أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي القرار الجمهوري رقم 303 لسنة 2025، بتخصيص قطعة أرض مملوكة للدولة، تبلغ مساحتها نحو 41,515 فدانًا (ما يعادل 174 مليون متر مربع) في محافظة البحر الأحمر، لصالح وزارة المالية، لاستخدامها في تقليص الدين العام من خلال إصدار صكوك سيادية، وفقًا للقوانين واللوائح المعمول بها. نُشر القرار في العدد رقم 23 (أ) من الجريدة الرسمية بتاريخ 4 يونيو 2025.
ونص القرار، الذي يتمتع بقوة القانون ولا يجوز الطعن عليه إلا من خلال المسارات الإدارية، على احتفاظ القوات المسلحة بملكية المواقع العسكرية الكائنة داخل تلك المساحة، بوصفها مناطق استراتيجية ذات أهمية دفاعية وأمنية.
وتشير بنود القرار إلى أن الأرض ستُستخدم كضمان لإصدار صكوك سيادية محلية، في إطار خطة الدولة لتقليل أعباء الدين العام، وهو ما يُعد أحدث إجراء في سلسلة خطوات توظيف الأصول العامة لأغراض مالية.
وتُعرف الصكوك السيادية بأنها أوراق مالية حكومية متساوية القيمة، تُطرح للتداول لمدة زمنية محددة لا تتجاوز 30 عامًا، وتُعبّر عن حصص في منافع أصول عامة يتم تحديدها وفقًا لنشرة الإصدار.
وتأتي هذه الخطوة في سياق ما يعرف بـ”سياسات تعظيم الاستفادة من أصول الدولة غير المستغلة”، التي تعتمدها الحكومة المصرية خلال السنوات الأخيرة. وتُعد الصكوك السيادية أداة تمويل جديدة نسبيًا في مصر، تم تفعيلها بقانون صدر عام 2021، وتستخدم لضمان أدوات دين تُطرح في السوق المحلية أو الدولية. ويهدف تخصيص هذه الأرض إلى إدراجها ضمن الأصول التي تُستخدم كغطاء لإصدار تلك الصكوك.
في المقابل، أثار حالة من الجدل والتساؤلات حول حالة الغموض التي سيطرت على الإعلان الرسمي، ومدى اقترابه من مناطق حيوية أو مناطق التعدين والطاقة، ما قد يؤثر مستقبلاً على طبيعة استخدامها أو قيمتها التقديرية في سوق الأصول.
وتمتد المساحة الخاضعة لأحكام القرار الجمهوري من منطقة رأس شقير وحتى رأس جمسة السياحية، جنوبي خليج السويس، على الساحل الغربي للبحر الأحمر. وتُعد رأس شقير، إلى جانب رأس بناس، من بين أكبر تجمعات الشعاب المرجانية البِكر في العالم. ويُعرف لسان شبه جزيرة رأس شقير بامتداده داخل مياه البحر الأحمر لمسافة تصل إلى 50 كيلومترًا، وتضم المنطقة ميناء برنيس القديم، كما تقع قبالة مدينة ينبع السعودية على الضفة المقابلة من البحر.
نوصي للقراءة: رأس الحكمة في مواجهة جرافات كامل الوزير
خصخصة الموارد السيادية ومزيدًا من الديون
في أعقاب التساؤلات التي أثارها القرار على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي محاولة لاحتواء حالة الجدل الواسعة، أصدرت وزارة المالية المصرية بيانًا رسميًا في 12 يونيو، أكدت فيه أن تخصيص المساحة المذكورة للوزارة لا يعني بيع الأرض أو التخلي عن ملكيتها، وإنما يهدف إلى استخدامها وتطويرها ضمن خطة شاملة لتعظيم الاستفادة من الأصول العامة.
وأوضح البيان أن الأرض ستظل مملوكة للدولة المصرية، ممثَّلة في وزارة المالية وبعض الجهات الحكومية ذات النشاط الاقتصادي، وأن الغرض من تخصيصها هو استخدام جزء منها كضمانة لإصدار صكوك سيادية، بهدف تحسين المؤشرات المالية العامة وخلق حيز مالي يسمح بزيادة الإنفاق على برامج الحماية الاجتماعية والتنمية البشرية.
وفي البيان ذاته، أوضحت وزارة المالية أن الإجراءات المرتبطة بتخصيص الأرض وإصدار الصكوك السيادية تندرج ضمن استراتيجية أوسع لتحسين مؤشرات المالية العامة، من خلال خفض المديونية الحكومية، وتنشيط الاقتصاد، وتعزيز التنافسية، إلى جانب خفض تكلفة التمويل المحلي والدولي.
وأكدت الوزارة أن الصكوك السيادية ستُستخدم كأداة لتوفير حيز مالي إضافي، يمكن عبره زيادة الإنفاق على برامج الحماية الاجتماعية، بما يتيح دعم الفئات الأولى بالرعاية وأصحاب الدخول المحدودة، فضلاً عن تعزيز مخصصات التعليم والصحة، ورفع جودة الخدمات العامة المقدّمة للمواطنين.
وبررت الوزارة هذه الخطوة بكونها وسيلة لضمان توزيع أوسع لعوائد الاستثمار على الشرائح الاجتماعية المختلفة، مشيرة إلى أن الأرض المخصصة ستظل في ملكية الدولة، ويجري تطويرها واستثمارها بما يحقق نفعًا اقتصاديًا واجتماعيًا طويل الأمد.
في سياق متصل، عبّر الخبير الاقتصادي والسياسي زهدي الشامي عن موقف نقدي حاد تجاه القرار، معتبرًا أن الدولة تسلك طريقًا واضحًا في الاعتماد المتزايد على بيع الأصول كحل مؤقت لأزمة الديون المتفاقمة.
وقال الشامي في حديثه لزاوية ثالثة: “الأمر واضح ولا يحتاج الكثير من التفسير. الدولة تسير في سكة الديون الكبيرة التي أصبحت عاجزة عن سدادها في أوقاتها المحددة، والحل الذي تلجأ إليه هو الاستغناء عن الأراضي المملوكة للدولة لصالح مستثمرين من دول الخليج، كما حدث في رأس الحكمة، وكما تحدثت الدولة سابقًا عن المنطقة الاقتصادية الخاصة بقناة السويس.
وأوضح أن الدولة تتحرك في هذا الاتجاه تحت مسميات مختلفة، سواء بيع أو حق انتفاع، لكن النتيجة واحدة، أراضي مصر تُخصص لصالح شركاء أجانب، ولن يجدي هذا نفعًا ما دامت السياسات الاقتصادية الخاطئة مستمرة، دون معالجة حقيقية للأزمات أو مراجعة للنهج القائم.
وتابع الشامي أن الدولة تربط مباشرة بين بيع الأرض وسداد الديون، لأن الدولة أصبحت مديونة وعاجزة عن الوفاء بالتزاماتها، وهذه السياسات تفتح الباب واسعًا لتساؤلات خطيرة حول تهديد الأمن القومي، خصوصًا أن الأراضي المستهدفة بالتخصيص غالبًا ما تكون في مناطق استراتيجية، وتذهب لمستثمرين من دول الخليج، وعلى رأسها الإمارات، التي أصبحت منافسًا اقتصاديًا لمصر. مشيرًا إلى أن وجود مستثمرين أجانب في الموانئ على سبيل المثال يشكل خطرًا مباشرًا على الأمن القومي، لا سيما في ظل الأوضاع الإقليمية المتوترة والحروب الدائرة.
يتوافق في رؤية الشامي النقدية مدحت الزاهد،رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، ويؤكد على رفضه التام لما وصفه بـ”خصخصة الموارد السيادية” كحل لأزمة الديون، محذرًا من التداعيات الاقتصادية والسياسية الخطيرة لهذا التوجه.
وقال الزاهد في حديثه لزاوية ثالثة “نحن بشكل عام ضد خصخصة الموارد السيادية للدولة، وضد حل أزمة الديون عبر بيع الأصول العامة. هذا النمط يورّط الدولة في فخ ديون لا تقابلها قدرات إنتاجية حقيقية تمكّن من سدادها، مما يؤدي إلى دوامة من الديون الجديدة لسداد القديمة، وفي النهاية نخسر مصادر قومية استراتيجية.”
وأضاف “الصكوك السيادية، وإن اختلفت في الشكل، هي في جوهرها سندات دين. وإذا عجزت الدولة عن السداد، تصبح هذه الصكوك أداة للاستيلاء على الأراضي المرهونة. نحن لا نتحدث فقط عن أزمة مالية، بل عن تهديد مباشر للسيادة على الموارد الوطنية.”
واعتبر الزاهد أن الديون لم تُستخدم لتطوير القدرات الإنتاجية للاقتصاد، بل وُجهت إلى مشروعات بلا عائد إنتاجي حقيقي مثل المونوريل وإنشاء الكباري، ما يزيد من تعقيد الأزمة دون حلول مستدامة، ويهدد بتحول الدولة إلى كيان يفقد السيطرة على موارده وإرادته السياسية تحت وطأة الدين.
نوصي بالقراءة: صفقات مصر والخليج.. “رأس بناس” تتبع خطوات رأس جميلة ورأس الحكمة
تخوفات من نفوذ المستثمرين في القرار السياسي
في فبراير 2024، أعلنت الحكومة المصرية عن صفقة استثمارية كبرى في منطقة رأس الحكمة، ووصفتها بأنها بداية لسلسلة من المشروعات القومية الضخمة في إطار خطة “مصر 2052” للتنمية العمرانية المتكاملة. وفي تصريحات رسمية حينها، أوضح رئيس الوزراء أن الساحل الشمالي سيكون محورًا رئيسيًا لامتصاص الزيادة السكانية، عبر إقامة مجتمعات عمرانية متكاملة وليست فقط منتجعات صيفية، مشيرًا إلى مدن مثل رأس الحكمة والنجيلة وسيدي براني وجرجوب، كمراكز نمو مستقبلي.
لكن هذه الخطة واجهت انتقادات واسعة بسبب غياب الشفافية حول طبيعة العقود الاستثمارية، وآلية تخصيص الأراضي، وجدوى المشروعات بالنسبة للمواطنين المصريين، إلى جانب استخدام الأراضي المملوكة للدولة كأحد الحلول للحصول السريع على السيولة الدولارية.
وفي تعليقه على القرار الجمهوري الأخير المتعلق بأراضي البحر الأحمر، يرى أكرم إسماعيل عضو اللجنة المركزية بحزب العيش والحرية-تحت التأسيس- والقيادي في الحركة المدنية، أن هناك تشابهًا واضحًا بين الصفقتين، خصوصًا في ما يتعلق بغياب التفاصيل والمعلومات الأساسية.
وقال إسماعيل في تصريح إلى زاوية ثالثة: “الخبر الرسمي الذي تم نشره في الجريدة الرسمية غامض ولا يتضمن تفاصيل كافية، لكن المرجّح أن الأرض ستُخصص بعقود انتفاع بمبالغ ضخمة لصالح مستثمرين، ربما في القطاع السياحي، تمامًا كما حدث في صفقة رأس الحكمة. قد تسهم هذه الخطوة في تخفيف الأزمة المالية مؤقتًا، لكنها لا تُعد حلاً جذريًا.”
وحذر إسماعيل من أن هذه السياسة تؤدي إلى استنزاف الموارد الوطنية، وتُعيد إنتاج الأزمة المالية كلما نفدت العوائد المؤقتة، دون إحداث أي تغيير في البنية الاقتصادية. وأشار إلى أن التعاقد بصيغة “حق الانتفاع”، وإن كان يُخفف من مخاوف البيع المباشر، لا يحل الإشكال الأساسي المرتبط بغياب الشفافية حول المستثمرين وشروط التعاقد وإدارة الأصول.
وأضاف القيادي في الحركة المدنية”لا نعلم من هم المستثمرون، ما هي جنسياتهم وإن كان في الأغلب سيكونوا من الخليج وتحديدًا الإمارات، وما هي البنود التعاقدية التي تحكم العلاقة؟ لكن في العموم كل استثمار ضخم يمنح نفوذًا سياسيًا للدولة المالكة، ويؤثر حتمًا على معادلة القرار في الداخل.”
وختم إسماعيل حديثه بالدعوة إلى بناء نموذج اقتصادي بديل، يُحقق دخلًا دولاريًا مستدامًا، ويستند إلى القدرة الإنتاجية والتنافسية، بدلًا من الاعتماد على بيع أو تأجير الأصول العامة كحلول مؤقتة لأزمات هيكلية.
نوصي بالقراءة: لماذا تعطي مصر الأولويّة للمستثمر الأجنبيّ؟
آلية التصكيك وجدواه الاقتصادية
في السياق، يرى محمد رمضان الباحث الاقتصادي في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أن القرار الصادر والذي تم نشره لا يتضمن تفاصيل عن المشروع المزمع عقده، لكن من المرجح أن يكون الهدف الأساسي منه هو التمهيد لإصدار صكوك سيادية (عملية التصكيك)، إذ أن هذه الصكوك تمثل في النهاية التزامات على الدولة، وبالتالي من غير المفهوم حتى الآن كيف يمكن أن تسهم في خفض الدين العام في الوقت الذي تُستخدم فيه كوسيلة استدانة.
وتابع الباحث الاقتصادي في حديثه لزاوية ثالثة، أن السؤال الأساسي هنا هو: هل سيتم إصدار الصكوك على أساس حق الانتفاع بالأصل، أم على أساس بيع الأصل نفسه؟ هذا أمر لا يمكن الجزم به حاليًا، وسيتضح أكثر مع بدء عمليات التصكيك الفعلية.
وتابع، ما يبدو واضحًا هو أن الهدف من هذه الخطوة هو جذب مستثمرين خليجيين مهتمين بالاستثمار في أدوات الدين المصرية، لكنهم يفضلون أدوات شرعية متوافقة مع الشريعة، مثل الصكوك الإسلامية، بدلًا من السندات التقليدية.
ومع ذلك، أكد رمضان أنه لا يمكن الجزم بأن هذا يمثل بيعًا للأرض، خاصة وأن التصكيك في مصر غالبًا ما يتم عبر حق الانتفاع وليس بيع الأصل نفسه. لكن المثير للاستغراب أن القرار المنشور في الجريدة الرسمية لم يتضمن أي تفاصيل عن موقع الأرض، أو طبيعة المشروع المزمع إقامته عليها، سواء كان سياحيًا أو خدميًا.
من حيث المنهج يرى الباحث الاقتصادي، أن تنويع أدوات الاستدانة قد تبدو فكرة سليمة نظريًا، لكننا بحاجة إلى التفكير ضمن السياق المالي الفعلي الحالي. فمصر تعاني من أعباء ديون مرتفعة، ومن ضيق كبير في الحيّز المالي، وهو ما يحدّ من قدرة الدولة على الإنفاق والاستثمار دون اللجوء للاستدانة المتكررة، أو الاعتماد على الأموال الساخنة.
وأشار إلى أن التحول إلى أدوات مثل الصكوك الإسلامية قد يخفف حدة الأزمة مؤقتًا، لكنه لا يعالج جوهر المشكلة المتعلقة بعدم التوازن بين الإيرادات والمصروفات الدولارية، خاصة في ظل تراجع إيرادات قناة السويس وتأثيرات أخرى على مصادر العملة الصعبة.
في أبريل الماضي، صرّح وزير المالية أحمد كجوك، أن مصر تخطط لإصدار صكوك سيادية بقيمة ملياري دولار خلال 2025، ضمن خطط الحكومة لتنويع مصادر التمويل وجذب استثمارات أجنبية متوافقة مع الشريعة.
ويأتي هذا في وقت تتصاعد فيه أزمة المالية العامة، إذ يُتوقع أن يبلغ عجز الموازنة للسنة المالية 2025-2026 نحو 1.5 تريليون جنيه (ما يعادل 30 مليار دولار)، دون احتساب أقساط الديون، التي تتجاوز هذا الرقم. وتلتهم خدمة الدين العام أكثر من 70% من إجمالي الإيرادات، بحسب بيانات وزارة المالية، وتمثل ما يقرب من 47.4% من إجمالي الإنفاق الحكومي.