وسط حالة من الجدل، أقر البرلمان المصري، الثلاثاء، قانون المسؤولية الطبية، ليكون الأول من نوعه في تاريخ البلاد، وذلك بعد مناقشات طويلة استمرت لأشهر واعتراضات واسعة من جانب الأطباء. يهدف القانون إلى تنظيم العلاقة القانونية بين الطبيب والمريض، ووضع إطار واضح للمساءلة في حالات الأخطاء الطبية، مع ضمان عدم المبالغة في العقوبات الجنائية بحق الأطباء. وكان أحد أكثر البنود إثارة للجدل هو المواد المتعلقة بحبس الأطباء في الأخطاء الطبية الجسيمة، وهو ما دفع البرلمان إلى تعديل بعض الصياغات استجابة لمطالبات نقابة الأطباء وخبراء القطاع الصحي.
وقد نجح حراك الأطباء خلال الأشهر الماضية في تحقيق عدة تعديلات جوهرية على مشروع القانون المثير للجدل، من أبرزها إلغاء عقوبة الحبس للأطباء في حالات الأخطاء المهنية، وإلغاء الحبس الاحتياطي لهم، بالإضافة إلى وضع تعريف واضح للخطأ الطبي والتمييز بينه وبين الخطأ الطبي الجسيم. كما تم التأكيد على أن اللجنة العليا للمسؤولية الطبية ستكون الجهة الفنية المختصة بتقديم الخبرة لجهات التقاضي والتحقيق، والمسؤولة عن إصدار التقارير الفنية المتعلقة بالأخطاء المهنية، وشملت التعديلات أيضًا تعديل مسمى مشروع القانون ليصبح “قانون المسؤولية الطبية وسلامة المريض” بدلًا من “حماية المريض”.
وخلال الجلسة العامة الأخيرة لمناقشة القانون، التي عُقدت الثلاثاء، وافق البرلمان على خفض قيمة الغرامة في حالات الخطأ الطبي غير الجسيم، وهو الخطأ العادي المحتمل وقوعه، لتتراوح بين 10 آلاف و100 ألف جنيه بدلًا من النطاق السابق الذي كان بين 100 ألف ومليون جنيه.
وفيما يرى أطباء تحدثوا إلينا أن القانون يضع ضغوطًا متزايدة على القطاع الطبي الذي يعاني من ترهل كبير خلال الفترة الماضية ويواجه مشكلات عديدة تتعلق بأوضاع الأطباء عمومًا، تقول الحكومة من جهتها إن القانون متزن، ويهدف لتنظيم العلاقة القانونية بين الطبيب والمريض، بما يسهم في تعزيز الثقة بين جميع أطراف المنظومة الصحية، ويدفع نحو مزيد من التطوير والاستقرار في القطاع الطبي، بحسب تصريحات خالد عبد الغفار وزير الصحة خلال جلسة البرلمان المنعقدة لمناقشة القانون.
نوصي للقراءة: قانون المسؤولية الطبية: طبيب يستقيل كل ساعتين وخمس سنوات سجن تنتظر الباقين
ما أبرز ما جاء في القانون؟
تضمن قانون المسؤولية الطبية الجديد، المكون من 29 مادة، عدة ضوابط تستهدف حماية حقوق مقدمي الخدمة الطبية والمرضى، ونص القانون على انتفاء المسؤولية الطبية في حالات محددة، منها: إذا كان الضرر الذي لحق بالمريض أحد المضاعفات الطبية المعروفة علميًا، أو إذا اتبع مقدم الخدمة أسلوبًا يتفق مع الأصول العلمية الراسخة، حتى وإن خالف بذلك غيره من الأطباء في نفس التخصص، أو إذا كان الضرر ناتجًا عن تصرف المريض نفسه، مثل رفضه للعلاج أو عدم التزامه بالتعليمات الطبية المقدمة له.
كما نص القانون على إنشاء صندوق تأمين حكومي لحماية مقدمي الخدمة الطبية من الأخطار الناجمة عن الأخطاء الطبية، سواء من خلال التأمين المباشر أو التعاقد مع شركات تأمين أو مجمعة تأمين توافق على إنشائها الهيئة العامة للرقابة المالية. ويهدف الصندوق إلى تعويض المرضى عن الأضرار الناتجة عن الأخطاء الطبية، بما في ذلك حالات الوفاة والعجز والإصابة البدنية، وفقًا لوثيقة التأمين. ويتم دفع التعويض بناءً على تسوية ودية أو بعد صدور حكم قضائي نهائي، ويصدر مجلس إدارة الهيئة العامة للرقابة المالية قرارًا يحدد شروط وضوابط التأمين وفئاته وأسعاره.
وفيما يتعلق بحماية مقدمي الخدمة الطبية، شدد القانون على تجريم التعدي عليهم أثناء أداء عملهم، حيث يعاقب بالحبس لمدة لا تتجاوز ستة أشهر أو بغرامة تصل إلى 10 آلاف جنيه كل من أهان طبيبًا أو مقدم خدمة طبية بالإشارة أو القول أو التهديد أثناء تأدية عمله. كما يعاقب بالحبس لمدة تصل إلى سنة أو غرامة لا تتجاوز 50 ألف جنيه كل من أتلف عمدًا ممتلكات المنشآت الطبية أو تعدى على مقدم خدمة طبية بالاعتداء أو العنف. وفي حالة استخدام أسلحة أو أدوات خطرة أثناء التعدي، تُشدد العقوبة إلى الحبس لمدة لا تقل عن سنة، مع إلزام الجاني بدفع قيمة الأضرار التي تسبب بها.
وفقًا للقانون، سيتم إنشاء لجنة عليا تحت مسمى “اللجنة العليا للمسؤولية الطبية وحماية المريض”، والتي ستكون الجهة الاستشارية المختصة بتقييم الأخطاء الطبية. وستتولى اللجنة النظر في الشكاوى المتعلقة بهذه الأخطاء، بالإضافة إلى استحداث قاعدة بيانات شاملة وإصدار أدلة استرشادية لتوعية المرضى بحقوقهم، كما ستعمل على وضع نظام للتسوية الودية بين مقدمي الخدمات الطبية والمرضى، بهدف تقليل معاناة متلقي الخدمة وتخفيف الأعباء عنهم، مع ضمان الحفاظ على وقت وجهد الأطباء والعاملين في المجال الطبي.
من جهتها، تقدمت نقابة أطباء مصر بالشكر إلى رئيس مجلس النواب، وأعضاءه لدورهم في إدخال تعديلات جوهرية على مشروع القانون، بما يضمن توفير بيئة عمل آمنة للأطباء تمكنهم من تقديم أفضل رعاية صحية للمرضى، على حد تعبيرهم. وأوضح نقيب الأطباء، أسامة عبد الحي، في بيان أن التعديلات أكدت أن اللجنة العليا للمسؤولية الطبية ستكون الخبير الفني لجهات التحقيق والمحاكم في القضايا المتعلقة بالأخطاء الطبية.
وأضاف: “أما فيما يخص مقترح إلزام النيابة العامة بعدم مباشرة التحقيقات في قضايا الأخطاء الطبية إلا بعد صدور تقرير اللجنة العليا، فقد أوضحت الحكومة أن إدراج هذا الشرط في نص القانون قد يتعارض مع الدستور، كونه يقيد سلطة النيابة في مباشرة التحقيقات، ومع ذلك، وافق مجلس النواب على المقترح من حيث المبدأ، وتم إدراجه في مضبطة المجلس، مع تأكيد البرلمان أنه سيخاطب النائب العام فور صدور القانون، لإصدار تعليمات بعدم سماع أقوال الطبيب إلا بعد تقرير اللجنة العليا.”
كما نص القانون على انتفاء المسؤولية الطبية في الحالات التي يكون فيها الضرر ناتجًا عن مضاعفات طبية متعارف عليها، بالإضافة إلى التمييز بين الخطأ الطبي العادي والخطأ الجسيم من خلال وضع تعريف واضح للخطأ الجسيم، بحسب نقيب الأطباء، وقد حدد القانون أن الأخطاء الطبية المعتادة ستخضع لعقوبات مالية فقط دون الحبس، بينما الأخطاء الطبية الجسيمة قد تستوجب عقوبات جنائية تتضمن الحبس أو الغرامة أو كليهما، إضافةً إلى التعويض للمريض المتضرر.
وأشار نقيب الأطباء إلى استحداث مادة جديدة تعاقب على الشكاوى الكيدية المقدمة ضد الأطباء، حيث يعاقب بالحبس لمدة لا تزيد على ثلاثة أشهر، أو بغرامة لا تتجاوز 30 ألف جنيه، أو بإحدى العقوبتين، كل من تقدم ببلاغ كاذب بسوء نية ضد طبيب أو منشأة طبية، حتى وإن لم يترتب على ذلك إقامة دعوى جنائية. وأكدت نقابة الأطباء مجددًا التزامها بدعم حقوق الأطباء وتحسين ظروف عملهم، لضمان تقديم أفضل خدمة طبية للمرضى. كما أعربت عن تطلعها لاستمرار التعاون مع الجهات المعنية لضمان التطبيق الأمثل للقانون، بما يعزز بيئة عمل آمنة للأطباء ويحافظ على حقوق المرضى في الحصول على رعاية صحية ذات جودة عالية.
نوصي للقراءة: تداعيات إلغاء تكليف الأطباء في مصر

ما سلبيات القانون وإيجابيات؟
يقول إبراهيم الزيات -عضو مجلس نقابة الأطباء- في حديث إلى زاوية ثالثة إن القانون الطبية خطوة مهمة لتنظيم المهنة، لكنه يواجه العديد من الإشكاليات التي قد تؤثر سلبًا على الأطباء والقطاع الصحي بشكل عام، رغم احتوائه على بعض المواد الإيجابية، إلا أنها جاءت بصياغات غامضة قد تفتح الباب لتفسيرات وتأويلات تؤثر على التطبيق العملي للقانون.
ويوضح الزيات أن أبرز المواد الإيجابية في القانون تتضمن تشكيل لجنة للمسؤولية الطبية لتكون خبيرًا فنيًا في التحقيقات، مما يسهم في تقديم رؤية مهنية متخصصة عند النظر في الشكاوى، كما ينص القانون على إنشاء صندوق للتأمين ضد أخطاء المهنة، وهو ما يعد خطوة إيجابية نحو توفير مظلة حماية للأطباء، ومن الإيجابيات أيضًا إلغاء عقوبة الحبس في الأخطاء الطبية الواردة، ما لم يتم توصيف الخطأ باعتباره جسيمًا، إلى جانب فرض عقوبات على البلاغات الكاذبة، رغم صعوبة تطبيق هذا البند عمليًا، لكن حتى هذه المواد التي تبدو إيجابية صيغت بطريقة غير واضحة، مما قد يفرغها من مضمونها الفعلي عند التطبيق.
أولى السلبيات تتعلق بتعريف الخطأ الطبي الجسيم، حيث تنص المادة الأولى على أنه الخطأ الذي يبلغ حدًا من الجسامة بحيث يكون الضرر الناتج عنه محققًا، ويشمل ذلك ارتكاب الخطأ تحت تأثير المسكر أو المخدر، أو الامتناع عن طلب المساعدة رغم القدرة على ذلك، هذه الصياغة، وفقًا للزيات، تظل فضفاضة بسبب استخدام عبارة “على وجه الخصوص” بدلاً من “على وجه الحصر”، ما قد يفتح الباب لتأويلات غير منضبطة، كما أن اعتبار عدم طلب المساعدة خطأً طبيًا دون إلزام التقرير الفني للجنة المسؤولية الطبية قد يؤدي إلى تقديرات غير دقيقة.
ويشير الزيات في حديثه إلينا إلى أن المادة السابعة تمثل مأزقًا آخر، حيث تحظر إجراء الجراحات غير العاجلة إلا إذا كان الطبيب مؤهلًا وفقًا لتخصصه والمزايا الإكلينيكية التي يعتمدها المجلس الصحي المصري، على أن تُجرى التدخلات في منشآت مجهزة بدرجة كافية، موضحًا أن المشكلة هنا أن نظام الامتيازات الإكلينيكية لم يتم العمل به في مصر بعد، فكيف يُحاسب الأطباء على أمر غير مطبق؟ كما أن معاقبة الطبيب بسبب عدم جاهزية المنشأة غير منطقي، لأن المسؤولية هنا يجب أن تقع على المنشأة وليس الطبيب.
أما المادة الثانية عشرة، فرغم أنها تتيح تقديم الشكاوى بشأن الأخطاء الطبية إلى الأمانة الفنية للجنة العليا، إلا أنها تتضمن ثغرة خطيرة تتمثل في عدم إلزام الشاكي باللجوء إلى اللجنة أولًا قبل التوجه للنيابة، مما قد يعرض الأطباء لتحقيقات مطولة حتى قبل التأكد من وقوع خطأ طبي من الأساس.
وفي المادة الثامنة عشرة، ينص القانون على أن اللجنة العليا للمسؤولية الطبية ستكون الخبير الفني في التحقيقات والمحاكمات، لكن لم يتم النص على أن تقريرها سيكون ملزمًا، ما يفتح المجال أمام جهات التحقيق للاعتماد على تقارير أخرى قد تكون غير متخصصة أو غير دقيقة، مما يزيد من تعقيد القضايا الطبية.
ويوضح الزيات: “المادة العشرين والحادية والعشرين الخاصة بإنشاء صندوق تأمين حكومي ضد الأخطاء الطبية، تحمل ثغرات جوهرية، إذ لم يوضح القانون بشكل صريح مدى تغطية الصندوق للتعويضات، كما لم ينص على تغطية الغرامات، وهو أمر يثير القلق بشأن طبيعة التأمين ومدى كفاءته في حماية الأطباء، الأخطر من ذلك أن القانون يترك الباب مفتوحًا أمام إمكانية استخدام أموال الصندوق في أغراض أخرى غير التعويض عن الأخطاء الطبية.”
عقوبات غير منطقية
يلفت عضو مجلس نقابة الأطباء في حديثه معنا إلى أن المادة الثالثة والعشرون تُثير إشكالية قانونية كبرى، حيث تنص على أنه “مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد في أي قانون آخر”، ما يعني أن الطبيب قد يُحاكم بموجب مواد في قانون العقوبات وليس فقط وفقًا لقانون المسؤولية الطبية، رغم أن الأصل أن القانون الخاص يجب أن يقيد العام.
أما فيما يتعلق بحماية الأطباء من الاعتداءات، فإن المواد الرابعة والعشرون والخامسة والعشرون التي تجرم الاعتداء على الأطباء والمنشآت الطبية جاءت بعقوبات هزيلة، حيث لا تزيد العقوبة عن الحبس ستة أشهر أو غرامة لا تتجاوز خمسين ألف جنيه، وهو ما لا يمثل ردعًا حقيقيًا، خاصة إذا ما قورن بالقوانين المماثلة في دول أخرى مثل السعودية، التي تصل فيها عقوبة الاعتداء على الأطباء إلى عشر سنوات سجنًا وغرامة مليون ريال.
ويضيف: “الأزمة تتفاقم مع المادة السادسة والعشرين، التي تفرض على الأطباء عقوبات شديدة في حال مخالفة بعض الإجراءات، مثل عدم الحصول على موافقة المريض أو إجراء الفحوصات اللازمة، أو العمل في منشأة غير مجهزة، هذه العقوبات تصل إلى الحبس والغرامة، رغم أن تجهيز المنشآت مسؤولية الإدارة وليس الطبيب، ما يعني تحميل الأطباء مسؤولية أخطاء ليسوا طرفًا فيها”، موضحًا أن المادة السابعة والعشرون تفرض غرامة تصل إلى مائة ألف جنيه على الطبيب في حالة وقوع خطأ طبي غير جسيم، وهو أمر غير منطقي، حيث أن هذه الغرامة لن تذهب للمريض بل ستذهب إلى خزينة الدولة، ما يثير تساؤلات حول الهدف الفعلي من العقوبة. كما أن الغرامات المرتفعة قد تدفع الأطباء الشباب إلى السجن حال عدم القدرة على سدادها.
بخصوص المادة التاسعة والعشرين، التي تفرض عقوبة على تقديم بلاغ كاذب ضد طبيب، يقول الزيات إنها تبدو جيدة في ظاهرها، لكن من الناحية العملية سيكون من الصعب إثبات سوء القصد في البلاغات الكيدية، مما يجعل تطبيق هذه العقوبة شبه مستحيل، مؤكدًا أنه رغم ما يقال عن إمكانية تدارك هذه الإشكاليات عبر اللائحة التنفيذية، فإن الحقيقة أن اللائحة لا يمكنها تعديل أو مخالفة أي نص في القانون. وبالتالي، فإن تمرير القانون بصيغته الحالية يعني استمرار الأطباء في مواجهة مخاطر قانونية قد تؤدي إلى عزوفهم عن ممارسة المهنة أو الهجرة، مما قد يؤثر بشكل خطير على منظومة الصحة في مصر.
تتفق معه منى مينا – الأمين العام السابق لنقابة الأطباء- إذ تؤكد في حديث مع زاوية ثالثة أن قانون المساءلة الطبية الأطباء لم يخرج من الخضوع لقانون العقوبات، إذ لا تزال المادة الثالثة والعشرين تفتح الباب أمام تطبيق أي عقوبة أشد ينص عليها أي قانون آخر، وبذلك، يبقى سيف الحبس، سواء الاحتياطي أو العقابي، مسلطًا على رقاب الأطباء في أي خطأ طبي، وفقًا لأي توصيف قانوني يخضع الطبيب بموجبه لقوانين أخرى.
وتضيف: “الخطأ الطبي البسيط أو الوارد أصبح يعاقب جنائيًا، حيث يُفرض على الطبيب غرامة تصل إلى 100 ألف جنيه تُسدد لخزينة الدولة، وليس للمريض أو أهله. هذه العقوبة يدفعها المتهم المدان، وإذا عجز عن السداد يواجه السجن، وبعد ذلك، يحق للمريض أو ذويه رفع دعوى تعويض مدني ضد الطبيب، دون وجود لائحة تحدد سقف هذه التعويضات، ما يجعل قيمتها مفتوحة على احتمالات غير معروفة.
وتتابع مستنكرة: “من غير المفهوم أن يُعاقب الطبيب جنائيًا على خطأ طبي وارد، وتُفرض عليه غرامة لصالح الدولة، وهو أمر لا نظير له في أي مكان في العالم، كذلك الغرامة، وإن تم تخفيضها من مليون جنيه إلى 100 ألف جنيه، تظل مبلغًا باهظًا بالنسبة للأطباء. فكم طبيبًا يستطيع تحمل دفع 100 ألف جنيه عن كل خطأ طبي وارد؟!
وتشير منى في حديثها معنا إلى أنه فيما يخص التعويضات، فقد تم إلزام الأطباء والفريق الطبي بالاشتراك في صندوق للتأمين ضد أخطاء المهنة كشرط للحصول على ترخيص مزاولة المهنة، وهو نظام معمول به في دول عديدة. لكن الفارق الجوهري أن هذا الصندوق في كل الدول يتحمل التعويضات بالكامل، بينما في مصر “يساهم” فقط في الدفع، دون التزام كامل بتحمل التعويض! والنتيجة أن الطبيب، بعد دفع اشتراك شهري للصندوق، سيجد نفسه مضطرًا لدفع غرامة قد تصل إلى 100 ألف جنيه، ثم تعويض مالي للمريض، لأن التأمين لن يغطي كامل التعويض، وأخيرًا قد يواجه السجن، لأن القانون لم يُلغِ إمكانية تطبيق أي عقوبة أشد في أي قانون آخر!
وتتابع: “هناك حديث عن أن القانون يحمي الأطباء عبر لجنة تقرير المسئولية الطبية، التي تحدد ما إذا كان الخطأ طبيًا واردًا أم جسيمًا. لكن المشكلة أن رأي هذه اللجنة غير ملزم للمحكمة، وحتى النيابة لا تنتظر تقريرها قبل بدء التحقيقات! إذن، ما جدوى هذه اللجنة إن كان رأيها غير مؤثر في مسار القضايا؟! الأكثر خطورة أن القانون لم يقر أي عقوبة على المستشفى إذا كان الضرر الواقع على المريض ناتجًا عن قصور في الإمكانيات أو خلل إداري، لأن المساءلة تقع فقط على الطبيب، حتى لو كان الخطأ نتيجة ظروف خارجة عن إرادته.
وتقول منى إن المادة التي تعاقب المرضى في حالة الشكاوى الكيدية، فقد جاءت بصياغة تصعّب تطبيقها عمليًا، إذ اشترطت إثبات سوء القصد، وهو أمر يستحيل إثباته قانونيًا في أغلب الحالات، ما يجعل هذه المادة عديمة الجدوى، مضيفة: “في مفارقة غير مفهومة، جاءت عقوبة الخطأ الطبي أعلى من عقوبة الاعتداء على المستشفيات والطواقم الطبية، على عكس كل القوانين المعمول بها عالميًا، التي تمنح حماية مشددة للأطقم الطبية ضد أي اعتداء، مؤكدة أن القانون لم يحمِ الأطباء كما يُروَّج له، بل وضعهم تحت ضغط قانوني ومالي غير مسبوق، وحافظ على إمكانية حبسهم، وفرض عليهم تعويضات غير محددة، وتركهم دون حماية حقيقية أمام شكاوى المرضى والمشكلات الهيكلية في المستشفيات.
لا يوجد في قانون العقوبات المصري مادة مُخصصة تحت مُسمى “الخطأ الطبي” أو “الإهمال الطبي” بشكل مُباشر. ولكن، يتم الاستناد إلى مواد عامة في القانون لتغطية حالات الخطأ أو الإهمال الطبي، وأهمها المادتين 244 و238 من قانون العقوبات. وتنص (المادة 244) على أن “كل من تسبب في جرح أحد من غير قصد ولا تعمد بأن كان ذلك ناشئا عن رعونة أو عن عدم احتياط وتحرز أو عن إهمال أو عدم انتباه أو عدم مراعاة اللوائح يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر أو بغرامة لا تتجاوز عشرة جنيهات مصرية.” و(المادة 238) التي تنص على أن “أي شخص يتسبب خطأً في موت شخص آخر نتيجة إهماله أو رعونته أو عدم احترازه أو عدم مراعاته للقوانين والقرارات واللوائح والأنظمة، يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وغرامة لا تتجاوز 200 جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.”
ويشير تقرير أصدرته مؤسسة ملتقى الحوار للتنمية (مؤسسة حقوقية مصرية) في أكتوبر 2023 إلى أن عدد الأخطاء الطبية في مصر سنويًا يبلغ 180 ألف حالة، وأن نحو 20 طبيبًا يتم شطبهم من نقابة الأطباء سنويًا، بسبب الأخطاء الطبية.
جدل حول آلية التنفيذ
أكد – أستاذ أمراض التخاطب والبلع بكلية الطب جامعة المنصورة، ورئيس الجمعية الدولية لعلوم واضطرابات التخاطب- تامر سمير أبو السعد في حديث إلى زاوية ثالثة أن الوضع الحالي للقانون الجديد شهد تحسنًا كبيرًا مقارنة بالمسودة الأولية التي احتوت على العديد من الثغرات، مشيرًا إلى أن التعديلات التي تمت ساهمت في تصحيح العديد من النقاط الخلافية، موضحًا أنه لا يزال لديه بعض التحفظات، خصوصًا فيما يتعلق بالغرامات المالية المفروضة على الأطباء، إلا أن استحداث “الصندوق التأميني” كجهة تتحمل هذه الغرامات ساعد في التخفيف من حدة المشكلة. وأضاف: “التفاصيل المتعلقة بهذا الأمر يجب أن تكون واضحة في اللائحة التنفيذية للقانون، لأنها ستحدد بشكل دقيق كيفية التطبيق”.
وفيما يخص التحقيقات التي قد تطال الأطباء، شدد على ضرورة أن يكون للجنة المسئولية الطبية دور استشاري ملزم للنيابة، بحيث لا يتم استدعاء الطبيب بشكل مباشر لأي شكوى قبل النظر في مدى جديتها. وقال: “من حق النيابة التحقيق في أي واقعة، ولكن يجب أن يكون رأي اللجنة الطبية هو الأساس الذي تستند إليه النيابة والقضاء عند البت في القضايا المتعلقة بالأخطاء الطبية”.
ولفت أبو السعد إلى أن نجاح القانون الجديد يعتمد بشكل أساسي على آلية تطبيقه، داعيًا الدولة والأطباء وشركات التأمين إلى التعامل معه بحذر شديد لضمان تحقيق التوازن بين حقوق المرضى وحقوق الأطباء. وأضاف: “القانون يهدف إلى تنظيم العلاقة بين الطرفين، ولكن إذا تم تطبيقه بشكل خاطئ، فقد يتسبب في مشكلات تؤثر على جودة الرعاية الطبية في مصر”. مشيرًا إلى أن وجود إطار قانوني واضح يحمي الأطباء من الشكاوى الكيدية هو خطوة إيجابية، لكنه أكد أن التجربة الفعلية على أرض الواقع ستكشف مدى فاعلية القانون ومدى تأثيره على أداء الأطباء في المستشفيات، خاصة في الحالات الطارئة التي تتطلب قرارات سريعة قد ينتج عنها مضاعفات غير متوقعة.
مؤكدًا أن القانون خطوة جيدة نحو تنظيم العلاقة بين الأطباء والمرضى، لكن نجاحه يتوقف على حسن التطبيق ووضوح اللائحة التنفيذية، بالإضافة إلى ضرورة العمل على تحسين بيئة العمل للأطباء لضمان تقديم خدمة صحية متطورة ومستدامة في مصر.
نوصي للقراءة: الحكومة تُقيد الحق في الصحة: لائحةٌ جديدة تُعيدنا إلى الوراء
هل يحل القانون مشكلات الأطباء؟
بسؤاله عن أبرز التحديات التي يواجهها الأطباء، وما إذا كان القانون سيسهم في تذليلها، يقول الدكتور تامر أبو السعد إن أزمة تدني أجور الأطباء في مصر، تعتبر واحدة من أبرز المشكلات التي تواجه القطاع الطبي. وقال: “أجور الأطباء في مصر متدنية بشكل كبير مقارنة بالمهن الأخرى داخل البلاد، فضلًا عن الفارق الهائل بين ما يتقاضاه الطبيب المصري وما يحصل عليه نظراؤهم في الخارج”.
ويضيف أن الأطباء في مصر يعملون بدافع الشغف والالتزام المهني، إلا أن الأجيال الجديدة باتت تواجه صعوبات كبيرة بسبب الأجور غير العادلة، مما يدفع الكثير من الأطباء المتميزين إلى الهجرة للعمل في الخارج. وأكد أن استمرار هذه الظاهرة قد يؤدي إلى تراجع جودة الخدمات الصحية في مصر على المدى الطويل. داعيًا الحكومة إلى إعادة النظر في منظومة أجور الأطباء، مشيرًا إلى أن تحسين الرواتب سيضمن بقاء الكفاءات الطبية داخل البلاد، وسيحافظ على مستوى الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين. قائلًا: “الهجرة الجماعية للأطباء ليست مجرد خسارة فردية، بل هي تهديد لمنظومة الصحة بأكملها، ويجب العمل على معالجتها قبل أن تتفاقم الأزمة”.
يشهد القطاع الصحي استقالة 12 طبيب يوميًا، وفق بيانات رسمية صادرة عن وزارة الصحة، ويرى الدكتور خالد أمين الأمين العام المساعد لنقابة الأطباء أن قانون المسؤولية الطبية قد عزز مخاوف الأطباء خلال الفترة الأخيرة، وهو أحد الأسباب في هجرة الأطباء المصريين للعمل خارج مصر، مؤكدًا أن التخدير والعناية المركزة وجراحات القلب، أبرز التخصصات التي تشهد استقالات من الأطباء. وتواجه مصر أزمة كبيرة في عجز أعداد الأطباء، إذ يبلغ معدل الأطباء 8.6 طبيب لكل عشرة آلاف مواطن، أي أقل من طبيب لكل 500 مواطن، بينما يبلغ المعدل العالمي نحو 23 طبيبًا لكل عشرة آلاف مواطن. هذا العجز يثير تساؤلات هامة حول كيفية تعامل السلطة مع هذه الأزمة المتفاقمة.
وفقًا لبيانات وزارة الصحة، يتخرج نحو تسعة آلاف طبيب سنويًا، لكن أكثر من 60% منهم يختارون العمل خارج مصر. في عام 2018، حذرت دراسة حكومية من انخفاض عدد الأطباء العاملين، وأظهرت أن من بين 213 ألف طبيب مرخص لهم مزاولة المهنة، يعمل فقط 82 ألفًا فعليًا في مختلف الجهات الصحية، ما يمثل 38% فقط من القوة الأساسية. هذه الأرقام تسلط الضوء على أزمة هجرة الأطباء إلى الخارج وترك المنظومة الصحية في مصر في حالة من العجز. كما أفاد الجهاز المركزي للإحصاء بانخفاض عدد الأطباء إلى 97.4 ألف طبيب في عام 2022، مقارنة بـ100.7 ألف في عام 2021، بانخفاض نسبته 3.3%. فيما ذكرت بيانات نقابة الأطباء المصرية، أن نحو 11 ألفًا و536 طبيبًا استقالوا من العمل الحكومي خلال ثلاث سنوات فقط في الفترة من 2019 وحتى مارس 2022. بحسب تلك البيانات، فإن عام 2022 شهد استقالة أكثر من 4300 طبيب مصري يعملون بالمستشفيات الحكومية، ويمثل العدد الأكبر خلال السنوات السبع الماضية، بمعدل يصل إلى 13.5 طبيب كل يوم، إذ تضاعف أربع مرات من 1044 استقالة عام 2016 إلى 4127 استقالة عام 2021.
ووفق نقابة الأطباء المصرية، فإن متوسط راتب الطبيب المقيم في مصر في عام 2022، بلغ نحو 3700 جنيه مصري، ومتوسط معاش الطبيب بعد نحو 35 عامًا من العمل الحكومي 2300 جنيه، بينما أشارت هيئة التأمين الصحي إلى أن متوسط راتب الطبيب في نظام التأمين الصحي الشامل الذي تم تطبيقه في بعض محافظات مصر يصل إلى 17 ألف جنيه في الشهر.
وفي أبريل 2022 أصدرت نقابة الأطباء المصرية، تقريرًا بعنوان “نقابة الأطباء تدق ناقوس الخطر”، حذرت فيه من استمرار عزوف الأطباء عن العمل في القطاع الحكومي، وتزايد سعيهم للهجرة خارج البلاد، لكن يبدو أن السلطة لم تنتبه إلى ضرورة وضع قوانين تعزز من قدرة الأطباء على ممارسة مهنتهم في مصر، في بيئة عمل يعتبرونها آمنة من الناحية الاقتصادية والأمنية والنفسية، في الوقت الذي سعت فيه – حسب وصف أطباء تحدثنا معهم- إلى مزيد من التقييد على الأطباء دون النظر إلى أحوالهم المعيشية والمهنية.
يثير قانون المسؤولية الطبية الجديد حالة من الجدل بين الأوساط الطبية والتشريعية، حيث تتباين الآراء بشأن تأثيره على المهنة الطبية ومستقبل العلاقة بين الأطباء والمرضى. وبينما ترى الحكومة أنه خطوة ضرورية لتنظيم القطاع الصحي وحماية حقوق الجميع، يعبر الأطباء عن مخاوفهم من بعض المواد التي قد تشكل عبئًا إضافيًا عليهم. ومع بدء تطبيق القانون، ستظل فعاليته مرهونة بكيفية تنفيذه على أرض الواقع، ومدى تحقيقه للتوازن بين محاسبة الأخطاء الطبية وضمان بيئة عمل آمنة للأطباء، في ظل تحديات كبيرة تواجه المنظومة الصحية في مصر.