أثار قانون المسؤولية الطبية، الذي أقره مجلس الشيوخ المصري مؤخرًا، موجة واسعة من النقاش والجدل، ليس فقط في أروقة المهن الطبية، ولكن أيضًا في الأوساط القانونية والمجتمعية والحقوقية، إذ يمثل القانون تحولًا جوهريًا في كيفية التعامل مع قضايا الإهمال والأخطاء الطبية، وفي حين تصفه الحكومة بـ”المتزن”، ويعتبره المؤيدون نقلة نوعية نحو تعزيز الشفافية والمساءلة في القطاع الصحي، يرى آخرون – خاصة الأطباء- فيه تهديدًا لاستقرار الممارسة الطبية، في ضوء إقرار نص قانوني بحبس الأطباء في قضايا الإهمال الطبي أو الأخطاء، ما قد يدفعهم إلى العزوف عن اتخاذ قرارات حاسمة في التعامل مع الحالات الطارئة خوفًا من العقوبات.
وافق مجلس الشيوخ في 24 ديسمبر من العام المنقضي 2024، بشكل نهائي على القانون، تمهيدًا لإحالته إلى مجلس النواب (الغرفة الثانية للبرلمان) لمناقشته وإقراره في صيغته النهائية، ويتألف المشروع من 30 مادة، أبرزها مادتان أثارتا جدلًا واسعًا، إذ أجازت المادة 27 الحبس لمدة لا تقل عن ستة أشهر للطبيب في حال وقوع خطأ طبي أدى إلى وفاة مريض، فيما منحت المادة 29 جهات التحقيق صلاحية إصدار قرارات بالحبس الاحتياطي للأطباء حال ارتكابهم جرائم أثناء تقديم الخدمة الطبية.
ونص القانون أيضًا على إنشاء (اللجنة العليا للمسؤولية الطبية وحماية المريض)، التي تتبع رئيس الوزراء وتعدّ جهة استشارية معنية بالنظر في الأخطاء الطبية، وتتولى اللجنة مهام (النظر في الشكاوى، إنشاء قاعدة بيانات، وإصدار أدلة إرشادية للتوعية بحقوق المرضى بالتعاون مع النقابات والجهات ذات الصلة). فضلًا عن ذلك، يتضمن مشروع القانون إنشاء نظام للتأمين الإلزامي يشمل المنشآت الطبية ومقدمي الخدمات من العاملين في المهن الطبية، من خلال إنشاء صندوق تأمين حكومي، ويتولى الصندوق المساهمة في دفع التعويضات المستحقة عن الأخطاء الطبية، إلى جانب إمكانية تغطية الأضرار الأخرى التي قد تحدث أثناء أو بسبب تقديم الخدمات الطبية، حتى وإن لم تكن مرتبطة بأخطاء طبية.
وتقول الحكومة إن القانون “متزن”، وأثناء مشاركته بالجلسة العامة التي عقدها مجلس الشيوخ لمناقشة القانون، أوضح نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الصحة، خالد عبد الغفار، أن “فلسفة القانون تستهدف تحقيق التوازن والتكامل بين الطبيب والمريض، مشيرًا إلى أن التشريع يمنح الحماية الجنائية للأطباء، ويوفر بيئة عمل آمنة للطواقم الطبية، بعد أن تكررت حوادث التعدي على الأطباء”. كذلك صرح وزير الشؤون النيابية والقانونية والتواصل السياسي المصري، محمود فوزي، بأن القانون الجديد يهدف إلى تعزيز الثقة المتبادلة بين الطبيب والمريض، وتحقيق جودة أعلى في تقديم الخدمات العلاجية، وأوضح أن التشريع يتضمن ضمانات للأطباء، من أبرزها تعريف دقيق للخطأ الطبي، وتحديد الحالات التي تُعفى فيها مسؤولية الطبيب ومقدمي الخدمة الطبية.
بالمقابل تعترض نقابة الأطباء بشكل واسع على القانون، إذ دعت إلى عقد جمعية عمومية طارئة، كان مقرر لها غدًا الجمعة، لمناقشة كيفية مواجهته، وقال نقيب الأطباء، أسامة عبد الحي، في تصريحات صحفية إن” القانون الجديد لا يحقق مصلحة الطبيب والمريض. ورغم أهمية التشريع لتنظيم العلاقة بين مُقدم ومتلقي الخدمة الطبية، فالصيغة الحالية لا تحقق الغاية من صدور القانون”. كما أكد نقيب الصحفيين خالد البلشي، تضامنه مع مطالب نقابة الأطباء، داعيًا إلى إجراء تعديلات جوهرية على القانون قبل عرضه على مجلس النواب، بما يضمن تحقيق التوازن بين حقوق المرضى وحماية الأطباء.
بعد الضغوطات، أعلنت لجنة الصحة بمجلس النواب، حذف مادة الحبس الاحتياطي من القانون، وقالت إن القرار جاء استجابة لمطالب الأطباء، فيما أكدت نقابة الأطباء تمسكها بمطالبها وجددت دعوتها للجمعية العمومية الجمعة، وقال الدكتور جمال عميرة – وكيل نقابة الأطباء-، في تصريحات تلفزيونية، إن إلغاء مادة الحبس الاحتياطي بمشروع قانون المسئولية الطبية وحماية المريض هو استجابة لواحدة من خمس مواد طلبت النقابة تغييرها، وأضاف أن ” اجتماع لجنة الصحة بمجلس النواب الثلاثاء لم يناقش أمورًا جوهرية”، مشيرًا إلى أن “مشروع القانون لا يزال ينص على حبس الأطباء في الأخطاء المهنية، وهو أمر غير موجود بأي مكان في العالم”، وفق قوله.
وتعقيبًا على القرار، تعرب منى مينا – الأمين العام السابق لنقابة الأطباء- إلى زاوية ثالثة عن دهشتها من إقرار لجنة الصحة بمجلس النواب تعديلات قانونية، والقول بإنها جاءت استجابة لمطالب نقابة الأطباء، مشيرة إلى أن “البعض يهلل لهذه التعديلات رغم ما تحمله من أعباء جسيمة على الأطباء.”
توضح أن المادة 27 المعدلة تنص على غرامة تتراوح بين 100 ألف جنيه ومليون جنيه عن الأخطاء الطبية التي تُسبب ضررًا محققًا، بينما تصل العقوبة إلى السجن لمدة تتراوح بين سنة وخمس سنوات وغرامة بين 500 ألف ومليون جنيه إذا كان الخطأ جسيمًا، لافتة إلى أن الغرامة تُعتبر عقوبة جنائية يتحملها الطبيب شخصيًا، ولا تغطيها شركات التأمين التي تقتصر مسؤوليتها على التعويض المدني.
وتضيف منى أن التعريفات القانونية المتعلقة بالأخطاء الطبية ماتزال فضفاضة وتسمح بتفسيرات متعددة، ما يُزيد من مخاطر تحميل الأطباء مسؤولية جنائية في ظل غياب وضوح كافٍ. مشيرة إلى أن المادة 23 من القانون لم تُلغَ، إذ تتيح فرض عقوبات أشد إن وُجدت، رغم أن العقوبات الحالية تُعد من الأشد بالفعل. وشددت على ضرورة مراجعة هذه التعديلات لتفادي التضييق على الأطباء في ظل التحديات التي تواجههم.
تأجيل الجمعية العمومية يعمق الأزمة
أصدرت نقابة الأطباء بيانًا، عصر الخميس، أعلنت خلاله تأجيل الجمعية العمومية لمدة شهر، مع استمرار الجهود مع مجلس النواب لتحقيق كامل مطالب الأطباء العادلة، وصدور النسخة النهائية من مشروع القانون.
وقالت النقابة إن لجنة الصحة بمجلس النواب برئاسة أشرف حاتم، عقدت اجتماعًا أمس الأربعاء، لمناقشة مشروع قانون المسؤولية الطبية، بحضور نقيب الأطباء أسامة عبد الحي، واستمعت اللجنة إلى شرح وافي لمطالب نقابة الأطباء و تعديلاتها المقترحة بشأن مشروع القانون.
وأضاف أن نقابة الأطباء نجحت في الوصول إلى إلغاء عقوبة حبس الأطباء في الأخطاء المهنية، والحبس الاحتياطي لهم، حيث تم التوافق على تعديل بعض مواد مشروع قانون المسئولية الطبية، وإلغاء عقوبة حبس الأطباء في الأخطاء المهنية، مع إلغاء الحبس الاحتياطي، وإضافة تعريف واضح للخطأ الطبي والتفريق بينه وبين الخطأ الطبي الجسيم.
القرار أثار حالة من الغضب لدى عدد كبير من الأطباء، خاصة أنه حدث بشكل مفاجيء وبدون استطلاع آرائهم، ويقول مصدر طبي حضر الاجتماعات التي سبقت الإعلان عن القرار ظهر الخميس داخل النقابة لزاوية ثالثة، إن النقيب وأعضاء مجلس النقابة تعرضوا لضغط كبير، لكنه لم يفسر طبيعة الضغوط، مؤكدًا أنه حتى صباح الخميس كان قرار مجلس النقابة هو عقد الجمعية العمومية الطارئة، وبعد اجتماعات استمرت أكثر من ثلاث ساعات وشهدت مناقشات حادة بين مؤيد وعارض، تقرر إلغاء الجمعية او تأجيلها كما تم الإعلان.
وفي رد فعل سريع على الأزمة أعلن الدكتور إبراهيم الزيات أمين عام مجلس نقابة الأطباء استقالته عبر صفحته على الفيس بوك، وكتب: “كما وعدتكم جميعا إذ فشلت أرحل، بعد فشلنا في عمل جمعية عمومية طارئة لمصلحة الأطباء، ودفعا عنهم.”
ومن جهتها قالت منى مينا الأمين العام السابق لنقابة الأطباء: “النقابة، للأسف الشديد، تلغي الجمعية العمومية، فرحانين بالقانون الذي ينص على عقوبات أعلى من قانون العقوبات الذي كان سبب ضيق لنا جميعًا، خمسة سنوات سجن ومليون جنيه غرامة في حالة عدم احتراز، والنقيب يرحب”، وأضافت: “استهتار شديد بإرادة الأطباء.. وطعنة شديدة للمهنة.” وكتب الدكتور خالد سمير أستاذ جراحة القلب بطب عين شمس وأمين صندوق النقابة السابق: “مجلس نقابة الاطباء أخطأ بتأجيل الجمعية العمومية ولا يحق له قانونًا ذلك.”
نوصي للقراءة: قوانين حاسمة على طاولة البرلمان المصري في دور انعقاده الأخير
خمسة مطالب لـ الأطباء
خلال المناقشات التي شارك فيها نقيب الأطباء، أسامة عبد الحي، ونقيب الأسنان، إيهاب هيكل، بمجلس الشيوخ أكدت النقابة أنها تتمسك بمجموعة من المطالب الأساسية العادلة، منها رفض حبس الأطباء في القضايا المهنية، وقصر المسؤولية الجنائية على الأفعال المخالفة لقوانين الدولة أو الممارسات خارج التخصص الطبي، مع استبدال الحبس بالتعويضات في حالة الأخطاء غير العمدية، مشددة على عدم جواز الحبس الاحتياطي في القضايا المهنية، وضرورة أن تكون اللجنة العليا للمسؤولية الطبية هي الجهة المختصة بتقييم الأخطاء الطبية والفصل فيها.
وأضافت النقابة، بحسب بيان، أن مشروع القانون بصيغته الحالية لم يستجب لـ مطالبها المتعلقة بإنشاء صندوق تعويضات يتحمل كامل قيمة التعويضات دون مشاركة الطبيب في التمويل، مشيرة إلى أهمية أن يكون دور اللجنة العليا للمسؤولية الطبية محوريًا في التحقيق والتقاضي، بما يضمن الحياد والعدالة، مع توفير الحماية القانونية للأطباء أثناء ممارسة مهنتهم، بما يحقق التوازن بين حقوق المرضى ومقدمي الخدمات الصحية.
تقول منى مينا إن النقابة منذ أكثر من عشر سنوات، كانت أول جهة تطالب بإصدار قانون المسؤولية الطبية، بهدف وضع طريقة محاسبة علمية ومهنية لأي اتهام بالإهمال الطبي أو الخطأ الطبي، وتقدمت بقانون في وقت سابق، وتم إهماله، وبعدها تم إقرار القانون الراهن (المثير للجدل). تضيف: “نحن لا ننكر وجود أخطاء طبية، أو بعض حالات إهمال ربما يصل عدد منها إلى الإهمال الجسيم، هذه الأمور موجودة كأي مهنة أخرى، لكن المشكلة تكمن في ضرورة وجود قانون يفرق بين المضاعفات الطبيعية لأي تدخل طبي، والأخطاء الطبية، والإهمال الجسيم.”
يتفق معها أحمد حسين – عضو مجلس النقابة السابق-، إذ يؤكد في حديثه مع زاوية ثالثة أن أطباء مصر لا يرفضون القانون بالمطلق، ومنذ سنوات يطالبون بوضع قانون عادل وموضوعي للمسؤولية الطبية. يضيف: “مثل هذه القوانين موجودة في غالبية الدول التي تطبق أنظمة صحية مستقرة ومحترمة وتراعي مصالح المرضى. هذه الدول نجحت في تحقيق حالة من الرضا لدى المرضى تجاه أنظمتها الصحية. دائمًا أضرب مثالًا على الإمارات والأردن باعتبارهما الأقرب إلينا في المنطقة، وأرى أن القانون المطبق في الإمارات يمثل نموذجًا جيدًا يمكن أن يحتذى به”.
من جهته، يصف أسامة حمدي – أستاذ الأمراض الباطنية والسكري بجامعة هارفارد- القانون بأنه “المسمار الأخير في نعش الطب في مصر”، ويقول حمدي في منشور عبر صفحته الرسمية بـ (فيس بوك): “بعد أن هاجر ما يقرب من نصف أطباء مصر إلى خارجها، سيهاجر بالتأكيد، أو يمتنع عن العمل معظم الباقين إذا أُقِرَّ القانون الذي يسمح بمعاقبة الأطباء بالسجن الاحتياطي، أو عقوبة السجن لأخطاء المهنة، لتصبح مصر ربما أول دولة في العالم بلا أطباء! لا أتصور أن نواب الشعب ما زالوا لا يدركون ما هم مقبلون عليه مع هذا القانون الشاذ والأوحد في العالم، وأنهم يضعون بذلك القانون المشين أمن مصر القومي على حافة الهاوية. أتمنى وكلي حسرة أن يوقف أحد العاقلين هذا العبث وينهيه!”
نوصي للقراءة: من الاحتراق الوظيفي إلى الهجرة.. لماذا يترك الأطباء النفسيون مصر؟
خلط بين الخطأ والجريمة
يقول أحمد حسين في حديثه معنا إن “هناك حالة من عدم الفهم، أو ربما الفهم الخاطئ لدى الناس، حول أسباب رفض الأطباء للقانون المقترح.”
ويضيف: “رفضنا ليس بسبب معارضة مبدأ حبس الأطباء بالمطلق، كما يتم تصديره للناس، لكن الغرض من رفضنا هو حصر مسألة الحبس في الأفعال التي تُصنف كـ جرائم، مثل: (ختان الإناث، أو الإجهاض بدون مبرر طبي، أو ممارسة الطبيب لتخصص خارج دراسته وتخصصه)، ما نعترض عليه هو استبدال التعويض بالحبس في حالة الأخطاء الطبية غير المقصودة التي قد تقع من طبيب مؤهل ويمارس عمله وفق تخصصه وداخل مكان مرخص، لكن يحدث خطأ ما أثناء عمله هذا أمر وارد في أي مهنة، ولا يمكن اعتباره جريمة طالما أنه غير متعمد.”
وينوه أن “المشكلة في القانون المقدم من الحكومة أنه يساوي بين الطبيب المؤهل الذي يمارس عمله بشكل قانوني وارتكب خطأ غير متعمد، وبين الطبيب الذي ارتكب فعلًا إجراميًا هذا التساوي مرفوض تمامًا، لأنه لا يعكس العدالة.”
وفي السياق ذاته توضح منى مينا في حديثها معنا، أن المضاعفات الطبية جزء لا يتجزأ من العلاج، وتقول إن “أي تدخل طبي، مهما كان بسيطًا، قد يترتب عليه نسبة من المضاعفات أو الفشل، مثلاً، عملية استئصال اللوزتين قد تؤدي إلى مضاعفات معروفة طبيًا، فما بالك بالتدخلات الطبية الأكثر تعقيدًا؟ إذا اتبع الطبيب الإجراءات العلمية الصحيحة وبذل قصارى جهده، لا يجب أن يُحمّل مسؤولية المضاعفات، بل المطلوب أن يتابع الحالة ويعالج هذه المضاعفات وفقًا للأصول العلمية.”
وتشير إلى أن “الأخطاء الطبية، قد تحدث أثناء التدخل الطبي، كون هذا التدخل عملًا بشريًا معرضًا للخطأ، وإذا ارتكب الطبيب خطأً طبيًا دون تعمد أو إهمال جسيم، يجب أن يتم تعويض المريض أو أهله، لكن إذا كان الخطأ ناتجًا عن تصرفات خطيرة، كعمل طبيب خارج نطاق تخصصه، أو استخدام تكنيك غير مُعترف به، أو العمل تحت تأثير المخدرات أو الكحول، أو إجراء عملية في مكان غير مجهز بشكل مناسب، فهذا يعد إهمالاً جسيمًا يستدعي المحاسبة الجنائية.”
وتؤكد الطبيبة والقيادية النقابية أن هناك ضرورة لتحديد آليات المحاسبة، فالأخطاء الطبية الناتجة عن قصور بسيط في الأداء يجب أن تواجه بعقوبات مدنية، مثل التعويض المادي وإلزام الطبيب بدورات تأهيلية لتحسين مهاراته، أما الإهمال الجسيم والتصرفات غير المهنية، فهي تستحق المحاسبة الجنائية، بحسب قولها.
عن مشروع القانون الذي قدمته النقابة سابقًا، توضح منى مينا أنه يتضمن تقسيمًا واضحًا بين المضاعفات الطبية، والأخطاء البسيطة، والإهمال الجسيم، كما ينص المشروع على إنشاء لجنة لتقرير المسؤولية الطبية تكون الجهة الأساسية لاستقبال وفحص الشكاوى الطبية، على أن تتكون اللجنة من ممثلين عن النقابات الطبية المختلفة وأعضاء من المجتمع المدني. هذه اللجنة هي المسؤولة عن تحديد ما إذا كانت الحالة تمثل مضاعفات طبيعية، خطأ طبيًا يستحق تعويضًا مدنيًا، أو إهمالًا جسيمًا يتطلب المحاسبة الجنائية.
وتتابع: “المشكلة في القانون المقترح حاليًا من الحكومة أنه يسمح بتقديم الشكاوى في جهات متعددة مثل النيابة، وزارة الصحة، أو الجامعات في حالة المستشفيات الجامعية، هذا يؤدي إلى تضارب وتكرار الإجراءات.”
وتوضح أن من أبرز المشكلات في القانون الجديد أنه يمنح المريض وذويه حق التقدم بشكاوى ضد الطبيب في اللجنة المُشكلة حديثًا، وفق القانون، وفي النيابة أيضًا، “الأمر الذي يعني ازدواجية المحاسبة، بمعنى أن الطبيب يمكن أن يتم محاسبته أمام اللجنة والنيابة في آن واحد، ويعاقب الطبيب وفق العقوبات الواردة بقانون المسؤولية الطبية أو أي قانون ينص على عقوبات أشد، ويظل رأي اللجنة في النهاية استشاري ومن حق النيابة أو القاضي ألا يأخذ به”. وتؤكد أن النقابة تهدف إلى توحيد جهة المحاسبة لضمان العدالة للمرضى، وتحسين مستوى الكفاءات الطبية، وحماية الأطباء من التورط في قضايا جنائية لأسباب غير عادلة.
ومن جانبها، تقول الحكومة إن القانون يعالج الفرق بين الخطأ والجريمة او الإهمال المتعمد، وفي بيان صادر عن المجلس، يوضح وزير الشؤون النيابية والقانونية والتواصل السياسي، المستشار محمود فوزي أن الخطأ الطبي هو الإجراء الذي لا يتفق مع الأصول العلمية الثابتة أو آداب وتقاليد المهنة ويسبب ضرراً للمريض، بينما تنتفي مسؤولية الطبيب في حالات المضاعفات الطبية المعروفة علميًا، أو إذا اتبع الطبيب أسلوبًا يتفق مع الأصول العلمية، أو إذا كان الضرر بسبب فعل المريض نفسه أو عدم اتباعه التعليمات. وأشار إلى أن مشروع القانون يهدف إلى تحقيق التوازن بين جميع الأطراف، وأن اللجنة العليا للمسؤولية الطبية هي ضمانة إضافية للأطباء، إذ أوكل الأمر إلى أهل الاختصاص. وأوضح أن هناك طريقين لتقديم الشكوى، إما عن طريق اللجنة العليا أو اللجوء إلى النيابة العامة، مع ضمان حق التظلم من قرارات اللجنة.
لا يوجد في قانون العقوبات المصري مادة مُخصصة تحت مُسمى “الخطأ الطبي” أو “الإهمال الطبي” بشكل مُباشر. ولكن، يتم الاستناد إلى مواد عامة في القانون لتغطية حالات الخطأ أو الإهمال الطبي، وأهمها المادتين 244 و238 من قانون العقوبات. وتنص (المادة 244) على أن “كل من تسبب في جرح أحد من غير قصد ولا تعمد بأن كان ذلك ناشئا عن رعونة أو عن عدم احتياط وتحرز أو عن إهمال أو عدم انتباه أو عدم مراعاة اللوائح يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر أو بغرامة لا تتجاوز عشرة جنيهات مصرية.” و(المادة 238) التي تنص على أن “أي شخص يتسبب خطأً في موت شخص آخر نتيجة إهماله أو رعونته أو عدم احترازه أو عدم مراعاته للقوانين والقرارات واللوائح والأنظمة، يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وغرامة لا تتجاوز 200 جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.”
ويشير تقرير أصدرته مؤسسة ملتقى الحوار للتنمية (مؤسسة حقوقية مصرية) في أكتوبر 2023 إلى أن عدد الأخطاء الطبية في مصر سنويًا يبلغ 180 ألف حالة، وأن نحو 20 طبيبًا يتم شطبهم من نقابة الأطباء سنويًا، بسبب الأخطاء الطبية.
نوصي للقراءة: الحكومة تُقيد الحق في الصحة: لائحةٌ جديدة تُعيدنا إلى الوراء
بين حق الطبيب والمريض
يؤكد محمود فؤاد – المدير التنفيذي لــ المركز المصري للحق في الدواء- في حديث إلى زاوية ثالثة أنه طالما كانت هناك مطالب بإقرار قانون للمسؤولية الطبية ليس بهدف تقييد الأطباء أو سجنهم أو حتى إخضاعهم للحبس الاحتياطي لكن بهدف ضمان حق الطبيب والمريض، ويوضح أنه مع المتغيرات التي نشهدها اليوم وإقرار قانون جدلي بالفعل، هناك أولويات جديدة يجب أن توضع في الاعتبار.
ويضيف: “أول وأهم أولوية ضمان حق المريض الذي قد يصبح ضحية لأخطاء بشرية أو بسبب بيئة المستشفيات نفسها وتجهيزاتها، على سبيل المثال، هناك حالات كثيرة يتم تجهيز المرضى لإجراء عمليات جراحية بنظام الدور، ثم تُؤجل العمليات في اللحظة الأخيرة لعدم توافر المستلزمات أو الأدوية مثل التخدير، أو بسبب غياب الأطباء. يمكن الرجوع إلى جولات وزير الصحة الأخيرة التي كشفت عن غياب أطباء بالمئات، وهو مثال واضح على المشكلة.”
يشير إلى أنه في عام 2022، رفعت النيابة الإدارية تقريرًا رسميًا لرئيس الجمهورية يتضمن تسجيل 553 شكوى ضد أطباء بسبب أخطاء طبية. “هذا الرقم لا يشمل الحالات التي يتم حلها بالتصالح، أو المشكلات داخل المستشفيات الخاصة، التي تصل أحيانًا إلى استدعاء الشرطة والإسعاف بسبب الأخطاء الطبية. بعض هذه الأخطاء كانت خطيرة، ومن أبرزها الحالة الصحية للسيناريست المبدع بشير الديك، الذي دخل في غيبوبة نتيجة خطأ طبي”، حسب وصفه.
ويتابع: ” الطبيب أيضًا إنسان له احتياجات تتطلب تكاليف كبيرة، مثل الدراسات العليا للحصول على الماجستير أو الدكتوراه، والزواج، وتكوين أسرة، وامتلاك سيارة، وغيرها. في ظل هذه الاحتياجات، هل يكفيه راتب الحكومة؟ بالطبع لا. لذلك، يعمل الطبيب في مستشفيات حكومية للحفاظ على وضعه المهني، ثم يكمل عمله في مراكز طبية أو عيادات خاصة. هذا النظام يجعل الطبيب مرهقًا للغاية، إذ يعمل يوميًا ما يصل إلى نحو 24 ساعة. بالتالي، تصبح الأخطاء البشرية واردة بشكل طبيعي، حتى وإن حدث الإهمال، فالقانون الحالي لا يفرق بين الخطأ الطبيعي والإهمال الجسيم.”
ويؤكد أحمد حسين أهمية توافر الإمكانيات اللازمة للأطباء حتى يتمكنوا من أداء واجبهم كما هو مطلوب. يقول: “حتى يتمكن الطبيب من ممارسة دوره كما يجب، يجب أن تتوافر لديه الإمكانيات اللازمة، سواء كانت أدوية أو مستلزمات طبية أخرى.”
ويضيف: “من الضروري أيضًا أن يعمل الطبيب في ظروف آدمية ولمدة محددة لا تزيد عن ثمان ساعات يوميًا. للأسف، بعض الأطباء في الوقت الحالي يعملون لمدة 18 و24 ساعة داخل المستشفيات دون راحة، وبمرتبات ضعيفة، فضلًا عن عدم توافر الإمكانيات اللازمة. وفي ضوء هذه الظروف الصعبة، يُطلب من الطبيب التعامل مع حالات طارئة وخطيرة، بينما هو مهدد بالسجن والعقاب في حال وقوع أي خطأ.”
نوصي للقراءة: تداعيات إلغاء تكليف الأطباء في مصر
هل يحمي القانون الأطباء؟
الأطباء أيضًا يتعرضون للعنف، فقد كشفت دراسة أجراها باحثون بجامعة الإسكندرية عن ارتفاع معدلات العنف ضد الأطباء في مصر، من منظور الطب الشرعي. وشملت الدراسة، التي نُشرت في دورية “ساينتفك ريبورتس”، استطلاع آراء 250 طبيبًا في 13 محافظة خلال الفترة من يناير إلى أبريل 2023، لتوثيق تجاربهم مع العنف في أماكن العمل. وأظهرت النتائج أن 88% من الأطباء تعرضوا للعنف اللفظي، و42% للعنف الجسدي، و13.2% للتحرش الجنسي، مع استخدام 75.2% من المهاجمين أجسادهم، بينما استُخدمت أدوات حادة في 29.5% وأسلحة نارية في 1.9%. وتركزت الهجمات في مستشفيات وزارة الصحة والمستشفيات الجامعية، خاصةً خلال المناوبات الليلية، بسبب قلة الموظفين والإجراءات الأمنية، وكانت الحوادث غالبًا بسبب نقص الإمدادات الطبية وأوقات الانتظار الطويلة، ومع ذلك اتخذ 14.3% فقط من الأطباء إجراءات قانونية.
يقول أحمد حسين إن “الطبيب يُعاقب إذا طلب من المريض شراء بعض الأدوية من خارج المستشفى، وفي الوقت ذاته لا تتوافر الأدوية داخل الكثير من المستشفيات الحكومية. في مثل هذه الحالات، ماذا يفعل الأطباء؟ القانون الجديد لا يقدم حلولًا أو حماية للطبيب في هذه المواقف.”
ويضيف: “في حالة وقوع اعتداءات على الأطباء بسبب نقص الإمكانيات أو سوء الأوضاع، نجد أن القانون الجديد لا يوفر حماية كافية لهم. صحيح أن هناك مادة في القانون تعاقب المعتدين على المنشآت الطبية وتلزمهم بالتعويض، لكنها تبدو وكأنها مجرد محاولة لإظهار القانون بشكل موضوعي، وفي الحقيقة، هذه المادة في غير موضعها، لأن قانون الإجراءات الجنائية أصلًا يحدد عقوبات في حالات التعدي على المنشآت العامة.”
وينوه: “لا يمكن القول إن كل الاعتداءات على الأطباء تحدث بدافع البلطجة، في أغلب الحالات، يكون السبب الرئيسي هو نقص الإمكانيات المادية والبشرية التي تمنع الطبيب من القيام بدوره بشكل كامل. في بعض الأحيان، لا يتوافر طبيب مختص مؤهل، وهنا كلمة مؤهل تعني طبيبًا على قدر من الكفاءة وليس مجرد طبيب مختص بمجال دراسته. يجب أن تعمل الحكومة على توفير ظروف آدمية للطبيب حتى يتمكن من أداء عمله.”
يؤكد القيادي النقابي أن “المطلوب من الحكومة إقرار نظام صحي شامل يضمن حقوق مقدم الخدمة الصحية ويوفر له الإمكانيات اللازمة، وفي الوقت نفسه يكفل للمريض الحصول على أفضل رعاية صحية ممكنة، مع ذلك، يجب أن يكون هناك ضوابط واضحة لمعاقبة من يرتكب فعلًا إجراميًا، والتفريق بين هذا وبين الأخطاء الطبية غير المقصودة التي تحدث في إطار العمل الطبيعي.”
ومن جهته، يرى محمود فؤاد أن المنظومة الصحية بحاجة إلى مراجعة النظام التعليمي الطبي، خاصة مع الجامعات التي تقبل طلابًا بمعدل 70%، وتختصر سنوات الدراسة في كلية الطب إلى خمس سنوات بدلًا من ست، مع سنة الامتياز. “هل يمكن مقارنة كفاءة طبيب تخرج بمعدل 70% مع آخر حصل على 99%؟، هناك خبراء في مجال الطب يحذرون من هذه التوجهات، لأنها تهدد مستوى كفاءة الأطباء.”
ويتساءل: ” هل البيئة الطبية في المستشفيات الحكومية مؤهلة لتقديم رعاية صحية آمنة؟ هل تتوفر تجهيزات مكافحة العدوى، المستلزمات الطبية الضرورية، وضمان جودة الخدمات؟ هل حصلت المستشفيات على اعتماد الجودة المطلوب؟ للأسف، المئات من المستشفيات الحكومية تفتقر لهذه المعايير.”
يؤكد: “ما نريده هو قانون عادل يضمن حقوق الجميع: حق المريض في رعاية صحية آمنة، وحق الطبيب في العمل في بيئة تضمن كرامته وسلامته، وحق الدولة في تقديم منظومة صحية متكاملة. لا يجب أن نتوقف عند بند العقوبات فقط، أو أن يتحول القانون إلى تهديد مستمر للأطباء، لأن ذلك يضر بالمنظومة الصحية بأكملها.”
وتواجه مصر أزمة كبيرة في عجز أعداد الأطباء، إذ يبلغ معدل الأطباء 8.6 طبيب لكل عشرة آلاف مواطن، أي أقل من طبيب لكل 500 مواطن، بينما يبلغ المعدل العالمي نحو 23 طبيبًا لكل عشرة آلاف مواطن. هذا العجز يثير تساؤلات هامة حول كيفية تعامل السلطة مع هذه الأزمة المتفاقمة.
وفقًا لبيانات وزارة الصحة، يتخرج نحو تسعة آلاف طبيب سنويًا، لكن أكثر من 60% منهم يختارون العمل خارج مصر. في عام 2018، حذرت دراسة حكومية من انخفاض عدد الأطباء العاملين، وأظهرت أن من بين 213 ألف طبيب مرخص لهم مزاولة المهنة، يعمل فقط 82 ألفًا فعليًا في مختلف الجهات الصحية، ما يمثل 38% فقط من القوة الأساسية. هذه الأرقام تسلط الضوء على أزمة هجرة الأطباء إلى الخارج وترك المنظومة الصحية في مصر في حالة من العجز. كما أفاد الجهاز المركزي للإحصاء بانخفاض عدد الأطباء إلى 97.4 ألف طبيب في عام 2022، مقارنة بـ100.7 ألف في عام 2021، بانخفاض نسبته 3.3%. فيما ذكرت بيانات نقابة الأطباء المصرية، أن نحو 11 ألفًا و536 طبيبًا استقالوا من العمل الحكومي خلال ثلاث سنوات فقط في الفترة من 2019 وحتى مارس 2022. بحسب تلك البيانات، فإن عام 2022 شهد استقالة أكثر من 4300 طبيب مصري يعملون بالمستشفيات الحكومية، ويمثل العدد الأكبر خلال السنوات السبع الماضية، بمعدل يصل إلى 13.5 طبيب كل يوم، إذ تضاعف أربع مرات من 1044 استقالة عام 2016 إلى 4127 استقالة عام 2021.
ووفق نقابة الأطباء المصرية، فإن متوسط راتب الطبيب المقيم في مصر في عام 2022، بلغ نحو 3700 جنيه مصري، ومتوسط معاش الطبيب بعد نحو 35 عامًا من العمل الحكومي 2300 جنيه، بينما أشارت هيئة التأمين الصحي إلى أن متوسط راتب الطبيب في نظام التأمين الصحي الشامل الذي تم تطبيقه في بعض محافظات مصر يصل إلى 17 ألف جنيه في الشهر.
وفي أبريل 2022 أصدرت نقابة الأطباء المصرية، تقريرًا بعنوان “نقابة الأطباء تدق ناقوس الخطر”، حذرت فيه من استمرار عزوف الأطباء عن العمل في القطاع الحكومي، وتزايد سعيهم للهجرة خارج البلاد، لكن يبدو أن السلطة لم تنتبه إلى ضرورة وضع قوانين تعزز من قدرة الأطباء على ممارسة مهنتهم في مصر، في بيئة عمل يعتبرونها آمنة من الناحية الاقتصادية والأمنية والنفسية، في الوقت الذي سعت فيه – حسب وصف أطباء تحدثنا معهم- إلى مزيد من التقييد على الأطباء دون النظر إلى أحوالهم المعيشية والمهنية.