفاء القسري في أماكن مجهولة. في الوقت ذاته تُستدَعي العائلة لإطلاعها على نبأ الوفاة، وتمر بمقايضات، وتفاوض مع الجهاز الأمني في سبيل السماح بالإفراج عن الجثمان.
الموت في السجون المصرية
تقع غالبية حالات الوفاة المسجلة في السجون المصرية في نطاق ما يُعرف بالموت غير المباشر (الموت بسبب المرض)، ويحدث على مراحل متدرجة، يصعب معها تحديد القاتل الفعلي أو تحديد المسؤولية الجنائية، وفق الجبهة المصرية.
وتكشف الشهادات والتوثيقات عن اعتبارات أخرى ترتبط بتصنيف السجين، تؤدي لوجود توجه واضح ومقصود بتجاهل الحالة المرضية للسجين أو المحتجز، ينطبق ذلك على شاغلي السجون شديدة الحراسة مثل سجون العقرب سابقا، وبدر 1، التي لا يتوافر بها إمكانية التواصل مع الغير، أو القدرة على تقديم استغاثات.
ووفقًا للتوثيقات والشهادات التي تمكن تقرير الجبهة المصرية من جمعها، فيُمكن عزو الكثير من حالات الوفاة لعدد من الأمراض المزمنة المتكررة في حالة أغلب الوفيات، وهي: الضغط، والسكري، والأورام السرطانية التي تعد في الترتيب الثاني من مسببات الوفاة داخل السجون، والفشل الكلوي. إضافة لحالات متكررة من الوفاة المفاجئة لعدد من السجناء ممن لم يُسجل لهم تاريخ مرضي، أو في أعمار صغيرة نسبيًا، وفقا للمقاييس الطبية. يُضاف إلى ذلك تعمد الإدارة والأمن تجاهل المؤشرات المبدئية التي يُعلن عنها المريض نفسه.
وتمتد خطورة الإهمال الطبي لحالة الأمراض المعدية، التي تحمل خطورة كذلك للمريض والمحيط القريب منه، فقد رُصدت في السنوات الأخيرة حالات للإصابة بفيروس سي، والتي يُرجح إصابة بعض المسجونين في ظل غياب الإجراءات الاحترازية الأساسية من نظافة، ومنع استخدام الأدوات الخاصة. وانتهت هذه العدوى في حالة البعض لتطوير أمراض كبد خطيرة، ووصلت بالبعض منهم للدخول في نوبات إغماء كبدية، مع استمرار التجاهل لها.
وحسب تقرير “حصاد القهر” الصادر عن مركز النديم عن عام ٢٠٢٣، فقد وثق معاناة 106 محتجزًا من الإهمال الطبي المتعمد، وحسب شهاداتهم، فإنهم حرموا من العلاج والفحوصات الطبية والجراحات الضرورية.
في الوقت ذاته، تميل السجون وإدارتها لتحريف قرارات النيابة، والتحايل عليها؛ بما يستجيب للمتطلبات القانونية الواردة في طلب النيابة، دون أن يُحقق شيء فعلي للمريض على خلاف رغبة مسؤولي السجن بعقاب المريض بمرضه، حيث تميل السجون لإحداث هذا التميز العمدي بين الكشف/ العرض على المختص الطبي، وبين العلاج، في حين قد تسمح إدارة السجن بالعرض الطبي، للمريض، لاستيفاء مطالبة النيابة؛ إلا أن تلقي العلاج مسألة أخرى.
وبرغم أن للنيابة في هذه الحالة إمكانية توجيه إدارة السجن ومطالبتها بعرض المريض على أي مستشفى حكومي ليتولى المشفى تقييم الحالة الطبية للمريض المحتجز بشكل مفصل؛ إلا أن كثير من رؤساء النيابات يميلون لعدم اللجوء لتلك الصلاحية؛ خاصة في حالة السجناء ذوي الخلفية السياسية، أو بعد التواصل مع الجهاز الأمني المسؤول عن السجين السياسي للاستعلام عن إمكانية السماح بذلك أو لا.
ويُعد جهاز الأمن الوطني هو المتنفذ الأكبر في ملف السجناء ذوي الخلفية السياسية، خاصة في السنوات الأخيرة. في ظل كبر أعداد المعتقلين على خلفية تصنيفات سياسية لهم، وصلت في بعض التقديرات ما بين 40- 60 ألف سجين. وبرغم توزيع السجناء على سجون مختلفة، فإن جهاز الأمن الوطني يتولى بشكل شبه كامل تحديد المعاملة التي يجب أن يتلقاها السجين وهو في محبسه.
ويمتد نفوذ الأمن الوطني لكافة الجهات التي تتعامل مع السجين، من نيابة، وإدارة السجون، والمستشفيات العامة. في حالة السجون شديدة الحراسة، يخضع السجين المريض بالكلية لجهاز الأمن الوطني الذي يتولى بالتبعية مسؤولية السجين. ويتجاهل الجانب الصحي في حالة السجناء الخطرين، وفقًا لتصنيفهم الأمني، إذ ينقلون إلى السجون شديدة الحراسة، متجاهلين بذلك النصوص القانونية التي توجب تقييم حالة السجين صحيًا، لتحديد مدى مناسبة السجن وظروفه مع السجين.
ووفقًا لعدد من الشهادات حول المرضى الذين ماتوا أثناء إخفائهم قسريا من قبل جهاز الأمن الوطني، أو أثناء التحقيق معهم عند تسكينهم السجون، فيميل جهاز الأمن للضغط على المرضى منهم، ومنعهم من العلاج لإجبارهم على الاعتراف أو الإدلاء بمعلومات. وفي حالة تسكينهم السجون، تعمد إدارة السجن الداخلية لعدم الإقدام على أي تصرف بشأن السجين دون الرجوع لإدارة الأمن الوطني، فيما يتعلق بالعلاج أو التدخل الطبي لكل حالة على حدا.
في الوقت ذاته يعمد الأمن، في حالة السجناء السياسيين، ممن قضوا حتفهم بسبب المرض وتجاهله إلى التعنت مع الأسر في تسليم الجثمان لساعات، وهو ما يُفسَر من جانب البعض بمحاولته إثناء العائلات عن الشكوى أو البحث بشكل معمق عن أسباب وفاة ذويها، ما يُجبر الأسر في النهاية على الموافقة على أي شروط في مقابل دفن الضحية. إضافة لذلك يعمد جهاز الأمن الوطني للإشراف على الأوراق الرسمية الخاصة بالوفاة، حيث تعكس الحالات الموجودة، تشاركا في مسببات الوفاة، والتي لا تخرج عن هبوط حاد بالدورة الدموية أفضى لتوقف القلب. ويُضاف إلى ذلك ما ذكره البعض من تعمد تجهيل البيانات في شهادات الوفاة المصدرة للموتى، والتي تصل في حالة البعض لعدم تضمين تفاصيل عن ملابسات الوفاة وأسبابها، أو الامتناع في أحيانا أخرى عن تسليم الأسرة هذه الشهادات، بما يقضي على أي إثبات قانوني مستقبلي بشأن هذه الوفيات.