100 ساعة عمل أسبوعيًا، ما يعادل نحو 16 ساعة يوميًا، بواقع 6 أيام في الأسبوع؛ كانت سببًا كافيًا لدفع مصطفى محمد، طبيب نفسي من القاهرة، للتفكير في الهجرة، يوضح أن الضغوط الاقتصادية والنفسية انعكست على جودة عمله الذي يتطلب صفاء ذهن وتركيز، وهي أمور باتت صعبة المنال. يقول: “الطبيب في مصر تحول إلى شخص يجمع المال فقط ليتمكن من العيش والإنفاق على تعليمه، ما يضطره للعمل في أكثر من مستشفى أو عيادة في الوقت ذاته، مما يؤثر على جودة العمل”.
بعد تعرضه لما وصفه بالاحتراق الوظيفي، بدأ مصطفى البحث عن فرصة عمل بالخارج، حيث تلقى عروضًا ويقوم بالمفاضلة بينها حاليًا. رغم تخرجه منذ عشر سنوات وتدرجه بين العمل الحكومي والخاص وافتتاحه لعيادة تحولت إلى مركز للطب النفسي، إلا أنه ما زال غير قادر على تحقيق مستوى معيشي مستقر. يقول: “أحتاج للعمل عدد ساعات معينة كي أعيش بمستوى جيد، لذا أبحث عن فرصة خارج البلاد”.
وفقًا لتقرير مصر في أرقام الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في عام 2023، لغ عدد الأطباء النفسيين العاملين 1832J، في عام 2021، فيما يصل عدد المستشفيات لـ 22 مستشفى حكومي، بعدد أسرّة يبلغ نحو 5209. بينما وصل عدد المترددين بالقسم الخارجي والاستقبال في المستشفيات العامة والمركزية في تخصص نفسية وعصبية في العام المذكور إلى نحو 259 ألف و 458 مواطن، وفي القسم الداخلي بلغ نحو 1866 مواطن.
في حديثه مع “زاوية ثالثة”، أوضح أسامة عبدالحي، نقيب الأطباء المصريين، أن الأمانة العامة للصحة النفسية وعلاج الإدمان هي الجهة التي تمتلك البيانات التفصيلية حول أعداد الأطباء النفسيين وتوزيعهم الجغرافي. ورغم أن وزارة الصحة تعتمد على تقارير نقابة الأطباء في نشراتها الإحصائية، إلا أن التواصل مع الجهات المسؤولة لم يسفر عن أي ردود حتى الآن، حيث لم تُجب الوزارة على استفساراتنا.
في بيان رسمي لوزارة الصحة صدر في يوليو 2023، أشار حسام عبدالغفار، المتحدث الرسمي باسم الوزارة، إلى أن عدد منشآت الصحة النفسية في مصر بلغ 223 منشأة بطاقة استيعابية تصل إلى 11628 سريرًا، منها 1747 سريرًا لعلاج الإدمان في المنشآت الحكومية، و4508 سريرًا في المنشآت الخاصة.
تواصلت “زاوية ثالثة” أيضًا مع منن عبد المقصود، الأمين العام للأمانة العامة للصحة النفسية وعلاج الإدمان، لكنها رفضت التعاون معنا، مشيرة إلى ضرورة الحصول أولاً على تصريح من وزارة الصحة. ورغم محاولاتنا للتواصل مع حسام عبدالغفار مرة أخرى، لم نحصل على ردود حتى كتابة هذا التقرير.
في سياق متصل، أوضح عبدالغفار في بيان لاحق أن عدد الأطباء الأخصائيين والاستشاريين المسجلين في المجلس القومي للصحة النفسية بلغ 849 طبيبًا، بالإضافة إلى 187 طبيبًا للتقييم الطبي المستقل، و70 طبيبًا للتفتيش في المجالس الإقليمية للصحة النفسية. هذا العدد يمثل إجمالي 1106 طبيبًا يقدمون الخدمات النفسية في البلاد.
وأشار البيان إلى أن عدد حالات الدخول لمنشآت العلاج النفسي في العام الماضي بلغ 55057 حالة، من بينهم 19528 حالة في المنشآت الحكومية، و35529 حالة في المنشآت الخاصة.
نوصي للقراءة: نقص الأدوية النفسية في مصر: صراع يومي من أجل البقاء
صحة الأطباء النفسيين
يتذكر الطبيب الثلاثيني مصطفى محمد الفترة التي تلت تخرجه حين كان يعمل 27 نبطشية (شيفت عمل) شهريًا، كل منها يمتد لـ 24 ساعة كاملة. يقول: “كنت أعود للمنزل ثلاثة أيام فقط في الأسبوع، ورغم رغبتي في التعلم وجمع راتب جيد لبناء نفسي وتكوين أسرة، لم أتمكن من تحقيق ذلك حتى الآن”.
محمود علي، استشاري طب نفسي من أسيوط، عاش تجربة مشابهة قبل أن يهاجر إلى أستراليا قبل أربع سنوات. يقول: “كنت أعمل في نبطشيات 24 ساعة مقابل 86 جنيه فقط، وعندما زاد عدد النبطشيات عن عشرة شهريًا، لم أتقاضَ أي أجر إضافي”. وأوضح أنه كان عاجزًا عن الاعتذار عن هذه الورديات الزائدة لتجنب العقوبات.
يبعد الهجرة إلى أستراليا، تغير وضع محمود علي تمامًا. يقول: “الفرق هائل. في أستراليا، أحصل على أجر عن كل دقيقة إضافية أعملها، وأتقاضى 130 دولارًا (6288 جنيه) على الأقل مقابل استشارة هاتفية واحدة”. وأشار إلى أن معاملة الأطباء في مصر لا يمكن مقارنتها بالوضع في الخارج، واصفًا ظروف الأطباء في مصر بأنها أشبه بـ “السخرة”.
في عام 1997، صدر قرار جمهوري بضم جميع مستشفيات الصحة النفسية تحت إدارة موحدة تحت إشراف الأمانة العامة للصحة النفسية وعلاج الإدمان، التي تضم مستشفيات مثل العباسية وحلوان والخانكة في القاهرة الكبرى، والمعمورة وعباس حلمي في الإسكندرية، بالإضافة إلى مستشفيات أخرى في الدلتا ومدن القناة.
يعلق محمود فؤاد – المدير التنفيذي للمركز المصري للحق في الدواء-، على ظاهرة سفر الأطباء النفسيين المصريين للخارج. يقول: “يعاني الأطباء النفسيون كباقي زملائهم في التخصصات الأخرى من ضعف الرواتب مقابل زيادة عدد ساعات العمل في ظل غياب الحوافز، مشيرًا إلى أن أمانة الصحة النفسية والعصبية التابعة لوزارة الصحة المصرية، لم تراعي تحسين مستوى هؤلاء الأطباء من خلال دعمهم وتعليمهم وتطويرهم في مجالهم لتقديم خدمة أفضل للمرضى، فضلًا عن عدم وجود ميزانية محددة للأطباء النفسيين، وبالتالي يكون الحل الأنسب لهم هو السفر للخارج أو الهجرة دون عودة”.
ويضيف فؤاد أن الطب النفسي في مصر يعاني من ندرة الأطباء، إذ يحتاج التخصص إلى دراسات مستمرة لرفع كفاءة العاملين به، وهو أمر صعب بسبب ارتفاع تكاليف الدراسة. وأشار إلى أن دول الخليج استغلت هذه الفجوة، واستقطبت الأطباء النفسيين المصريين بعروض مغرية، مما أدى إلى نقص حاد في الكفاءات داخل المستشفيات المصرية.
زيادة الاستقالات
في أبريل 2022، نشرتت النقابة العامة لأطباء مصر تقريرًا كشف عن زيادة ملحوظة في أعداد الأطباء الذين استقالوا وحصلوا على شهادة طبيب حر. في عام 2016، استقال نحو 1044 طبيبًا، وارتفع العدد في 2017 ليصل إلى 2549 طبيبًا. بحلول عام 2018، استقال 2612 طبيبًا، وشهد عام 2019 زيادة أخرى حيث بلغ عدد المستقيلين حوالي 3507 أطباء. في عام 2020، استقال 2968 طبيبًا، أما في 2021، فقد كان العدد الأكبر بـ 4127 طبيبًا، ليصل إجمالي الاستقالات بين 2019 و2022 إلى 11 ألف و536 طبيبًا. لكن التقرير لم يحدد عدد الأطباء النفسيين ضمن هذه الأعداد.
من بين هؤلاء الأطباء، مروة عبدالعال، طبيبة نفسية من الشرقية، سافرت إلى إنجلترا قبل عام ونصف للاستقرار مع زوجها، أيضًا طبيب. تشير مروة إلى أن السبب الرئيسي لسفر الأطباء المصريين إلى الخارج هو انخفاض الأجور، حيث لا تتجاوز رواتب المستشفيات الحكومية في بعض الأحيان ثلاثة آلاف جنيه شهريًا، وهو مبلغ لا يكفي للعيش. تقول: “هذا الراتب غير كافٍ بأي شكل في ظل الظروف الاقتصادية الحالية”.
وأضافت أن العالم بحاجة ماسة إلى الأطباء النفسيين، مما أتاح لهم العديد من الفرص في دول أخرى. وأوضحت أن العمل في الخارج يعني عدد ساعات أقل ورواتب أعلى، مما يقلل من الإرهاق الذهني الذي يعاني منه الأطباء في مصر بسبب كثرة الجلسات. توضح: “في إنجلترا، الراتب مناسب جدًا للعيش دون ضغط. أعمل من 9 صباحًا حتى 5 مساء، ولست مضطرة للعمل في أكثر من مكان لتغطية نفقاتي”.
وبالمثل، إيمان أحمد (اسم مستعار)، طبيبة نفسية من المنصورة بمحافظة الدقهلية، اضطرت إلى السفر إلى إنجلترا قبل ست سنوات بسبب ضعف العائد المادي وصعوبة التوازن بين حياتها المهنية والشخصية. تقول: “في مصر، إذا كنت تريدين راتبًا جيدًا، عليك التضحية بجزء من حياتك الأسرية. لذلك اخترت السفر”.
قبل سفرها، كانت تتقاضى 2000 جنيه فقط شهريًا، رغم حصولها على درجة الماجستير. قررت إيمان المغادرة بسبب ضغط العمل الشديد، إضافة إلى قلة الفرص الجيدة للأطباء في الأقاليم. أوضحت أنها لم تتمكن من الذهاب إلى القاهرة لتلقي التدريبات المقررة نظرًا لبُعد المسافة وكونها أمًا.
وفقًا لتعديلات قانون رعاية المرضى النفسيين لعام 2021، لا يمكن للطبيب النفسي ممارسة المهنة إلا بعد الحصول على ترخيص من وزارة الصحة، مع استيفاء شروط تتضمن الحصول على درجة علمية مناسبة واجتياز التدريب الأكاديمي والعملي.
محمود فؤاد، المدير التنفيذي للمركز المصري للحق في الدواء، يعلق على هذه الظاهرة قائلًا إن تكلفة التدريبات والدبلومات للأطباء النفسيين أصبحت باهظة جدًا، مما يدفع الكثيرين للهجرة. وأكد أن الهجرة أصبحت الخيار الأسهل للأطباء الذين يعجزون عن تطوير مهاراتهم في مصر. وأضاف: “الطبيب الآن يسعى للهجرة كحل وحيد لتحسين ظروفه المعيشية والمهنية، مما أدى إلى زيادة فجوة العجز في عدد الأطباء المتاحين في مصر، حيث باتت الأعداد قليلة للغاية”.
من جانبه، يوضح الطبيب محمود علي، الذي هاجر إلى أستراليا، أنه لاحظ فرقًا كبيرًا في مستوى المعيشة والأجور مقارنة بمصر. يقول: “في أستراليا، أتعامل مع الطبيب كاستشاري، يعادل راتب الوزير”. قبل سفره، كان يعاني من الإرهاق الشديد بسبب استقبال ما يصل إلى 50 مريضًا يوميًا، بسبب نقص الأطباء في التخصص.
تتفق معه مروة عبدالعال، وتقول إن العمل لساعات طويلة يتسبب في إرهاق ذهني وبدني للطبيب، مما يحول حياته إلى آلة لجمع الأموال فقط للعيش بكرامة. أشارت إلى أن العديد من حديثي التخرج يفضلون السفر للخارج للحصول على الدراسات العليا، حيث يتلقون دعمًا أكبر وتقديرًا أفضل. “سافرت بدون الحصول على الماجستير في مصر، وفضلت الحصول عليه في إنجلترا”، تقول مروة.
وتضيف أن أغلب المؤسسات في إنجلترا توفر خدمات صحة نفسية للعاملين في قطاع الصحة النفسية، وأن لديها طبيبًا نفسيًا معالجًا لمتابعتها. تعرب عن قلقها من أن هجرة الأطباء إلى الخليج العربي وأوروبا ستظهر آثارها السلبية على المدى البعيد.
نوصي للقراءة: نزيف الأدوية.. نقص الدولار يُهدّد صحة المصريين
نقص الأطباء النفسيين
وفقًا لتقديرات أحمد عكاشة، أستاذ الطب النفسي، يوجد في مصر طبيب نفسي واحد لكل 50 ألف مواطن، بينما يصل عدد الأطباء النفسيين العاملين في المستشفيات الحكومية والخاصة إلى نحو 2000 طبيب فقط. هذا الرقم يُعد قليلًا جدًا مقارنة بحجم السكان، مما يشير إلى وجود فجوة كبيرة في توفير الرعاية النفسية.
محمود فؤاد، المدير التنفيذي للمركز المصري للحق في الدواء، يشير إلى أن الأطباء النفسيين في مصر يعانون من الإهمال وسوء الأوضاع المهنية. من خلال عمله كعضو سابق بمجلس إدارة مستشفى النفسية والعصبية بالخانكة، أوضح فؤاد أن “أحوال الأطباء لم تكن على ما يرام نهائيًا”، مشيرًا إلى غياب وسائل العلاج الحديثة وإهمال تدريب الأطباء بشكل كافٍ، بالإضافة إلى نقص الأدوية الضرورية لعلاج المرضى.
مصطفى محمد، طبيب نفسي آخر، أكد على الصعوبات التي تواجه الأطباء في تطوير مهاراتهم. مع ارتفاع تكلفة التدريبات التي تُحسب بالدولار، أصبحت تكلفة الدورات التدريبية أعلى بخمسة أضعاف على الأقل. يقول مصطفى: “كفاءتي ستتراجع لأنني لا أستطيع مواكبة المستجدات الطبية بسبب هذا الارتفاع، والحل الوحيد هو رفع رسوم الاستشارة الطبية، ولكن هذا قد يشكل عائقًا أمام المرضى الذين أهدف إلى مساعدتهم”.
بالرغم من أن قرار السفر إلى الخارج لم يكن سهلًا على العديد من الأطباء النفسيين، إلا أن الكثير منهم اضطروا لاتخاذ هذه الخطوة لتحسين مستواهم المادي والعلمي والبحث عن فرص أفضل. في حين تعلن الحكومة عن خطوات لدعم منظومة الصحة النفسية في مصر، مثل افتتاح 230 مكتب مشورة في مراكز الصحة الأولية في سبع محافظات، واستقبال أكثر من 30 ألف طلب مشورة منذ أبريل 2024، لم يتم تسليط الضوء على مشكلات الأطباء النفسيين الذين يعانون من تدني الرواتب وارتفاع تكاليف المعيشة، بحسب ما ذكره الأطباء الذين تحدثنا معهم.
نوصي للقراءة: الحكومة تُقيد الحق في الصحة: لائحةٌ جديدة تُعيدنا إلى الوراء