تواجه مصر تحديات اقتصادية كبيرة بعد النقص الحاد للعملة الصعبة، ما جعلها تخفض قيمة الجنيه أكثر من مرة العام الماضي، لتقفز معدلات التضخم في البلاد إلى مستويات غير مسبوقة.
ومنذ نوفمبر 2016، تم خفض قيمة العملة المصرية أربع مرّات، الأولى في نوفمبر 2016 حيث قفز سعر الدولار من 8 جنيهات للدولار الواحد إلى 19 جنيهًا، ليستقر بعد ذلك عند مستوى 16 جنيه. والثانية في مارس 2022، بعد الحرب في أوكرانيا، حيث تم خفض قيمة الجنيه ليتراجع من مستويات في حدود الـ 16 جنيها أمام الدولار إلى 18 جنيهًا. وجاء الخفض الثالث كان في شهر أكتوبر الماضي، مع الاعتماد على سعر صرف مرن للجنيه الذي وصل إلى ما بين 22 إلى 24 جنيهًا للدولار. وفي الشهر الأول من العام الجاري تم خفض قيمة العملة لتصل إلى دون الـ 31 جنيهًا أمام الدولار.
لكن السعر المعروض في البنوك، هو سعر لا تعترف به البنوك المصرية ذاتها، حيث تمتنع عن تلبية طلبات الراغبين في شراء الدولار منها، بزعم عدم توافر العملات الأجنبية لديها، وبالتالي يلجأ الراغبون في شراء الدولار إلى السوق السوداء، وهناك وصل سعر الدولار اليوم الجمعة في آخر تعاملاتهاإلى 51 جنيهًا و25 قرشًا وفق ما تظهر تطبيق “بكام في السوق السودا” الذي يجري تحديثًا مستمرًا لأسعار العملة الصعبة في السوق الموازية (غير القانونية).
السوق السوداء
رغم عدم قانونيتها إلا إن السوق السوداء الموازية للسوق الرسمية يعترف بها الجميع، تنشر الجرائد المصرية يوميًا أسعار الدولار في السوق السوداء كأمر طبيعي، وتنتشر التطبيقات التي يستخدمها التجار أو الزبائن لمعرفة أسعار الدولار في السوق السوداء، ذلك بالإضافة إلى المجموعات الخاصة بالسوق السوداء على فيسبوك وتليجرام لمن يرغب في البيع أو في الشراء، وهناك أيضًا يمكنك أن تجد عروضًا مميزة.
وتنص المادة 233 من قانون البنوك 194 لسنة 2020 على العقاب بالسجن مدة لا تقل عن 3 سنوات ولا تزيد على 10 سنوات، وبغرامة لا تقل عن مليون جنيه ولا تجاوز 5 ملايين جنيه، أو المبلغ المالي محل الجريمة أيهما أكبر، لكل من تعامل في النقد الأجنبي خارج البنوك المعتمدة أو الجهات المرخص لها بذلك -شركات الصرافة- وفي جميع الأحوال تُضبط المبالغ والأشياء محل الدعوى ويُحْكم بمصادرتها، فإن لم تُضبط، حُكم بغرامة إضافية تعادل قيمتها.
لكن هل يهتم المصريون بعدم قانونية السوق السوداء؟
“السوق السوداء بتتحكم في الأسعار، وأنا مش هبيع جرام ذهب واحد بسعر البنوك، احنا هنضحك على بعض؟” هكذا يقول جورج، صائغ الذي يعتبر أن اعتماد سعر الدولار الرسمي في البنوك سيؤدي إلى خسارة مالية أكثر من 35% وفق تقديراته.
أحد الناشطين في السوق السوداء يعمل في صرافة بالإسكندرية، يخبر زاوية ثالثة أن التجارة في العملة “أكل عيش حلال” ويضيف أنهم يساعدون الطلاب الذين يريدون الدراسة في الخارج ولا يجدون عملة صعبة، أو المسافرين من أجل العلاج أو حتى العمل والسياحة، لكنه يعتقد أن المكاسب الحقيقة تأتي من وراء التجار الذين يريدون دفع أسعار بضائعهم. ويضيف “الحال لا يقف، هناك دائمًا من يريد تحويل الجنيه إلى دولار لحفظ قيمته، فيلجأ إلى السوق السوداء”.
يقول أحمد فايز رجل أعمال ناشيء وفق وصفه لنفسه أنه يملك شركة صغيرة للاستيراد من بلدان مختلفة، وأنه يتعامل بالدولار دائمًا وأن شركته تستورد مستلزمات تعبئة، وتغليف وأثاث ومعدات زراعية ويعتبر أنه لا يستطيع العمل من دون توفير الدولار، وأنه يلجأ إلى السوق السوداء والحكومة تعلم أننا جميعًا نلجأ إليها لأن الحال سيتوقف اذا لم نفعل، ويضيف فايز عن قانونية العملة السوداء أنه على الحكومة توفير العملة في البنوك إذا أرادت أن تتوقف السوق السوداء.
ومنذ الربع الأول من العام الحالي، عاد نشاط السوق السوداء بالدولار للنشاط، وجاء ذلك النشاط الذي تشارك فيه بعض محلات الذهب وبعض العاملين بشركات الصرافة وغيرها من الأنشطة خارج مقار الشركات، رغم العقوبات القاسية التي فرضها القانون على الاتجار بالعملات الأجنبية.
تراجع تحويلات المصريين بالخارج
اختار العديد من المصريين الطريق غير الرسمية لتحويل أموالهم إلى مصر، ما أدى إلى انخفاضًا كبيًرا في الأرقام الرسمية لتحويلات المصريين بالخارج، وتشكل هذه التحويلات مصدرًا أساسيا للنقد الأجنبي في مصر.
حيث تراجعت تحويلات المصريين العاملين في الخارج خلال العام المالي 2022-2023، بنسبة 30.8% على أساس سنوي، بحسب بيانات رسمية.
أظهرت بيانات البنك المركزي المصري بشأن معاملات الاقتصاد مع العالم الخارجي، خلال العام المالي 2022-2023، تراجع تحويلات المصريين العاملين في الخارج خلال العام المالي الماضي، إلى 22.1 مليار دولار، مقابل 31.9 مليار دولار في العام المالي السابق.
أحد العاملين في المملكة العربية السعودية يؤكد في حديثه لنا أنه لم يعد يرسل لأهله في مصر سوى مبالغ صغيرة جدًا للضرورة عبر البنوك، وأنه يفضل إرسال الأموال عن طريق أصدقاؤه الذي يذهبون إلى راحة في مصر ليسلمهم المبالغ المالية باليد، حتى يتمكن أهله من تغيير العملة في السوق السوداء ويحصلون على قيمة عادلة.
تخفيض مرتقب للجنيه
تشير تقديرات “فيتش سوليوشنز” إلى ارتفاع محتمل في تحويلات المصريين في الخارج خلال العام المالي الجاري 2023-2024 بنسبة تصل إلى 10 بالمئة،وبنت “فيتش” تقديراتها بناءً على ترجيحاتها بخفض محتمل لقيمة العملة المصرية خلال الفترة المقبلة، حيث توقعت رامونا مبارك، رئيسة إدارة المخاطر بمنطقة الشرق الأوسط في فيتش سوليوشنز، ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه لما بين 40 إلى 45 جنيهًا خلال الربع الأول من العام المقبل في السوق الرسمية.
وقالت عن تداعيات حرب غزة 2023 على اقتصادات منطقة الشرق الأوسط إن مصر أكثر البلدان تأثرًا بالحرب في منطقة شمال إفريقيا، بسبب حدودها مع غزة وإسرائيل، ذلك بالإضافة إلى الأوضاع الاقتصادية التي تعاني منها مصر منذ مارس 2022.
وذكرت فيتش سوليوشنز أن “مصر تواجه حاليا ضغوطا متزايدة على مركزها الخارجي بسبب ارتفاع احتياجات التمويل الخارجي وسط تدفقات رأس المال المحدودة”، مشيرة إلى أن “السلطات ستكون قادرة على التغلب على هذه الضغوط من خلال برنامج صندوق النقد الدولي والدعم المالي من أسواق مجلس التعاون الخليجي”. لكنها أكدت أن “الوقت هام للغاية، لأن ضآلة احتياطي النقد الأجنبي لا تترك للحكومة سوى مجال محدود للحركة لا تسمح بأخطاء أو تأخير في تأمين التمويل”.
وأضافت أن “تحقق هذه المخاطر من شأنه أن يضعف العملة أكثر مما نتوقع حاليًا، وهو ما سوف يؤدي إلى تفاقم الضغوط التضخمية وارتفاع المخاطر السياسية وزيادة تباطؤ النشاط الاقتصادي”.
وأشارت إلى أن أهم المخاطر التي تواجه الاقتصاد المصري في المدى القريب هي “العجز المالي الكبير، الأمر الذي سيستغرق بعض الوقت لمعالجته بسبب ارتفاع تكاليف خدمة الديون، كما أن استنفاد جميع خيارات التمويل الخارجي تقريباً يجعل البلد عرضة للصدمات”.
وتحدثت الشركة عن “اعتماد القطاع الصناعي بشكل كبير على المواد المستوردة، وهو ينتج سلعا ذات قيمة مضافة منخفضة، مما يعني أن صافي الصادرات غير الهيدروكربونية لا يزال يواجه صعوبات في الانطلاق، إضافة إلى ارتفاع مستويات الفساد والبيروقراطية، فضلا عن استمرار الوجود الكبير للجهات الفاعلة المرتبطة بالدولة والجيش في الاقتصاد على حساب القطاع الخاص”.
هل تستمر الأزمة؟
قال رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، إن أزمة العملة التي تعاني منها البلاد هي أزمة عابرة وستنتهي خلال فترة بسيطة للغاية. واعتبر مدبولي في تصريحات السبت الماضي أن «الأهم هو ما بعد ذلك، والدرس الذي تعلمناه من الأزمة العالمية والاقتصادية أنه لا بد لنا كدولة أن نملك مقدرات إنتاجنا بأكبر قدر ممكن.
ويتعين على مصر سداد أقساط وفوائد ديون مستحقة خلال العام المقبل بقيمة 29.229 مليار دولار، بحسب تقرير الوضع الخارجي للاقتصاد المصري الصادر عن البنك المركزي المصري.
وفي أكتوبر الماضي، اتفقت مصر على حزمة دعم مالي بقيمة ثلاثة مليارات دولار مع صندوق النقد الدولي، وتعهدت القاهرة بتحول دائم إلى سعر صرف مرن، إلا أن هذا لم يتحقق بعد.
وفي 22 مارس، أعلن البنك الدولي أنه وافق على شراكة استراتيجية جديدة مع مصر للسنوات من 2023 إلى 2027 بتمويل قدره سبعة مليارات دولار مع التركيز على خلق المزيد من فرص العمل في القطاع الخاص ودعم تقديم خدمات صحية وتعليمية أفضل ودعم تدابير التكيف مع تغير المناخ.
وقال البنك في بيان إن الاتفاق يتضمن تقديم مليار دولار سنويا من البنك الدولي للإنشاء والتعمير وحوالي ملياري دولار خلال فترة الشراكة بأكملها من مؤسسة التمويل الدولية، وفقا لـ”رويترز”.
مخاوف وديون
كشفت بيانات رسمية في أكتوبر الماضي، أن الدين الخارجي المصري ارتفع إلى 165.361 مليار دولار بنهاية الربع الأول من العام الحالي، بزيادة قدرها 1.5% أو ما يعادل 2.43 مليار دولار، مقارنةً بالربع الأخير من عام 2022 عندما سجل 162.928 مليار دولار، وفقًا لإحصاءات البنك المركزي المصري.
وقد زاد الدين الخارجي المصري بقيمة 7.56 مليار دولار على أساس سنوي مقارنة بنهاية الربع الأول من عام 2022 حينما سجلت قيمة الدين الخارجي نحو 157.801 مليار دولار. وكشفت البيانات ذاتها أن قيمة الديون الخارجية المستحقة السداد في العام المقبل 2024على الحكومة المصرية تبلغ نحو 29.229 مليار دولار.
ووفق تقرير حول الوضع الخارجي للاقتصاد المصري الصادر عن البنك المركزي المصري، تشمل هذه القيمة سداد فوائد بلغت 6.312 مليار دولار، وأقساط ديون تقدر نحو 22.917 مليار دولار. ووفقا للتقرير، يتطلب دفع نحو 14.595 مليار دولار خلال النصف الأول من عام 2024، بينما من المتوقع سداد نحو 14.634 مليار دولار خلال النصف الثاني من نفس العام.
وستنخفض الديون الخارجية المستحقة للسداد إلى 19.434 مليار دولار، مقسمة إلى نحو 11.155 مليار دولار خلال النصف الأول من 2025، وحوالي 8.28 مليار دولار خلال النصف الثاني من نفس العام.
كانت وكالة فيتش قد خفضت تصنيف مصر الائتماني على المدى الطويل لمصدري العملات الأجنبية إلى “B-” هبوطا من “B”، مشيرة إلى زيادة المخاطر على التمويل الخارجي والسياحة في ظل الحرب الدائرة بين حماس وإسرائيل قد تؤثر على قطاع السياحة المصري.
وقالت الوكالة إن الحرب بين إسرائيل وحماس تشكل مخاطر سلبية كبيرة على السياحة في مصر، وفق ما نقلته رويترز. وأضافت أن “قرب مصر من الصراع بين إسرائيل وحماس والتدفق المحتمل للاجئين يزيد من المخاطر الأمنية خاصة في منطقة سيناء”. وأشارت إلى أن الإيرادات المتوقعة من السياحة وقناة السويس في مصر وتعافي التحويلات من الخارج ستساعد في احتواء احتياجات التمويل بسبب زيادة الواردات.
وذكرت فيتش أن “التصنيف يعكس زيادة المخاطر على التمويل الخارجي لمصر واستقرار الاقتصاد الكلي ومسار الديون الحكومية المرتفعة بالفعل”.
وعدلت وكالة التصنيف الائتماني أيضا نظرتها المستقبلية لمصر من “سلبية” إلى “مستقرة”
وفي أكتوبر، خفضت وكالتا التصنيف موديز وستاندرد آند بورز التصنيف الائتماني لمصر بدرجة واحدة أيضا.