خاض أيمن ميلاد رحلة شاقة مع الموت، قبل أن يصل إلى المياه التونسية قادمًا من مصر مرورًا بليبيا، بحثًا عن حياة أفضل على الجانب الآخر من الشاطيء، حيث أوروبا، أرض الأحلام بالنسبة للكثير من الشباب العربي/ المصري، غير أن الحظ لم يكن حليفه، بعد أن غرقت المركب الصغير الذي كان يستقله مع عشرات من الشباب المصريين والأفارقة، في أغسطس من عام 2021، ليبدأ سلسلة أخرى من المصاعب بدأت بـ تحقيقات موسعة مع من جانب السلطات التونسية، ثم محاولات عديدة لتقنين الأوضاع والعمل.
يقول ميلاد: “تركت مصر عام 2021 بحثًا عن حياة أفضل، مخططًا للهجرة غير الشرعية عن طريق ليبيا ومن ثم تونس إلى أوروبا، لكن المركب غرقت في المياه التونسية، وتم القبض علينا وبعد سلسلة من التحقيقات مع السلطات التونسية، لجأت لمحاولة تقنين وضعي والسفر، لجأت لأهلي في محافظة أسيوط، جنوب مصر، لتوفير مبلغ مالي وبالفعل قمت باقتراض مبلغ حتى أتمكن من السفر بشكل قانوني، لكني تعرضت لعملية نصب من أشخاص تونسيين عبر الإنترنت وفقدت المبلغ (20 ألف جنيه مصري)، وبعدها قررت البقاء والعمل في تونس.”
ويتابع: “حاولت بدء حياة جديدة في تونس لكسب الرزق، لكن كان هناك عقبتان في طريقي؛ الأولى أن جواز السفر الخاص بي قد انتهى في يناير 2023، وبالتالي لم أتمكن من تجديد إقامتي، وفي الوقت ذاته لم أكن أملك نفقات تجديد جواز السفر التي كانت تعادل نحو (320 دولار)، ومنذ ذلك الحين أعيش في تونس بدون إقامة أو أوراق، وبين الحين والآخر أتعرض للمساءلة من جانب الجهات الأمنية؛ بعضهم يتعاطف مع وضعي، والآخر يجري تحريات عني لفترة ثم يتركني.”
بالمقارنة مع الظروف المعيشية في مصر في الوقت الراهن، يرى ميلاد أنها تكاد تكون أفضل إلى حد ما في تونس؛ خاصة فيما يتعلق بالطعام، لكن الظروف الاقتصادية متشابهة إلى حد كبير، بخلاف أن الدينار التونسي ما يزال يحتفظ بقيمة شرائية.
وبسؤاله عن أسباب عدم عودته لمصر رغم الظروف الصعبة التي يمر بها، يقول ميلاد، إنه “مواطن من الصعيد، أهله والجميع يترقب عودته، لكن من الصعب عليه أن يعود دون تحقيق أي هدف طمح إليه قبل سفره، خاصة أنه ترك كل شيء وسافر من أجل تحقيق آمال كبيرة، من الصعب أن يعود دونها.”
في حين تشير تقارير رسمية إلى أن عدد الجالية المصرية داخل الأراضي التونسية لا يتجاوز ألف مواطن، وهو أكبر جالية عربية متواجدة بالبلاد تليها السورية ثم العراقية. تتحدث تقارير عديدة عن أضعاف هذا الرقم من المهاجرين غير النظاميين من المصريين داخل تونس، وتعكس الأعداد تزايدًا ملحوظًا في أعداد المصريين الذين يحاولون الهرب عبر البحر المتوسط، تحديدًا بالمرور من ليبيا إلى تونس خلال السنوات الماضية، إذ أنه وفقًا لأحدث البيانات التي نشرتها المنظمة الدولية للهجرة، كان هناك 117 ألف و156 مهاجرًا مصريًا في ليبيا بين ديسمبر 2021 ويناير 2022، فيما ينوه التقرير إلى أن المصريين يشكلون ثاني أكبر عدد من المهاجرين في ليبيا، ويمثلون 18٪ من إجمالي المهاجرين.
ووفق بيانات حديثة نشرتها فرونتكس (الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل)، كان هناك ما مجموعه ثلاثة آلاف و 292 حالة رصد لمواطنين مصريين على طول طريق وسط البحر الأبيض المتوسط إلى الاتحاد الأوروبي بين يناير ومايو 2022؛ لذلك كان المصريون هم الجنسية الأكثر شيوعًا التي تم اكتشافها على طول طريق وسط البحر الأبيض المتوسط خلال هذه الفترة الزمنية، إذ يمثلون 20٪ من اكتشافات وسط البحر الأبيض المتوسط خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2022. بين يناير وأبريل 2022، كان هناك ما مجموعه ألفين و 601 عملية رصد لعبور حدودي غير قانوني من قبل مواطنين مصريين، ما يمثل 4٪ من جميع العمليات التي تم الكشف عنها خلال هذه الفترة.
وقد مثلت تونس معبر حيوي للهاربين من مصر مرورًا بليبيا خلال السنوات الماضية، لكن الذين فشلوا في العبور اضطروا للبقاء داخل الأراضي التونسية منذ فترات طويلة، ومع تدهور الوضع الاقتصادي وتزايد التضييقات الأمنية، يواجه المصريون، معاناة إضافية تتعلق بالقدرة على توفير سبل العيش، والحياة بأمان، حسبما تحدثوا إلى زاوية ثالثة، فيما يفضل معظمهم البقاء داخل تونس عن العودة دون تحقيق أي طموحات، أو خشية الديون التي تنتظرهم بمصر، كذلك يخشى بعضهم الملاحقة الأمنية.
ينبع تحوّل تونس إلى دولة عبور للمهاجرين من إفريقيا إلى أوروبا من عوامل مهمة عدّة؛ أبرزها حالة انعدام الاستقرار المزمنة في منطقة الساحل وموجات الهجرة الناجمة عن ذلك، وحدود تونس القابلة للاختراق، وسياساتها غير المتّسقة حيال الهجرة، فضلًا عن انتشار العنف والسلوك المُعادي للأجانب في البلاد، وتدهور ظروفها الاقتصادية، وتفاقمت التحديات التي تواجهها تونس في ملف الهجرة نتيجة عجز السلطات عن وضع استراتيجية شاملة لإدارة تدفّق المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء. استجابةً لهذا الوضع، لجأت الحكومة في الغالب إلى مقاربات ترتكز على الأمن وتكتيكات قصيرة المدى وفق مركز “كارنيجي للدراسات”.
نوصي للقراءة: بين القصف والانتظار: المصريون في لبنان يبحثون عن طريق للعودة
لماذا يهاجر المصريون؟
يمثل المصريون أكثر الجنسيات التي تغامر بعبور البحر الأبيض المتوسط، إذ شكلوا 20% من إجمالي العابرين إلى القارة الأوروبية خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2022، وعزا موقع “ميدل إيست آي” أسباب هجرة المصريين إلى “الفقر المدقع”، إذ أدى ارتفاع تكاليف المعيشة إلى تآكل شبكة الأمان المتداعية بالفعل في مصر؛ ما أدى إلى تراجع المستوى المادي لنحو 60 مليون شخص فأصبحوا تحت خط الفقر وأجبر العديد منهم على عبور الحدود إلى ليبيا، كما يشير الموقع إلى العنف باعتباره العوامل التي تدفع المصريين إلى مغادرة وطنهم، ونقل الموقع عن مركز مراقبة النزوح الداخلي في جنيف، أن هناك 1000 حالة نزوح جديدة بسبب العنف في مصر.
ويرى المحامي الحقوقي، مدير المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مالك عدلي، أن الهجرة مسألة معقدة، فهي تتضمن أسبابًا متعددة تؤثر على فئات مختلفة. على سبيل المثال، هناك المعارضون السياسيون الذين تعرضوا للاضطهاد، وكذلك أولئك الذين لا يجدون فرص عمل مناسبة في مصر. كثيرون منهم قرروا مغادرة البلاد بحثًا عن ظروف أفضل، حتى لو كانت في دول غير آمنة مثل ليبيا.
ويقول “عدلي” في حديثه إلى زاوية ثالثة: “يمكن تقسيم المهاجرين إلى ثلاث فئات رئيسية: الأولى تشمل المعارضين السياسيين والنشطاء الحقوقيين الذين تعرضوا لمضايقات وتضييقات في وقت من الأوقات جعلتهم يلجأون لمغادرة البلاد ، والثانية تشمل من لا يجدون سبل العيش في مصر فقرروا الهرب عبر البحر بحثًا عن لقمة العيش، والفئة الثالثة تضم الأشخاص الذين لا تتوفر لهم فرص عمل كافية تناسب مؤهلاتهم، منهم من قرر مثلًا السفر إلى ليبيا التي بها نحو مليون مواطن يعمل معظمهم في أعمال شاقة وظروف أمنية صعبة للغاية بحثًا عن أجور مناسبة، هذه العوامل الاقتصادية والاجتماعية تؤدي إلى زيادة معدلات الهجرة، إذ يشعر الناس بأنهم مجبرون على مغادرة الوطن بحثًا عن مستقبل أفضل.”
وبحسب “عدلي” يصل عدد المهاجرين من مصر نحو 10% من إجمالي المصريين، وهو رقم كبير قد يمثل عدد سكان دولة، لكن لا يوجد حصر دقيق بالأعداد حتى اللحظة، لكن يمكن القول أن الأسباب تعددت في ذلك لكن يبقى أهمها الظروف المعيشية وسوق العمل الطارد داخل البلاد، خاصة ما يتعلق بظروف التشغيل وتطبيق الحد الأدنى للأجور والظروف المعيشية الصعبة غير المحتملة من المواطنين.
يضرب مثالًا على تدهور بيئة العمل في مصر حول القطاع الطبي الذي يشهد مشاكل بالجملة تتعلق ببيئة العمل السيئة وتدني الأجور، وغيرها من الأسباب التي تدفع مئات – إن لم يكن آلاف من الأطباء لترك البلاد سنويًا-، مخلفين أزمة كبرى في نقص الكفاءات الطبية. ويرى أن المؤسسات تعاني من سوء الإدارة الرشيدة التي تمنح فرص للأقل كفاءة على حساب الأعلى؛ ما يدفع معظم الكفاءات للهجرة خارج البلاد، خاصة للدول التي تهيئ ظروف عمل مناسبة وتمنح أجورًا عادلة.
يضيف: “الحكومة حتى اللحظة لم تتمكن من فرض الحد الأدنى للأجور على العديد من الشركات خاصة المرتبطة بالقطاع الخاص؛ ما يدفع العمال إلى التظاهر والاحتجاج بشكل مستمر خلال الفترة الماضية ويعرضهم ذلك للمخاطر، ومعظمهم عمالة مُدربة ونادرة. في المقابل تقدم العديد من الدول امتيازات خاصة وأجور ممتازة للعمالة المُدربة، وقد يصل راتب العمال في اليوم بالخارج ما يعادل راتبه للعمل شهرًا كاملًا داخل مصر، ومع الضغوط الاقتصادية المستمرة على الناس، يلجأ المصريون للهجرة خارج البلاد، لأسباب كثيرة لكن معظمها يتعلق بإيجاد بيئة عمل مناسبة وأجر عادل.”
يتفق معه الباحث الاقتصادي بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، محمد رمضان، حول أهمية البعد الاقتصادي كأحد أسباب تزايد هجرة المصريين للخارج. يقول في حديثه مع زاوية ثالثة، إن “التركيبة الحالية للمصريين تشير إلى أن نسبة تتراوح ما بين (60-65%) من المواطنين هم بعمر العمل، من الطبيعي أن يلجأ عدد كبير منهم للهجرة ما لم تتوافر مشاريع قومية وتنموية قادرة على استيعاب هذه الطاقات وتوفير أجور عادلة لهم مع بيئة عمل لائقة.”
بحسب “رمضان” يعد ارتفاع معدلات الهجرة نتيجة مباشرة لارتفاع مستوى التضخم وتدني المستوى المعيشي للفرد، كما تعاني مصر منذ السبعينات والثمانينات من ارتباط عضوي بين سوق العمل في الداخل ودول الخليج، فقد ظلت دول الخليج أحد أهم الآليات البديلة للعمالة المصرية للتأقلم مع الأوضاع الاقتصادية، وبالمقارنة بين سوق العمل في مصر والخليج نجد أن المهارات المطلوبة للعمل تقريبًا متشابهة في حين التفاوت الكبير في الأجور، الأمر الذي يدفع غالبية العمالة المصرية للجوء إلى العمل في تلك الدول لتأمين مصدر دخل يتناسب مع الظروف الاقتصادية.
وفق رمضان، تؤثر عمالة المصريين بالخارج على محورين أساسيين؛ الأول يرتبط بزيادة روافد الدخل الأجنبي نتيجة زيادة تحويلات المصريين من الخارج التي تمثل من 8-10% من الدخل، وهذا جانب إيجابي، لكن الجانب السلبي يرتبط بما يسمى “هجرة العقول” ويتمثل ذلك بشكل واضح في هجرة الأطباء، إذ يهاجر نحو 30 إلى 40 ألف طبيب سنويًا، الأمر الذي يعزز أزمة القطاع الصحي في مصر بشكل كبير ويزيد الضغوط الخاصة بالإنفاق على المواطنين.
ويرى أن هجرة العقول من مصر تفقد البلاد قيمة إضافية على المدى البعيد، سيكون أفضل للدولة الاحتفاظ بهم وتوفير فرص عمل بشكل أفضل لهم مقابل الاستثمار البشري في تنمية العقول وبالتالي الاعتماد عليها في تنمية الاقتصاد، وتحقيق التنمية الشاملة، ورغم كثرة المشروعات خلال الفترة الماضية، يرى “رمضان” أنها لا توفر بيئة حاضنة للعقول والمهارات العاملة في العديد من المجالات، فضلًا عن أن العديد منها مشروعات عمل مؤقتة، ولا توفر بيئة جاذبة للعمالة.
عامل مهم يرتبط بالهجرة، وفق “رمضان” يتعلق بسعر الصرف وانخفاض قيمة الجنيه مقابل العملات الأجنبية مع ارتفاع تكلفة المعيشة، لذلك يسعى المصريون إلى توفير نفقات، مشيرًا إلى أن الظروف المعيشية وانخفاض سعر الصرف، قد دفع عدد من أفراد العمالة المصرية في الخارج مؤخرًا لامتهان بعض المهن التي لم تكن منتشرة بين المصريين في السابق، مثل العمل بقطاع النظافة على سبيل المثال في بعض الدول الخليجية.
نوصي للقراءة: من مصر إلى المكسيك: حلم أمريكي تحول إلى كابوس
مصريون بين “شقي الرحى”
في مايو 2019، اضطر حازم محمد (32 عام) ترك بلدته الصغيرة بمحافظة الدقهلية، بعد أن تراكمت عليه الديون، وغادر إلى ليبيا سالكًا طريقًا غير شرعي، ليواجه مأساة تتعلق بطبيعة الوضع القاسي داخل الأراضي الليبية؛ ما دفعه للتفكير مع عدد من رفاقه في الهرب إلى تونس أملًا في المغادرة إلى أوروبا، قبل أن تلقي السلطات القبض عليهم ويتم ترحيل بعضهم والإبقاء على البعض الآخر لأسباب لا يعرفها حازم.
يقول: “الديون كانت تتزايد كل يوم، ومصدر رزقي كان ضعيفًا، يكاد لا يكفي لتلبية احتياجات عائلتي، المكونة من زوجتي وثلاثة أبناء ووالدتي، وعندما فقدت الأمل في الحصول على عمل بأجر مناسب، إذ أنني أمتهن النجارة، لكن لا أمتلك ورشة، وكنت مضطرًا للعمل باليومية بأجر زهيد، لذا قررت الهجرة بحثًا عن فرصة جديدة، حتى لو كانت المغامرة محفوفة بالمخاطر، وعندما وصلت ليبيا وجدت الوضع الأمني متدهور جدًا، ففي حين كنت أتقاضى أجرًا مناسبًا كنت محاطًا بالموت من كل جهة بسبب التنظيمات المسلحة هناك، لذلك قررت السفر إلى تونس ومنها لأوروبا.”
ويضيف: “في تونس، الأمور لم تكن أفضل، وقد فشلنا في المرور لأوروبا بسبب الملاحقة الأمنية من جانب حرس الحدود التونسي، كنت أعيش في ظروف قاسية، مع انعدام الأمان والاستقرار، وقد التقيت بالكثير من المهاجرين الذين يعانون من نفس المشاكل، وما زلت أراهن على الهجرة إلى أوروبا كسبيل للخلاص من معاناتي، لكن الطريق كان مليئًا بالمخاطر، خاصة مع التشديدات الأمنية على الحدود الأوروبية في الفترة الأخيرة. الكثير من الأصدقاء أعرفهم لم يستطيعوا الوصول، وبعضهم تعرض للاحتجاز، ومع ذلك، لا أملك القدرة على التخلي عن هدفي، فقد كان الهرب من الديون والظروف المعيشية الصعبة هو المحرك الرئيسي لي، وحتى اليوم لا أستطيع العودة لأن السجن ينتظرني بسبب تراكم الديون ولجوء أصحابها للمحاكم.”
يستطرد: “كل يوم، أستيقظ على أمل جديد، أمنيتي أن أجد وسيلة للوصول إلى أوروبا، حيث يمكنني بناء حياة جديدة لي ولعائلتي. على الرغم من كل الصعوبات، فإنني أؤمن بأن هناك مستقبلًا أفضل في انتظاري، وأعلم أن التحديات التي أواجهها الآن هي مجرد جزء من رحلتي نحو الحرية والكرامة.”
في مارس الماضي، أوضحت 30 جمعية داعمة لحقوق المهاجرين، في بيان صحفي مشترك، تزايد حالات العنف والعنصرية وكراهية الأجانب في تونس، لا سيما المهاجرين في البلاد، وذكرت في بيانها وصول “العنف المؤسسي والشرطي ذروته مع تزايد شبكات تهريب المهاجرين من جنوب الصحراء، الذين تسلمهم الميليشيات الليبية على الحدود”، وأشارت إلى وجود تواصل بين شبكات التهريب والميليشيات الليبية أثناء نقل المهاجرين قسرا من تونس إلى ليبيا، وإلى تزايد حالات الخطف مقابل فدية خصوصا في مدينة صفاقس.
على عبد الونيس الذي يعيش في أحد الأحياء الشعبية في تونس العاصمة، حيث كانت الظروف المعيشية صعبة للغاية، استأجر غرفة صغيرة في منزل قديم، وبدأ يبحث عن عمل، وجد وظيفة كعامل بِناء، لكن الأجر كان منخفضًا للغاية، بالكاد يكفي لتغطية نفقاته اليومي، كان يعمل لساعات طويلة تحت الشمس، بينما يفكر في عائلته في مصر، ويشعر بالقلق من أنهم يعتمدون عليه، بدأ الخوف يسيطر عليه، خاصة مع تفشي الأخبار عن عمليات الترحيل للمهاجرين غير الشرعيين.
يقول: “لا أملك أي أوراق ثبوتية، فقدتها في رحلتي، ولا أستطيع الذهاب للجهات الرسمية لاستخراج بديل، خشية ترحيلي، في كل مرة أرى فيها رجال الشرطة، يزداد قلبي خفقانًا. كنت أخشى أن تكون تلك اللحظة هي نهاية رحلتي، لحظة الترحيل إلى مصر، حيث لم يعد لدي أي شيء، الغربة قاسية جدًا ودائمًا أشعر بالوحدة، خاصة لأنني لم أكن أتحدث التونسية بشكل جيد؛ ما جعل الاندماج في المجتمع أمرًا صعبًا، حاولت أن أكون حذرًا، وابتعدت عن الأماكن التي قد تثير الشبهات، لكن الخوف كان يسيطر على حياتي اليومية، ما جعلني أشعر أنني أعيش في كابوس.”
نوصي للقراءة: أحلام الهجرة: مسارات خطرة يقطعها أطفال من الريف المصري
هل ترحل تونس المهاجرين المصريين؟
في مايو الماضي، تظاهر مئات الأشخاص في ولاية صفاقس وسط تونس للمطالبة بـ الإجلاء السريع لآلاف المهاجرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، واعتبر النائب البرلماني طارق مهدي أن الوضع “غير مقبول وعلى السلطات إيجاد حل”، وكانت السلطات قد قامت قبل ذلك بأيام بإجلاء بالقوة مئات المهاجرين من مخيمات أقاموها أمام مقر منظمات الأمم المتحدة في العاصمة، قبل أن تقوم بـ”ترحيلهم إلى الحدود الجزائرية”، حسب ما أعلن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
قالت السلطات الأمنية في تونس إن 12 ألفًا و500 مهاجر من دول إفريقيا جنوب الصحراء عادوا إلى بلدانهم منذ بداية العام الجاري، ضمن برنامج الإعادة الطوعية، وقالت إدارة الحرس الوطني إن العديد من المهاجرين غير النظاميين قاموا بتقديم طلبات في مقرات الأمن للعودة إلى دولهم، وكانت السلطات في تونس أطلقت حملة أمنية واسعة لملاحقة مهاجرين غير نظاميين على أراضيها، وذلك أثار انتقادات منظمات حقوقية في البلاد.
ويمثل ملف الهجرة غير الشرعية عامل ضغط كبير على تونس، تسبب بحسب تصريحات رسمية في تفاقم مشاكل البطالة والفقر، إذ يسعى العديد من الشباب للهجرة بحثًا عن فرص أفضل.
هذا الوضع يعكس إحباطًا عامًا ويزيد من نسبة الهجرة داخل المجتمع، ما يؤدي إلى تآكل الثقة في المؤسسات الحكومية. أما على الصعيد السياسي، فإن أزمة الهجرة تُستخدم في بعض الأحيان كأداة للضغط من قبل الأطراف الداخلية والخارجية، كما تعاني الحكومة التونسية من ضغوطات لتحسين إدارة الهجرة والحد من تدفق المهاجرين، بينما تفتقر إلى الموارد اللازمة لتحقيق ذلك. كما أن هذه الأزمة قد تؤثر على استقرار الحكومة وتزيد من انقسامات القوى السياسية، مما يعقد جهود الإصلاح والتنمية، كما تعاني تونس من ضغوطات متزايدة نتيجة تدفق المهاجرين، مما يؤدي إلى زيادة الضغط على الموارد المحدودة. فقد تعاني البنية التحتية، مثل الصحة والتعليم، من اكتظاظ وطلب متزايد، مما يؤثر سلبًا على جودة الخدمات المقدمة للسكان المحليين.
ويقول المحلل السياسي التونسي المختص بقضايا الهجرة، بسام حمدي، إن بلاده تعمل وفق استراتيجية أمنية واسعة لتأمين حدودها مع دول الجوار سواء ليبيا أو الجزائر في ضوء جهودها لمواجهة تدفقات الهجرة غير النظامية، كما تعمل على تطبيق استراتيجية مماثلة على الحدود البحرية مع الدول الأوروبية، لمنع قوارب الهجرة من الوصول للشواطئ الأوروبية، وكذلك منع وقوع عشرات الضحايا نتيجة غرق هذه القوارب في البحر.
وفي حديثه إلى زاوية ثالثة يشير “حمدي” إلى أن تونس انطلقت في البداية من مقاربة أمنية لمحاربة الهجرة غير الشرعية واليوم تبحث مع دول الجوار الأورو متوسطية، ودول شمال إفريقيا خاصة ليبيا والجزائر، لصياغة استراتيجية شاملة تغطي البعد الإنساني والحقوقي والأمني في معالجة ظاهرة الهجرة غير الشرعية.
ويرى أن هناك العديد من الأسباب التي دفعت خلال السنوات الماضية إلى زيادة أعداد المصريين المتسللين إلى الحدود التونسية، رغبة في الإبحار إلى أوروبا، لعل أبرزها حالة عدم الاستقرار السياسي والصراع المسلح على الأراضي الليبية التي تمثل مصدر دخل للكثير من العمال المصريين الذين لجأوا للتسلل عبر الحدود التونسية إلى أوروبا، ويتمثل العامل الثاني في تفشي شبكات الهجرة غير النظامية في داخل تونس خاصة التي تعمل على استغلال الحدود البحرية التونسية الممتدة إلى الحدود الأوروبية.
ويشير “حمدي” إلى أن المهاجرين المصريين يمثلون أكبر جنسية عربية حاولت التسلل خلسة إلى أوروبا عبر الحدود التونسية خلال السنوات الفائتة، نظرًا لأن أعدادهم كبيرة داخل الأراضي الليبية، وهم يبحثون بشكل مستمر عن مصدر رزق بديل بالسفر لأوروبا.
وبخصوص احتمال ترحيل المهاجرين غير الشرعيين المصريين من تونس يقول إن بلاده تتعامل مع هذا الملف وفق ثلاث إجراءات عقابية تدريجية؛ أولها الحبس لمدة ستة أشهر، نظرًا لاجتياز الحدود التونسية خلسة، ثم يتم التعامل معهم بالترحيل إلى دولهم، مؤكدًا أن دخول المصريين والسوريين وبعض العرب الآخرين إلى تونس يمثل عبء كبير على الدولة، التي لها الحق كاملًا في ترحيل أي شخص يتسلل إلى حدودها خلسة، ويحدث ذلك بعد التنسيق الدبلوماسي مع الدول العربية.
وخلال السنوات الماضية رحلت تونس مرارًا مهاجرين مصريين غير شرعيين، لكن مصادر حقوقية تونسية تحدثت مع زاوية ثالثة وفضلت عدم ذكر أسمائها، أكدت أن جميع من تم ترحيلهم خلال السنوات الماضية لم يكن من بينهم نشطاء سياسيين وحقوقيين مطلوبين لدى القاهرة في قضايا سياسية أو أخرى متعلقة بالحريات، وجميعهم من الصيادين أو العمالة المصرية المتسللة عبر الحدود مع ليبيا.
وبسؤاله حول ما إذا كانت تونس قد رحلت نشطاء سياسيين خلال الفترة الماضية، يقول مالك عدلي إن الفترة الماضية لم تشهد ترحيل مطلوبين أمنيًا من الدول التي غادر إليها أعداد كبيرة من المصريين سواء تونس أو تركيا أو قطر، خاصة المرتبطين بقضايا سياسية، وربما الحالات التي حدثت قليلة جدًا وفردية، مشيرًا إلى أن الترتيبات في هذا السياق تتم بشكل سري وفق ترتيبات أمنية بين الدول، وفي الغالب لا يتم الإعلان عنها، و”لا أعتقد أنه تم ترحيل أي نشطاء سياسيين في الفترة الأخيرة من تونس لمصر، لكن في حالة المهاجرين غير الشرعيين يتم إعادتهم إلى دولهم، ويحدث ذلك مع مصر كما يحدث مع غالبية المهاجرين من مختلف الدول”.
في النهاية، تعكس الأوضاع القاسية التي يعيشها المصريون في الخارج، خاصة المهاجرين غير الشرعيين إلى تونس مرآة أكثر قتامة عن حياة المصريين بوجه عام، فهم يهربون من الأزمات بحثًا عن الأمل والحياة الكريمة، ليواجهوا سيل آخر من المصاعب، وعدم الشعور بالأمان، خاصة في دولة مثل تونس التي تشهد أزمات اقتصادية وسياسية، من تزايد المشاعر المعادية للمهاجرين، مما يزيد من حدة الأزمات التي يعيشها هؤلاء الأفراد، الذين يحملون آمالًا وطموحات لا تتناسب مع الواقع الذي يواجهونه.
تُعتبر هذه التحديات بمثابة اختبار للكرامة الإنسانية، حيث يفتقر المهاجرون إلى الحماية والحقوق الأساسية، مما يضعهم في مواقف صعبة، لذا، من الضروري أن تتخذ الحكومات والمنظمات الدولية خطوات جدية لتعزيز حقوق المهاجرين وتوفير الدعم اللازم لهم، بما يضمن لهم حياة كريمة، ولا شك أن معالجة أزمة الهجرة تتطلب رؤية شاملة، تهدف إلى تحقيق التعاون بين الدول وتوفير بيئات آمنة وملائمة للمهاجرين، بدلاً من الإقصاء والتمييز، وإن كان الأولى أن توفر لهم بلادهم حياة عادلة وكريمة.