في التاسع من سبتمبر من كل عام، ينتظر المزارعون المصريون احتفاءً رسميًا بعيدهم السنوي (عيد الفلاح) والذي يصادف اليوم العيد الـ72، بعد أن أقره الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر في عام 1952، احتفاءً به. غير أنه وفي السنوات الأخيرة، تزايدت المشكلات المتعلقة بقطاع الزراعة، مثل غلاء الأسمدة والمبيدات والتقاوي، ما زاد من تكاليف الإنتاج، إضافة إلى انخفاض دخول المزارعين وأسرهم نتيجة حركة البيع والشراء، أو تقنين السلطة لزراعة بعض المحاصيل تحت ذريعة الفقر المائي (أصدرت الحكومة في عام 2018، قرارها، بتقليل المساحات المنزرعة من الموز والكتان وقصب السكر والأرز، لاستهلاكها كميات كبيرة من المياه)، خاصة بعد تصاعد أزمة سد النهضة الإثيوبي وما يترتب عليه من تهديد لأمن مصر المائي، أو التغيرات المناخية التي أسهمت في خسارة بعض المحاصيل، نتيجة ارتفاع درجات الحرارة بشكل غير مسبوق. كل ذلك أجبر المزارعين على اللجوء لزراعات بديلة وسريعة، ذات ربحية عالية، ومنها محصول “البلكم”.
وبحسب الهيئة العامة للاستعلامات، فإن عدد المشتغلين بالزراعة في مصر، بلغ نحو 5.2 مليون مشتغل في عام 2021، بما يمثل 19.2% من إجمالي المشتغلين (وحسب تقرير منظمة الأغذية العالمية، فإن عدد المشتغلين في نشاط الزراعة وصيد الأسماك في الربع الثاني من عام 2024، بلغ 5.7 مليون مشتغل بنسبة 19.3% من إجمالي المشتغلين)، فيما وصلت نسبة مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي لـ 14.8% عام 2019/2020، حيث بلغت 669.8 مليار جنيه مقارنة بـ 278.5 مليار جنيه عام 2014/2015.
“يُعرف محصول البلكم، المعروف أيضًا باسم “البانكو”، بأنه أحد المحاصيل الزراعية الجديدة نسبيًا في مصر، وقد بدأ زراعته لأول مرة في عام 2019 بعد أن كانت مصر تعتمد على استيراده من دول مثل أستراليا والهند. يُستخدم البلكم بشكل رئيسي كغذاء للعصافير والببغاء وغيرها من الطيور، وهو ينافس محاصيل أخرى مثل الدنيبة واللب السوري في هذا المجال. يتميز البلكم بمدة نموه القصيرة التي تتراوح ما بين 70 إلى 75 يومًا، مما يجعله خيارًا مناسبًا للمزارعين الذين يبحثون عن محاصيل سريعة النمو ومربحة.
إضافة إلى ذلك، يتميز البلكم بتكلفة إنتاج منخفضة نسبيًا مع قدرة على تحقيق أرباح تصل إلى 200%، على الرغم من أنها كانت في السابق تصل إلى 500%. يُزرع المحصول في مناطق مثل الجيزة وبني سويف والفيوم، ويحتاج إلى ظروف زراعية محددة، منها التربة الرملية والطينية، ويتحمل درجات ملوحة متوسطة. علاوة على ذلك، يُعد محصول البلكم خيارًا استراتيجيًا في ظل أزمة شح المياه، إذ يتطلب كميات قليلة من المياه والأسمدة مقارنة بالمحاصيل الأخرى، ما يجعله مناسبًا للزراعة في الأراضي التي تُترك عادة بين العروات الصيفية والشتوية، فيما يتراوح سعر كيلو البلكم في الأسواق من 35 إلى 50 جنيهًا.
يقول حسين عبدالرحمن أبو صدام – نقيب الفلاحين- إن زراعة البلكم تتركز في محافظات الجيزة وبني سويف والفيوم، وهو نبات يشبه القمح في طريقة زراعته والحصاد ولكنه يحتاج لوقت أقل بكثير منه، مشيرًا إلى أن زيادة العائد الاقتصادي لـ البانكو بالمقارنة بالمحاصيل الصيفية المنافسة له، إذ بدأ المزارعون في الآونة الأخيرة البحث عن محاصيل جديدة تكون أكثر ربحية وأقل تكلفة.
نوصي للقراءة: لماذا رفعت مصر مشترياتها من القمح إلى 10 أضعاف العام الماضي؟
محصول مربح
بدأت تجربة محمد البدوي (31 عامًا) مع زراعة محصول البلكم في عام 2019، بأرضه بنطاق محافظة الأقصر في صعيد مصر. اعتاد على استزراع عشرة أفدنة سنويًا، يصنف “البدوي” محصول البلكم على أنه أحد المحاصيل المربحة للمزارعين المصريين؛ إلا أن المتحكم الأول والأخير في تسعيره هم التجار.
لم تقتصر مهمته على الزراعة، إذ يعمل أيضا على تسويق وبيع تقاوى البلكم للمزارعين بمختلف محافظات الجمهورية. يقول في حديثه إلى زاوية ثالثة: “تتراوح إنتاجية الفدان من 900 إلى 1150 كيلو جرام، حال تمت زراعته تحت إشراف هندسي ومتابعة دورية لتصل أرباحه إلى 200% حاليًا”.
يشير “البدوي” إلى تراجع السعر السوقي للبلكم من 70 إلى 30 ألف جنيه في الفترة من 2022 إلى 2024، نتيجة الأزمة الاقتصادية التي دفعت بعض مربي العصافير والطيور للتراجع عن تربيتها أو استبدال البلكم في التغذية ببديل أرخص كالدنيبه، ما أثر بالسلب على إنتاجيته هذا العام وخفّض من سعره السوقي. و تعد الدنيبه مصدرًا غنيًا بالأملاح المعدنية، و مهم لتكوين الدم والريش في الطيور، يقوم المربين بخلطها مع باقى الحبوب كـ البلكم للعصافير، وتعمل على منح الطيور الإحساس بالشبع.
بحسب البدوي تراجع سعر طن المحصول في أرضه من 45 إلى 30 ألف جنيه خلال الفترة من 2023 إلى 2024، نتيجة ارتفاع سعر شيكارة الكيماوي، إذ تراوح سعرها لعام 2023 من 500 إلى 650 جنيهًا، فيما تراوح سعرها لهذا العام من 950 إلى 1200 جنيه، مع العلم قيام مزارعين بصرف كميات من الكيماوي من وزارة الزراعة بسعر لا يتخطى الـ 300 جنيهًا للشيكارة. وتراوح سعر التقاوى المعملية من 100 إلى 120 جنيه لعام 2023، فيما ارتفع سعرها لـ يتراوح من 120 إلى 150 جنيه العام الجاري 2024.
يكشف “البدوي” عن عدم توريد الوزارة الكميات المناسبة من الكيماوي للمزارعين خلال العام الجاري، إذ يحتاج فدان البلكم لـثلاث شكائر، لـ تتقلص المساحة المنزرعة هذا العام منه بنسبة تتراوح من 30 إلى 40% – حسب تقديره-، هذا وتقدر تكلفة زراعة الفدان بـ 12 ألف جنيه، شاملة إيجار الأرض.
بحسب مجلس الوزراء تعد صناعة الأسمدة إحدى الصناعات الاستراتيجية، إذ بلغ إجمالي الإنتاج المصري من الأسمدة في عام 2023 ما يقرب من ثمانية ملايين طن نيتروجينية، وأربعة ملايين طن فوسفاتية، وتحتل مصر المرتبة السابعة عالميًّا في إنتاج اليوريا، فيما تأتي الأسمدة في المركز الثاني بين الصادرات المصرية بقيمة 3.4 مليارات دولار، وبلغت صادرات الصناعة الكيماوية نحو أربعة مليارات دولار خلال النصف الأول من عام 2024، بما يمثل 20% من إجمالي صادرات مصر غير البترولية، حسب المجلس التصديري للصناعات الكيماوية والأسمدة.
نوصي للقراءة: المزارعون في مواجهة الفقر المائي… آبار جوفية خوفًا من قرارات حكومية
موفر للمياه والسماد
يقول محمد فهيم – رئيس مركز معلومات المناخ بوزارة الزراعة ومستشار الوزير- في حديثه إلى زاوية ثالثة، إن نبات البلكم من النباتات البينية قصيرة العمر التي تتراوح فترة زراعتها من 70 إلى 80 يومًا، إذ يعد محصول صيفي يتبع العائلة النجيلية التي تتحمل درجات الملوحة من الخفيفة إلى المتوسطة، كما تتحمل درجات الحرارة المرتفعة نوعًا ما.
يبين مستشار وزير الزراعة أن البلكم يعد من المحاصيل الزراعية المفيدة في زراعتها للمزارعين، إذ يعد من المحاصيل التي لا تستهلك كميات كبيرة من المياه و السماد، ولا يحتاج إلا نحو 50 كيلو سماد أزوت، لمرة واحدة لقصر عمره.
يشير “فهيم” إلى عدم وجود حصر بالمساحة المزروعة منه على مستوى مصر؛ إلا أنها لا تتجاوز مئات الأفدنة، فيما يحتاج الفدان إلى 15 كيلو تقاوي، كما يستزرع مبكرًا في أحواض كالقمح في نهاية شهري يونيو ويوليو، ما يجعله غير منافس للمحاصيل الاستراتيجية كـ (الذرة أو الصويا أو المحاصيل الزيتية)، إذ تتم زراعته في وقت الفراغ بين العروات بما لا يؤثر على المحاصيل الأخرى، ليتم حصاده قبل زراعة المحاصيل الشتوية.
وبحسب النشرة السنوية لتقديرات الدخل من القطاع الزراعي لعام 2020/2021 الواردة من الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، والصادرة في مايو 2023، فقد تطورت جملة التقاوى والشتلات من 7483 مليون جنيه لعام2016/2017 إلى 18123 مليون لـ عام 2020/2021، هذا وتمثل نسبة مستلزمات الإنتاج الزراعي 40.2% من إجمالي قيمة الإنتاج الزراعي عام 2020/2021، إذ بلغت قيمتها 297.8 مليار جنيه مقابل 230.8 مليار جنيه 2019/2020 بزيادة 29%، كما بلغت قيمة تقاوى المحاصيل الحقلية التي يعد البلكم أحدها 94093 مليون جنيه.
ويعد البلكم من المحاصيل المربحة التي تعود بعائد مجزي على مزارعيها ففي الوقت الذي تبلغ متوسط تكلفة زراعة الفدان الواحد 12 ألف جنيه، قدر سعر بيع الطن الواحد 30 ألف جنيهًا للعام الجاري؛ ما يحقق عائد يتخطى الـ 200%. ويعود بعائد على الاقتصاد الوطني حال تم التوسع في زراعته، ليغطي احتياجات السوق المحلي، ما يمكن الحكومة من الاتجاه للتصدير.
اعتاد الخمسيني أحمد عبد الوهاب، من مواليد محافظة المنيا في صعيد مصر، هو الآخر على زراعة البلكم، باعتباره أحد المحاصيل المنتجة التي تعود عليه بعائد مربح كمزارع مقارنة بالمحاصيل الأخرى.
يقول في حديثه معنا: أقوم بزراعة ثلاثة أفدنة سنويًا خلال الفترة ما بين العروات الصيفي و الشتوي، لتتراوح إنتاجية الفدان من طن إلى طن وربع. لا تكلفني زراعته الكثير من المبيدات، أسوة بالمحاصيل الأخرى، فضلًا عن توفيره المياه وتحمله درجات الحرارة المرتفعة نوعًا ما، و لا تواجهني العقبات ذاتها التي أواجهها خلال زراعة المحاصيل الأخرى كـ الإصابة بالآفات، لتتراوح تكلفة زراعة الفدان من 12 إلى 15 ألف جنيه.
حسب “عبد الوهاب” فقد باع إنتاجيته العام الماضي 2023، مقابل 45 ألف جنيه، معتبرًا هذا السعر مُرضى ومربح له؛ خاصة أنه حقق عائد لم يحققه في محصول آخر، مشيرًا إلى أنه قبل زراعة محصول البلكم في مصر لم يكن يزرع محاصيل أخرى خلال المدة الفاصلة بين العروات لحاجتها لفترة زمنية طويلة لزراعتها وحصادها، عكس البلكم الذي يستزرع خلال 75 أو 80 يومًا.
رغم نجاح محمد و أحمد في زراعته خلال الأعوام الماضية، فإن لـ عمرو خلف الذي يقيم في محافظة دمياط ويمتلك أراض زراعية في دمياط وبلقاس بمحافظة الدقهلية، تجربة مختلفة بعد نجاحه خلال العامين الماضيين في استزراعه، إلا أنه فشل مؤخرًا. اعتاد استزراع ما يتراوح ما بين فدانين إلى أربعة أفدنة سنويًا، ليفاجئ هذا العام بتعرض محصوله للتلف، لزيادة نسبة الملوحة في الأرض محققا خسائر قدرت بنحو 25 ألف جنيه.
يقول لزاوية ثالثة: “تواصلت مع مديرية الزراعة التابع لها، للاستفسار عن كيفية حل مشكلتي بعد تلف 95% من المحصول، لكني فوجئت بهم يتساءلون حول المحصول، واتضح عدم معرفتهم به من الأساس”.
نوصي للقراءة: بعد الملء الرابع لسد النهضة: مصر مهددة بعدم امتلاك مياه بحلول عام 2025
تغطية السوق المحلي
يقول رئيس مركز معلومات المناخ بوزارة الزراعة ومستشار الوزير: “يتحمل المحصول درجات ملوحة تصل لـ 1600 على مقياس ppm (وحدة قياس الأملاح)، فيما يحتاج المحصول إلى خمس عمليات ري فقط، ما يتكلف كميات مياه أقل، كاشفًا عن توجيه مصر إنتاجها منه للسوق المحلي، فيما تتراوح إنتاجية الفدان من 650 إلى 1000 كيلو جرام.
ويشير إلى عدم حاجة مزارعيه لاستخدام المبيدات، لعدم إصابته بالآفات والأمراض مقارنة بغيره من المحاصيل. وعن المشاكل التي تواجه المزارعين، يضيف: ” لا يتمكن البعض من تسويق إنتاجهم”.
وتمثل زراعة البلكم أهمية اقتصادية للسلطة والمزارعين، فبدلًا عن ترك الأرض الزراعية دون زراعة خلال الفترة بين العروات، يتم استزراعه بتكلفة ضئيلة ليحقق المزارع أرباح عالية بتكاليف بسيطة، ما يغطي الاستهلاك المحلي، ليوفر فاتورة استيراده من الخارج، ما يمكن الحكومة من تصديره والحصول على عوائد كبيرة حال توسعت في زراعته، إذ يتخطى سعر الطن في حالات الطلب المتزايدة عليه نحو 80 ألف جنيه، فضلًا عن إمكانية زراعته في الأراضى الرملية أو الطينية على حد سواء، دون معاناة مع الأمراض والآفات كغيره منه من المحاصيل.