في أحدث حلقات الجدل، حول قانون الإجراءات الجنائية، شهد أول اجتماعات اللجنة المختصة بمناقشة التعديلات المُقترحة عليه داخل البرلمان، انقسامًا حادًا بين النواب، ما دفع 3 نواب فضلًا عن ممثلي نقابة المحامين للانسحاب من الجلسة، وإعلان اعتراضهم على تمسك الحكومة، ممثلة في وزارة العدل، بتعديل نص المادة 105 من مشروع القانون بما يسمح للنيابة العامة بأحقية التحقيق مع المتهم من دون محاميه، وهو نص اعتبره النواب المنسحبون بالإضافة إلى نقيب المحامين يتعارض مع الدستور.
شهدت اللجنة، المكوّنة من 13 عضوًا، والتي انعقدت للمرة الأولى السبت الماضي، انقسامًا في التصويت على التعديل، إذ أيّد القرار 6 أعضاء واعترض عليه 6 آخرون، ليحسم رئيس اللجنة ووكيل أول مجلس النواب، المستشار أحمد سعد الدين، الموقف بالموافقة باعتباره صاحب الصوت المرجّح.
عبّر خبراء قانونيون وبرلمانيون تحدثت إليهم زاوية ثالثة عن تشاؤمهم تجاه مسار المناقشات البرلمانية حول مشروع قانون الإجراءات الجنائية، معتبرين أن ما يجري داخل أروقة البرلمان “لا يعكس روح الاعتراضات الرئاسية” التي أعادت المشروع للنقاش في سبتمبر الماضي.
ورغم أن رئيس الجمهورية سجّل اعتراضاته على ثماني مواد أساسية في القانون، فإن الحكومة ـ ممثلة في وزارة العدل ـ ما تزال متمسكة بتمرير الصياغات المثيرة للجدل، وفي مقدمتها المادة (105) التي تُجيز لسلطة التحقيق استجواب المتهم في غياب محاميه، “إذا رأت في ذلك مصلحة تقتضي السرعة في إجراءات التحقيق”، مع الاكتفاء بتدوين مبررات الاستعجال في محضر التحقيق.
ويصف الخبراء هذه المادة بأنها “طعنة في صميم الحق الدستوري في الدفاع”، إذ تُفرغ ضمانات العدالة من مضمونها، وتتعارض بشكل صريح مع المادة (54) من الدستور المصري التي تنص بوضوح على أنه: “لا يبدأ التحقيق مع المتهم إلا في حضور محاميه، فإن لم يكن له محامٍ نُدب له محامٍ، مع توفير المساعدة اللازمة لذوي الإعاقة وفقًا للإجراءات المقررة في القانون.”
ويرى المختصون أن هذا التباين بين النصين ليس مجرد خلاف قانوني، بل صراع على فلسفة العدالة ذاتها، بين توجه دستوري يحمي المتهم وضماناته، وآخر إداري يسعى لتوسيع صلاحيات التحقيق حتى لو جاء ذلك على حساب الحقوق الدستورية للمواطنين.
وتعقيبًا توضح الدكتورة مها عبد الناصر، -عضو مجلس النواب عن الحزب المصري الديموقراطي-، أنها انسحبت من اللجنة الفرعية المعنية بمناقشة مشروع قانون الإجراءات الجنائية، احتجاجًا على تمرير المادة 105 التي اعتبرتها انتهاكًا صارخًا لقيم العدالة وحقوق المتهمين. موضحة في تصريح إلى زاوية ثالثة أن المادة تمنح سلطات واسعة للنيابة العامة في التحقيقات والحبس الاحتياطي، بما يضعف ضمانات المحاكمة العادلة ويهدد حق الدفاع، مؤكدة أن موقفها يعكس حرصها على حماية المبادئ الدستورية والعدالة، ومنع أي تراجع عن المكتسبات الحقوقية التي كفلها القانون والدستور.
نوصي للقراءة: جلسة برلمانية طارئة: الإجراءات الجنائية يعود للمناقشة بأمر الرئيس

انتهاك صريح للدستور
يؤكد المحامي ناصر أمين، – رئيس المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة-، في تصريحات إلى زاوية ثالثة، أن إعادة مشروع قانون الإجراءات الجنائية إلى البرلمان بقرار من رئيس الجمهورية، يمثل لحظة حاسمة للعدالة في مصر، منتقدًا استمرار الحكومة ممثلة في وزارة العدل في المُضي قدمًا لتمرير بعض المواد السالبة للحريات والمتناقضة مع الدستور، مؤكدًا أن المادة (105) محل الخلاف، بالإضافة لمواد أخرى، وهي تسمح للنيابة العامة بالاستمرار في التحقيق مع المتهم دون حضور محاميه، يعتبر مخالفة صريحة للضمانات الدستورية وحقوق المتهمين. لافتًا إلى أنها إحدى المواد الثماني التي شملتها مذكرة اعتراض رئيس الجمهورية، وأنها تمثل جوهر الخلاف الحالي، حيث تجيز للنيابة العامة التحقيق مع المتهم حتى في غياب محاميه، وهو ما وصفه أمين بأنه انتهاك مباشر للحقوق المكفولة بالدستور.
ويشير أمين في حديثه معنا إلى أن هذه المخالفة ليست مجرد ثغرة إجرائية، بل اعتداء على المبادئ الأساسية للعدالة، بما في ذلك كفالة حق الدفاع وقرينة البراءة، مطالبًا بتعديل المادة وضمان حضور المحامي في جميع مراحل التحقيق، مع ضرورة تصحيح أي خلل في المواد الأخرى المشابهة داخل البرلمان، وإعادة النظر في جميع النصوص التي قد تضعف حقوق المتهمين، وتنال من منظومة العدالة والتقاضي، ولا تتوافق مع مبادئ حقوق الإنسان.
ويشدد أمين على ضرورة مراجعة كافة المواد السالبة للحريات والحقوق في نص القانون، الذي سبق وسجل المركز العربي اعتراضات كثيرة عليه، تمثلت أبرزها في 10 اعتراضات رئيسية، مشيرًا إلى أنه في أبريل الماضي، رفض المركز مجمل التعديلات التي أًجريت على القانون، واصفًا مواده بأنها “جردت المواطنين من حقوقهم الدستورية والقانونية في نيل محاكمة عادلة ومنصفة وفقا للمعايير الدولية ذات الصلة، منذ اللحظة الأولى للقبض عليهم مرورًا بمرحلة التحقيق وصولًا إلى مرحلة المحاكمة والطعن على الأحكام. فضلًا عما تضمنه هذا القانون من إغفال لضمانات واجبة المراعاة في إجراءات تفتيش المنازل والأشخاص والتصنت على الرسائل والمحادثات الخاصة.
ويلفت أمين كذلك إلى ضرورة مراجعة كافة المواد بما فيها التي أشارت إليها مذكرة اعتراض الرئاسة، بما في ذلك حماية حرمة السكن، وضمانات المتهم في جميع مراحل المحاكمة، وزيادة بدائل الحبس الاحتياطي، وإزالة أي غموض في الصياغة، مع مراعاة الوضوح والواقعية وإتاحة الوقت الكافي للوزارات والجهات المعنية لتنفيذ الآليات والنماذج المستحدثة.

لماذا يرفض بعض النواب إعادة مناقشة القانون؟
يقول الدكتور فريدي البياضي، -عضو مجلس النواب عن الحزب المصري الديمقراطي ونائب رئيس الحزب-، في حديث إلى زاوية ثالثة، إن البعض داخل البرلمان يرى أن العودة لمناقشة مشروع القانون، ربما يمثل تقليل من جهود النواب التي بذلت خلال 28 شهرًا في مناقشة وإقرار القانون، لكن من جهته لا يعتقد أن فتح تعديلات كثيرة على القانون يقلل من الجهد الكبير الذي بذلته اللجنة والبرلمان على مدار 28 شهرًا، بالعكس، هذه التعديلات تمنح فرصة لإعطاء اهتمام أكبر بالقانون وتطويره للخروج بصيغة أفضل وأكثر تكاملًا، حتى لو استغرقت هذه التعديلات وقتًا أطول، فهذا لا يضعف ما تم إنجازه، بل يعكس حرص البرلمان على أن يكون التشريع متماسكًا وعادلاً.
ويشير البياضي إلى أن مناقشات مشروع قانون الإجراءات الجنائية داخل البرلمان شهدت صولات وجولات من النقاشات الحادة والخلافات المستمرة، حيث واجهت محاولات تعديل القانون أو رفضه عقبات كبيرة أمام تصويت الأغلبية، وهو ما جعله يصف التجربة أحيانًا بأنها أشبه بمحاربة طواحين الهواء، مؤكدًا أن القرار الأخير لرئيس الجمهورية بإعادة القانون إلى المجلس دون التصديق عليه، جاء كإثبات حيّ على أن جهود المعارضة لم تذهب سدى، وأن هناك من استمع لتحفظاتها وملاحظاتها.
ويرى البياضي أنه من المهم إعادة النظر في المواد التي تم التعليق عليها من جانب الرئاسة، خصوصًا المواد المرتبطة بأحكام أخرى، فلا مانع من فتحها للمراجعة، وإذا لم يتم الانتهاء منها خلال الفترة الحالية، فإن إحالتها للبرلمان القادم لا تُعد فقدًا للجهد، بل فرصة لضمان أن يُصدر القانون بصورة أفضل تخدم منظومة العدالة.
ويتابع: “أما بخصوص حجة الاستعجال، التي تقول إن القانون سيؤدي إلى إخراج عدد كبير من المسجونين، فالأمر بحاجة لتقييم دقيق. صحيح أن هناك حالات تستدعي عدم استمرار الحبس الاحتياطي، لكن من المهم ألا تؤدي السرعة إلى إضعاف قوة القانون أو ظهور ثغرات تقلل من فعاليته، في النهاية، القانون يجب أن يكون بمثابة مرجع دستوري ثانٍ للدولة: قوي، عادل، ويدعم المنظومة القضائية دون ثغرات.”
كذلك يلفت نائب رئيس الحزب المصري الديمقراطي إلى أن حزبه كان الكتلة الوحيدة التي رفضت القانون بكامله، وسلك كل الوسائل البرلمانية والسياسية الممكنة، من تقديم تعديلات على النصوص، وممارسة ضغط سياسي، والتعاون مع منظمات المجتمع المدني وخبراء الحقوق والحريات، وصولًا إلى التواصل مع أطراف سياسية مختلفة، لكن الأغلبية أصرت على تمرير القانون بصورته الأصلية. وأضاف أن الهدف من كل هذه المساعي ليس مجرد المماطلة، بل الوصول إلى نسخة من القانون تحفظ حقوق المتهمين وتحقق العدالة الجنائية، بعيدًا عن أي ثغرات أو صلاحيات موسعة للنيابة العامة على حساب حقوق الدفاع.
نوصي للقراءة: حقوقيون يقترحون تعديلات لضمان عدالة قانون الإجراءات الجنائية

ما أبرز اعتراضات الرئيس؟
وتمثلت اعتراضات السيسي في أن يبدأ العمل بالقانون مع افتتاح العام القضائي الجديد في الأول من أكتوبر 2026، وليس فور نشره في الجريدة الرسمية، نظرًا لما يتطلبه القانون من إنشاء مراكز إعلانات هاتفية تتبع وزارة العدل وتجهيزها على مستوى أكثر من 280 محكمة جزئية على مستوى الجمهورية. كذلك شملت غياب تعريف محدد للخطر الذي يجيز دخول المساكن وفق المادة 48 من القانون، الأمر الذي قد يفتح الباب لتفسيرات واسعة تمس الحماية الدستورية لحرمة المنازل. كما ركزت على التناقض في إجراءات استجواب المتهم في حالات الضرورة المنصوص عليها بالمادة 105، وعدم توافقها مع المادة 64 من المشروع نفسها بشأن ضوابط الاستجواب، والتي لم تمنح النيابة العامة الحق في بعض الحالات المقررة لمأموري الضبط القضائي. وأثارت الاعتراضات المادة 112، التي أجازت إيداع المتهم في بعض الجرائم من دون تحديد مدة قصوى أو اشتراط أمر قضائي مسبب، مما يمس ضمانات الحرية الفردية. كما تناولت المادة 114، التي قيدت الحبس الاحتياطي بثلاثة بدائل فقط دون استحداث بدائل إضافية تتيح مرونة أكبر لجهات التحقيق.
وتطرقت الاعتراضات كذلك إلى المادة 123 التي حددت عرض أوراق المتهم على النائب العام لمرة واحدة فقط خلال فترة الحبس الاحتياطي، بدلًا من العرض الدوري كل ثلاثة أشهر كما أوصت اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان. كما تناولت المادة 231، مؤكدة ضرورة النص على العودة إلى الإعلان التقليدي حال تعطل الوسائل الإلكترونية، مع إلزامية الإعلان خلال 24 ساعة. وأخيرًا، شملت المادة 411 التي تلزم المحكمة بانتداب محامٍ في غياب المتهم أو وكيله عند نظر الاستئناف، من دون منحه فرصة للحضور، بما يتعارض مع كفالة حق الدفاع وأصل قرينة البراءة.
ولم تشمل الاعتراضات في المقابل المواد المتعلقة بمنح القضاة صلاحيات مصادرة الهواتف والأجهزة المحمولة أو مراقبة المواقع الإلكترونية وتسجيل المحادثات عند الحاجة للتحقيقات، أو وضع الأجهزة والحسابات تحت المراقبة في حال ارتكاب جرائم تتعلق بالإضرار بالممتلكات العامة أو مصالح الدولة أو التشهير عبر المكالمات الهاتفية.

” المحامين”: وزارة العدل انحرفت عن جوهر التعديل
أصدرت نقابة المحامين المصرية بيانًا حادّ اللهجة عقب الاجتماع المشترك بين مجلس النقابة العامة والنقباء الفرعيين، برئاسة عبد الحليم علام، نقيب المحامين ورئيس اتحاد المحامين العرب، لمناقشة موقف النقابة من تعديلات المشروع، ليضع النقابة في مواجهة مباشرة مع وزارة العدل واللجنة الخاصة بمجلس النواب، متهمًا الجهتين بـ”تحريف” مضمون الاعتراضات التي تقدّم بها رئيس الجمهورية على بعض مواد المشروع، في مقدمتها المادة (105)، التي تنظم حضور المحامي مع المتهم أثناء التحقيق أو المواجهة، وهي المادة التي وصفتها النقابة بأنها “صمام الأمان لحق الدفاع” وركيزة أساسية في ضمان العدالة الجنائية.
وقال البيان إن النقابة استقبلت باحترام مذكرة اعتراضات الرئيس على ثماني مواد من مشروع القانون البالغ عددها (552) مادة، معتبرة أن تلك الخطوة تجسد حرص القيادة السياسية على التدقيق في النصوص التي تمس منظومة العدالة وضمانات المتهمين. لكن النقابة عبّرت عن “صدمتها” مما وصفته بـ”انحراف وزارة العدل واللجنة البرلمانية الخاصة عن جوهر الاعتراضات الرئاسية”، عبر تقديم صياغات جديدة “تتعارض مع الدستور وتفرغ التعديلات من مضمونها الإصلاحي”.
وأكدت النقابة أن التعديلات المقترحة في البرلمان تمثل تراجعًا خطيرًا عن فلسفة حق الدفاع، إذ سمحت للمحقق باستجواب المتهم دون حضور محامٍ، في انتهاك مباشر للمادة (54) من الدستور التي تنص صراحة على عدم جواز بدء التحقيق إلا في حضور محامي المتهم، أو بندب محامٍ له إن لم يكن لديه. وأضاف البيان أن هذه الصياغة الجديدة “تفتح الباب أمام سلطات استثنائية غير مقيّدة للمحققين”، وهو ما يهدد مبدأ سيادة القانون ويمس جوهر العدالة.
وأشار البيان إلى أن نقابة المحامين، بوصفها شريكًا دستوريًا في إرساء قواعد العدالة وصون الحقوق والحريات، تابعت بقلق بالغ مجريات مناقشات اللجنة الخاصة داخل البرلمان، معتبرة أن ما دار هناك يُظهر “رغبة مُلِحّة في تقويض دور الدفاع والانتقاص من الضمانات الدستورية”. وأكدت أن ما جرى يمثل “تحديًا لإرادة القيادة السياسية ولضمير الأمة”، ويعكس توجهًا نحو إفراغ القانون من مضمونه الدستوري.
وفي موقف احتجاجي واضح، كشف البيان أن نقيب المحامين انسحب من أعمال اللجنة الخاصة بعد تسجيل اعتراضاته رسميًا في المضبطة البرلمانية، معتبرًا أن انسحابه جاء “انحيازًا لدولة القانون وكشفًا لمحاولات تمرير نصوص تمس الحريات المكتسبة”. ووصفت النقابة هذه الخطوة بأنها “رسالة قوية برفض العبث بالعدالة وكرامة المواطن المصري.
وشدد البيان على أن النقابة “لن تقف صامتة أمام أي انتهاك لحق الدفاع”، وأنها ستستخدم جميع الوسائل القانونية والدستورية للتصدي لأي محاولة للنيل من دولة القانون. كما أكدت أنها ستواصل الدفاع عن إصدار قانون الإجراءات الجنائية الجديد “بعد تصويب أوجه العوار” التي حددتها في مذكراتها السابقة على مدار عام كامل.

“الصحفيين” على خط المواجهة
من جهته، أعلن خالد البلشي، نقيب الصحفيين، تضامنه الكامل مع البيان الصادر عن نقابة المحامين، والذي عبّر عن رفضه لأي انحراف عن الضمانات الدستورية في مشروع قانون الإجراءات الجنائية، وبالأخص التعديل الأخير على المادة (105) الخاصة بكفالة حق الدفاع، معتبرًا أن هذا التعديل يمثل مخالفة دستورية جديدة وتراجعًا عن فلسفة الاعتراضات التي أبداها رئيس الجمهورية، وتوجيهاته بضرورة تعزيز الضمانات التي تصون حقوق المتهم.
وأوضح البلشي، في منشور عبر صفحته على “فيسبوك” الاثنين، أن موقفه يأتي استكمالًا لموقف نقابة الصحفيين الثابت من مشروع القانون، بوصفه الركيزة الأساسية لمنظومة العدالة ودستورها العملي الذي يحمي حقوق الأفراد وحرياتهم. وأكد ضرورة خروج القانون للنور خاليًا من أي عوار دستوري، وبما يضمن مزيدًا من الحماية القانونية للمواطنين في مختلف مراحل التقاضي، محذرًا من أن أي إخلال بهذه الضمانات من شأنه أن يزعزع ثقة المواطنين في منظومة العدالة برمتها.
وتعليقًا على المادة (105)، شدد البلشي على أن النص الأصلي للمادة ينص على وجوب حضور المحامي مع المتهم أثناء استجوابه أو مواجهته بغيره من المتهمين أو الشهود، وهو ما يتسق تمامًا مع الضمانة الدستورية المنصوص عليها في المادة (54) من الدستور. لكنه أشار إلى أن التعديل المقترح جاء مخالفًا بوضوح للنص الدستوري وللفلسفة التي انطلقت منها اعتراضات رئيس الجمهورية، معتبرًا أن ذلك يُفرغ النص من مضمونه الداعم لحق الدفاع.
وأضاف البلشي أن التعديل الجديد لم يعالج الثغرات القائمة في المادة (64) من المشروع، التي فتحت الباب أمام الإخلال بحقوق المتهم، بل انحرف عن هدف تصحيح العوار نحو تقليص الضمانات الدستورية وتقويض دور الدفاع في مرحلة التحقيق. واعتبر أن هذا الاتجاه يعكس رغبةً غير مفهومة في الانتقاص من الحقوق التي أقرها الدستور.
وأكد نقيب الصحفيين أن مشروع قانون الإجراءات الجنائية لا يخص فقط العاملين في مجال العدالة، بل هو شأن عام يمس كل مواطن ومؤسسة معنية بالحقوق والحريات، باعتباره “دستور العدالة في مصر”. ومن هذا المنطلق، أعلن انضمامه بصفته نقيبًا وشخصيًا إلى المطالب العادلة لنقابة المحامين في هذا الملف، مشددًا على أن أي مساس بحق الدفاع أو محاولة إفراغ القانون من محتواه الحامي للحريات يُعد انتهاكًا صريحًا للدستور وإضعافًا لدولة القانون.
وقال البلشي: “تضامني مع نقابة المحامين في هذه القضية المصيرية هو دفاع عن مبادئ العدل والمساواة التي يجب أن تسود وطننا، وعن حق كل مواطن في محاكمة عادلة ومنصفة”.
واختتم بالتأكيد على أن إعادة المشروع إلى النقاش من جانب رئاسة الجمهورية، إلى جانب الاعتراضات التي أبداها عدد من النواب والمحامين وتأجيل تطبيق القانون حتى بداية العام القضائي المقبل، تفرض ضرورة التمهّل وإعادة دراسة المشروع من جميع جوانبه، بما في ذلك فلسفته العامة. ودعا إلى مراجعة الملاحظات المقدمة من مختلف الجهات الرسمية والمجتمع المدني، ومن بينها نقابة الصحفيين والمجلس القومي لحقوق الإنسان والحوار الوطني، مع ضرورة الانفتاح على تطبيق المعايير الدولية لضمان محاكمات عادلة تصون الحقوق والحريات.
نوصي للقراءة: برلمان يبحث عن جمهوره.. لا أحد يعرف موعد الانتخابات

فلسفة معيبة تعكس نزعة أمنية
في سياق متصل، رأت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية أن مشروع قانون الإجراءات الجنائية الذي أقره مجلس النواب في أبريل الماضي، يمثل انتكاسة خطيرة لمنظومة العدالة في مصر، إذ تجاهل البرلمان على مدار عام كامل كل الاعتراضات القانونية والمجتمعية التي طالبت بإرجاء مناقشته وتوسيع المشاركة المجتمعية في صياغته. وأكدت المبادرة أن قرار رئيس الجمهورية في 21 سبتمبر الماضي بإعادة القانون إلى مجلس النواب يمثل فرصة نادرة لإعادة النظر في فلسفة التشريع برمته وليس مجرد تعديل لبعض المواد، بما يضمن توافقًا سياسيًا ومجتمعيًا حول قانون يعدّ العمود الفقري لمنظومة العدالة الجنائية ورافدًا أساسيًا للدستور.
وأشارت المبادرة إلى أن جوهر الاعتراض لا يقتصر على وجود نصوص قانونية معيبة أو مواد تفتقر إلى الضمانات، بل في الفلسفة الحاكمة للقانون ذاته، التي تعكس رغبة سياسية وأمنية في تقنين الأوضاع القائمة وترسيخ الانتهاكات والاختلالات التي طالت العدالة الجنائية في مصر على مدار السنوات الماضية. فبدلاً من تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة وحماية حقوق المتقاضين، ضاعف مشروع القانون من سلطات النيابة العامة ومأموري الضبط القضائي على حساب المتهمين ودفاعهم، متجاهلاً مبدأ “افتراض البراءة حتى تثبت الإدانة” المنصوص عليه في الدستور، وهو ما اعتبرته المبادرة تراجعًا عن أحد أهم مكتسبات التشريع المصري منذ صدور قانون الإجراءات الجنائية عام 1950.
وأكدت المبادرة أن المواد الأكثر إثارة للجدل هي تلك التي تمنح النيابة العامة صلاحيات واسعة دون رقابة، مثل المادة 116 الخاصة بمراقبة الاتصالات، والمادة 105 المتعلقة بسلطات التحقيق، فضلًا عن النصوص التي تقيد حق المتهم في الاتصال بمحاميه أو تتيح التقاضي عن بُعد داخل السجون، بما يتعارض مع مبادئ المحاكمة العادلة. وطالبت المبادرة بأن يكون التعديل المرتقب فرصة لإعادة التوازن بين سلطات الادعاء والدفاع، وضمان حق المتهم في محاكمة علنية خلال فترة زمنية معقولة، وإلغاء كل النصوص التي تحول الاستثناء إلى قاعدة، مثل تمديد الحبس الاحتياطي وتقييد الطعن على قرارات النيابة، مؤكدة أن الهدف من أي قانون جديد يجب أن يكون تحسين الأوضاع القائمة لا ترسيخها.

وزير العدل بين اعتراض الرئاسة وتراجع اللحظة الأخيرة
على نحوٍ عكس ارتباكًا داخل دوائر صنع القرار التشريعي، فجّر وزير العدل المستشار عدنان فنجري جدلًا واسعًا تحت قبة البرلمان بعد أن أبدى اعتراضًا على بعض التعديلات التي اقترحها الرئيس عبد الفتاح السيسي على مشروع قانون الإجراءات الجنائية، قبل أن يعود ويتراجع عنها في جلسة لاحقة، مُعلنًا تأييده الكامل لملاحظات الرئاسة، وهو الموقف الذي أثار تساؤلات حول جدية الحكومة في مراجعة القانون المثير للجدل.
خلال جلسة مناقشة الاعتراضات الرئاسية أواخر سبتمبر، أصرّ وزير العدل في البداية على أن مشروع القانون في صيغته التي أقرها مجلس النواب في أبريل الماضي “كافٍ” من حيث الضمانات، وأن إضافة بدائل جديدة للحبس الاحتياطي، كتتبع إلكتروني أو رقابة قضائية موسعة، تحتاج إلى إمكانيات غير متاحة، على حد قوله.
اعتراض الوزير أثار جملة انتقادات واسعة، خاصة أنها بدت اعتراضًا على ملاحظات الرئيس على القانون، وفي جلسة لاحقة تدخّل رئيس البرلمان المستشار حنفي جبالي، موجّهًا سؤالًا مباشرًا للوزير: “هل تتمسك بموقفك السابق؟”، ليجيب فنجري بكلمة واحدة: “لا”. وبينما خرجت وزارة العدل ببيانٍ لاحق أكدت فيه أن الوزير لم يرفض توجيهات الرئيس، وأن ما أُثير “اجتزاء من سياق النقاش”، إلا أن مراقبين رأوا أن المشهد أضرّ بصورة الحكومة أمام الرأي العام، وكشف عن صراع صامت بين إرادتين داخل الدولة: الأولى تميل إلى ترسيخ سلطة النيابة العامة وتقييد مساحات الدفاع، والثانية تميل إلى إصلاحات تدريجية توازن بين متطلبات الأمن وضمانات العدالة.
مع احتدام الجدل حول مشروع قانون الإجراءات الجنائية، تبدو الصورة واضحة: برلمان يمضي قدمًا في تمرير مواد مثيرة للجدل، رغم اعتراض الرئاسة ورفض القوى السياسية والنقابية، وهو ما يثير تساؤلات حول التوازن بين السلطة التشريعية وضمانات العدالة والحريات الدستورية. كذلك التوتر القائم حول المادة 105 وغيرها من المواد الأساسية يعكس صراعًا أوسع على فلسفة العدالة في مصر، بين توجه يوسع سلطات النيابة العامة حتى على حساب حقوق المتهمين، وتوجه آخر يسعى للحفاظ على الضمانات الدستورية الأساسية، بما في ذلك حضور المحامي وحق الدفاع.