عرفة زكي (اسم مستعار)، مالك مصنع سيراميك في الجيزة، بدأ حياته العملية منذ أن كان في الخامسة عشرة من عمره، إذ كان يساعد والده خلال العطلات الصيفية. وبعد إتمام دراسته، تولى إدارة المصنع بالكامل، خاصة بعد مرض والده.
يقول عرفة: “كنا نحقق أرباحًا جيدة حتى عام 2015. لكن بعد تعويم الجنيه في 2016، ارتفعت أسعار الخامات الأساسية بشكل كبير، مما أدى إلى زيادة الأعباء المالية على المصنع. ومع استمرار ارتفاع الأسعار، أصبحت الأمور أكثر صعوبة. بالإضافة إلى ذلك، تسببت التعديلات الإدارية والمالية التي اتبعتها الحكومة، مثل زيادة الفائدة على القروض وارتفاع الضرائب، في تفاقم الأعباء”.
يشتكي عرفة من تدهور الأوضاع، مؤكدًا أن المصنع اضطر لتقليص عدد العمالة لمواجهة الضغوط المالية. ويضيف: “لقد عملت في هذه الصناعة لمدة 25 عامًا، وهذه هي أسوأ فترة مررنا بها على الإطلاق”.
ويعرب عن أمله في أن تؤدي القرارات الحكومية الجديدة إلى حل بعض المشكلات التي تعاني منها المصانع. ويختتم حديثه قائلاً: “على الرغم من المحاولات الحكومية المتكررة، لم نرَ أي نتائج ملموسة منذ خمس سنوات. الأوضاع تزداد سوءًا يومًا بعد يوم”.
أعلنت وزارة الصناعة عن خطة شاملة، بتوجيهات نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الصناعة والنقل، كامل الوزير، تهدف إلى توفيق أوضاع المصانع ومنح المصانع المتعثرة مهلة إضافية تصل إلى 18 شهرًا لاستخراج رخص البناء، وذلك وفق ضوابط محددة. هذه الخطة تأتي في إطار دعم الصناعة المحلية وتخفيف الأعباء الإدارية عنها، مع ضمان الرقابة الشفافة والفعالة على العمليات الإنتاجية.
في 10 أغسطس الماضي، أصدر كامل الوزير قرارًا بنقل صلاحيات التفتيش والرقابة من جهات متعددة إلى لجنة موحدة تحت رئاسته. اللجنة تتألف من ممثلين عن وزارات الصحة، البترول، البيئة، التنمية المحلية، الداخلية، العمل، إضافة إلى اتحاد الصناعات، ثم في 22 أغسطس تم إضافة ممثلين عن وزارتي التموين والري. هذا القرار يأتي لضمان تحقيق الشفافية وتقليل التدخلات المتكررة وغير الفعالة في عمليات التفتيش، التي كانت تعيق سير الإنتاج في المصانع.
القرار أيضًا حظر إغلاق أي منشأة صناعية من قِبل الجهات المختصة إلا بأمر كتابي مباشر من الوزير شخصيًا، مما يمنح أصحاب المصانع الحماية من الإجراءات العشوائية التي كانت تؤثر على نشاطهم الاقتصادي. كما أُعطي للمصانع الحق في رفض استقبال المفتشين غير المخولين من اللجنة، بهدف توفير بيئة عمل أكثر استقرارًا ووضوحًا.
كامل الوزير أوضح في اجتماع حضره ممثلو الصناعات المختلفة أن الهدف الرئيسي هو تحسين جودة المنتجات المصرية ورفع تنافسيتها في الأسواق المحلية والعالمية، مع تقديم الدعم اللازم للمصانع المتعثرة لتوفيق أوضاعها والمساهمة في دفع عجلة التنمية الصناعية.
محاولات لإنقاذ المصانع المتعثرة
تعد أزمة المصانع المتعثرة أحد أهم الملفات التي تعمل عليها الحكومة الجديدة، إذ تواجه مصر تحديات عديدة تتعلق بتعثر العديد من المصانع في المناطق الصناعية ففي عام 2018 بلغ عدد المصانع المتعثرة نحو خمسة آلاف مصنع من بين 19 ألف مصنع تعمل في مصر، وحاليُا تقدر بـ 13 ألف مصنع (جميع هذه الأرقام هي مجرد تقديرات لا تعتمد على حصر حقيقي وفق قواعد ومنهجية علمية)، لذلك تم طرح خطة شاملة لإنقاذها وإعادة تشغيلها.
وتتمركز المصانع المتعثرة في عدد من المناطق الصناعية على مستوى الجمهورية، أبرزها منطقة العاشر من رمضان في محافظة الشرقية في دلتا مصر، وتعد واحدة من أكبر المناطق في مصر التي تضم عددًا من المصانع المتعثرة التي تعاني من مشاكل مالية وإدارية، كذلك مناطق السادات في المنوفية، وحلوان في جنوب القاهرة، وشبرا الخيمة في القليوبية.
في حديثه إلى زاوية ثالثة، أكد سمير عارف، رئيس جمعية مستثمري العاشر من رمضان، أن ملف المصانع المتعثرة والمتوقفة يحتاج إلى جهود حكومية كبيرة وجادة لدراسة المشكلات التي تواجه هذه المصانع ومحاولة حلها. أشار عارف إلى أن الحل الأساسي لإنقاذ المصانع المتعثرة هو توفير تمويلات سريعة لدعم المنشآت التي تعاني ماليًا، مع ضرورة حماية المصانع المتضررة من المنافسة غير العادلة مع المنتجات المستوردة. كما اقترح ضرورة تقليل الاستيراد في القطاعات التي تتعرض لممارسات مغرقة والتي تؤثر سلبًا على الإنتاج المحلي.
وأوضح أن منطقة العاشر من رمضان تضم نحو ستة آلاف مصنع، تتنوع بين مصانع صغيرة، متوسطة، ومتناهية الصغر، وتوظف أكثر من 350 ألف عامل. المصانع في هذه المنطقة تعمل في قطاعات متنوعة تشمل الهندسة، الكيماويات، الملابس الجاهزة، والصناعات الغذائية، وتتركز معظم مشكلات المصانع المتعثرة في المشكلات المالية التي تعيق استمراريتها.
أضاف عارف أن تحرير سعر الصرف، وارتفاع تكلفة الأجور والخدمات والمواد الخام، كلها عوامل ساهمت في تعقيد مشكلات المصانع وزيادة الضغوط المالية عليها. ورغم أن المبادرات الحكومية، مثل مبادرة “ابدأ”، قد حققت بعض النجاح في قطاعات محددة، خاصة القطاع الهندسي، إلا أن تأثيرها لا يزال محدودًا وتحتاج إلى دعم إضافي لتحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع.
واختتم حديثه بتحديد عدد من الحلول المقترحة التي يمكن أن تسهم في تخفيف هذه المشكلات، منها: التخلص من الإجراءات البيروقراطية التي تعيق عملية الإصلاح، وتخفيض نسب الفائدة المفروضة على المصانع من قبل القطاع المصرفي، مما يمكن أن يخفف الأعباء المالية ويحفز النمو في هذا القطاع.
وتضمنت الخطة الاستراتيجية لرؤية مصر 2030 بندًا رئيسيًا يهدف إلى تعزيز التصنيع، وزيادة مساهمة الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي وزيادة فرص العمالة الصناعية بحلول عام 2030. وبحسب تقديرات الحكومة، أظهرت المؤشرات نجاح هذه الجهود، حيث سجل قطاع الصناعة معدلات نمو إيجابية، حتى خلال عام الجائحة 2019/2020، وفقًا للبيانات الصادرة عن وزارة التجارة والصناعة.
بلغ معدل نمو القطاع الصناعي خلال العام المالي 2019/2020 نحو 6.3%، مع وجود 149 منطقة صناعية تضم 14.9 ألف مصنع على مستوى الجمهورية. هذه المصانع وفرت نحو 1.2 مليون فرصة عمل، وساهم القطاع بحوالي 17.1% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بـ16.4% في العام المالي 2018/2019.
فيما يتعلق بالعمالة، فإن عدد العاملين في القطاع الصناعي بلغ 2.3 مليون عامل، ما يعادل 28.2% من إجمالي العمالة في مصر. هذه الزيادة ساهمت في خفض معدلات البطالة إلى 10.1% في عام 2020، بعد أن كانت أعلى في السنوات السابقة.
تقوم الدولة حاليًا بتنفيذ 13 منطقة صناعية جديدة لتعزيز الإنتاج الصناعي، مع ارتفاع عدد المنشآت الصناعية إلى 42 ألف منشأة في عام 2020. وبحسب بيانات مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، ارتفع عدد المنشآت المسجلة إلى 56.5 ألف منشأة في عام 2021، مقارنة بـ47.8 ألف منشأة في 2020، مما يمثل زيادة بنحو 8.7 ألف منشأة.
أما بالنسبة لعام 2023، فقد سجلت الهيئة العامة للتنمية الصناعية نحو 5.9 آلاف منشأة صناعية جديدة، ليصل العدد الإجمالي للمنشآت الصناعية إلى 65.6 ألف منشأة. كما ارتفع عدد العاملين في هذه المنشآت إلى 3.2 مليون عامل في عام 2021، مقارنة بـ2.6 مليون في 2020، بزيادة نسبتها 23.1%.
القرارات الجديدة تنافي الواقع
يعلق محمد المهندس، رئيس غرفة الصناعات الهندسية باتحاد الصناعات المصرية، أن القرارات الحكومية الصادرة لحل أزمة المصانع المتعثرة لم تحقق الهدف المرجو منها حتى الآن. وأوضح في تصريحه إلى زاوية ثالثة أن القرارات السابقة لم تؤتِ ثمارها بشكل ملموس على أرض الواقع، وأنه لا يمكن اعتبار القرارات الجديدة جادة حتى يتم تطبيقها فعليًا وبدء حل المشكلات بشكل فعلي.
وأشار المهندس إلى أن قطاع الصناعة يعاني من مشاكل متراكمة لا تقتصر على قطاع بعينه، مشيرًا إلى أن العديد من المصانع المتعثرة ترفض الإفصاح عن أزماتها خوفًا من التأثير على سير أعمالها. وأكد أن أبرز المشكلات تشمل الأزمات المالية والإدارية المتعلقة بالجهاز المصرفي وأجهزة الدولة مثل جهاز التنمية والسجل الصناعي.
وأضاف أن القرارات الحكومية المتخذة منذ عام 2019 لحل مشكلات المصانع المتعثرة لم تحقق النتائج المرجوة حتى الآن، موجهًا تساؤلات للحكومة حول جدوى هذه القرارات في تحسين الأوضاع.
وقارن المهندس بين الفترات الماضية والحالية من حيث تسهيلات الحكومة للصناعة، مشيرًا إلى أن الفترات السابقة شهدت دعمًا أكبر من خلال قرارات تحفيزية لتأسيس مدن صناعية مثل العاشر من رمضان والسادس من أكتوبر، وتوفير مساحات سكنية للعمال، وتيسير الإجراءات الإدارية والمالية، ما ساهم في نجاح تلك المشروعات. كما أن تخفيض نسب الفائدة المصرفية ساعد المصانع على الإقلاع والنمو.
في المقابل، أوضح أن الأوضاع الحالية أصبحت أكثر تعقيدًا، حيث زادت الأعباء المالية والإدارية على المصانع، مما أثر بشكل سلبي على المصانع المتعثرة بشكل خاص. وأشار إلى أن القرارات الجديدة التي تلزم بتشكيل لجنة قبل غلق أي مصنع قد تعطي الفرصة لبعض المصانع للتلاعب بالمنتجات، ما يزيد من التحديات التي تواجه القطاع الصناعي.
واختتم حديثه بتأكيد الحاجة إلى توافق القرارات الحكومية مع بنود القانون لتجنب أي تضارب قد يضع المسؤولين والمصانع في موقف صعب، مع التأكيد على ضرورة وجود رقابة صارمة وشفافة على تطبيق هذه القوانين.
تحديات مالية
عبدالمنعم سعد (اسم مستعار)، يفضل الحديث دون ذكر اسمه مثل العديد من ملاك المصانع المتعثرة خوفًا من المضايقات الحكومية، لا يختلف وضعه كثيرًا عن “عرفة” رغم اختلاف تخصصه، إذ يعمل في إنتاج قطع غيار الأجهزة الكهربائية.
في حديثه إلينا، أوضح عبدالمنعم أنه يعتبر مُصنّعًا أساسيًا لأحد المكونات التي تدخل في تصنيع الأجهزة الكهربائية، ولكنه يعمل بشكل غير رسمي. بعد إتمام الإنتاج، يتفق مع إحدى الشركات الكبرى التي تضيف إنتاجه إلى منتجها النهائي.
يشير عبدالمنعم إلى أنه يفضل البقاء خارج السوق الرسمي، حيث أن التسجيل الرسمي يفرض عليه أعباءً مالية مثل الضرائب والمسؤوليات الإدارية، مما قد يؤثر على هامش ربحه. وعلى الرغم من أن العمل بشكل غير رسمي يفقده جزءًا من أرباحه، خاصة وأن منتجه يتميز بجودة عالية، إلا أنه يرى هذا الخيار أفضل في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة.
كل من عبد المنعم وعرفة يتفقان في الشكوى من ارتفاع سعر الدولار المستمر مقابل الجنيه المصري، حيث يؤثر ذلك على تكلفة الخامات المستوردة التي يعتمدان عليها في الإنتاج. إلا أن عبدالمنعم لم يتأثر كثيرًا بالإجراءات الإدارية المفروضة على المصانع، نظرًا لعمله خارج النظام الرسمي.
أعلنت وزارة الصناعة عن خطة شاملة لتنفيذ توجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي، تتضمن توجيهات نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الصناعة والنقل، كامل الوزير، بتقنين الأوضاع لاستخراج رخصة المباني ومنح المصانع المتعثرة مدد إضافية، حتى 18 شهرًا، وفق عدد من الضوابط.
تسعى وزارة الصناعة إلى خلق فرص عمل جديدة في القطاع الصناعي، مستهدفة أن يصل عدد العاملين في هذا القطاع إلى سبعة ملايين عامل بحلول عام 2030، وهو ضعف العدد الحالي الذي يبلغ نحو 3.5 مليون عامل، أي ما يمثل 13% من القوى العاملة.
يأتي هذا الهدف في إطار خطط الوزارة لزيادة نسب التشغيل في المجمعات الصناعية للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتوفير برامج تدريبية تؤهل العمالة الفنية لتلبية احتياجات المصانع. يتم تنفيذ هذه البرامج عبر مصلحة الكفاية الإنتاجية والتدريب المهني، التي تدير 41 مركز تدريب في 17 محافظة على مستوى الجمهورية، إضافة إلى معهد إعداد الكوادر ومركز التكنولوجيا المتميز.
منذ عام 1989، تشارك المصلحة مع القطاع الخاص في إنشاء محطات تدريبية داخل الشركات الصناعية، بهدف رفع كفاءة العمالة. حتى الآن، تم إنشاء 114 محطة تدريبية في مختلف المحافظات، مما يعزز من قدرة الشركات على توظيف العمالة الماهرة اللازمة للنهوض بالإنتاج.
في عام 2021، أطلق البنك المركزي مبادرة لدعم الصناعة المحلية، حيث خصص 100 مليار جنيه لدعم القطاع الصناعي، وأسقط فوائد متراكمة بقيمة 31 مليار جنيه على المصانع المتعثرة. كما بلغت أرصدة التسهيلات الائتمانية الممنوحة من البنوك لقطاع الصناعة الخاص 31% من إجمالي تلك الأرصدة، مما يساهم في توفير تمويل ميسر للمشروعات الصناعية.
أسامة شاهد، رئيس مجلس إدارة الغرفة التجارية بالجيزة وعضو مجلس إدارة اتحاد الصناعات المصرية، وصف مشكلة المصانع المتعثرة بأنها “معقدة”، نظرًا لتداخل العديد من العوامل المالية، التسويقية، والفنية. وأوضح في حديثه لزاوية ثالثة، أن الأزمة تتطلب تعاونًا أكبر بين الحكومة والقطاع الخاص، مشيرًا إلى أن المشكلات المالية المرتبطة بالجهاز المصرفي هي الأكثر تأثيرًا على عمل المصانع.
مبادرة “ابدأ” التي أطلقتها الحكومة تعد إحدى المحاولات لدعم المصانع المتعثرة، ولكن بحسب شهادات أصحاب المصانع في منطقة شبرا الخيمة، مثل العاملين في قطاع النسيج، فإن المصانع التي انضمت للمبادرة لم يتم تشغيلها فعليًا حتى الآن. حسنين طه (اسم مستعار)، صاحب مصنع في إحدى المناطق الصناعية، أفاد بأنه لم يتم اتخاذ خطوات تنفيذية رغم الشراكة مع المبادرة لأكثر من عام ونصف.
كما أوضح شاهد أن المبادرة تواجه تحديات كبيرة، منها التقييم المادي للمصنع، حيث يوجد تباين بين رؤية أصحاب المصانع والجهات الحكومية، مما يعطل الوصول إلى حلول نهائية. أضاف أن قطاعي النسيج والأدوية من بين الأكثر تأثرًا بالأزمة، مع تركيز الجهود على دراسة أوضاع المصانع المتعثرة في كل محافظة، خاصة في مناطق مثل السادس من أكتوبر وأبو رواش بمحافظة الجيزة، حيث يُقدر أن نحو 30% من المصانع في تلك المناطق متعثرة.
وأشار شاهد إلى أن عدم قدرة المصانع على تدبير العملة الأجنبية منذ فبراير 2022 وحتى مارس 2024 كان له تأثير كبير على توفير مستلزمات الإنتاج، مما أدى إلى انخفاض الأرباح وتعطل العمليات الإنتاجية.
من جهة أخرى، أكد بعض أصحاب المصانع أن المبادرات الحكومية، بما في ذلك تخفيض أسعار الطاقة وتقديم تسهيلات مالية، لم تساهم بشكل كافٍ في معالجة الأزمات الفعلية التي تواجههم. وبينما تواصل الحكومة الإعلان عن خطوات جديدة لحل المشكلة، فإن الكثير من المصانع المتعثرة لا تزال تنتظر حلولًا أكثر فعالية.