في أوج أزمة نقص الدولار التي اجتاحت الأسواق المصرية خلال عامي 2023 و2024، حين بلغ الفارق بين السعر الرسمي والموازي للعملة الأجنبية مستويات غير مسبوقة، بدأت الدولة تحركًا واسع النطاق على أكثر من جبهة لاحتواء التداعيات. شمل هذا التحرك تشديد الرقابة على الجهاز المصرفي، وتفعيل أدوات البنك المركزي لضبط السوق، في مشهد اتسم بالقلق والتكهنات. وفي خضم هذه الأجواء المضطربة، برزت إلى السطح قضية جنائية معقدة تورط فيها مصرفيون ورجال أعمال، في اتهامات بتقديم وتلقي رشى لتسهيل تدبير العملة الصعبة خارج الأطر القانونية المعتمدة، بحسب ما ورد في التحقيقات الرسمية.
القضية، التي تتداخل فيها الأبعاد الاقتصادية والقانونية والإدارية، تعكس ارتباطًا وثيقًا بالسياق العام للأزمة، وتعكس أيضًا حجم الضغوط التي عانى منها كل من المستثمرين والعاملين في القطاع المصرفي، في ظل غياب رؤية واضحة للسياسات النقدية وتعدد دوائر اتخاذ القرار. كما تعكس حالة الارتباك التي أصابت السوق الرسمية، والتي دفعت العديد من الفاعلين الاقتصاديين إلى البحث عن حلول بديلة — بعضها خارج نطاق القانون — لتلبية متطلبات الاستيراد أو الوفاء بالالتزامات الخارجية.
وبين واقع اقتصادي مأزوم، وملاحقات قانونية مشددة، تبرز هذه القضية كنموذج دال على تعقيدات المرحلة، وتثير تساؤلات جوهرية حول عدالة هذه الملاحقات، وهامش الخيارات المتاح أمام المتعاملين مع الجهاز المصرفي في فترات الاختناق المالي، فضلًا عن انعكاسات مثل هذه القضايا على ثقة المستثمرين في البيئة التنظيمية والنقدية في البلاد.
رشوة مقابل تسهيلات
وفقًا للتحقيقات الرسمية التي أجرتها نيابة أمن الدولة العليا، ووثائق حصلت عليها “زاوية ثالثة”، تُعد القضية الراهنة واحدة من أكبر ملفات الرشوة المرتبطة بسوق النقد الأجنبي خلال أزمة الدولار بين عامي 2023 و2024. إذ تتهم النيابة مسؤولًا مصرفيًا رفيعًا، كان يشغل منصب نائب العضو المنتدب ببنك كريدي أجريكول مصر وعضوية لجنة الصرف الأجنبي بالبنك، بتلقي مبالغ مالية كبيرة من اثنين من رجال الأعمال، مقابل تسهيلات استثنائية في تدبير العملة الأجنبية لصالح شركتهما.
بلغ إجمالي ما تلقاه المسؤول، وفق أوراق القضية، 2 مليون جنيه مصري، و515 ألف دولار أمريكي (ما يعادل نحو 26 مليونًا و265 ألف جنيه مصري بسعر الصرف الرسمي)، و89 ألفًا و400 يورو (تعادل قرابة 4 ملايين و917 ألف جنيه مصري)، لتصل القيمة الإجمالية للرشوة إلى أكثر من 33 مليون جنيه مصري.
مقابل ذلك، أصدر المسؤول تعليمات شفهية لمرؤوسيه بتدبير النقد الأجنبي لصالح شركتي “إم إف للاستيراد والتصدير والتوكيلات التجارية” و**”مكتب فاروق للتجارة”، اللتين يمتلكهما المتهمان الثاني والثالث، في 74 معاملة استيرادية بلغت قيمتها الإجمالية نحو 13.374 مليون دولار أمريكي (682 مليون جنيه مصري)، و95.199 ألف يورو** (5.2 مليون جنيه مصري تقريبًا)، بإجمالي يقارب 700 مليون جنيه مصري من العملات الأجنبية دُبرت لصالح الشركتين في توقيت كانت فيه السوق تعاني من شح شديد في الدولار.
وبحسب ما ورد في محاضر التحقيق، بدأت خيوط القضية إثر شكوى إلكترونية وردت إلى الإدارة المركزية لمكافحة الاحتيال في البنك المركزي المصري، قدّمها أحد الموظفين، تفيد بتلقي نائب العضو المنتدب في بنك كريدي أجريكول توجيهات شفهية غير معتادة لتوفير النقد الأجنبي لشركة “إم إف”، على نحو يخالف أولوية التخصيص المصرفي.
وأفاد مصطفى أحمد سيد، مدير الإدارة المركزية لمكافحة الاحتيال بالبنك المركزي، أن فحص الشكوى أظهر أن المسؤول المصرفي أودع 2 مليون جنيه مصري في حسابه الشخصي ببنك الكويت الوطني، بموجب شيك صادر من شركة “إم إف” على حسابها في فرع بنك الكويت الوطني الإسلامي بالإسكندرية.
وعززت لجنة فنية من البنك المركزي المصري هذه الاتهامات، إذ أثبتت وجود مخالفات مصرفية واضحة، وخلصت إلى أن المسؤول المتهم أصدر تعليمات مباشرة لتمرير 63 عملية تدبير عملة لصالح “إم إف” بمبالغ ضخمة، فضلًا عن 11 معاملة إضافية تم تنفيذها رغم غياب الرصيد المقابل بالجنيه المصري، بالمخالفة الصريحة للسياسات المصرفية المعمول بها.
وأشارت اللجنة، المكوّنة من: محمد خيري عثمان (مدير عام قطاع الرقابة الميدانية)، ووائل نبيل صبري (محقق بالاحتيال الخارجي)، وأحمد محمد محفوظ (مصرفي “أ”)، إلى أن هذه العمليات تمت بتفضيل واضح لشركة واحدة على حساب شركات أخرى أعلى تصنيفًا، بما في ذلك شركات استيراد دواء كان يفترض أن تحظى بالأولوية، وفق تعليمات البنك المركزي في تلك الفترة.
تحريات الرقابة الإدارية
وطلبت النيابة تحريات هيئة الرقابة الإدارية حول الواقعة، حيث أعدها شريف محمود رأفت، 41 سنة، عضو بهيئة الرقابة الإدارية، والذي أكد بالتحقيقات أن تحرياته أسفرت عن مخالفة المتهم الأول الأعراف المصرفية لجهة عمله والخاصة بتدبير العملات من النقد الأجنبي، وذلك بأن أصدر توجيهات فورية لمرؤوسيه المختصين بتدبير مبالغ من النقد الأجنبي لصالح الشركة مارة الذكر، وذلك بواقع 10 مليون و500 ألف دولار أمريكي وهو ما يوازي نحو 535 مليون و500 ألف جنيه مصري، مرتفعًا بالحد المصرفي لها بدرجة تزيد عن العملاء الآخرين رغم كونهم من الشركات الكبرى التي تفوق الشركة سالفة الذكر في التصنيف المصرفي.
كما أضافت تحرياته بتلقي المسؤول المصرفي المتهم مبالغ مالية في حساباته لدى البنوك المصرية من المتهم الثاني خلال فترات زمنية تعاصرت وفترات تدبير النقد الأجنبي إليه من البنك جهة عمل المتهم الأول دون وضوح الغرض من تلك المبالغ المالية المحولة إلى حساباته.
وأكمل بأن تحرياته دلته كذلك إلى قيام المتهم الأول بتوجيه الموظف المختص بالتصنيف المصرفي لعملاء البنك برفع تصنيف الشركة الخاصة بالمتهمين الثاني والثالث من فئة شركات صغيرة ومتوسطة إلى عميل شركات كبرى لتسويغ تدبير المبالغ الأجنبية إليها.
عقب انتهاء التحقيقات في القضية وجهت النيابة العامة إلى المتهم الأول في قرار إحالته إلى المحاكمة الجنائية تهمة أنه بصفته في حكم الموظف العام (نائب العضو المنتدب ببنك كريدي أجريكول مصر وقت الواقعة، والذي يسهم في ماله إحدى الهيئات الحكومية والخاضع لرقابة وإشراف البنك المركزي المصري وهو عضو لجنة الصرف الأجنبي بالبنك المنوط بها وضع الضوابط ورسم السياسات وإصدار التعليمات الخاصة بتدبير النقد الأجنبي لعملاء البنك) قبل وأخذ لنفسه عطية للإخلال بواجبات وظيفته.
وكان ذلك بأن قبل وأخذ من المتهمين الثاني والثالث مبالغ مالية بلغ مقدارها 2 مليون جنيه مصري، و515 ألف دولار أمريكي وهو ما يوازي نحو 535 مليون و500 ألف جنيه مصري، و89 ألف و400 يورو أي ما يوازي نحو 4 ملايين و918 ألف جنيه، على سبيل الرشوة.
وكان ذلك مقابل إخلاله بواجبات وظيفته بإصدار تعليماته الشفوية لمرؤوسيه المختصين – دون مقتضى – بتدبير النقد الأجنبي لعدد 63 معاملة لصالح عمليات استيرادية خاصة بشركة (إم أف – للإستيراد والتصدير والتوكيلات التجارية)، خاصة بالمتهمين الثاني والثالث بمبالغ إجماليها 10 ملايين و500 ألف دولار أمريكي وهو ما يوازي نحو 535 مليون و500 ألف جنيه مصري، بزعم بلوغها درجة من التصنيف المصرفي تمنحها تلك الإمكانية رغم عدم تمتعها بذلك بالمخالفة للحدود المسموح بتدبيرها لفئتها من ذات فئة هذه الشركات حسب الأعراف المصرفية والتوجه الاقتصادي بمنح الأولوية للشركات المستوردة للسلع والمنتجات ذات الأهمية الاستراتيجية.
كما أصدر تعليمات شفوية إضافية لمرؤوسيه المختصين بالسماح بتدبير مبلغ 2 مليون و874 ألف و32 دولار أمريكي أي ما يوازي نحو 146 مليون و576 ألف جنيه، وأيضًا مبلغ 95 ألف و199 يورو وهو ما يوازي نحو 5 ملايين و236 ألف جنيه مصري، والخاصة بعدد 11 عملية استيرادية للشركة المذكورة من إجمالي العمليات المار بيانها رغم عدم وجود رصيد بالعملة الوطنية بحساباتها لدى البنك آنف البيان يقابل هذه القيمة، بالمخالفة لما هو مقرر مصرفيًا بإلزامية وجود رصيد من العملة الوطنية يعادل قيمة النقد الأجنبي المبتغى لصالح العمليات الاستيرادية السابق ذكرها.
كما وجهت النيابة العامة له تهمة أنه حصل لغيره بدون حق على منفعة من عمل من أعمال وظيفته، بأن حصل للشركة مارة الذكر على منفعة تدبير مبالغ من النقد الأجنبي المذكورة، وذلك بأن أصدر تعليماته لمرؤوسيه المختصين بتدبير المبالغ المالية الأجنبية لهذه الشركة رغم عدم وجود ما يعادلها من رصيد بحساباتها لدى ذات البنك بالجنيه المصري، بالأولوية عن عملاء البنك من ذات الفئة الائتمانية لهذه الشركة، مخالفًا القواعد والتعليمات المصرفية المعمول بها في هذا الشأن، قاصدًا من ذلك تظفير الشركة بمنفعة تدبير المبالغ المالية الأجنبية محل التدبير.
ووجهت النيابة إلى المتهمين الثاني والثالث تهمة أنهما قدما رشوة لموظف عمومي لإخلاله بواجبات وظيفته، بأن قدما للمتهم الأول مبالغ الرشوة المذكورة، كما اشتركا معه بطريقي الاتفاق والمساعدة في ارتكاب الجريمة، وكان ذلك بأن اتفقا معه على ارتكابها وساعداه بأن تقدما بعدد 63 طلبًا لتدبير النقد الأجنبي، وبناء عليها استغل المتهم سلطات وظيفته وأعطى تعليمات لمرؤوسيه بصرفها.
ثغرات قانونية تُضعف القضية
في تصريح إلى”زاوية ثالثة”، كشف الخبير القانوني مصطفى علوان، المحامي بالنقض والإدارية العليا ورئيس مؤسسة “رايتس” للاستشارات القانونية والتحكيم الدولي، عن ثغرات قانونية جوهرية في القضية، مشيرًا إلى أن التهم المنسوبة للمتهم الأول، خاصة الرشوة واستغلال النفوذ، تفتقر إلى الأركان القانونية اللازمة لإثباتها.
وأوضح علوان أن “الركن المادي” للجريمة غير متوافر بوضوح، إذ أن التعليمات التي أصدرها المسؤول المصرفي للمرؤوسين تمت بشكل شفهي وداخل إطار صلاحياته كعضو في لجنة الصرف الأجنبي، وهي لجنة مخولة أصلاً بتقدير أولويات تدبير النقد الأجنبي بناءً على المستجدات الاقتصادية اليومية.
وأشار إلى أن القصد الجنائي – وهو ما يُعرف بالركن اليقيني في تهمة الرشوة – لا يمكن إثباته في ظل غياب قرائن حاسمة على وجود نية جنائية. كما شدد على عدم وجود تضارب مصالح واضح بين المتهم والشركة المستفيدة، ما يضعف من إمكانية توصيف الواقعة كرشوة مكتملة الأركان، على حد قوله.
واختتم علوان بأن ثمة سوابق قضائية مماثلة انتهت بالبراءة لغياب الدليل القاطع، مؤكدًا أن هذه النقاط تمثل محاور دفاع قوية يمكن البناء عليها في حال إحالة القضية للمحاكمة.
وتابع علوان أن القضية تفتقر كذلك إلى عنصر تضارب المصالح، وهو أحد المرتكزات التي تُبنى عليها اتهامات استغلال النفوذ، مؤكدًا أن التحقيقات لم تُثبت وجود صلة وظيفية أو شخصية مباشرة بين المتهم الأول وأي من الممثلين القانونيين للشركة محل التدبير، كما لم تقدم النيابة أي دلائل على وجود علاقة سابقة أو حالية يمكن أن تفسّر منح التيسيرات المصرفية باعتبارها ناتجة عن مصالح متبادلة أو ضغوط غير مهنية.
وأشار إلى أن السوابق المماثلة في القطاع المصرفي تكشف عن وجود حالات عديدة اتُّخذت فيها قرارات مشابهة، تتعلق بتقديم أولوية لطلبات شركات دون غيرها، دون أن تُعد تلك الحالات محل تجريم، لا سيما إذا تم الأمر ضمن صلاحيات لجنة الصرف أو إدارة النقد الأجنبي، ووفق تقدير فني للظروف الطارئة في السوق.
وختم علوان حديثه إلى زاوية ثالثة بالإشارة إلى أن الملف، كما عُرض في أوراق القضية، يبدو في نظر الدفاع أقرب إلى ملف رقابي أو إداري أكثر منه قضية جنائية مكتملة الأركان، مطالبًا بضرورة التفريق بين الخطأ التقديري في القرارات المصرفية والنية الجرمية التي تستوجب العقوبة، معتبرًا أن التوسع في تجريم القرارات المالية تحت ضغط الرأي العام أو التصعيد الأمني قد يُضعف من استقلالية القطاع المصرفي ويؤثر على أداء كوادره في ظروف الأزمات.
ويضيف الخبير القانوني مصطفى علوان أن هذا التفسير يتسق مع مبدأ المسؤولية التأديبية لا الجنائية، إذ أن أقصى ما يمكن تحميله للمتهم ـ إن ثبت وجود خلل في التقدير المهني ـ هو مساءلة إدارية داخلية وفق لوائح البنك، لا إحالة جنائية على أساس تهم الرشوة أو استغلال النفوذ. ويُذكّر بأن قانون العقوبات المصري يفرّق بين الخطأ التأديبي والانحراف الجنائي، ويشترط لقيام الجريمة الجنائية توافر ركني القصد الجنائي الخاص والمقابل المادي بشكل لا يقبل التأويل.
ويؤكد علوان أن غياب الدليل القاطع على وجود منفعة متبادلة أو أي اتفاق مسبق بين الطرفين، سواء شفهيًا أو كتابيًا، يُضعف القضية بشكل جوهري، مشيرًا إلى أن السوابق القضائية تؤكد أن الاتهام لا يمكن أن يُبنى على “الاستنتاجات أو الظنون”، بل يحتاج إلى “أدلة مادية دامغة”، وهو ما لم يتوفر في هذا الملف.
ويختتم بالإشارة إلى أن هذه القضية تُمثّل اختبارًا مهمًا لموازنة الدولة بين حماية الشفافية في القطاع المصرفي من جهة، والحفاظ على حق الموظف في اتخاذ قراراته المهنية دون تهديد بالعقوبة الجنائية من جهة أخرى. وفي ضوء ما تقدم، يرى أن إحالة المتهم للمحاكمة دون توافر الشروط القانونية الواضحة، يشكّل سابقة قد تزعزع ثقة العاملين بالقطاع المصرفي وتدفعهم إلى التخوف من الاجتهاد أو المبادرة في ظروف اقتصادية ضاغطة.
أزمة الدولار أعادت رسم الأولويات
يؤكد الدكتور وائل النحاس، الخبير الاقتصادي وأستاذ الاقتصاد السياسي، في حديثه إلى “زاوية ثالثة”، أن تخصيص مبلغ يقارب 700 مليون جنيه لشركة واحدة في ذروة أزمة الدولار “يُعد قرارًا جريئًا من الناحية الاقتصادية، لكنه لا يرقى إلى مستوى الجريمة ما لم تُثبت المحكمة وجود منفعة شخصية تلقاها المسؤول المصرفي مقابل هذا التخصيص”. ويرى أن التمييز بين الشركات كان شائعًا خلال تلك المرحلة الحرجة نتيجة نقص السيولة، وكان يُبنى غالبًا على اعتبارات داخلية أو حسب طبيعة النشاط، ما يجعل الملف أكثر تعقيدًا من مجرد توصيف قانوني مباشر.
ويشدّد النحاس على أن المحاكمة وحدها ستحدد ما إذا كانت هناك منفعة شخصية غير مبررة، أو تجاوز للإجراءات المؤسسية، مؤكدًا أن “حتى في حال ثبوت خلل إداري في آلية تدبير النقد الأجنبي، فإن ذلك لا يعني تلقائيًا ارتكاب جريمة رشوة، التي تتطلب توافر القصد الإجرامي والعائد الشخصي المباشر”.
ويضيف أن القضية تطرح من جديد ضرورة إصلاح منظومة تدبير العملة الأجنبية داخل البنوك المصرية، وضرورة إقرار قواعد شفافة لتحديد أولويات التمويل خلال الأزمات، لحماية الموظفين من الوقوع في شبهات قانونية بسبب غياب السياسات المؤسسية الصارمة.
وفي ما يخص استخدام المبالغ المخصّصة، يشير إلى أن التحقيقات “لم تُثبت وجود مضاربة مباشرة على الدولار من جانب الشركة”، رغم تداول هذا الاحتمال، مضيفًا أن “وجود 74 معاملة مثبتة باسم الشركة يوحي باستخدام الأموال في أنشطة استيرادية حقيقية”. كما يلفت إلى أن كثيرًا من الشركات خلال تلك الفترة مارست أساليب التفافية على القيود المصرفية، مثل الاستيراد لصالح الغير، أو التعامل مع شركات تمتلك أرصدة دولارية، وهي ممارسات لم تكن مجرّمة، بل تم التساهل معها مؤسسيًا في ظل الأزمة.
ويتابع: “جوهر القضية، كما ورد في قرار الاتهام، يتعلق باستغلال ظرف اقتصادي استثنائي لاختراق السياسة النقدية، من خلال تمكين شركة خاصة من شراء الدولار واليورو بالسعر الرسمي مقابل تحويلات مشبوهة لمسؤول مصرفي، وهو ما يخالف اللوائح، لكنه لا يُعتبر إدانة إلا إذا تم إثبات القصد الجنائي أمام المحكمة”.
ويختم بالقول: “الحسم لن يكون بالشعور العام أو الانطباعات، بل بالوثائق والمستندات. فالقانون لا يُدين إلا الأفعال المثبتة، والتمييز بين الخطأ الإداري والنية الجنائية سيكون حاسمًا في تحديد مصير القضية”.
أقسى مواد الاتهام
في حديث خاص إلى “زاوية ثالثة”، كشف الخبير القانوني صالح حسب الله الجبالي، المحامي بالنقض والدستورية العليا، أن المتهمين في القضية يواجهون اتهامات بموجب 11 مادة من قانون العقوبات المصري، تتعلق بجرائم الرشوة واستغلال النفوذ، مشيرًا إلى أن هذه المواد تشمل مختلف صور الجريمة من عرض وتقديم وتوسط، وهو ما يعكس خطورة الملف وتشعبه.
وبحسب الجبالي، فإن العقوبة الأقصى تطال المسؤول المصرفي المتهم الأول، الذي يواجه وفق المادة 103 من القانون تهمة طلب أو قبول عطية مقابل أداء عمل وظيفي، وهي جريمة تصل عقوبتها إلى السجن المؤبد وغرامة تعادل ما أُعطي أو وُعد به. وتُشدّد المادة 104 هذه العقوبة إذا كان المقابل الامتناع عن أداء العمل أو الإخلال بواجبات الوظيفة.
أما المتهمان الثاني والثالث، فلهما وضع قانوني مختلف، إذ اعترفا خلال التحقيقات بتفاصيل عرض الرشوة والتوسط فيها، ما يتيح لهما – وفقًا للمادة 107 مكرر – الحصول على الإعفاء الوجوبي من العقوبة حال الإقرار الكامل بوقائع الجريمة، وهو ما تم بالفعل بحسب محاضر التحقيق.
ويشير الجبالي إلى أن المتهمين يواجهون أيضًا اتهامات بموجب المادتين 40 و41، اللتين تُجرّمان التحريض أو الاتفاق على ارتكاب الجريمة، وتساويان في العقوبة بين الفاعل الأصلي وكل من حرّض أو شارك. كما تنطبق المادة 111 من القانون على حالة المسؤول المصرفي، نظرًا لطبيعة المؤسسة التي يعمل بها، حيث تشمل الجريمة أعضاء إدارات الشركات والمؤسسات التي تسهم الدولة في رأسمالها بأي نسبة.
وبالإضافة إلى ما سبق، يحيل قرار الاتهام إلى المادة 115 التي تجرّم إساءة استغلال السلطة وتعطيل القوانين أو الأوامر الرسمية، ما يعرض الموظف العام للحبس والعزل. كما ترد المادتان 118 و118 مكرر، المتعلقتان بإلحاق الضرر بأموال الجهة التي يعمل بها الموظف، سواء عن عمد أو بسبب الإهمال والرعونة، ضمن قائمة الاتهامات، وهو ما يضع المسؤول المصرفي تحت طائلة مواد متعددة تتدرج من الإهمال الإداري إلى الإضرار العمدي.
ويختم الجبالي بالإشارة إلى أن أخطر ما يواجه المتهم الأول هو المادة 119، التي تعاقب على اختلاس المال العام أو تسهيل ذلك للغير بالسجن المؤبد المشدد، مشيرًا إلى أن ورود هذه المادة ضمن الاتهامات يجعلها الحد الأقصى المحتمل للعقوبة في حال الإدانة الكاملة، وهي عقوبة لا يجوز النزول عنها قانونًا.
العدالة أم التصفية؟
في لحظة سياسية واقتصادية بالغة الحساسية، تخرج هذه القضية إلى العلن، محمّلة بدلالات تتجاوز الإطار الجنائي التقليدي، لتمس صميم العلاقة بين السلطة الاقتصادية والمؤسسات الرقابية، وتكشف طبيعة التداخل بين رجال المال والأعمال، الذين لطالما قُدّموا شركاء في دعم الاقتصاد، فإذا ببعضهم اليوم يقفون في مرمى الاتهام.
فهل تمثل هذه القضية تحركًا جادًا لضبط السوق ومحاسبة المخالفين؟ أم أنها تكشف عن صراع مصالح خفي، أو محاولة لتحويل الأنظار عن إخفاقات سياسات نقدية عمّقت من أزمة العملة الأجنبية؟ وهل كان المتهمون فاعلين أساسيين في شبكة فساد ممنهجة، أم مجرّد أدوات في مشهد مرتبك رسمته ضغوط السوق وغموض التوجيهات؟
وما انعكاسات هذه القضية على مناخ الاستثمار في مصر؟ هل تعزز الثقة في بيئة أعمال أكثر شفافية وخضوعًا للمساءلة؟ أم تكرّس مخاوف المستثمرين من استخدام أدوات العدالة الجنائية في تصفية الحسابات الاقتصادية أو السياسية؟
في كل الأحوال، يصعب فصل هذه المحاكمة عن سياقها الأوسع، كما لا يمكن تقدير نتائجها دون التوقف عند ما سيليها من تحولات وتشريعات ومواقف رسمية. لكن الثابت أن فصول هذه القضية تُكتب في لحظة فارقة، وأن طريقة قراءتها ستسهم في تشكيل ملامح المرحلة المقبلة، اقتصاديًا ورقابيًا وسياسيًا.