العصامية والجربعة: صراع التحولات الاجتماعية في مصر من محمد علي إلى إيهاب جلال

تخيّل أن تقضي كاريرك المهني مدافعًا عن أفكارك وقناعاتك… وعندما يضعك القدر أمام أهم فرصة في كاريرك، تكتشف إنك كنت مجرّد كبش فداء ليس إلّا
Picture of محمود ليالي

محمود ليالي

في شهر يوليو 2021، نشر مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحفية والمعلومات، كتاب “تاريخ العصامية والجربعة: تأملات نقدية في الاجتماع السياسي الحديث”؛ ناقش فيه الكاتب، محمد نعيم، أسئلة هامة تخص اجتماعنا، كمصريين، على هذه الرقعة من الأرض، أسئلة انطلق فيها من محاولة إثبات أن مصريي اليوم، وعلى اختلاف مشاربهم وموقعهم الاجتماعي، ليسوا إلا امتدادًا مباشرًا لرحلة بدأها أبناء الفلاحين، من الضباط، قبل مائتي عام فقط. متخذًا من سنة 1820، السنة التي قرر فيها محمد علي تجنيد المصريين في صفوف جيشه العرمرم، كنقطة تأسيسية لما سيحدث بعد ذلك، خاصة وأن والي مصر أُجبر على اختيار المصريين، بعدما فشل في تجنيد السودانيين والألبان.

قبل تلك اللحظة، لم يكن لجموع الشعب المصري أي دور حقيقي في الاجتماع السياسي، كانوا فلاحين أبناء فلاحين، وفقط لا غير، ولفهم الأمر بشكل أوضح، نقل الكاتب قصة سمعها من المفكر المصري الراحل سعد زهران: كانت أم سعد إقطاعية تمتلك عددًا من الفدادين في محافظة المنوفية، ودائمًا كان يسمعها تتحدث عن شيء ما اسمه “فلاح” لم يره من قبل، ولما سألها عن ماهية هذا الفلاح، أجابته نصًا: “الفلاح هو إنسان محني الظهر، وجهه في الأرض، ولا يرى سيده إلا فيما ندر، وإن رآه فهو لن يرى من جسده سوى قدميه، فإن أراد تقبيلها، قد يلكزه السيد بحذائه لكزة خفيفة كدليل على المداعبة، أو يرفسه رفسة نافرة تطلب منه الابتعاد”. 

كان ذلك هو قدر مشاركة المصريين في الشأن العام، فلاحة الأرض، وتقبيل أقدام السادة؛ وهو ما تغير بعد استعانة محمد علي بالمصريين، حيث أنتج ذلك طبقة جديدة مثقفة تعمل في الجيش أو الجهاز الإداري المدني، ولم يعد المصري عبدًا في الأرض فقط، بل استطاع أن  يهزم “العثمانيين” أنفسهم، وبكل ما لهم من قداسة وحظوة لدى عموم المسلمين، وأن يخالط البكوات ورجال الدولة، وبالطبع؛ أدى ذلك إلى عمليات إحلال وتبديل طبقي واسعة المدى، ما أنتج ثورات وقفزات ضخمة أصلَّت لكل ما يحدث حولنا الآن، منذ ثورة أحمد عرابي، وصولًا إلى الضباط الأحرار، وحتى تعيين المدرب الراحل إيهاب جلال مديرًا فنيًا للمنتخب المصري، وفي تلك القفزات تكمن منابع العصامية المصرية، بعدما ارتقى كل منهم في السلم الاجتماعي بناءً على جهده وعلمه وعمله. 

ولكن لأن دولة يوليو أنتجت “نصف جمهورية” فقط، فقد تلوثت تلك العصامية سريعًا بمظاهر جربعة بدأت بصعود طبقة “البرجوازية البيروقراطية” في الستينيات، ثم استفادت من الانفتاح الساداتي في السبعينات، وما تبعها من انقلابات اجتماعية وتغير شديد العنف في الهيكل الاجتماعي، ففي أقل من 30 عامًا فقط: كنَّا محتلين من الإنجليز وخدمًا للملك، ثم تحولنا إلى أعداء الامبريالية، ثم محاربين أشاوس لاسرائيل، ثم محتلين من اسرائيل نفسها، ثم أصدقاء لها بعد ذلك.

وبعدما كان اقتصادنا مستباح من الإنجليز والحاشية الملكية بالكامل، أصبح الفلاح مالكًا لأرضه، قبل أن تبور الأرض، ويضطر الفلاح إلى النزوح نحو مدن أقل دفئًا، لينقلب الحال مرةً أخرى، ونعود دولة إقطاعية بعد 20 عامًا فقط من “ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد”، “وكأنك يا أبو زيد ما غزيت”. وربما المثال الأبرز على هذا التحول هو محمد أنور السادات نفسه، العصامي الثوري القديم، الذي أصبح واحدًا من أقطاب الجربعة فور توليه السلطة؛ وهكذا تشكل العقد الاجتماعي في مصر، طبقًا لما أورده الكاتب، من رحم هذا التناقض والتضارب المستمر بين العصامية والجربعة، وهنا سيظهر السؤال؛ ما علاقة إيهاب جلال بكل ما سبق؟ 

 

خصال صاحبت رحلة التحديث

 

إنكِ لا تدرين

معنى أن يمشي الإنسان..

ويمشي

(بحثًا عن إنسانٍ آخر)

حتى تتآكل في قدميه الأرض

ويذوي من شفَتيهِ القَول

أمل دنقل، “الجنوبي”.

حسنًا، هو واحد من هؤلاء العصاميين الذين تضاربت أفكارهم مع صنوف الجربعة المختلفة. ولد الرجل عام 1967، عام انهيار الحلم الناصري بفعل جربعة أقطاب النظام الناصري، لأسرة متوسطة الحال في محافظة الدقهلية، ولعب لعدة أندية متوسطة مثل الشمس والمصري والقناة، ولم يتوج إلا بكأس مصر مع النادي الإسماعيلي عام 1997، مسيرة عادية للاعب عادي، لم يمتلك المهارات اللازمة ليكون لاعبًا كبيرًا، ولكنه امتلك الطموح والجرأة والمبادرة، والقدرة على المواجهة، وصنع التغيير، كما امتلك العزم اللازم ليكون عصاميًا، مثل أجداده الفلاحين.

بدأت مظاهر تلك الثورة مع استلامه تدريب فريق تليفونات بني سويف، والبنية التنظيمية المختلفة لشكل الفريق، حيث أظهر قدرةً فائقة على اللعب بأشكال مختلفة من التنظيم التكتيكي، وأفكار حديثة بعيدة تمام البعد عن الفهلوة والهجص السائد في الكرة المصرية، ومع تدريب مصر المقاصة، بدأ في صناعة التاريخ حرفيًا، ليس على مستوى النتائج فقط، بل على مستوى الشكل والتكتيكات، حيث شعر الجميع بالتطور الذي أحدثه في الفريق بعد أيام قليلة، ومدى تأثره بتكتيكات الملعب الأوروبي، بل وقدرته على تطبيقها في مساحات أضيق، فالمقاصة فريق ليس له باع في الدوري، وليس له ظهير شعبي كبير، ولكن مع ثورة ايهاب جلال التكتيكية، أصبح فريقًا ناجعًا وذكيًا.

يفضل جلال بناء الهجمة من الخلف والحفاظ على الكرة بشكل أكبر، مع  تدرج في بناء الهجمة من الخلف والحفاظ على الكرة  وشكل الفريق من لاعبين وأنماط لأطول فترة ممكنة، حيث تتراوح تشكيلاته ما بين 4-4-2 و4-3-3، مع الاعتماد على التمريرات القصيرة، والميل للمجازفة في مواضع كثيرة، إذ يتقبل الكثير من الأهداف، ولكنه يسجل الكثير أيضًا، وفي الحالتين؛ لا يتراجع للخلف لتأمين خطوطه  أو لتحين لحظة المرتدة القاتلة قط، بل يؤمن تمام الإيمان أن الكرة التي تلعب على الأرض، وتمرر بين الأقدام هي الضمان الوحيد للمتعة، وبحسب ما ذكره الكاتب محمود عصام في مقاله المنشور على موقع إضاءات: ” أن جلال هو الوحيد الذي أصر على التجربة بعد امتلاكه أدوات التقييم وتصحيح الأخطاء”، وهو ما جعله يقتنص المركز الثاني في جدول ترتيب الدوري المصري 2017، صاعدًا للمرة الأولى إلى دوري أبطال إفريقيا. 

 

بعض من تاريخ السيولة التكتيكية

تلك القفزات الثورية التي صاحبت رحلته، كان لابد لها من أن تأخذ الشكل المؤسسي حتى تنضبط وتتميز، وهو ما جعله يطلب التعاقد مع شركة تحليل الآداء المتخصصة “كورا ستاتس”، لتقديم تحليلات معمقة ومدعومة بالبيانات، شرط ألا تفرض عليه الشركة شكل المنافس، كما أضاف لطاقمه التدريبي محلل الأداء الشاب علي طه، ضاربًا عرض الحائط بكل الكليشيهات، ومقررًا الانضمام إلى مجتمع المحللين والمدربين الجدد، كما يحلو للإعلام التقليدي تسميتهم. 

بالمناسبة؛ هذا المجتمع له طفرات عصامية أخرى، كان آخرها تعيين محلل الأداء المصري سعيد النحاس، 24 عامًا، كمحلل أداء للنادي الأهلي، وقبلها مباشرة تعيين محمد علاء، كرئيس لمحللي الأداء في نادي الزمالك، رغم عدم لعبهم الكرة بشكل احترافي، حيث استبدلوا تلك الميزة، والتي هي ليست ميزة إلا على المستوى الإعلامي فقط، بميزات أخرى مثل القدرة على التعلم واستنباط الأفكار من المدارس الأوروبية، وكلٌّ منهم أيضًا له قصة طويلة من المثابرة والعصماية، اصطدمت بالجربعة في كثير من الأحيان، مثلما أعلن علاء على صفحته قبل سنوات، أنه يواجه وزملائه حملات  لتثبيط همتهم من بعض اللاعبين السابقين الذين احتكروا اللعبة لصالحهم فقط. ثم خابت مطامحهم، بعدما شاهدنا رحلة سعيد من دوري الدرجة الثانية السعودي، إلى النادي الأهلي مباشرةً، وأيضًا رحلة علاء التي بدأها مع التدوين والعمل الصحفي، وانتهت بتوليه مسؤولية كبيرة وهامة في نادي الزمالك.

“لاح في الأفق منصب يمكن الوصول إليه بسهولة عكس منصب المدرب وهو منصب المحلل، والذي لا يحتاج صاحبه لأن يكون لاعبًا سابقًا حتى تتاح له فرصة الظهور عبر التلفزيون أو العمل داخل ناد في الدوري الممتاز”.

محمد علاء، في تصريحات لموقع “كروم”.

وهذا تحديدًا ما فطن له إيهاب جلال عند تعيينه لمحلل الأداء علي طه، اللاعب الذي لم يحظ بمسيرة كروية لافتة، ولكنه قرر صعود سلم كرة القدم عبر الدراسة والتعلم، إلى أن رشحه المدرب المصري، محمد يوسف، لأداء دور في الجهاز الفني لبتروجيت، ومنه إلى لجنة تعاقدات النادي الأهلي، لقد رأى ايهاب جلال قبل الكل، قبل الأهلي والزمالك وكل فرق الدوري المصري، طاقات هؤلاء الشباب، وقرر استعمالها بكل أريحية.

رأى أن العالم يتطور، وأن النظام القائم في الكرة المصرية لابد من حلحلته، وهو فعل ثوري، طبقًا لما ذكره أحمد رضا منصور، محلل أداء النادي الإسماعيلي السابق، في تصريحات خاصة لـ “زاوية ثالثة”: “أن إيهاب جلال كان مدربًا ثوريًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، رغم ظهوره في بيئة معادية، تترصد لأي شخص يحاول أن يكسر التابوهات القائمة بالفعل، وتقف بالمرصاد أمام أية محاولة للتغيير، ورغم ذلك؛ لم ييأس، وقرر بكل شجاعة أن يقاوم لفرض أسلوبه”. 

 

أزمة إعادة التأسيس 

 “إيهاب جلال يشبهنا، يشبه مدينة الإسماعيلية القديمة”.

أحمد رضا منصور.

في الفصل الأخير من كتاب نعيم، “أزمة إعادة التأسيس الاجتماعي والسياسي”، اعتمد الكاتب على تحليل الفترة التي تلت  الثورة الكبرى في مصر، ثورة  يناير، إذ رآها نهاية لعالم ومجتمع ذهب بلا رجعة،  ويجب أن يعاد التفكير فيه مرة أخرى، أما ذلك العالم الجديد الذي نشأ، فقد خلق من رحمه صدامات اجتماعية عنيفة، وهي نفس الفكرة التي تنطبق على ثورة إيهاب جلال الفكرية، حيث أدخل بصولاته “الجيتو” الكروي المصري في حالة من الذهول والصدمة، وأكد للمتابعين أن هناك آفاقًا ودوائر أوسع يمكن دخولها لو امتلكنا الإرادة اللازمة. 

تلك الرحلة العصامية التي وصلت إلى ذروتها ونجاحها بتعيينه مديرًا فنيًا للمنتخب المصري، كان لابد لها أن تصطدم بقدامى المدربين والقادة داخل المنظومة، والبيروقراطيين الذين يمثل تيار إيهاب جلال الفكري خطرًا وجوديًا عليهم، ولذلك جاء تعيينه وإقالته بعد 3 مباريات فقط، وكأن أحلامه وطموحاته تحولت فجأة إلى  “سد خانة”، يتخلص بها القائمون على الاتحاد من ضغط الجماهير، بوضعه في مكيدة تثبت فشله، وبالتالي فشل أفكاره، والدليل على ذلك؛ هو وجود حسام حسن على رأس المنتخب المصري حاليًا.

وحسام هو من أكبر العصاميين الذين انقلبت مسيرتهم إلى الجربعة التامة بعد اعتزاله، لم يتعلم شيئًا جديدًا، ومعلوماته عن الخطط والتكتيكات ليست قليلة فقط، بل صفر كبير في الوقت الحالي، وليس له فلسفة لعب واضحة، وربما لا يدري معنى فلسفة اللعب أصلًا، إضافة إلى أن شخصيته وطريقة تعامله مع اللاعبين والإعلام عليها خطوط حمراء كثيرة، إذن ما أهليته لتدريب المنتخب؟ لا شئ، إلا أنه كان لاعبًا سابقًا ينتمي لنفس معسكر “البيروقراطيين”، وبالتالي لن يزعج أحدًا بنظريات حديثة، وسيسير الأمور بطريقة “بلدي” لا تتجاوز الواقع، ولا تحاول ترميمه. 

ذلك التعامل المجحف مع إيهاب جلال أثر عليه بشدة، طبقًا لما ذكره صديقه ومساعده حمد إبراهيم في تصريحات للعربية نت، كما أورد عمرو أنور، مدرب اتحاد جدة السابق، أن جلال تعرض لظلم شديد بسبب اختلاف المسؤولين في اتحاد الكرة المصري على تعيينه، من هم المسؤولين في الاتحاد المصري؟ حسنًا، هم من نفس طائفة حسام حسن، وربما هذا هو ما قضى عليه؛ فتخيّل أن تقضي كاريرك المهني مدافعًا عن أفكارك وقناعاتك، ومحاولًا تغيير حالة بائسة وميئوس منها من الجمود والسلبية وانعدام الموهبة، وسط عدد لا حصر له من المُدّعين و”الموظّفين”، وعندما يضعك القدر أمام أهم فرصة في كاريرك، تكتشف إنك كنت مجرّد كبش فداء ليس إلّا. 

وبحسب ما ذكره الحسيني محمود، الكاتب الرياضي السابق بموقع “الجزيرة نت”، في تصريحات خاصة لـ “زاوية ثالثة”: “أن مسيرة إيهاب جلال بُنيَت منذ بدايتها على الرهانات المستحيلة، حتى حاول البعض هدما قبل أن يحاول”، مؤكدًا؛ “أنه لم ير في حياته مدرب مصري يتعرّض لهذا الكم الهائل من الاغتيال المعنوي، عن قصد وعن غير قصد، لمجرّد أنه مختلف، ولمجرد أنه يحاول دفع عجلة “مصدّية” ومتهالكة، ورغم ذلك؛ ترك الفيصل للميدان والعمل فقط”. 

وفي النهاية لم يقو على تحمل الأذى، ولم يتحمل الصراع مع مستنقع يمتلئ بالخناجر والمشككين، يا سادة؛ إن وجوه الضحايا تختلف، لكن النمط واحد وثابت، والمسببات تكاد تتطابق، والأهم، أن وجوه الفَسَدة لا تتغيّر أبداً، كما أن وجوه الحالمين والعصاميين والثوار لا تتغير أيضًا، منذ أحمد عرابي ومحمد فريد، وحتى إيهاب جلال.

“لقد رحل عنّا بعد صراع مع كل ماهو فاسد ومعدوم الكفاءة”.

الحسيني محمود،

محمود ليالي
كاتب وصحفي رياضي مصري، يهتم بكرة القدم كلعبة وكصناعة تفوق أهميتها ما لا يمكن اختصاره في الخطط والتكتيكات، شاعر صدر له ديوان "البقايا" عام 2023

Search