مطاعم وأفراح وسط المعابد.. هل أصبحت آثار مصر للإيجار؟

تتصاعد الانتقادات في مصر بعد تحول قصر أثري إلى ساحة انتظار سيارات، وإقامة حفلات زفاف ومطاعم في مواقع تاريخية وسط جدل بين الحماية والاستثمار.
Picture of آية ياسر

آية ياسر

أثارت صور متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية حالةً من الجدل والاستياء بين المهتمين بالتراث والآثار، بعد أن أظهرت حديقة قصر قصر محمد بك الشناوي الأثري في مدينة المنصورة، الذي يعود تاريخ بنائه لعام 1928 وتم تسجيله كأثر إسلامي وقبطي سنة 1999، وقد تحولت إلى ساحة انتظار للسيارات خلال فترة المساء، وفقًا لما نشرته مبادرة «أنقذوا المنصورة» المتخصصة في الدفاع عن التراث. من جانبه نفى محمد الحسيني طمان، رئيس آثار الوجه البحري بوزارة السياحة والآثار، حدوث ذلك، موضحًا أن الشركة المسؤولة عن أعمال ترميم القصر أقامت حفل إفطار جماعيًا لمهندسي وأخصائيي الترميم والفنيين العاملين في الموقع.

وتأتي هذه الواقعة ضمن سلسلة من الجدل المستمر منذ ما يقرب من عشر سنوات، حول استغلال المواقع الأثرية والتاريخية في أنشطة تجارية وترفيهية تشمل إقامة حفلات الزفاف، وفتح مطاعم وكافيتريات، إلى جانب تصوير إعلانات تجارية وعروض أزياء داخلها. وبينما يرى بعض خبراء الآثار والمثقفين والمدافعين عن التراث أن هذه الأنشطة التجارية تشكل تهديدًا مباشرًا لسلامة وقيمة هذه المواقع التاريخية، يعتبرها آخرون مصدرًا هامًا لتعزيز الموارد المالية لوزارة الآثار والترويج السياحي.

وبدأ هذا الجدل منذ مايو 2016، عندما أقيم حفل زفاف داخل قلعة قايتباي الأثرية في الإسكندرية، التي بناها السلطان المملوكي الأشرف أبو النصر قايتباي (882-884 هـ). وتكرر الجدل في أكتوبر 2018، بعد إقامة حفل عشاء وعقد قران لأكثر من 300 شخص في معبد الكرنك الفرعوني بالأقصر، مما دفع غرفة شركات السياحة هناك للمطالبة بالتحقيق في الواقعة. كما شهد يونيو 2024 إقامة حفل زفاف ابنة الإعلامية مفيدة شيحة بساحة مسجد محمد علي في قلعة صلاح الدين بالقاهرة، وسبقها في العام نفسه إقامة حفل زفاف ابنة الإعلامي طارق علام في المتحف القومي للحضارة المصرية، بمشاركة عدد من نجوم الفن والإعلام. وكان الحدث الأبرز  زفاف رجل الأعمال الهندي والملياردير أنكور جاين على عارضة الأزياء والمصارعة السابقة إريكا هاموند، والذي استمر أربعة أيام متتالية بين سفح الأهرامات والمتحف المصري الكبير وقصر محمد علي باشا.

كذلك لم تسلم القصور التاريخية من الاستغلال التجاري، حيث انتقد كثيرون إقامة خيمة رمضانية في قصري القبة وعابدين لتقديم وجبتي الإفطار والسحور، في إطار محاولات الحكومة المصرية تحويل القصور الرئاسية إلى مصادر للدخل، وسط مطالبات بتحويلها إلى متاحف مفتوحة للجمهور. كما أثار تصوير إعلان تجاري للفنانة ياسمين عبد العزيز داخل المتحف المصري الكبير جدلًا واسعًا في ديسمبر الماضي، حيث اعتبر البعض ذلك تقليلًا من القيمة التاريخية للمكان، الذي بدأ تشغيل بعض قاعاته تجريبيًا تمهيدًا لافتتاحه رسميًا في الأشهر المقبلة. وبالمثل انتقد مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي تصوير فيديو كليب غنائي داخل مقابر وادي الملوك والملكات في الأقصر، وتداولوا  صورة لإحدى المغنيات السوريات من داخل غرفة الدفن بمقبرة رمسيس السادس.

وفي سياق متصل، كشف التقرير السنوي لوزارة السياحة والآثار لعام 2024 عن تراجع اعتماد المجلس الأعلى للآثار على تمويل الموازنة العامة للدولة إلى ما يقارب الصفر في العام المالي (2023-2024)، مقابل زيادة في الإنفاق الاستثماري المخصص لتحسين التجربة السياحية بالمواقع الأثرية والمتاحف، وصيانة وترميم الآثار وحمايتها. وبلغ هذا الإنفاق مليارًا وتسعين مليون جنيه خلال العام المالي (2022-2023)، وارتفع إلى مليار وأربعمائة وستة ملايين جنيه خلال العام المالي الماضي (2023-2024)، بنسبة زيادة قدرها 29%. كما أوضح التقرير تقديم خصم 50% على رسوم إقامة المناسبات الاجتماعية في المواقع الأثرية المسموح فيها بذلك، وذلك لموظفي وزارة السياحة والآثار وأقاربهم من الدرجة الأولى فقط.

 

 نوصي للقراءة: كيف يدار ملف الآثار في مصر؟

تحدي للخبراء والأثريين

تشكّل معادلة الجمع بين الاستثمار السياحي والحفاظ على قيمة المواقع الأثرية وسلامتها تحديًا بالغ التعقيد، إذ تتطلب توازنًا دقيقًا بين الاستفادة الاقتصادية من هذه المواقع وحماية التراث الثقافي والتاريخي. في هذا السياق تؤكد الدكتورة رضوى زكي، الباحثة في الآثار الإسلامية وتاريخ العمارة المصرية، في حديث لـ«زاوية ثالثة»، أن استغلال المواقع الأثرية في أنشطة تجارية يمكن أن يكون “سيفًا ذا حدين”، فمن ناحية يوفّر موارد مالية ضرورية لصيانة وحماية هذه المواقع، ومن ناحية أخرى قد يؤدي إلى إلحاق ضرر كبير بقيمتها التاريخية إذا تم دون دراسات وتقييمات دقيقة.

وتشدد رضوى زكي على أن الموافقة على مثل هذه الأنشطة يجب أن تُشترط بإجراء تقييم صارم للأثر، واعتماد استراتيجيات متوازنة تشمل التخطيط المستدام لضمان عدم تجاوز الأنشطة قدرة المواقع الأثرية على التحمل، وكذلك توعية الزوار والمستثمرين بأهمية وقيمة هذه المواقع وضرورة حمايتها. كما تؤكد على ضرورة تطبيق قوانين صارمة تحدد الاستخدامات التجارية وتضمن عدم الإضرار بالتراث.

وتوضح الباحثة أن بعض الممارسات مثل استخدام الإضاءة غير الملائمة أثناء إقامة الحفلات أو المناسبات الاجتماعية قد تؤدي إلى إلحاق أضرار بالمواد الأثرية، خاصة الإضاءة التي تولد حرارة عالية أو إشعاعات قد تتفاعل سلبًا مع الأحجار التاريخية. وترى أنه من الضروري استخدام تقنيات إضاءة حديثة مناسبة مثل الإضاءة الباردة (LED)، وعدم توجيهها بشكل مباشر على الأسطح الحساسة. كما تشير إلى أن استخدام التكييف وبعض الديكورات غير المناسبة قد يتسبب في تلف الحوائط الأثرية، مؤكدةً ضرورة تحديد مناطق معينة لإقامة الأنشطة بعيدًا عن الأماكن الحساسة في المواقع الأثرية، مع الالتزام الكامل بالمعايير والإرشادات الدولية الخاصة بالحفاظ على التراث.

وتعبر الباحثة عن موقفها الشخصي الرافض لاستخدام المواقع الأثرية إلا في نطاق محدود لا يضر بسلامتها، مستشهدةً باعتراض سكان الإسكندرية على تحويل قلعة قايتباي إلى قاعة أفراح، معتبرةً أن ما يحدث يمثل “تحديًا للخبراء والأثريين والمثقفين وجميع المهتمين بالتراث لصالح الكسب المادي”، متسائلةً: “هل سنشهد يومًا بيع هذه الآثار باعتبارها تدر عائدًا اقتصاديًا؟”. وتؤكد أنه في مصر يحدث تلاعب وتحايل على القوانين لاستغلال الآثار في أنشطة ضارة على المدى القريب والبعيد، وسط غياب شبه تام للرقابة من الجهات المسؤولة، مطالبةً بتشكيل لجان مختصة تضم القطاعين العام والخاص للنظر في هذه الاستخدامات قبل الموافقة عليها، وتفعيل دور الدولة الرقابي.

كما ترفض الباحثة بشكل قاطع استغلال المناطق الأثرية في أنشطة تتضمن استخدام النيران، مثل الطهي أو تدخين الشيشة، معتبرةً أن تحويل قصر ماماي في شارع المعز لدين الله الفاطمي إلى مطعم “نوع من العبث”، داعيةً إلى محاسبة المسؤولين عن إصدار مثل هذه التراخيص. لكنها في المقابل تؤكد أنه يمكن إعادة استخدام الأماكن الأثرية في أنشطة لا تضر بها، مثل تحويلها إلى متاحف أو مراكز ثقافية أو مقرات دبلوماسية، وليس تحويلها إلى مطاعم وكافيتريات باعتبار ذلك “إهانةً للتراث المصري”.

وترى الباحثة أن وزارة الآثار لجأت إلى هذا النهج بهدف توفير موارد مالية ضرورية للصيانة والترميم في ظل محدودية الميزانيات الحكومية المخصصة لذلك، لكن التنفيذ يتم بشكل خاطئ ومبالغ فيه. وتضيف: “إذا كان الغرض من استخدام المواقع التاريخية إقامة فعاليات خاصة لجذب فئات جديدة من السياح وتنويع العروض السياحية، فيجب أن يتم ذلك بشكل منظم ومقنن، لا أن يتم التعامل مع تراث مصر كعقارات فارغة تؤجّر لمن يدفع أكثر”، محذرةً من أن التنفيذ العشوائي قد يؤدي إلى تدهور حالة المواقع الأثرية وتشويه صورتها عالميًا. وتختم بالقول: “الأزمات الاقتصادية لا تبرر استغلال ما لا يُقدر بثمن وتعريضه للخطر؛ يجب أن ننظر إلى التراث بعين المستقبل وليس فقط بعين الحاضر”.

على الجانب الآخر، تظل عائدات قطاع الآثار في مصر مصدرًا رئيسيًا للاقتصاد الوطني، وتشمل رسوم دخول المواقع والمتاحف وبيع التذكارات والمنتجات الثقافية، وتوجه هذه العوائد إلى صيانة وترميم الآثار وتطوير السياحة الثقافية. ووفقًا لبيانات عام 2023، بلغ عدد السياح 14.9 مليون سائح، بإيرادات تصل إلى 15 مليار دولار، وهو أعلى مستوى منذ عام 2010، وتسعى مصر للوصول بإيرادات السياحة إلى 30 مليار دولار سنويًا.

وفيما يخص الموازنة العامة للهيئة العامة للتنمية السياحية لعام 2023/2024، فقد تم تخصيص زيادة قدرها 30% في الاستثمارات الجديدة لاستكمال البنية الأساسية لقطاعات التنمية السياحية، مع رفع الدعم المخصص للتنمية السياحية بنسبة 100%، وإجمالي موازنة استثمارية تزيد بنسبة 11% عن العام المالي السابق، لتحقق الهيئة صافي ربح يقدر بنحو مليار جنيه يعود إلى الخزانة العامة للدولة. كما أعلن  وزير السياحة والآثار السابق في 2023 تطبيق زيادة في أسعار زيارة بعض المواقع والمتاحف تصل إلى 50% بدءًا من 1 ديسمبر 2025، مع تخصيص 3 مليارات جنيه لترميم الآثار، بزيادة مليار جنيه عن ميزانية عام 2022.

 

 نوصي للقراءة: استثمار أراضي النيل: هل يُدفع التعليم والثقافة ثمنًا للتطوير؟

تعارض مصالح السياحة والآثار

تٌرجع عالمة المصريات د. مونيكا حنا، أستاذ مساعد الآثار والتراث الحضاري، التوسع في الاستغلال التجاري للمناطق الأثرية، خلال السنوات الأخيرة، إلى قرار ضم وزارتي الآثار والسياحة ووجودهما تحت إدارة واحدة، والذي أدى إلى تعارض المصالح؛ ففي الوقت الذي يهدف فيه الأثريون إلى الحفاظ على الأثر فإن القائمون على السياحة يديرون أن يٌدرّ الأثر المال، وأن الحفاظ على التراث والآثار يحتاج إلى الفصل بين السلطات وضمان الشفافية.

تقول إلى زاوية ثالثة: “لسنا ضد الأفكار الخلاقة للاستثمار في التراث وعدم الاعتماد فقط على موارد السياحة في صيانة التراث، ولكن يجب أن تكون هناك لائحة تنفيذية تحدد نسبة عوائد تلك الاستثمارات، التي يتم إنفاقها على صيانة الآثار وترميمها، لا تقل عن 30%، بما يضمن عدم الإضرار بالأثر، وألا يتم توريدها بالكامل للخزينة العامة، لكن ذلك لا يحدث وما يجري هو استنزاف للموارد التراثية دون وجود خطة واضحة لصيانتها وترميمها وحمايتها، كما أن مسألة التأجير في المناطق الأثرية لصالح كافيتريات ومطاعم، تتم بشكل فج، كما يحدث في حديقة متحف التحرير، وفي قصر البارون، ويمكن تفهم ذلك في القصور التاريخية التي تتحمل ذلك إنشائيًا، واستنكر إقامة منصة احتفالات أمام هرم زوسر فوق مقابر فرعونية والذي يُعرض سلامتها للخطر”.

وتضيف: “يجب الحرص على الصيانة الدورية وتحديد الأعداد المناسبة للزوار كي لا يؤثر ذلك بالسلب على الآثار، عبر الإنباعاثات الكربونية والأحمال الزائدة، على أن تعود عائدات الإيجار لصالح حفلات الزفاف وأعياد الميلاد وعروض الأزياء والأنشطة التجارية الأخرى، على تحسين التراث وإعادة تأهيل المباني وترميمها، والاقتداء بالتجربة الناجحة للاستفادة من أرباح كافيتريا في ترميم قصر أثري، في تورينو إيطاليا، والذي أصبح يُدر أرباحًا لخزينة الدولة في إيطاليا”.

في حين يؤكد د. حمدي أحمد السروجي، أستاذ الآثار بكلية الآداب بجامعة طنطا، إلى زاوية ثالثة، أن سلامة الأثر والحفاظ عليه، مسئولية الجميع، وبرغم ذلك لوحظ في السنوات الأخيرة اتجاه القائمين على وزارة السياحة والآثار لتأجير عدداً ليس بقليل من المناطق الأثرية والتاريخية والتراثية لإقامة الحفلات والأفراح وتنظيم بعض الفعاليات بهدف زيادة الدخل، وأصبح الأمر واقعًا مفروضًا، وبرغم تأكيدات الوزارة بأن الأمر يتم في إطار قانوني، إلا أن هذا ليس كافياً لقيمة وسلامة الأثر، عازيًا ما يحدث إلى حالة الركود السياحي التي أعقبت ثورة يناير، متسائلًا هل يمكن قبول إقامة عُرس داخل ساحة مسجد أثري مع تفاعل الحضور بالرقص والغناء، مثلما حدث العام الماضي في أحد الأفراح المقامة في ساحة مسجد محمد علي الأثري في القلعة؟ هل هذا الأمر يتناسب مع قدسية المسجد؟

يقول: “يبدو أن وزارة السياحة والآثار قد عجزت عن إيجاد بدائل أفضل لزيادة الدخل مما اضطرها للجوء لهذا الأمر، ولكن ماذا تفعل الدول التي تستقطب أعداداً هائلة سنوياً من السياح بدون أن يكون لديها هذا الكم الهائل من الآثار وبدون أن  تتجه لتأجير ما لديها من إرث تاريخي؟! لماذا لا نحاول دراسة هذه التجارب ونحذو حذوها؟، إن مصرنا الحبيبة مليئة بالكوادر الاقتصادية التي يمكن وضع بدائل نافعة ومفيدة دون اللجوء للإساءة للآثار، فالاستغلال العشوائي لهار والتعامل معها بدون تنظيم قد يسيء إليها، ولكن إن تم الأمر في إطار المعرفة والنظام فإنه وبكل تأكيد سيحقق المنفعة المادية المرجوة ويعمل على الترويج للأثر بشكل لائق”

ويوضح السروجي أنه في حال كانت الدولة مضطرة لتأجير المناطق الأثرية فإنه لا بد من استغلال مناطق أثرية معينة، وتجنيب مناطق أخرى، على أن تقام الحفلات في ساحات خارجية تضمن عدم المساس بالأثر والاحتكاك المباشر به، وخضوع الأمر لمزيد من الرقابة والحزم، والتعرف على الأضرار التي من الممكن أن تصيب الآثار، إذ أن الأضواء المبهرة التي هي جزء أصيل من الحفلات تضر ضرراً بالغاً بالأثر، كما أن التعامل واللمس المباشر يضر كذلك بالأثر، ناهيك عن أن الغالبية العظمى من الحضور ليس لديهم الوعي الكافي بالأثر وكيفية التعامل معه والحفاظ عليه، ولذلك لابد من وجود شركة متخصصة تجمع بين المعرفة والثقافة وتنظيم الحفلات تضم كوادر قادرة على تحقيق التوازن بين سلامة الأثر واستغلاله، مُعتبرًا أن إقامة حفل في منطقة الأهرامات، هو أمر جيد وبمثابة دعاية جيدة بهدف الترويج السياحي، ولا يمكن بأي حال أن يقام الحفل مثلا داخل معبد الوادي المجاور للهرم.

 

نوصي للقراءة: التراث المصري في المزاد..إرث حضاري مهدد بالسرقة

تعدي على حقوق الأثر

يرى خبير الآثار د. عبد الرحيم ريحان، رئيس حملة الدفاع عن الحضارة المصرية، وعضو لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة، أنه يمكن الجمع بين الاستثمار السياحي والحفاظ على قيمة وسلامة الآثار، عبر وضع شروط معينة تحافظ عليه والنظر للأثر باعتباره منتج ثقافي قبل كل شيء وأن تتم إعادة توظيفه ليكون مركز إشعاع ثقافي؛ إذ أن الصناعات الثقافية والإبداعية تحقق دخلًا كبيرًا على مستوى العالم إذا أحسن استثمارها، كأن يتم تنظيم عروض فنون شعبية، رافضًا بشكل تام استغلال الآثار في إنشاء مطاعم وكافيتريات أو قاعات أفراح لأن ذلك يضر بالآثار معماريًا وفنيًا من تأثير الضوضاء وأدخنة الشيشة على الألوان والزخارف، مؤكدًا أن قاعات الأفراح يجب أن تكون قاصرة على كتب الكتاب فقط وبشرط عدم وجود ضوضاء أو الموسيقى الصاخبة أو ارتداء ملابس تتنافى مع طبيعة الآثار وقدسيتها، ومراقبة للأثر كاملًا بالكاميرات لمنع عبث الأطفال بأي زخارف أو ألوان، منع اللمس للأثر، مراقبة إشراف كامل من المجلس الأعلى للآثار ومرور أسبوعي على الأقل لعمل تقرير عن الحالة الفنية للأثر عن طريق آثاريين وأخصائي ترميم، السماح بالتفتيش المفاجئ للجان الآثار في أي وقت وأن يوضع هذا الشرط في عقد التأجير وفي حالة مخالفة أي ضوابط يفسخ العقد تلقائيًا مع تحميل المستأجر تكلفة ترميم أي تلفيات.

يقول إلى زاوية ثالثة: “استثمار الآثار شيء جيد لكن مفهوم الاستثمار للآثار يحتاج لتوضيح، فالآثار ثقافة بالدرجة الأولى وسياحة ثقافية، ويجب أن يتم استغلال الآثار في إنشاء مراكز ثقافية كبرى، وقاعات لمؤتمرات وندوات، قاعات للفنون التراثية والشعبية، قاعات للأدب والفنون التشكيلية والتطبيقية، مسارح أثرية، أتيليهات للفنون، وليس تأجيرها لمطاعم وكافيتريات، باعتبارها مصدر فقط للدخل على حساب القيمة الأثرية والتاريخية وقدسية الأثر نفسه؛ فتأجير مقعد ماماي الأثري الذي كان ساحة قضاء في يوم من الأيام إلى مطعم وكافتيريا مسموح بشرب الشيشة بها، يعد تعديًا على حقوق الأثر نفسه وقدسيته ويجب محاسبة من قام بهذا العمل المرفوض بمقابل 300 ألف جنيه شهريًا، إذ أن تأثيرات هذا النشاط المرفوض ستظهر بعد سنوات وربما ينتهي عقد الإيجار وتقوم الآثار بترميمه على نفقتها وتتكلف ملايين لأن ترميم الآثار ليس بالأمر السهل وبالتالي فهذه الصفقة خاسرة ماديًا ومعنويًا بكل المقاييس”، مشيرًا إلى أن وزارة الآثار دخلها مرتفع جدًا لاسيما مع افتتاح المتاحف الجديدة وترميم مناطق جديدة وفتحها للزيارة والاكتشافات الأثرية وتنظيم المعارض الخارجية، وأن هناك حاجة إلى تعديل مفهوم استثمار الآثار، شريطة صيانة وحماية الأثر وحفظ قدسيته وحرمته.

ويكشف ريحان عن رصد حملة الدفاع عن الحضارة المصرية، عن تنظيم حفل صاخب بمعبد فيلة بأسوان المُسجل تراثًا عالميًا باليونسكو، رغم كون الضوضاء والأضواء تؤثر بالسلب على الطبقات اللونية للأسطح الأثرية أو المسطحات الحجرية بما تحويه من قشور حجرية مخلخلة أو معرضة، بجانب التأثير الميكانيكي للموجات الصوتية علي الآثار الحجرية، وخصوصًا تلك الآثار الحجرية الحاملة النقوش والزخارف اللونية؛ إذ أن تعرض أي جسم صلب لموجات صوتية تصل إلى 1200 كيلومتر في الساعة، يجعله يتأثر بشكل مباشر بهذا الاصطدام الكبير، مع الأخذ في الاعتبار الحالة الضعيفة والهشة لتلك الأسطح الحجرية التي تعاني من ارتفاع نسبة الرطوبة الناتجة عن ارتفاع المياه تحت سطحية والتي أدت إلي تكون طبقات ملحية وانهيار بنية الحجر الشبكية، مؤكدًا ضرورة  أن يخضع الأمر للدراسة بواسطة مهندس صوت يحدد قوة الترددات اللازمة لكل فعالية احتفالية تقام في مكان أثري.

ويؤكد الخبير الأثري أن جميع الآثار تتأثر بشكل مباشر من الضوء سواءً كانت آثار عضوية أو آثار حجرية ومعدنية حاملة للنقوش والزخارف الملونة ، وأنه في أحيان أخرى تتأثر الآثار الحجرية بكمية الحرارة المنبعثة من المصادر المستخدمة في الإنارة، وخصوصًا تلك التي تستخدم في التصوير السينمائي وتنتج طاقة حرارية عالية تؤثر علي تمدد وانكماش الأسطح الحجرية خصوصًا عندما يتم التناوب بين تشغيلها وإيقافها بشكل سريع، وهذا التأثير المتردد لدرجات الحرارة ارتفاعًا وانخفاضًا يؤثر بشكل مباشر علي الأسطح الحجرية الضعيفة أو حتي القوية والحاملة الألوان ويؤدي إلي خلخلة الطبقة السطحية ويقلل من قوة الترابط بين جزيئاتها،

كما أن مدة التعريض للأطوال الموجية الطويلة والتي تنخفض تأثيراتها علي الآثار تتساوي مع التلف الناتج عن الأطوال الموجية القصيرة، لذا يجب الحد من تأثيرات الأطوال الموجية المختلفة سواءً على الأمد الزمني البعيد والقصير للحماية الأثر من التلف الفوتوكيميائي، وضرورة منع التصوير باستخدام فلاش الكاميرا أو استخدام فلاتر داخل قاعات العرض وأن يكون زجاج الفاترينات قائمًا بمقام مرشحات الضوء، لأنه في ظل الأعداد الهائلة للزائرين فإن الطاقة المنبعثة من أضواء الكاميرات ستتلف الأثر في فترة زمنية قصيرة وتتحول جميع الأسطح الملونة إلى الوهن الضوئي أو التحلل اللوني للألوان التي تم مزجها للحصول على لون ثالث.

 

نوصي للقراءة: مصادرة ومنع: كيف يعاني قطاع النشر في مصر من التضييق؟

صورة لائقة لمصر

يُعتبر الحفاظ على الآثار شرطًا أساسيًا لتحقيق الاستفادة من المناطق الأثرية في عمليات الاستثمار والتنمية السياحية، ولتحقيق ذلك يجب توفر الأمن والأثريين وفريق للصيانة والترميم خلال الفعاليات الاحتفالية ووضع ضوابط للحفاظ على المرافق البنية التحتية لها، والتحكم في الإضاءة للحفاظ على الألوان والخامات، وتركيب مرشحات للآشعة الضارة، وحماية الآثار المصنوعة من الحجر الجيري من الرطوبة، بحسب ما يوضح  د. محمود الحلوجي، أستاذ الآثار المصرية القديمة والمدير العام الأسبق للمتحف المصري، إلى زاوية ثالثة، مُشيدًا بالمهرجانات والفعاليات الثقافية التي يتم تنظيمها في قلعة صلاح الدين، ومُعتبرًا أن تأجير المناطق الأثرية لصالح مطاعم أو كافيتريات سيؤثر سلبًا عليها.

ويقرّ الحلوجي بوجود توجه في السياسة العامة للدولة بالتوسع في الاستثمار والتنمية السياحية في المناطق الأثرية، لزيادة مصادر الدخل، خلال السنوات الأخيرة، في ظل تأثر نشاط السياحة بعدد من الأحداث منذ ثورة 25 يناير، مرورًا بجائحة كورونا والأزمات الدولية والحرب الأوكرانية.. وغيرها، داعيًا إلى انتقاء الفعاليات والاحتفالات والأنشطة التي يتم تنظيمها في المناطق الأثرية، بما يضمن نقل صورة لائقة عن مصر، لأن ذلك أهم من العوائد المالية.

بينما ترى وهيبة صالح، مدير عام بوزارة الآثار، ضرورة تنظيم مهرجانات فلكلور وتراث ومعارض وبازارات وفعاليات ثقافية للفنون الشعبية في المناطق الأثرية، تساعد على الترويج للسياحة، وتبني الدولة لمشروعات مثل: سلسلة من المطاعم والمقاهي في المنطقة المحيطة بالأهرامات، بدلًا من تأجير تلك المناطق لتنظيم حفلات زفاف ومناسبات شخصية، تسيء للأثر وتضر به، لصعوبة التحكم في الزوار وسلوكياتهم، وعدم وجود مردود سياحي لذلك، مؤكدة ضرورة خضوع الأمر للدراسة العلمية وتقييم الأثر.

وتُحذر المسؤولة الحكومية، في تصريحات إلى زاوية ثالثة، من تأثير الإضاءة القوية على المواقع الأثرية والمقابر الفرعونية، لكنها تُشجع على الاستغلال الصحيح للمنطقة المحيطة بالأهرامات ومنطقة قلعة صلاح الدين الأيوبي لتنشيط السياحة العالمية وتقديم برنامج متكامل للزوار، وفتح القصور الرئاسية التاريخية للزيارات وتنظيم الفعاليات والأنشطة الاستثمارية بها وفق تنظيم من الدولة، وعدم اعتماد وزارة الآثار على مردود تذاكر زيارة المواقع الأثرية فقط.

وفي حين يرى بعض خبراء الآثار والعمارة أن الاستثمار السياحي في المناطق الأثرية ينبغي أن يقتصر على الفعاليات والمهرجانات الثقافية، للحفاظ على صورة مصر وقيمة الآثار؛ فإن البعض الآخر يبدون مرونة أكثر تجاه الأنشطة الاستثمارية ويشترطون وضع ضوابط صارمة للحيلولة دون الإضرار بتلك الآثار على أن يتم تخصيص نسبة محددة من عوائد تلك الاستثمارات، لصالح ترميم الآثار وصيانتها، ويُجمع الخبراء والمسؤولون الحكوميون في وزارة السياحة والآثار على ضرورة تشجيع التنمية السياحية وتنظيم الفعاليات التي تروج للسياحة في مصر، وإيجاد موارد مالية تضخ عوائد على خزينة الدولة وتوفر ميزانية لترميم الآثار المهملة والصيانة الدورية للمناطق الأثرية، في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد.

آية ياسر
صحافية وكاتبة وروائية مصرية حاصلة على بكالوريوس الإعلام- جامعة القاهرة.

Search