كان سمير كمال في ريعان شبابه عندما قرر شراء شقة في مشروع عمارات شرق الأوتوستراد – صقر قريش في الثمانينيات. بحماسة شديدة دفع مقدم الشقة، ومعه وثيقة تعاقد تؤكد حقه في استلامها بعد التشطيب بنظام “سوبر لوكس”، واعتبر أن القرار استثمار العمر، وأن الشقة ستكون بيتًا يأويه وأسرته الصغيرة التي يرغب في تكوينها، حسب وصفه.
مرت السنوات، لكن حلم السكن ظل معلقًا، كان السبب دائمًا “عدم الانتهاء من التشطيبات”؛ ما دفع سمير، كغيره من المُلاّك إلى الانتظار بصبر واستئجار سكن بعد زواجه، ومع مرور الزمن، أصبحت الشقة حلمًا بعيد المنال، وتحول الانتظار الطويل إلى قلق مستمر.
بعد أكثر من أربعة عقود، يجد سمير نفسه في مواجهة كابوس جديد، يتمثل في أن العمارات التي كانت تحوي منزله المنتظر لعقود، تُهدمت أمام عينيه، والشركة المسئولة عن العقار الذي يمتلك فيه وحدته السكنية، باعت العمارات لشركة خاصة تخطط لبناء أبراج جديدة مكانها.
يقول “كمال” في حديثه إلى زاوية ثالثة: “أعيش في دوامة من الغضب والحزن، فكيف يمكن أن تُباع حقوقنا هكذا؟ لقد دفعت ثمن هذه الشقة منذ سنوات طويلة، والآن يُطلب مني شراء شقة جديدة بأسعار لا أستطيع تحملها، فأصبحت الآن على المعاش، ادفع الايجار واحتياجات أولادي بالكاد، فكيف سأوفر مبالغ طائلة جديدة من أجل امتلاك ” وحدة سكنية ” كانت ملكي من البداية؟.”
قصة سمير ليست حالة فردية، بل تمثل مأساة مئات الأسر التي تجد نفسها اليوم في مواجهة قرارات تُعيد رسم حياتها بشكل غير متوقع، من هنا، تبدأ رحلتنا في كشف تفاصيل هذه الأزمة، بين قرارات الشركات، وحقوق المًلاّك، والأبعاد الإنسانية التي يتجاهلها البعض.
نوصي للقراءة: مشروع الهوية البصرية يُحمّل المواطنين أعباءً اقتصادية جديدة
ضحايا جدد
في تطور جديد للأزمة التي تحيط بعمارات شرق الأوتوستراد – صقر قريش، تتكشف فصول من الإهمال والتأخير وربما الفساد منذ عقود، فضلًا عن قرارات مفاجئة تهدد حقوق المواطنين، متمثلة في بدء تنفيذ قرار إزالة 28 عقارًا بالمنطقة، بقرار من محافظة القاهرة. هذه الخطوة أثارت جدلًا واسعًا بين السكان والمسؤولين، إذ أكدت المحافظة أن القرار جاء بناءً على تقارير فنية وتحذيرات تؤكد خطورة المباني وعدم صلاحيتها للسكن، وأنها مجرد هياكل خرسانية خالية من السكان، ومنها عقارات غير آمنة لاستقبال السكان؛ منها العمارات رقم 12، 13، 14، 15، 16، 17، وذلك وفقًا للبيان المنشور من قبل محافظة القاهرة.
جاء رد مها محمد أيوب، التي أقامت دعوى قضائية ضد كل من: وزير الإسكان، ومحافظ القاهرة، ورئيس حي البساتين، ومدير أمن القاهرة، ومأمور قسم البساتين، ورئيس الاتحاد التعاوني الإسكاني المركزي، ردًا قاطعًا ينفي ما ادعّته محافظة القاهرة من أسباب للهدم، وتهدف الدعوى إلى وقف تنفيذ القرار الإداري رقم 234 لسنة 2024، الصادر في 10 يونيو الماضي، والقاضي بإزالة العقار رقم 13 بمشروع جمعية صقر قريش الكائن بمشروع المعادي شرق قسم البساتين بالقاهرة، وهي أحد المباني التي قامت بإزالتها بالفعل المحافظة في الأيام الماضية.
كما طالبت مها في دعواها بصفة مستعجلة بوقف تنفيذ قرار الإزالة وإلغاءه، وطالبت بإحالة الطعن للمكتب الفني بوزارة العدل لمراجعته، مؤكدة على إلزام المدعى عليهم بتحمل كافة المصروفات وتكاليف أتعاب المحاماة.
ولم يكن رد مها فقط هو الذي يشير لـ القرار غير المدروس التي قامت به المحافظة؛ إلا أنه ظهرت أيضًا شهادة سلامة إنشائية من أحمد فؤاد أحمد صبري – المهندس المدني وعضو نقابة المهندسين-، يؤكد فيها أن العمارة رقم 13 بمنطقة شرق الأوتوستراد بالمعادي، المكونة من أرضي وعشرة أدوار متكررة، قد تمت كافة الأعمال الإنشائية فيها حتى تاريخه طبقًا للقانون رقم 119 لسنة 2008، ولائحته التنفيذية وتعديلاتها والمواصفات الهندسية والكود المصري، ووفقًا للشهادة، فإن جميع العناصر الإنشائية الخاصة بالتصميم تتحمل الإجهادات الإضافية التي تتولد عن الكوارث الطبيعية طبقاً للكود، وقد وقّع على هذه الشهادة كل من أحمد فؤاد صبري والسيد محمد حسين الحزين.
ورغم أن الشهادة خرجت من جامعة القاهرة، والتي المنوط بها في الفترة الأخيرة كافة الدراسات التي تخص قوانين التصالح والانشاءات والهدم، إلا أن المحافظة لم تعير لها اي اهتمام، وسارت في المسار الذي بدأته من البداية، ما أثار غضب الملاك، وجعلهم يقومون بوقفة احتجاجية أمام العقارات المزمع هدمها. وتفاوضت معهم قوات الأمن، التي كانت تؤمن المعدات والمسئولين عن الهدم، بفض الاعتصام على أمل وجود حلول وسط، تفيد الطرفين، وتحل الأزمة، وتم فض الاعتصام على أثر ذلك.
تفاجأ المواطنون بإبلاغ الشركة المالكة لهم بأن العقارات سيتم هدمها وإعادة بنائها من جديد، على أن يحصلوا على وحدات سكنية جديدة بديلة لوحداتهم الأصلية، ولكن بشرط دفع أسعار السوق الحالية لتلك الشقق، مع خصم القيمة التي سبق أن دفعوها من ثمنها، ما أثار غضب الملاك مرة أخرى، حيث وجدوا أنفسهم يدفعون ثمن لا ذنب لهم بها، وهو دفع ثمن الشقة من جديد.
وخاصة أن هذه العمارات التي كان من المفترض أن تُسلم لملاكها منذ الثمانينيات، وتعود القصة إلى الثمانينيات عندما بدأ مشروع عمارات شرق الأوتوستراد، وتم بيع الوحدات السكنية للمواطنين بموجب عقود رسمية، مع وعد بتسليمها بعد تشطيبها بنظام “سوبر لوكس”، لكن رغم مرور سنوات طويلة، لم تُنفذ هذه الوعود، وظلت العمارات مغلقة وخالية دون مرافق.
مشروع إسكان صقر قريش الآن تابع لجمعيات الإسكان التعاوني، وقد واجه أزمات متراكمة منذ انطلاقه؛ أبرزها تعرض شركة صقر قريش لمشكلات مالية جسيمة أدت إلى انهيارها المادي وتعثرها في إدارة مشاريعها. هذا الوضع دفع المحافظة لتسليم المشروع لجمعيات المجتمع العمراني وتولي إدارة مشروعاتها بشكل مؤقت لضمان استمراريتها، في ظل الأزمة المالية التي تعرضت لها الشركة المالكة؛ إلا أنها زادت الأمر سوءا بعدم تسليم المشروع للملاك، وعدم تنفيذ شروط التسليم كما كان متفق عليها، من المرافق وغيرها.
وجاءت الطامة الكبرى عندما صدر قرار محافظ القاهرة رقم 8201 لسنة 2024، الذي تضمن تعديل تقسيم منطقة شرق الأوتوستراد، المنطقة التي كانت تحتوي على 400 فدان، والتي كانت ملكًا لشركة صقر قريش منذ عام 1988، شهدت تغييرات في توزيع الأراضي بهدف تسوية أوضاع الشركة وحل مشكلاتها المالية، ما أثر بشكل كبير على مستقبل المنطقة وعلى سير المشاريع المرتبطة بها.
يقول السيد حسين – أحد الملاك الأصليين في المنطقة-، في حديثه إلى زاوية ثالثة: “انتظرنا عقودًا لاستلام شققنا، وكان العذر دائمًا هو عدم الانتهاء من التشطيبات. اليوم، بعد كل هذا الانتظار، نجد أنفسنا خارج المعادلة تمامًا، ووجدنا امامنا قرار جمعيات الإسكان التعاوني ببيع المباني لشركة خاصة، دون إخطارنا ، كما تفاجئنا بقرار هدم للمباني، دون موافقة ملاكها.”
وفي نفس السياق، تقول منى عبد الرحمن – إحدى المتضررات-، معبرة عن غضبها: “كان من المفترض أن نسكن في هذه الشقق منذ الثمانينيات، لكن الآن، يتم هدمها وبناء أبراج جديدة، ويُطلب منا شراء شقق بأسعار اليوم، وكأننا لم ندفع أموالنا منذ عشرات السنين.”
نوصي للقراءة: ناهيا تحت قضبان قطار التطوير.. تهجير وشيك وهدم مرتقب
الريان
وسط هذه الأزمة، انتشرت شائعات تشير إلى أن الأرض كانت ملكًا لـ مجموعة الريان الشهيرة في الثمانينيات، وأنه تم بيعها لـ شركة صقر قريش بعد عرضها بمزاد علني، على إثر أزمة الريان؛ إلا أنه لا يوجد مصدر يؤكد أو ينفي تلك المعلومة، لكن بعض سكان المنطقة، يطلقون عليها “مساكن الريان”.
وترجع أزمة الريان في مصر إلى الثمانينيات، وكانت من أبرز الأزمات الاقتصادية التي شهدتها البلاد آنذاك، وكان أحمد الريان من أبرز رجال الأعمال الذين اشتهروا بنظام توظيف الأموال، وأسّس مجموعة كبيرة من الشركات التي عملت في مجالات متنوعة مثل التجارة، الاستثمار العقاري، والصناعة، وتشير التقديرات حينذاك أن حجم الأموال التي كانت تديرها شركاته تجاوز 2 مليار جنيه مصري، وهو مبلغ ضخم بالنسبة للاقتصاد المصري آنذاك، ومع تزايد الشائعات حول إمكانية انهيار شركات الريان، تسارع المودعون لسحب أموالهم، ما أدى إلى انهيار النظام بشكل سريع، ثم تدخلت الحكومة المصرية بإغلاق شركات توظيف الأموال، ومنها شركات الريان، بعد اتهامها بعدم الالتزام بالقوانين وإدارة الأموال بشكل غير قانوني، وكان الريان يمتلك أصولًا عقارية متعددة، ويُقال إن من بينها أراضٍ في مناطق مميزة مثل المعادي، وتمت مصادرتها بعد انهيار المجموعة من قبل الدولة لتسديد مستحقات المودعين، وربما كان هذا هو سبب الربط بين هذه الواقعة وبين اراضي شرق الأوتوستراد المتنازع عليها الآن.
وفي ظل هذه الأحداث، تعرب روان مصطفى عن استيائها من القرار. تقول: “هذا ظلم، لقد هُدم العقار الذي انتظرناه سنين طويلة، حسبنا الله ونعم الوكيل، أين حقوقنا كأصحاب الشقق؟ وأين شققنا التي كان من المفروض أن نستلمها منذ 40 سنة؟”
ومن جهتها، تؤكد متضررة تدعى إيمان إبراهيم: “هذه الشقق تم حجزها منذ 40 سنة، ودفعنا أقساطها ولم نحصل عليها، وفجأة مطلوب منا الآن أن ندفع فلوس من جديد بالسعر الحالي بعد الهدم، فهل يعقل هذا، كيف سنلاحق على دفع تلك المبالغ، سواء في المأكل أو المشرب وزاد الآن عليها آلاف الجنيهات لـ نتملك شققًا كانت ملك لنا منذ سنوات.”
ويضيف محي الجيوشي: “هذه العمارات وغيرها، كل الشقق التي فيها لها ملاك، وقد دفعوا ثمنها منذ سنوات طويلة، هناك من يقيم فيها ومن كان يجهز شقته رغم عدم وجود مرافق؛ لكن الناس قبلت أن تسكن وتصرفت وذهبت لإجراء التصالحات وتوفير بعض الخدمات للسكن.”
وبعد الشهادات التي حصلنا عليها من سكان تلك البنايات، أجمع الجميع على طرح تساؤلات عديدة؛ أبرزها؛ لماذا أقدم المسؤولون في محافظة القاهرة على هذا الأمر، ولصالح من؟ ومن يعوض المتضررين عن أضرارهم؟