على مدار عقود من التحولات الفكرية والثقافية والاجتماعية في مصر، أصيبت صناعة السينما في الدولة الأكثر إنتاجًا وحضورًا بمحيطها العربي والأفريقي، بالكثير من الآفات أثرت بشكل مباشر على جودة الإنتاج السينمائي والدور الريادي لمصر في صناعة السينما إقليمًا ودوليًا، لعل أبرزها الفساد والاحتكار، وفرض رقابية حكومية واجتماعية على الفن، فضلًا عن عوامل أخرى أدت لتراجع الفن المصري بشكل عام والسينمائي بشكل خاص، ما ينذر بتدهور الصناعة وتراجعها بشكل كبير مستقبلًا إن لم توضع حلول جذرية لها، خاصة في ضوء انتباه العديد من دول المنطقة لأهمية الفن ومحاولاتها الدائمة للعب أدوار في ضوء سباق تاريخي على “صناعة الفن”.
في ضوء نقاش محتدم حول الأزمات الخاصة بصناعة السينما في مصر، وتراجعها إلى حد كبير، جاء ترشيح “فيلم 404” في سبتمبر الماضي، لتمثيل مصر في النسخة المقبلة من الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي، وذلك حسبما أعلنت نقابة المهن السينمائية التي تشرف علي أعمال اللجنة المنوطة بالاختيار والمُشكلة من سينمائيين ونقاد مستقلين، ليثير جدلًا أوسع حول أسباب تراجع السينما المصرية في حصد جوائز عالمية، لاسيما الأوسكار التي لم تحصل فيها مصر على أي جوائز رغم كثافة المشاركة والترشيحات.
نوصي للقراءة: مشاريع هيئة الترفيه السعودية:ستنعش السينما المصرية أم ستُغرقها؟
عقدة الجوائز الدولية
رغم غزارة الإنتاج السينمائي في مصر تاريخيًا، مقارنة بالدول العربية والأفريقية، إلا أن الحضور فيما يتعلق بالجوائز الدولية يعد خافت وربما نادر جدًا، ويرجع الكاتب والناقد الفني محمد سميح ذلك لعدة أسباب يأتي في مقدمتها البيروقراطية والقوانين المقيدة لحرية الإبداع، فضلًا عن الفساد. ويقول لزاوية ثالثة: “بالرغم من لعب البيروقراطية وترسانة القوانين “المقيدة” دورًا هامًا في تراجع الصناعة في مصر، إلا أن هناك عوامل أشد أثرًا في هذا الشأن، فالأفلام اليمنية، مثلًا وعلى الرغم من تاريخها الحديث وصعوبات الإنتاج التي لا تقارن بصعوبات الإنتاج مصر، نجدها أكثر حضورًا في المنافسات، لذلك أعتقد أن صناع الأفلام في مصر يبحثون عن بروباجندا التواجد في المهرجانات، ولا يعملون بالقدر الكافي لترويجها بين النقاد العالميين سواء المصوتين بشكل مباشر على الجوائز أو أصحاب الرأي المؤثر.”
يتفق معه الناقد الفني رامي متولي، الذي يؤكد في حديث لزاوية ثالثة أن غياب الجهد الكاف للدعاية الخارجية للأفلام المصرية يؤثر بشكل كبير على غيابها عن الجوائز الدولية، موضحًا أن صناعة السينما مثل أي منتج يحتاج إلى حملات تسويقية وتعريفية لدى الجهات والدول القائمة على المهرجانات الدولية، وهذا الجهد يبدو غائب أو غير منظم فيما يتعلق بمصر، مشيرًا إلى أن اللجنة التي تقيم الأفلام أحيانًا لا فتهم الفكرة القائم عليها العمل بسبب الاختلاف الكبير في الثقافات بين الشرق والغرب، هذا الأمر يتطلب بذل جهود كبرى للتعريف بالأعمال ومدى تأثرها بالواقع المصري، خاصة إن كانت الأفكار التي تناقشها أصلًا تختلف بين الشرق والغرب مثل قضايا الشرف أو القتل من أجل الشرف والأنماط الاجتماعية الأخرى.”
ويضيف متولي في حديثه معنا: “يمكن أن نأخذ مثالًا من دول عربية أخرى مثل تونس، التي استطاعت في السنوات الأخيرة تحقيق نجاحات على الساحة العالمية بفضل تركيزها على قضايا تلامس الواقع الدولي وتجذب انتباه الجمهور الغربي. أما بالنسبة للأفلام المصرية، فغالبًا ما تناقش قضايا محلية لا تجد الصدى الكافي لدى الجمهور العالمي، مثل قضايا الشرف أو مشكلات العلاقات في المجتمع المصري، وهي موضوعات قد لا تكون مفهومة أو مؤثرة بنفس الدرجة عالميًا.”
يواصل: “إذا نظرنا إلى الأفلام الفلسطينية أو اللبنانية، سنجد أن نجاحها جاء نتيجة تعاون وثيق مع وكالات فنية عالمية تعمل على ترويجها بفعالية. هذه الوكالات توفر قنوات اتصال مع أعضاء الأكاديمية وغيرهم من المؤثرين في الساحة الفنية العالمية. المسألة هنا تتطلب جهات مصرية مختصة، مثل هيئة تعمل على تمثيل السينما المصرية في المهرجانات الدولية، على غرار هيئة تنشيط السياحة.”
يؤكد متولي أن الحل يكمن في تأسيس هيئة تمتلك القدرة على الوصول إلى السوق السينمائي العالمي، وتوفر دعمًا للأفلام المصرية لعرضها وتمويلها دوليًا. يختم قائلاً: “يجب أن نضع خطة متكاملة لتحسين وصول الأفلام المصرية إلى الجمهور العالمي، لأن ذلك سيؤثر إيجابيًا على صناعة السينما في مصر، وسيدعم الاقتصاد ويعزز صورة مصر دوليًا، ليس فقط على مستوى الجوائز ولكن أيضًا على مستوى التأثير الثقافي.”
ومن جهتها، ترى الناقدة الفنية والروائية رانيا كمال أن “ الفن المصري مُقيد برقابة تمنع الفنان أو الممثل من تقديم الكثير من الأدوار والقصص يرفضها المجتمع المصري أو الرقابة، وتقول لزاوية ثالثة: “في الكثير من الدول الأخرى باب الفن متاح للإبداع والابتكار والتجديد والتميز بلا قيود على عكس الوضع في مصر”، مشيرة إلى أن بسبب نقص الاحترافية في إدارة تنفيذ العمل وتقديمه. وتقول رانيا إن عدم وجود تخطيط أو خطط، لاختيار وتقديم أعمال قوية يكون لها تأثير إيجابي وتنجذب له أغلب دول العالم.، يعد من أبرز أسباب ابتعاد السينما المصرية عن المنافسة العالمية، خاصة أن أغلب الأعمال مقتصر على جذب المجتمع المصري فقط أو العربي.”
ويرى الكاتب والناقد السينمائي المصري خالد محمود أن التراجع عن حصد جوائز عالمية، خاصة الأوسكار يأتي “ كانعكاس طبيعي لتراجع معدلات الإنتاج، بشكل مخيف، وبالتبعية هزال الأفكار والأساليب، وعدم اهتمام صناع السينما المصرية بمتابعة نتاجات المدارس السينمائية المختلفة في العالم، ومعرفة ما وصلنا إليه وأين نقف مقارنة بهم، ويوضح في مقال إنه “على مدار سنوات طويلة تحرص مصر على ترشيح فيلم لتمثيلها في فئة أفضل فيلم عالمي بجوائز الأوسكار لكننا بحاجة لخطوة واجبة لإصلاح مسار السينما المصرية بدلا من التراجع المخيف مُقارنة بـ الطفرات الهائلة التي بلغتها سينمات دول أخرى.”
منذ إنشاء جائزة الأوسكار، شاركت مصر في فئة الأفلام الأجنبية غير الناطقة بالإنجليزية أكثر من 39 مرة، لكنها فشلت في حصد الجوائز أو حتى الوصول للقوائم القصيرة، حيث تم ترشيح أفلام مصرية متعددة للجائزة، لكنها لم تفز بها، منها فيلم باب الحديد للمخرج يوسف شاهين (1958)، يأتي فيلم “المومياء” (1969) للمخرج شادي عبد السلام كأحد أبرز الأفلام التي قدمتها مصر للجائزة الدولية الأبرز في العالم في المجال السينمائي، تبعه أفلام لامعة أخرى مثل “إحكي يا شهرزاد” (2009) و”اشتباك” (2016)، الذي أخرجه محمد دياب وتناول الاضطرابات السياسية بعد ثورة 25 يناير، كما شارك فيلم “يوم الدين” (2018) لأبي بكر شوقي، الذي لفت الأنظار في مهرجان كان قبل ترشيحه للأوسكار.
وعلى صعيد الجوائز الدولية الأخرى، حققت عدد من الأفلام المصرية جوائز نادرة ومتفرقة تاريخيًا، من أبرز هذه الأفلام، المومياء (1969(، الذي حصل على جائزة “سادول” عام 1970، أما فيلم إحكي يا شهرزاد (2009) للمخرج يسري نصر الله، فقد نالت بطلته منى زكي جائزة أفضل ممثلة في مهرجان دبي السينمائي، وجاء فيلم “678” (2010) للمخرج محمد دياب ليحصد جائزة أفضل مخرج في مهرجان شيكاغو السينمائي الدولي، فيما فاز فيلم “يوم الدين” (2018) لـ المخرج أبو بكر شوقي بجائزة “فرانسوا شالية” في مهرجان كان، وترشح للأوسكار كأفضل فيلم أجنبي، وفي عام 2021، حصل فيلم ريش للمخرج عمر الزهيري على الجائزة الكبرى في أسبوع النقاد بمهرجان كان.
نوصي للقراءة: كيف تعيد الأزمات المالية وحرب غزة تشكيل مشهد الترفيه في مصر؟
أزمات صناعة السينما المصرية
اعترف وزير الثقافي المصري أحمد هنو، بتراجع صناعة السينما المصرية خلال السنوات الماضية، وقال في سبتمبر الماضي إن “صناعة السينما المصرية ليست في أفضل حالاتها، خاصة على صعيد الكتابة، ما أوجد صعوبة في بعض السنوات في إيجاد فيلم واحد لـ ترشيحه للمنافسة على جائزة أوسكار أفضل فيلم دولي”، وأضاف في تصريحات صحفية: “الأفلام المصرية في حقبتي الخمسينات والستينات هو أن من كتبوها قامات أدبية وفكرية أمثال عبد الرحمن الشرقاوي ويوسف السباعي ونجيب محفوظ، أما الآن فلدينا أزمة كبيرة في الورق”، متابعًا: “أنا مشاهد جيد للسينما وقارئ جيد للنقد السينمائي، لكن الأفلام المنتجة مؤخراً لا تصلح… أحياناً أفتح التلفزيون وأرى أفلاماً ليس لها حبكة على الإطلاق.”
ويرى مراقبون أن تصريحات الوزير تعد أول رد رسمي على تاريخ طويل من النداءات والمطالب بشأن إصلاح المنظومة المترهلة في مصر، لكن التصريحات اقتصرت على النقد فقط دون تقديم خطة واضحة لإنقاذ صناعة السينما، وتقول الكاتبة والناقدة الفنية فايزة هنداوي في تعليق لها على حديث وزير الثقافة، إنه “تحدث بجرأة عن مشكلات صناعة السينما، وهو أمر جيد للغاية، لكنه بحاجة إلى أن يتنقل من التصريح إلى التنفيذ عبر الاستعانة بشخصيات على دراية بمشكلات السينما ولديها حلول قدمتها من قبل ولم يتم الأخذ بها.”
في عام 2016، أنشأت مصر الشركة القابضة للاستثمار في المجالات الثقافية والسينمائية، بهدف إدارة واستثمار أصول السينما المملوكة للدولة، ومع ذلك، أشار وزير الثقافة أحمد هنو إلى أن الشركة لم تحقق النتائج المطلوبة على مدار السنوات الماضية، إذ تراكمت عليها الديون وأصبحت بحاجة ماسة إلى إعادة هيكلة.
بحسب إحصاءات غرفة صناعة السينما المصرية، بلغ عدد الأفلام الروائية المنتجة في عام 2023 حوالي 67 فيلمًا، مقارنة بـ51 فيلمًا في العام السابق، ومع ذلك، يرى النقاد أن معظم هذه الإنتاجات تندرج تحت فئة “الأفلام التجارية” التي تركز على تحقيق عائدات مرتفعة من شباك التذاكر، بينما شارك عدد قليل منها في مهرجانات دولية مرموقة.
ويقول هشام عبد الخالق - رئيس غرفة صناعة السينما- في تصريحات له إن " الصناعة تواجه في الفترة الأخيرة أزمة كبيرة، حيث لا يتجاوز عدد الأفلام المنتجة سنويًا 25 إلى 30 فيلمًا، وهو رقم منخفض للغاية ويضر بقيمة صناعة السينما المصرية التي تمتلك كافة المقومات"، مشيرًا إلى أن المشكلة تكمن في التوزيع، حيث أصبح الموزعون يتجاهلون أفلام الشباب ويعتمدون فقط على النجوم الكبار، وهو أمر غير صحيح، وأن هناك طاقة إنتاجية كبيرة، لكن التحدي الرئيسي يكمن في التوزيع الذي يعاني من العشوائية والتأثيرات الشخصية، لذلك، يسعى لحل هذه الأزمة من خلال اجتماعات مع غرفة صناعة السينما، لأن هذا الوضع يضر بشكل كبير بصناعة السينما المصرية."
وتقول الناقدة الفنية رانيا كمال إن "الاحتكار والفساد الذي يحدث في صناعة السينما المصرية السينما المصرية نهايته الفشل والظلم، مؤكدة على ضرورة وضع قوانين قوية أو صارمة ضد الاحتكار أو السيطرة ، وعدم التحكم بدور العرض"، وتشير رانيا إلى مشكلات أخرى تتعلق بـ" ارتفاع التكاليف، خاصة فيما يتعلق بتصاريح التصوير والضرائب المفروضة على دور العرض السينمائي، كما يعاني القطاع من نقص في التأهيل الكافي للكوادر الفنية والتقنية، حيث لا يوجد تدريب كافٍ لـ المتخصصين في المجالات المختلفة مثل الإخراج، التصوير، والإنتاج. وهذا يؤدي إلى تدني مستوى الجودة في بعض الأعمال الفنية."
من جهته، يرى محمد سميح أن الأفلام المصرية تنقسم لنوعين؛ الأول السينما التجارية وهي غير قادرة على المنافسة في الغالب نظرًا لأهدافها الساعية للربح، والأفلام المستقلة التي تعاني من ضعف الإنتاج، إلا أن السينما المستقلة عموما نشأت بالاعتماد على فكرة الإنتاج المنخفض، إلا أن الأفلام المصرية تفتقد بدرجة إلى أمرين رئيسيين، الرؤية التقنية الخاصة بالصورة مع غلبة الاعتماد على السيناريو، وغياب المشروع والهم الاجتماعي المباشر، هذه الأفلام تجري أكثر وراء فكرة التمرد كهدف مع إغفال القيمة الفنية، وبعضها يصنع كمخاطبة مباشرة للناقد الغربي ما ينفي عنها الأصالة، وغياب العمق المجتمعي.
يتابع: صانع الفيلم المصري وعلى الرغم مما يواجهه من صعوبات إنتاجية لا يمكن إغفالها؛ إلا أنه ينشغل بأمرين أما محاولة إرضاء لجان النقاد الأجانب حتى لو فقد أصالته، أو محاولة إثارة الانتباه لعمله في مصر والاحتفاء به. في العموم الجوائز ليست مهمة جدًا، الأهم هو جودة الأفلام ومدى تعبيرها عن مشاكل صانعها ومجتمعه الذي يتفاعل معه. وهذا ليس حاضر بالقدر الكافي لدينا.
هناك بعد آخر يفقد الأفلام المصرية بريقها، وفق سميح، وهو البعد السياسي فالأفلام الإيرانية تنافس عالميًا نظرًا لموقف غربي من النظام الإيراني، أيضًا الأفلام اليمنية تنال رواج أكبر بسبب الحرب الأهلية وتبعاتها على المجتمع تكن أكثر جاذبية ومدعاة للتعاطف مع قضاياها.
ويعتبر الباحث المختص بمجال السينما أن مشكلة السينما هي نفسها مشكلة الثقافة المصرية، فصانع الفن والمثقف غير مندمج بقدر كاف بين طبقات المجتمع ومشاكلها، هناك تجارب جيدة لمخرج مثل أحمد فوزي صالح وهو ينحاز بقدر كبير للطبقات المهمشة في المجتمع و يتماهى مع مشاكلها، إلا أن هذا الانحياز لا يعني بالضرورة صناعة أفلام جيدة، فبعض الأفلام تناولت مشكلة الفقر من منظور استشراقي، ولم تمتاز بالأصالة الكافية.
ويقول في حديثه معنا: "أيضًا مكانة مصر كمركز تجاري سينمائي، يجعل طموح صناع الأفلام العالمي ليس كبيرًا، فالبعض من صناع السينما المستقلة نجده يتحول تدريجيًا للأفلام التجارية، والبعض الآخر كما أوضحت يكتفي بفكرة الاحتفاء بأفلامه في مصر."
نوصي للقراءة: حياة الماعز.. صورة مصغرة لمعاناة العمال المصريين؟
ثنائية الفساد والاحتكار
يؤكد مراقبون تحدثوا إلى زاوية ثالثة أن ثنائية الفساد والاحتكار تعد أهم معوقات تطوير صناعة السينما في مصر، وفي مارس الماضي، تقدم المحامي عصام رفعت ببلاغ إلى النائب العام يتهم فيه شركة إنتاج فني بالتسبب في حريق أستوديو الأهرام بالعمرانية، وإهدار المال العام. وأشار المحامي في بلاغه، إلى أنه كان مستشارًا في وزارة الثقافة ولديه معلومات عن فساد يتضمن مخالفة القوانين والإضرار العمدي بالمال العام لتحقيق أرباح لأشخاص محددين، أبرزهم المشرف على نشاط الشركة.
وذكر المحامي أن الأستوديو تعرض لحريق كبير في 2016، وتم حفظ التحقيق ضد مجهول، فيما تم صرف 1.1 مليون جنيه من شركة التأمين كتعويض، وأضاف أن شركة الإنتاج تقدمت لصرف مبلغ التأمين، لكن وزارة الثقافة اشترطت عدم صرف أي مبالغ إلا لأعمال الحماية المدنية، لتجنب الفساد، ورغم ذلك، تمكّن المشرف على نشاط الشركة في 2020 من صرف جميع الودائع المخصصة للصيانة والحماية المدنية، لكنه لم يؤسس نظامًا للحماية المدنية وتسبب في تبديد الأموال، وأكد البلاغ أن الأستوديو لم يكن يحتوي على نظام إطفاء معتمد، رغم اشتراطات وزارة الداخلية، مما أسهم في استمرار الحريق و تدمير الموقع بالكامل.
وفي عام 2018 قدم الفيلم المصري "ليل خارجي" صورة حول بعض وقائع الفساد في صناعة السينما، حيث دارت أحداثه حول كواليس صراعات صناعة السينما، من خلال جريمة تحدث أثناء تصوير أحد الأفلام، لتكشف النقاب عن فساد المنتجين، والطرق غير المشروعة التي يتم اللجوء إليها للحصول على تمويل الأفلام، بخلاف جرائم الدعارة وغسيل الأموال، وغيرها من الخبايا التي لا يعرفها الجمهور.
ويقول محمد سميح إن الاحتكار يفسد أي مجال، والسينما ليست استثناءًا، الاحتكار قادر على فرض الرداءة بما أن المنافسة غائبة، فالسينما المصرية التجارية لم تعد مثل السابق، والأثر المصري في صناعة الأفلام بدأ في النقصان، وتجارب مثل التي تقوم بها السعودية في الإنتاج المصري لا تقدم إضافة كبيرة للصناعة المصرية.
ويتابع: "ظهرت في مصر سابقًا مصطلحات مثل السينما النظيفة محاولة إرضاء جمهور السعودية والخليج الذي كان يعيش تبعات الصحوة الإسلامية، ومع اختلاف التوجهات السياسية وطبيعة المشاهد الخليجي، لن نبعد عن أكثر من محاولة صناعة أفلامًا للتسلية بإنتاج ضخم، وبالطبع له أهدافه من الترويج لصورة المملكة الجديدة. الأمر ذاته لا يختلف عن واقع الإنتاج المصري الذي يهدف أيضًا إلى بروباجندا معينة لا أكثر ولا أقل."
ويضيف: "نحن بحاجة أكبر للتنوع في الإنتاج، وعلى الدولة أن تتدخل لدعم أفلام لا تهدف للربح وليست هادفة للبروباجندا خاصة مع مخاطر سحب أو نقصان قوة ناعمة مصرية مؤثرة، من جهة أخرى يجب أيضًا دعم السينما المستقلة وتخفيف القيود البيروقراطية من أجل تيسير الصناعة، والرقابية من أجل حرية إبداع أكثر."
نوصي للقراءة: منع ومصادرة وقضايا ضريبية.. كيف تستهدف السلطات المصرية دار نشر المرايا؟
لا مكان للفقراء
المحتوى الذي تقدمه السينما المصرية أيضًا يعد أحد أهم مراكز ضعفها إذا تعاني من عجزها عن تقديم صورة واقعية عن المجتمع المصري، بحسب دراسة نشرها مركز حلول للسياسات البديلة للباحث مجدي عبد الهادي، حيث تقتصر على استخدام قوالب نمطية تُعزز الصور السلبية لبعض الفئات الاجتماعية، خاصة المهمشين، وقد نشأت هذه الظاهرة من خلفية اقتصادية واجتماعية تعكس الفجوات بين طبقات المجتمع، بينما تطور تمثيل المهمشين في السينما مع تغيرات الواقع الاجتماعي، فإن هذه التغيرات كانت تقتصر في كثير من الأحيان على تقديم صورة مبتذلة أو مختزلة لهم، حيث يتم تصويرهم غالبًا في أدوار ثانوية أو في سياق الجريمة والعوز، بدلاً من تقديم صورة حقيقية عن حياتهم ومعاناتهم.
ويرى عبد الهادي إن عجز السينما المصرية عن بلورة صور حقيقية يرجع إلى المركزية الشديدة في الإنتاج، التي تفرضها السلطة والاحتكار داخل سوق السينما، مما يؤدي إلى تقديم صور نمطية أو مشوهة للمناطق والأشخاص المهمشين. وفي هذا السياق، يتجلى الانغلاق المهني والشخصي لدى المخرجين والمؤلفين في القاهرة، مما يعزز حالة من الشللية وعدم الجودة. لذا، تحتاج السينما المصرية إلى سياسات تدعم لامركزية الإنتاج وتكافؤ الفرص، إضافة إلى ضرورة العودة للاعتماد على الأدب الكلاسيكي وتعزيز الحركة النقدية لتطوير الإنتاج السينمائي ليعكس واقع المجتمع بشكل أكثر صدقًا.
وقد بدأت صناعة السينما في مصر منذ العصر الملكي، حيث كانت مصر رائدة في الإنتاج السينمائي عالميًا، خاصة بين الخمسينيات والسبعينيات، حيث تأسست شركة استوديو مصر في 1935، ثم تم تأميمها في 1961، وأدى ذلك إلى تعزيز تأثير السينما المصرية ثقافيًا وسياسيًا في عهد عبد الناصر والسادات، وكانت الأفلام السينمائية في تلك الفترة، مثل أعمال أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، تؤثر في العالم العربي، وتروج للنظام الناصري ومعاداة الإمبريالية، ومع تراجع دور الدولة في الإنتاج السينمائي في التسعينيات، واجهت الصناعة تحديات كبيرة، حيث هاجر العديد من فنيي الصناعة إلى الخليج، مما أدى إلى انخفاض الإنتاج السينمائي بشكل كبير. في تلك الفترة، تقلص عدد الأفلام المنتجة سنويًا إلى أقل من 20 فيلمًا في أواخر التسعينيات، مقارنة بـ 70 فيلمًا في 1992. كما أن السينما المصرية تميزت بتوجهات تجارية تعتمد على نجوم محليين، مما أثر على ميزانيات الإنتاج وجودة الأفلام.
منذ عام 2000، بدأ تصوير بعض الأفلام في أماكن طبيعية خارج مصر، ومع ظهور المنافسة من السينما التركية والهندية، تراجعت مكانة السينما المصرية في المنطقة. ورغم وجود مهرجانات سينمائية دولية، مثل مهرجان القاهرة، إلا أن الأفلام المصرية واجهت تحديات في التوزيع خارج العالم العربي، مع تحقيق بعض الأفلام مثل "بعد الموقعة" و"اشتباك" نجاحًا عالميًا.
في تلك الأثناء برز جيل جديد من المخرجين الذين نجحوا في جذب الانتباه على الشبكات الدولية بفضل تناولهم موضوعات لاقت إعجاب الجمهور الغربي، مثل مروان حامد الذي حول رواية "عمارة يعقوبيان" إلى فيلم ناجح عام 2006. كما استمرت الأفلام الاجتماعية والسياسية في جذب الجمهور، مثل فيلم "ليلة البيبي دول" للمخرج عادل أديب عام 2008، وعقب ثورة 2011، عادت السينما الهادفة مع أفلام مثل "نوارة" (2015) و"18 يوم" التي جسدت أحداث الثورة، وكان العديد من صناع السينما والممثلين في طليعة المشاركين بمظاهرات التحرير.
وقد دعمت السلطات صناعة السينما من خلال قوانين تحمي الإنتاج وتنّظم المهرجانات، مثل مهرجان سينما البحر المتوسط في الإسكندرية (منذ 2006) ومهرجان الفيلم الإفريقي في الأقصر (منذ 2012)، لكن الرقابة، التي أُنشئت في 1954، تظل سمة بارزة في المشهد السينمائي، حيث تفرض قيودًا صارمة على القضايا الأخلاقية والدينية وصورة البلاد، هذه الرقابة تحد من الحيز النقدي للأفلام عبر حذف المشاهد المثيرة للجدل، كما حدث مع فيلم "دنيا" للمخرجة جوسلين صعب (2005)، وتجعل من الصعب تصوير وعرض بعض الأفلام في مصر، مثل فيلم "القاهرة السرية" للمخرج طارق صالح (2017).
وينظم القانون رقم 430 لسنة 1955 (المعدل عام 1992) الإطار القانوني للرقابة على الأعمال الفنية السمعية والسمعية البصرية في مصر، حيث تتبع إدارة الرقابة على المصنفات الفنية وزارة الثقافة، وتتمتع بصلاحيات واسعة. تنص المادة الأولى من القانون على أن الهدف من الرقابة هو حماية الآداب العامة والحفاظ على الأمن والنظام العام والمصالح العليا للدولة، مما يعطي الإدارة سلطة تقديرية واسعة في منح أو رفض التصاريح. كما لا يتضمن القانون تعريفاً دقيقاً لما يشمل هذه الحماية.
تخضع جميع مراحل العمل الفني للرقابة، حيث يجب الحصول على تصريح من إدارة المصنفات قبل التسجيل أو التصوير أو النسخ، كمايتعين على لجنة مختصة تقييم السيناريو قبل التصوير، ولجنة أخرى تفحص العمل بعد تصويره، بناء على ذلك، يجوز للرقابة منع عرض العمل أو تعديله إذا كان مخالفاً للآداب أو النظام العام.
يشترط القانون أن يكون الترخيص محدد المدة ويشمل فترات تتراوح بين سنة وعشر سنوات للعرض أو الاستعراض، كما يحق للرقابة سحب التصريح في أي وقت دون تحديد أسباب قانونية واضحة. ويمنع القانون تعديل أو تطوير العمل الفني بعد الترخيص.
تتمثل إحدى المشاكل الرئيسية في القوانين التي تحد من حرية الإبداع السينمائي، حيث تخضع الأعمال الفنية لرقابة مشددة تؤثر على القدرة الإبداعية للمبدعين، فرضت الرقابة، عبر تاريخها، قيوداً على العديد من الأفلام حسب معايير سياسية وأيديولوجية، مثل منع عرض أفلام تنتقد النظام الحاكم أو تلك التي تتعارض مع القيم الدينية والاجتماعية، على سبيل المثال، في السبعينات، تم تعديل أو مصادرة أفلام تتناول الهزيمة في 1967، كما تم فرض رقابة شديدة على أفلام بعد ثورة يناير 2011، بما في ذلك منع أفلام توثق لأحداث الثورة.