“عندما احتقنت لوزتاه، استشار الطبيب
وفي غرفة العمليات لم يصطحب أحداً غير خف وأنبوبة لقياس الحرارة
فجأة مات!
لم يحتمل قلبه سريان المخدر
وانسحبت من على وجهه سنوات العذابات
عاد كما كان طفلاً
سيشاركني في سريري وفي كسرة الخبز، والتبغ
لكنه لا يشاركني.. في المرارة”
أمل دنقل، “الجنوبي”.
البقاء لله، مات أحمد رفعت، مات لاعب الحواري الحريف، مات ككل لاعبي الحواري الحريفة، في بلد تكره الحواري وتحتقر الحريفة، مات مقهورًا بين مطرقة أولاد الأكابر، وسندان الادعاءات، وسلاسل القهر والكذب والخوف والخيانة، ومنغصات الحياة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. مات ليفتح الباب أمام مهاترات المتردية والنطيحة، وكأن التاريخ بكل مهازله ومآسيه و”شوابره” و”ديابته” و”دعابسته”، أبى ألَّا يكرر نفسه إلا على ضفاف نهرنا المبارك، مات ليؤجج مشاعر الهزيمة التي نشعر بها منذ السابع من أكتوبر، ثم مات ليتركنا في حيرة من أمرنا؛ ويترك السؤال مُعلقًا: متى بدأ كل ذلك؟ ومتى بدأنا في الشعور بالانفصال عن لعبتنا الشعبية الأولى؟
في حقيقة الأمر؛ تلك الحيرة التي يشعر بها الجمهور المصري تجاه ما يحدث الكرة المصرية، بدأت منذ زمن بعيد، ربما حتى من قبل أحداث بورسعيد والدفاع الجوي، وربما منذ وفاة لاعب الأهلي محمد عبد الوهاب بين يدي أطباء أكبر ناد أفريقي، وربما أيضًا منذ تسلل إحساس غامض للجماهير مفاده أن الكرة المصرية لم تعد للمصريين. فماذا حدث فعلًا؟ ولماذا توقف المصريون عن تشجيع منتخب بلادهم أو عن مشاهدة الدوري المصري خاصة بعد أحداث السابع من أكتوبر؟ وكيف يمكن لوفاة أحمد رفعت، أن تكون الضربة الأخيرة في نعش الكرة المصرية جماهيريًا؟
على من نطلق الرصاص
صدق أو لا تصدق؛ هذه الحالة ممتدة ومتجذرة، والجماهير المصرية بدأت في مقاطعة كل ما يخص الدوري المصري أو المنتخب منذ زمن بعيد، لدرجة خرج فيها مدير المنتخب المصري السابق، محمد خالد غرابة، مؤكدًا بعد مباراة جيبوتي، ديسمبر 2023، في التصفيات المؤهلة لكأس العالم القادم، على “أن حالة الغياب الجماهيري المستمرة تلك، تسبب ضيقا كبيرا لإدارة المنتخب”، خاصةً بعدما فوجئ المدير الفني، روي فيتوريا، بمدرجات استاد القاهرة خاوية على عروشها من أي شخص، ووصل الأمر لدرجة علقت فيها دار الإفتاء المصرية على هذا الجدل، إذ قال أمين الفتوى بدار الإفتاء، السابق، علي فخر، إن تشجيع المنتخب المصري “واجب وطني”، وأنه “لن نستطيع أن نجمد حياتنا بسبب أي أزمة أو مشكلة تواجهنا، والتفاعل مع المجتمع وتشجيع المنتخب الوطني أمر محمود ولا بأس به”.
ومع عودة القضية الفلسطينية للواجهة مرةً أخرى، والعدوان الصهيوني الغاشم على القطاع المُحاصر منذ العام 2005، ومئات المجازر الوحشية والهمجية والمستمرة ضد المدنيين العزل، أضف إلى ذلك مآثر المقاومة، واستعادة خطاب مناهضة الاستعمار الصهيوني، باعتباره صنوًا للاستعمار الاستيطاني الأوروبي، وليس دخيلا عليه، وتغير النبرة العالمية تجاه القضية برمتها، وتفوق السردية الفلسطينية على السردية الصهيونية، ظهرت الكثير من الدعوات لمقاطعة المنتخب المصري في رحلته الأفريقية، يناير الماضي، بعدما شعرت الجماهير أن الجيل الحالي من اللاعبين لم يعد يحمل الروحية المطلوبة، ولا يعبر عن الطبقات الشعبية بأي شكل من الأشكال.
ولذلك كان لابد من التنصل منهم، خاصة مع ازدياد وارتفاع أسعار تذاكر المباريات، إذ أصبح هناك فئة خاصة معنية بالحضور، تمتلك ميزات طبقية لا تمتلكها الطبقات الأكثر فقرًا، والأكثر اشتباكا مع قضايا الأمة، والدليل على ذلك، ما قاله الإعلامي المصري أحمد موسى، واعتراضه، بل واستهجانه من مجرد رفع العلم الفلسطيني في المدرجات، وما زاد الطين بلة، هي تلك القرارات المُهلهلة للاتحاد المصري، وخناقات قطبي الكرة المصرية التي ازدادت مسوخًا مع الزمن، فمن مشاجرات مرتضى منصور ومحمود الخطيب، إلى مناظرات أحمد عفيفي وسيد عبد الحفيظ، يا قلبي لا تحزن.
لماذا؟ لأن قادة تلك الأندية لا يعبأون بالجماهير، بل ويحتقرون اختيارات الشعوب كلية، ودعنا لا ننسى دعوة عدلي القيعي لجماهير النادي الأهلي، بشراء منتجات رعاة النادي، بيبسي وكوكاكولا، لمساعدة النادي بالأموال، ثم مساعدة الاحتلال الإسرائيلي في حرب إبادة الفلسطينيين، وكأن القضية الفلسطينية أصبحت شيئا هامشيا.
أضف إلى ذلك مواقف بعض اللاعبين، المنبطحة تمامًا لهذا النَفَس الغريب سيئ السمعة، والمهزومة أمام ما يقوله أو يفعله لاعب مثل محمد صلاح، أثبت مرات عديدة، وبالدليل القاطع، أن قضايانا ليست هي قضاياه، وأن ما يهمنا كشعوب عربية وإسلامية، لم يعد له أية قيمة حقيقية في نفسه، بل ولا يدخل دائرة اهتماماته من الأساس.
صدمة حضارية
الأمر أكبر من الكرة المصرية، ومعظم الجماهير قد تغيرت وجهات نظرها عن كل شيء في العالم، بما في ذلك مفهوم “الوطنية”، والأولويات، وكرة القدم، فلم تعد الوطنية كما يطنطن بها الإعلاميون منذ سنوات، تكمن في تشجيع أناسٍ لا يجمعنا بهم سوى النشيد الوطني قبيل المباريات، بل تحولت إلى معناها الحقيقي، في تشجيع من يحمل همومك، ويهتف معك في قضاياك، ويقف إلى جانبك في خندق واحد، بلا تأفف، وبلا غرور وعنجهية، وأيضًا بلا ادعاء للمثالية، أو معايرة للناس بما تمتلك من “منتاليتي” إنجليزي على حق الله، يستعبد الشعوب ويساوي بين القاتل والقتيل.
وكما أشعلت أحداث السابع من أكتوبر جذوة القضية الفلسطينية في صدور المصريين والعرب، أعادت أيضًا ترتيب الأولويات الخاصة بكل فردٍ منَّا، وتحولت كل القضايا المحورية قبل ذلك التاريخ، إلى توابع تدور حول القضية الأساسية، وبالتالي تحولت “كرة القدم” برمتها إلى مجرد هاجس يخدم ما هو أكبر وأكثر صِلة بنا، ولذلك كان من المنطقي أن يتغير الموقف الداعم لمحمد صلاح إلى موقف مناوئ ومتجاهل له، لأنه لم يعد فاعلًا في القضايا التي تهم المصريين، وكل ذلك جعل من القضية الفلسطينية ثابتا في حياتنا جميعًا، وأعاد التوازن للمنطقة وللشعوب العربية مجددًا، بعدما نسيت أو تناست لفترة من الزمن ماهية قضاياها الحقيقية، وشُغلت بتوافه الأمور عما يهم حقا.
ألم يمثل لك ثباتُ الصحفي وائل الدحدوح بعد استشهاد كامل عائلته جراء القصف، واستشهاد زميله سامر أبو دقة بين يديه، وبعد استهدافه شخصيًا مرات عديدة.
تشييع الجنازة
حسنًا؛ كلنا نعرف أن الدوري المصري مسرحية هزلية معروف نهايتها، وأن تعيين حسام حسن شر لابد منه لقلة الدولارات، وأن الحاج عامر حسين والسيد جمال علام وصُحبتهم، وكل هؤلاء الحجاج والسادة، مكتوبين علينا في اللوح المحفوظ، وأن المشكلة ليست إلا في هذا (اللوح)، وأن الحياة أقصر من محاولة تغييرها، وحتى ولو مللنا من هذا السيناريو، سيظل جاثما على صدورنا؛ لأن الأمر كله لله، ولأن القاع سيظل مزدحمًا، ولأن القمة ستظل لأهل القمة، ولأن المصلحة تقتضي أن يصعد من القاع كل عام ثلاثة رابعهم كلبهم، وربما يهبط أربعة بلا كلاب، وفي النهاية سيظل درع الدوري محفوظًا لصاحبيه، صاحبيه الذين لن يهبطا أبدًا.
تلك الأشياء كانت معروفة لنا بالضرورة، نتعامل معها كقدر أو كخدر خفيف أو كمادة للضحك والفكاهة، بل وكنا نتعامل معها بشيء من الجدية في الزمان الغابر، إذ كانت هناك مشاهدٌ أخرى مختلفة وطبيعية، تعج فيها المدرجات بالجماهير المؤازرة والداعمة لبلادها، وكان فيها “استاد القاهرة الدولي” يُعرف بـ”استاد الرعب”، وكانت الجماهير تصفق للاعبيها، ليس من أجل الثلاثية الأفريقية فقط، بل من أجل شعورهم بأن هؤلاء اللاعبين ينتمون لهم، ويحملون قضاياهم، إذ لجأ الكثير من لاعبي كرة القدم المصرية إلى الظهور بمظهر الملتزمين بنهج الناس، ولكَ في أبو تريكة وقصة “تعاطفًا مع غزة” عبر كثيرة.
لكن الأمر تعملق فجأة، وتحولت شبهات الفساد إلى أيادٍ ملطخة بالدم، وتحولت المسرحية من مادة للضحك والتسلية، وإلى شيء ضاغط على أعصاب المجتمع، وفي خضم كل هذا؛ جاءت قصة أحمد رفعت، لتعمق من جراح الناس، وتحول القطيعة بين نفس الجيل وبين الدوري المصري إلى قطيعة شبه أبدية.
من قتل أحمد رفعت؟ لا نعرف، وربما لن نعرف، وبناءً عليه؛ فإن إجابة السؤال السابق: لماذا فقد الدوري المصري والمنتخب بريقه؟ ولماذا ازداد التجاهل بعد طوفان الأقصى؟ ببساطة؛ لأن التشجيع لم يعد مستقيما، طالما أن ممثلي الكرة المصرية، لا يعبرون عن تطلعات الجماهير، وطالما أن تلك الجماهير لا يُسمح لها بدخول الملاعب، وطالما أن جنازة أحمد رفعت، تمر من أمامنا في صمت، كما مرت جنازات الجماهير في بورسعيد والدفاع الجوي، دون أي مكاشفة أو محاسبة.