شهادات ممنوعة: تمييز ضد المسيحيّين في المحاكم المصريّة

يكشف التحقيق عن رفض محاكم الأسرة في مصر شهادات المسيحيّين، بسبب الديانة، ما يُعدّ تمييزاً مخالفاً للدستور والمواثيق الدوليّة التي وقّعتها مصر.
No data was found

 تحقيق إيمان عادل

“ابحثوا عن شاهد مسلم، هذا الشاهد مسيحيّ ولا تجوز شهادته”، جملة قالها قاضٍ بمحكمة الأسرة المصرية بمحافظة الإسكندرية بحق سليمان شفيق؛ وهو مواطن مسيحيّ مصريّ جاء شاهداً في قضية ميراث. وقعت الجملة على شفيق “كالصاعقة”، غادر “مُنكسراً” قاعة المحكمة؛ لإعطاء فرصة للمحامين ومُوكِليهم لإحضار شاهد مسلم على وجه السرعة، حتى لو من أيّ مقهى بجوار المحكمة.

واقعة سليمان شفيق ليست حالة فردية، بل إن المسيحيّين في مصر عامة، تُرفض شهاداتهم باستمرار في محاكم الأسرة بسبب الديانة، في مخالفة تامة للدستور والمواثيق الدوليّة التي وقّعتها مصر؛ ما يُرسّخ لدى معظم المسيحيّين الشعور بأنهم “مواطنون من الدرجة الثانية”.

لم ينسَ شفيق لحظة رفض شهادته بالمحكمة، وربما أثرت فيه سلباً أكثر من غيره؛ لأنه بالأساس باحث في شؤون الأقليّات ويعلم جيداً خطورة التمييز السلبيّ تجاه المواطنين. فمنذ ثمانينيّات القرن الماضي، يُجري شفيق بحوثاً ودراسات حول أوضاع الأقليّات الدينيّة، ليس في مصر وحسب، بل في بلدان عربية أخرى مثل لبنان وجنوب السودان.


(فيديو) سليمان شفيق: التمييز ضد المسيحيّين ليس فقط في الشهادة

يقول شفيق:

“أول مرة في حياتي أشعر أني مواطن من الدرجة الثانية، يمكن بعد شهور تفهمت الموقف، لكن يظل تمييزاً سلبيّاً”. 

بعد هذه الواقعة، قرر سليمان شفيق العمل على  دراسة بشأن التمييز الذي يتعرض له مسيحّو مصر، ودعم دور المنظمات الحقوقيّة المناهضة له، من أجل إيقافه والتصدي له. فبحسب شفيق، يتعرض مسيحيّو مصر ليس فقط للتمييز داخل المحاكم، بل أيضاً داخل الجامعات وفي المهن المختلفة؛ مثل طب النساء والقضاء وغيرها.

 

اجتهادات نافذة وقوانين عاجزة

على الرغم من أن المحاكم الشرعيّة أُلغيت في مصر منذ عام 1955، فإن الشريعة الإسلاميّة ما زالت المصدر الأساسيّ للتشريع في غالبية القوانين المصريّة؛ لذا يستند القضاة المصريّون في محاكم الأسرة إلى آراء فقهية إسلاميّة، تحجب شهادة المسيحيّين في قضايا الأحوال الشخصيّة للمسلمين، وفق دلالة التفسيرات الخاصة بالفقهاء، التي تمنع في ظاهرها قبول شهادة غير المسلمين على المسلمين.

الشيخ محمد عبد الله نصر أحد علماء الأزهر، يقول إن فتوى الفقيه غير ملزمة للدولة حتى ولو كانت قوانين هذه الدولة تتبع الشريعة الإسلاميّة. ويفسر الشيخ عبد الله نصر هذا بأن الإمام أبا حنيفة -صاحب فتوى عدم جواز شهادة غير المسلم على المسلم- كان من ضمن مدرسة الرأي وإعمال العقل؛ أي يؤخذ منه ويُردّ.

 

يقول الشيخ نصر: “إن القرآن لم يضع الدين شرطاً لقبول الشهادة، وقد يكون المسلم غير عدل، ومَن يجعل من اجتهادات الفقهاء ديناً فإنه يهدد المجتمع والتشريع على حد سواء، واعتماد بعض القضاة على اجتهادات غير عصريّة ستصيب المجتمع بالفصام؛ لأن الدستور المصريّ ساوى بين المواطنين على أساس المواطنة وليس على أساس الدين”.
ثمّ يتساءل الشيخ نصر قائلاً: “لماذا يُعامل المسيحيّ مواطناً في حالة الحرب مُلزماً بالقتال، لكن في الشهادة داخل المحاكم يُعدّ مواطناً من الدرجة الثانية؟ هناك بعض الآراء في المذهب السنيّ لا تقبل شهادة الشيعيّ، فالفكرة مقيتة وتقسيم الناس على أساس دينيّ يهدم أيّ دولة”.

 

وبحسب دراسة بعنوان “تاريخ التقاضي في مصر”، فإن المحاكم الشرعيّة أُنشئت في العصر العثمانيّ، وكانت تنظر في المنازعات المدنيّة والتجاريّة والجنائيّة كافة، وأيضاً الأحوال الشخصيّة. وفي عام 1856، أُسست “المجالس القضائيّة المحليّة” ثم بعدها “المحاكم المختلطة” عام 1870، وكان عملها مُستمَداً من القوانين الفرنسيّة حتى عام 1883. بعدها وُضعت لائحة للمحاكم النظاميّة، التي أخذت الكثير من صلاحيات المحاكم الشرعيّة؛ فلم يعد من اختصاصات المحاكم الشرعيّة سوى الأحوال الشخصيّة. 

وأُلغيت المحاكم الشرعيّة تماماً بمقتضى قانون توحيد الهيئات القضائيّة، الصادر عام 1955، وانتقلت اختصاصات المحاكم الشرعيّة إلى المحاكم العادية، التي أصبحت تنظر في قضايا الأحوال الشخصيّة وفق أحكام الشريعة الإسلاميّة، ويتخرج قضاتها في كليات الشريعة والقانون.

 

القاضي المستشار عصام رفعت، نائب رئيس مجلس الدولة السابق، ورئيس مجموعة عدالة للخدمات القانونيّة، قال إنه شهد بنفسه، آراء زملاء له من القضاة، يرفضون شهادات مسيحيّين داخل المحاكم، ويستندون إلى قاعدة غير صحيحة، هي “عدم جواز ولاية غير المسلم على المسلم”؛ ما يُعدّ أحد أخطر الظواهر الموجودة بمحاكم الأحوال الشخصيّة في مصر.

ويؤكد القاضي عصام رفعت، أن رفض شهادة المسيحيّين له توابع معقدة؛ لأن هذا المسلك مخالف لنصوص الدستور والقانون، وما استقرت عليه مبادئ الشريعة الإسلاميّة، فمثل هذه التصرفات تؤدي إلى تقويض السلام الاجتماعيّ وتكدير السلم العام، وإهدار مفهوم “دولة المواطنة وسيادة القانون”، وفق تعبيره.

المادة 110 من قانون الإجراءات الجنائية

يسمع قاضي التحقيق شهادة الشهود الذين يطلب الخصوم سماعهم ما لم ير عدم الفائدة من سماعهم

وبذلك يكون القاضي قد ارتكب مخالفة قانونيّة ودستوريّة، إذا رفض سماع الشهود بسبب ديانتهم وليس لأيّ سبب آخر، بحسب رفعت.

ويؤكد القاضي رفعت أن قاعدة “عدم جواز ولاية غير المسلم على المسلم”، مفسدة للمجتمع؛ فبتطبيقها لن يستطيع الوزير بطرس غالي تحويل موظف متهم بالتقصير إلى الشؤون القانونيّة، لأنه “لا ولاية لمسيحيّ علي مسلم”، وستُسقط المحاكم جميع قضايا الفساد والقتل والمخدّرات والدعارة، التي شارك فيها ضباط شرطة مسيحيّون؛ لأن المحاضر نوع من الشهادة.

 

عشرة في المئة من المصريّين معرضون لتمييز دينيّ داخل المحكمة

بحسب البابا تواضروس، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، بلغ عدد المسيحيّين في مصر عام 2018 نحو 15 مليون مسيحيّ. ووفقا لتقرير الحرية الدينية الدولي لعام 202الصادر عن وزارة الخارجية الأميركية (مكتب الحرية الدينيّة الدوليّ)، تُقدِّر الحكومة الأميركيّة عدد السكان في مصر بـ 107.8 مليون نسمة (تقديرات منتصف عام 2022). ويُقدِّر معظم الخبراء والمصادر الإعلاميّة في مصر، نسبة المسلمين السنة بنحو 90 في المئة، وعشرة في المئة من المسيحييّن. 

ووفقاً لتقرير الحريات الدينيّة الصادر عام 2022 من السفارة الأميركيّة بمصر، فإن ما يقرب من 90 في المئة من المسيحييّن المصريّين ينتمون إلى الكنيسة القبطية الأرثوذكسيّة، في حين تشكِّل الطوائف المسيحيّة الأخرى مجتمعة أقل من اثنين في المئة من السكان. وتشمل هذه الكنائس الأنجليكانية/الأسقفيّة، والأرمينيّة الرسوليّة، والكاثوليكيّة (الأرمينيّة، والكلدانية، والملكانية، والمارونيّة، واللاتينيّة، والسورية)، والأرثوذكسيّة (اليونانية والسورية).

وبحسب تقارير دوليّة ترصد أوضاع الأقباط في مصر، من بينها تقارير لمنظمة هيومان رايتس ووتش، تؤكد وجود تمييز سلبيّ يتعرض له المسيحيّون؛ يتضمن التضييق على بناء الكنائس وتهديد سلامتهم الشخصيّة، بالاعتداء على قرى وأسر مسيحيّية وكنائس، فضلاً عن التمييز في “منح الفرص” سواء في ممارسة كرة القدم أو الحصول على وظائف بعينها، في القضاء أو الوزارات ورئاستها.

تنص المادة 53 من الدستور المصريّ، على أن:

المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة؛ لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعيّ أو حتى الانتماء السياسيّ أو الجغرافيّ، أو لأيّ سبب آخر”. 

لكنّ المادة الثانية من الدستور تخلق ثغرات أمام القضاة، ينفذون منها للحكم وفق الآراء الفقهيّة، التي تُكرّس بعض مظاهر التمييز، فتنص المادة على أن “الإسلام دين الدولة، واللغة العربيّة لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلاميّة المصدر الرئيسيّ للتشريع”.

المحامي “ياسر سعد” شهد حالات عديدة، من رفض شهادات المسيحيّين في قضايا المسلمين، أمام محاكم الأسرة بمنطقة شبرا، التي تمتاز بكثافة كبيرة في عدد المسيحيين، وبها أكثر من عشر كنائس كبرى. كان سعد طرفاً وشاهداً كمحامٍ على حالتين، داخل “محكمة زنانيري” بقسم روض الفرج، التابعة لمنطقة شبرا بالقاهرة: الأولى كانت عام 2007، والثانية عام 2014، وكلتاهما كانتا تتعلقان بشهادة حول الميراث.

يقول ياسر سعد متحدثاً عن إحدى الحالتين: “أثناء نظر الجلسة القضائيّة في دعوى بمحكمة زنانيري، فوجئنا بالقاضي يرفض النظر فيها لأن أحد الشهود مسيحيّ، حاولنا إقناعه بطريقة وديّة أن امتناعه عن سماع شهادة المسيحيّ تصرف غير قانونيّ، ولا توجد موادّ في الدستور تنص على ذلك؛ لكنّه تمسك بموقفه حتى النهاية، وطالب أصحاب الدعوى بإيجاد شاهد مسلم بديل في أسرع وقت”. 

عرض سعد على المُوكِلين في الحالتين تقديم شكوى ضد القاضي، لمخالفته نصوص الدستور، إلا أنهم رفضوا خوفاً من أن يسبب ذلك “بلبلة” نظراً لحساسية الشكوى من رفض شهادتهم وإحساسهم بالتمييز.

وتقوم إعلامات الوراثة -وهو وصف قانونيّ لوصف قضايا الميراث في مصر- بالأساس على شهادة الشهود، وبالتالي فإن عدم الأخذ بشهادة المسيحيّ في مثل هذه القضايا، لا يضر فقط بحقوقه كمواطن، بل يُعطّل أيضاً مصالح الناس ويضعهم في ضائقة بسبب عدم حصول الورثة على مستحقاتهم الماليّة؛ سواء لدى الجهات الحكوميّة أو لدى الجهات الخاصة، مثل البنوك الخاصة والمستشفيات الخاصة وغيرها، وفق سعد.

 

مخالفة للقانون على منصة القضاء

وبحسب المحامي ياسر سعد، فإنه لا يوجد في قانون الإثبات المصريّ في الموادّ المدنيّة والتجاريّة رقم 25 لسنة 1968، ما يؤكد رفض شهادة المسيحيّ في القضايا المتعلقة بالمسلمين في مصر، فوفق المادة (86): “على الشاهد أن يحلف يميناً بأن يقول الحق وألا يقول إلا الحق وإلا كانت شهادته باطلة، ويكون الحلف على حسب الأوضاع الخاصة بديانته إن طلب ذلك”، وهذا اعتراف صريح بقبول الشهادة واليمين من غير المسلمين. جاء أيضاً في المادة (82) على أنه: “لا يجوز رد الشاهد ولو كان قريباً أو صهراً لأحد الخصوم؛ إلا أن يكون غير قادر على التمييز”.

وبحسب سعد، فإنه لا يوجد ما يمنع شهادة المسيحيّ، إلا أن بعض القضاة يتمسكون بالمذهب الحنفيّ أساس التشريع المصريّ، القائل بأن الشهود لابد وأن يكونوا اثنين من “الرجال العدول”، والشاهد العدل عند أبي حنيفة لابد أن يكون من المسلمين، وبعض القضاة يرون أن “صفة العدل” تحيل إلى أن الشاهد يجب أن يكون مسلماً بالضرورة.

ويوضّح سعد أنه وفق قانون السلطة القضائيّة رقم 46 لسنة 1972، يجوز التقدم بشكوى ضد أيّ قاضٍ في جهة التفتيش القضائي في حال خرق القانون، لكنّ المشكلة هي أن الإجراءات مُكلّفة من حيث المال، كما أن كل المُوكِلين من أصحاب القضايا غير مستعدين لتضييع سنوات في المحاكم، في قضية فرعيّة ضد القاضي وتعطيل قضيتهم الأصليّة ومصالحهم الماليّة.

الكنيسة تتجاهل التمييز

حاولت مُعدّة التحقيق الوصول إلى حالات أخرى لمسيحيّين تعرضوا لرفض شهاداتهم، لكنّها كانت دائما تصطدم بردهم: “هنسأل أبونا الأول”، للإشارة إلى ضرورة استشارة الكنيسة أولاً؛ لينتهي الأمر باختفائهم دون التعاون معها لرواية ما تعرضوا له من تمييز.

يتخوف غالبية المسيحيّين في مصر من الحديث في مسائل حساسة كهذه، ولكن بحسب المحامي ياسر سعد، فإن الكنيسة تتعمد تجاهل هذا الموضوع، رغم أهميته وتأثيره في التعايش السلميّ بين الأديان في مصر. 

لأخذ وجهة نظر الكنيسة، تواصلت مُعدّة التحقيق مع القمص موسى إبراهيم، المتحدث باسم الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة في مصر، وطلبت منه موعداً للرد على الشهادات التي حصلت عليها. في البداية، تواصلت معه عبر تطبيق واتساب، فأرسل لها عنوان بريده الإلكتروني لإطلاعه أكثر على ما يتناوله التحقيق؛ ولكن بعد ذلك لم يرد على الرسالة الإلكترونية التي وصلته. بعدها وجهت له مُعدّة التحقيق خطاباً رسمياً من “أريج” لمقابلته أو لتزويدنا بإجابات عمّا يتضمنه التحقيق من تساؤلات، لكن لم نتلقَ رداً حتى تاريخ نشر هذا التحقيق. 

علّق باتريك جورج، الباحث المصريّ سابقاً بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصيّة، والباحث حالياً في جامعة بولونيا الإيطاليّة، على عدم رد الكنيسة على خطابنا المرسل إليها قائلا: “من الأفضل إخراج الكنيسة من هذا النزاع، وحصر دورها في الشأن الدينيّ، فنحن -المسيحيّين- مواطنون مصريّون، وعلينا أخذ حقوقنا قضائيّاً مثل كل المواطنين، وهذه الظاهرة يمكن إيقافها بشكل قضائيّ إذا رفع مسيحيّ قضية ضد هذا النوع من التمييز، لكنّنا لا نبذل جهداً كافياً لاسترداد حقوقنا”.

(فيديو) مكاريوس لحظي: اعتدت التعرض للتمييز 

مكاريوس لحظي، محامٍ مسيحيّ من سوهاج، رُفضت شهادته في القاهرة داخل مكتب وزارة العدل، حيث كان يحضر عقد زواج مدنيّ لصديق له بمكتب تزويج الأجانب؛ وخلال وجوده بمقر الوزارة، طلب منه أحد المواطنين المسلمين أن يشهد على زواجه من أجنبيّة، قدّم مكاريوس لموظف المكتب بطاقة هويته، وما إن رأى الموظف خانة الديانة، ردّ إليه بطاقته وطلب شاهداً آخر مسلماً.

يقول مكاريوس: “اللافت -أنه بعد رفض شهادتي- كان موقف العروس الأجنبيّة، التي ظهرت عليها ملامح الاستياء والصدمة، وتساءلت عمّ إذا جاء شقيقها المسيحيّ ليشهد على عقد قرانها من مسلم، هل كانت ستُرفض شهادته؟ وتساءلت أيضاً هل هذا مكتب زواج مدنيّ حقاً؟”.

شعر مكاريوس بالتمييز الواضح ووصفه بقوله: “إجمالاً هناك إحساس مؤذٍ، لكنني اعتدت التعرض للتمييز كمسيحيّ في مصر؛ لذا تعاملت مع الموضوع بحرفيّة وتخطيت الوضع، لكن بقيت في ذهني فكرة أن المسيحيّ في مصر أقل من المسلم، وليس مواطناً كاملاً، وهذا ما يولّد بلا شك مشكلات كبيرة بفكرة المواطنة”.

 

كان مكاريوس لحظي شاهداً على قضية تمييز أخرى ضد شاهد مسيحيّ، عندما كان يترافع عن إحدى الموكلات من منطقة “شبرا” ذات الكثافة السكانيّة المسيحيّة. أحضرت الموكلة شاهديْن من جيرانها، وبمجرد أن عرف القاضي هوية الشاهديْن قرر تأجيل القضية، وبعد خروج الشاهديْن، قال القاضي للمحامي: “لازم الشهود يبقوا مسلمين”. اضطر مكاريوس بعدها إلي إحضار شاهديْن آخرين مسلمين. 

استنتج مكاريوس أن القاضي لجأ إلى تحكيم الشريعة الإسلاميّة، مستنداً إلى القانون رقم 1 لسنة 2000، في مادته الثالثة التي تنص على: “فيما لم يرد به نص في القانون المرافق أو القوانين المعمول بها نلجأ إلى أرجح الأقوال في مذهب الإمام أبي حنيفة”. 

 

يقول مكاريوس إن تغيير الوضع ليس سهلاً، لكنّه يتطلب وضع نص واضح في القانون يُجيز شهادة المسيحيّ كي لا يلجأ القضاة إلى الشريعة الإسلاميّة. ويوضح مكاريوس أنه لحدوث ذلك، فلا بدّ من وجود دعوى بالمحكمة مُقدّمة من شاهد رُفضت شهادته، ومن خلالها يمكن إحالتها للمحكمة الدستوريّة العليا لتعديل القانون.

 

صعوبة إثبات رفض القاضي شهادة المسيحيّ

اعتادت المبادرة المصرية للحقوق الشخصيّة والاجتماعية توثيق وقائع التمييز، سواء على أساس النوع أو الدين، وأصدرت عدة دراسات مهمة في هذا الشأن. تواصلت مُعدّة التحقيق مع المحامية هدى نصر الله، الباحثة بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصيّة، التي أكدت وجود  فتوى صادرة عن دار الإفتاء ومنشورة على صفحتها الرسمية تنص على أنه من شروط الشاهد على المسلم أن يكون مسلماً أيضاً، وهناك حالات كثيرة يرفض فيها القاضي شهادة المسيحيّ على هذا الأساس. لكنّ المبادرة لم تستطع أن ترفع دعوى ضد “عدم دستورية هذا النهج”؛ لأن الرفض من القاضي يأتي عادة بشكل شفهيّ وليس مدوناً في محضر الجلسة، فيحكم القاضي بتأجيل القضية، من دون أن يذكر السبب الخاص برفض شهادة المسيحيّ داخل السجلات الرسميّة.

تقول المحامية هدى نصر الله: ” في عام 2014، تعرضت سيدة مسلمة للضرب والتعنيف الزوجيّ وللعديد من الانتهاكات، فلجأت إلى المحكمة للحصول على حكم طلاق للضرر، وكان الشهود على وقائع تعنيفها هم جيرانها في البناية نفسها، جلبت السيدة الشهود وفوجئت برفض القاضي شهاداتهم لأنهم مسيحيّون”.

 

(فيديو) هدى نصر الله: لا توجد دعوى واحدة ضد قاضٍ رفض شهادة مسيحيّ

وثّقت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية حالات رفض شهادات مسيحيّين في قضايا المسلمين، من بينها واقعة في حزيران/يونيو 2021، حين رُفضت شهادة المواطن المصريّ المسيحيّ هاني رياض في إعلام وراثة مسلم.

وفي عام 2017، وثّقت المبادرة رفض المحكمة شهادة مواطن مسيحيّ في إعلام وراثة والدة محمود عزت العلايلي، وهو مواطن مسلم.

لكنّ المحامية هدى نصر الله، تؤكد أيضاً أن عدم وجود دعوى منظورة أمام القضاء، برد شهادة مسيحيّ بسبب الديانة، تمنع النظر في المسألة أمام المحكمة الدستوريّة العليا: “حتى الآن لا توجد دعوى واحدة ضد قاضٍ رفض شهادة مسيحيّ، وبالتالي فإنني لا أستطيع الطعن على رفض الشهادة، والمبادرة المصرية ليس لها صفة للتقدم بدعوى مثل هذه”.

(فيديو) باتريك جورج: إحساس الأقباط بالتمييز يصعب تجاوزه

من جهته، يقول باتريك جورج، الباحث حالياً في جامعة بولونيا الإيطالية، إنه أثناء عمله في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية عام 2019، كان يتلقى شكاوى شفهيّة من أقباط تُرفض شهاداتهم في المحكمة بسبب الديانة، ويترواح عددهم من سبع لثماني حالات شهرياً من مناطق متفرقة في مصر. 

ويضيف جورج أن غالبية الشكاوى كانت تأتي من أقباط يعيشون خارج القاهرة: “كلما ابتعدنا عن العاصمة كثُرت ظواهر التمييز ضد المسيحيّين؛ إحساس هؤلاء الأقباط بالتمييز السلبيّ يصعب تجاوزه، نحن مقصرون -محامون وصحفيّون وسياسيّون- في التحرك لوقف هذه الظاهرة، فقد تركنا القضاة لأهوائهم الشخصيّة داخل المحاكم، حتى يمارسوا تمييزاً ضد حق المواطنة”.

وكان باتريك جورج قد تعرض للاعتقال عام 2019، بسبب مقال نشره على موقع “درج”، يرصد فيه وقائع التمييز ضد المسيحيّين في مصر. كان من ضمن ما ناقشه في المقال موضوع رفض شهادة المسيحيّين في قضايا المسلمين، ويرى باتريك أن المساندة السياسيّة والقضائيّة مهمة إذا أردنا وقف هذه الظاهرة، حتى لا يتمّ وصف المعترض عليها بأنه يثير فتنة طائفيّة.

 

خرق المعاهدات الدوليّة

يُمثل وجود هذا النوع من التمييز ضد المسيحيّين فيما يخص عدم قبول شهاداتهم، خرقاً للمواثيق والتعهدات الدوليّة التي أبرمتها مصر.

وقّعت مصر العهد الدوليّ الخاص بالحقوق المدنيّة والسياسيّة بموجب القرار الجمهوريّ رقم 536 لسنة 1981، وينص العهد الدوليّ في مادته الثانية على أن

“تتعهد كل دولة طرف في هذا العهد باحترام الحقوق المعترف بها فيه، وبكفالة هذه الحقوق لجميع الأفراد الموجودين في إقليمها والداخلين في ولايتها، دون أيّ تمييز بسبب العرق، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسيّاً أو غير سياسيّ، أو الأصل القوميّ أو الاجتماعيّ، أو الثروة، أو النسب، أو غير ذلك من الأسباب”.

وينص أيضاً على أن “تتعهد كل دولة طرف في هذا العهد، إذا كانت تدابيرها التشريعيّة أو غير التشريعيّة القائمة لا تكفل فعلاً إعمال الحقوق المعترف بها في هذا العهد، بأن تتخذ ما يكون ضروريّاً لهذا الإعمال من تدابير تشريعيّة أو غير تشريعيّة، وأن تكفل توفير سبيل فعال للتظلم لأيّ شخص انتُهكت حقوقه أو حرياته المعترف بها في هذا العهد، حتى لو صدر الانتهاك عن أشخاص يتصرفون بصفتهم الرسميّة”. 

وبالتالي فإن التوقيع على هذا “العهد الدوليّ” يُلزم الدولة بأن تكفل لكل متظلم -على هذا النحو- سلطة قضائية أو إدارية أو تشريعيّة مختصة، أو أيّ سلطة أخرى ينص عليها نظام الدولة القانونيّ، تبُتّ في الحقوق التي يدعي انتهاكها، وأن تكون له إمكانيات التظلم القضائيّ، كما تكفل قيام السلطات المختصة بإنفاذ الأحكام الصادرة لصالح المتظلمين. 

 

وقّعت مصر أيضاً الميثاق الإفريقيّ لحقوق الإنسان والشعوب لعام 1981: بموجب القرار الجمهوريّ رقم 77 لسنة 1984، وتنص المادة الثانية من هذا الميثاق على أن

“يتمتع كل شخص بالحقوق والحريات المعترف بها والمكفولة في هذا الميثاق دون تمييز، خاصة إذا كان التمييز قائماً على العنصرية أو العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسيّ أو أيّ رأي آخر، أو المنشأ الوطنيّ أو الاجتماعيّ أو الثروة أو المولد أو أيّ وضع آخر”. 

 

ووقّعت مصر أيضاً الميثاق العربيّ لحقوق الإنسان لعام 2004 والذي ينص في مادته الثالثة على أن

“تتعهد كل دولة طرف في هذا الميثاق بأن تكفل لكل شخص خاضع لولايتها حق التمتع بالحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الميثاق، من دون تمييز بسبب العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة، أو المعتقد الدينيّ أو الرأي أو الفكر أو الأصل الوطنيّ أو الاجتماعيّ، أو الثروة أو الميلاد أو الإعاقة البدنيّة أو العقليّة. كما  تتخذ الدول الأطراف في هذا الميثاق التدابير اللازمة، لتأمين المساواة الفعليّة في التمتع بالحقوق والحريات كافة، المنصوص عليها فيه، بما يكفل الحماية من جميع أشكال التمييز”.

تدابير تشريعيّة أو غير تشريعيّة، وأن تكفل توفير سبيل فعال للتظلم لأيّ شخص انتُهكت حقوقه أو حرياته المعترف بها في هذا العهد، حتى لو صدر الانتهاك عن أشخاص يتصرفون بصفتهم الرسميّة”. 

وعلى الرغم من كل الضمانات القانونيّة والمعاهدات الدوليّة، التي وقّعتها مصر، يواجه المسيحيّون تمييزاً يوميّاً داخل قاعات المحاكم أمام “منصة العدالة”؛ التي تغض الطرف عن تطبيق مبدأ “المواطنة والمساواة”، ليجد سليمان شفيق وغيره من الأقباط أنفسهم “مواطنين من الدرجة الثانية”. 

 

أُنجِزَ هذا التحقيق بدعمٍ من أريج.

Search