ارتفاع الأسمدة يهدد “مائدة المصريين”: هل يدفع الغلاء الأمن الغذائي إلى الهاوية؟

رغم تمسّك الدولة بسياسة دعم الأسمدة منذ الستينيات، تطور الأمر في العقود الأخيرة نحو تقليص تدريجي. والآن، ومع زيادة تكاليف الإنتاج وارتفاع الدولار ونقص النقد الأجنبي، بات إلغاء الدعم خيارًا مطروحًا، ما دفع بعض الفلاحين إلى مغادرة الأرض أو التوقف عن الزراعة
Picture of رشا عمار

رشا عمار

بين العربات الخشبية المتراصة في أحد أسواق الجيزة، وقفت منى تتفحص الأسعار في حيرة، تعيد حساباتها مرارًا محاولةً تدبير ما يكفي لشراء احتياجات منزلها من خضروات وفاكهة ولحوم، إضافة إلى مستلزمات التنظيف الأساسية. تقول منى إن “ألف جنيه لم تعد تكفي لشراء الخضار والفاكهة وبعض السلع الغذائية الضرورية سوى لأسبوع واحد أو عشرة أيام بالكاد”، موضحة أن الأسعار ترتفع بشكل متواصل، ورغم اقتصارها على الضروريات، فإنها تجد نفسها عاجزة عن تغطية متطلبات أسرتها المكونة من خمسة أفراد. 

وتشير ربة المنزل الأربعنية إلى أن أسعار السلع الضرورية ارتفعت بما لا يقل عن خمسة أضعاف خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، سواء في الخضروات والفاكهة أو اللحوم، حتى البدائل مثل البقوليات شهدت قفزات ملحوظة. وتؤكد في حديثها إلى زاوية ثالثة أن استمرار هذا الوضع يضع الأسر ذات الدخل المحدود والمتوسط أمام أعباء متزايدة وصعوبة متفاقمة في المعيشة.

لا تعرف منى الأسباب ولا تعبأ لها كل ما ترجوه هو وضع حلول للأزمة. لكن المختصين يرجعون الأزمة لعدة أسباب جوهرية أهمها هو ارتفاع أسعار الأسمدة الذي يؤثر بدوره على المحاصيل الزراعية وكذلك على جودة ووفرة الإنتاج ومن ثم أسعار السلع الغذائية وجودتها.  

وشهدت أسعار الأسمدة في مصر قفزات كبيرة خلال السنوات الأخيرة، قلبت حسابات المزارعين وأثرت بعمق على دورة الإنتاج الزراعي، كونها تمثل العمود الفقري للزراعة، ولم تعد متاحة بالأسعار التي عرفها الفلاحيين لعقود، بل تحولت إلى عبء يلتهم الجزء الأكبر من تكاليف العملية برمتها، ومع كل زيادة جديدة، تتراجع قدرة المزارع على توفير احتياجات أرضه من السماد، فيتأثر حجم الإنتاج وجودته، وتنعكس النتيجة في النهاية على أسعار السلع الغذائية في الأسواق التي تشهد ارتفاعًا غير مسبوق. 

وسجلت الأسمدة الكيماوية ارتفاعًا بنسبة تصل إلى 564٪ في الفترة من (2015/2016) إلى (2021/2022)، وهي قفزة توازت مع تضخم في مدخلات الطاقة والأسمدة والوقود، بحسب مركز حلول للسياسات البديلة، وخلال عام 2025، اقترب سعر طن الأسمدة في السوق الحر من 18 ألفًا، بينما سجل طن نترات النشادر نحو 24 ألف جنيهًا، وبلغ طن اليوريا حوالي 25 ألف جنيهًا.

في الجمعيات الزراعية، التي يُفترض أن تكون أسعارها أقل مدعومة، ما زالت الفوارق ضخمة، فسماد النترات يُباع بسعر 7,800 جنيه للطن، وسلفات النشادر السائلة بـ 3,500 جنيه، بينما سلفات البوتاسيوم تصل إلى 21 ألف للطن، أما شيكارة السماد فقد بلغ سعرها حوالى 1,300 جنيه في بعض المناطق، كذلك ارتفعت أسعار اليوريا الحرة من حوالي 1,100-1,200 جنيه إلى 1,600-1,700 جنيه خلال ثلاثة أشهر.

 

ويؤثر ارتفاع الأسعار مباشرة على تكلفة الإنتاج الزراعي، إذ يمثل السماد نحو 32٪ من إجمالي تكاليف مستلزمات الإنتاج للنباتات، وفق تقديرات وزارة الزراعة. نتيجة لذلك، بدأ بعض المزارعين في تقليل كمية الأسمدة المستخدمة على أراضيهم، وهو ما يؤثر على جودة المحاصيل وحجم الإنتاج. بعض الفلاحين اضطروا لتقليص الزراعة أو التوقف عنها مؤقتًا، ما يشير إلى تهديد حقيقي للأمن الغذائي المحلي.

خبير مختص في مجال الزراعة تحدث إلينا وفضل عدم ذكر اسمه، خشية التعرض لمساءلة كونه يعمل بجهة حكومية يوضح أن الأزمة الحقيقية التي يواجهها القطاع الزراعي في مصر اليوم تكمن في أن الزراعة لا يمكن أن تستمر من دون الأسمدة، وفي الوقت ذاته فإن أغلب مدخلات العملية الزراعية باتت مرتبطة بسعر الدولار. 

ويقول إن أكثر من 80% من مدخلات الزراعة في مصر مستوردة، بدءًا من التقاوي والمبيدات مرورًا بالأسمدة والمغذيات، وهو ما يجعل المزارع في مواجهة مباشرة مع أي تقلب في سعر العملة. فكلما ارتفع الدولار، انعكس ذلك فورًا على تكلفة الإنتاج الزراعي، الأمر الذي يفاقم من أزمة المزارعين الذين يعانون أصلًا من ارتفاع أسعار الوقود والعمالة وتراجع جدوى الزراعة.

ويشير إلى أن الأسمدة، باعتبارها أحد أهم مكونات الإنتاج الزراعي، تشهد فجوة واضحة بين ما توفره الدولة من حصة مدعمة وبين ما يحتاجه المزارعون فعليًا، هذه الفجوة تدفع الكثيرين إلى شراء الكميات الإضافية من السوق الحر بأسعار باهظة قد تصل إلى أربعة أضعاف السعر المدعوم. ومع غياب الرقابة الكافية وظهور السوق السوداء، ترتفع التكاليف بصورة غير محتملة، ما يؤدي في النهاية إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية التي تصل للمستهلك.

وبحسب الخبير، فإن بعض المحاصيل تأثرت بشكل أكبر من غيرها بهذه الأوضاع، وعلى رأسها البطاطس والبصل. فالمزارعون يشتكون من ارتفاع تكلفة زراعة الفدان الواحد، حيث تتجاوز المصروفات في بعض الأحيان العائد المتوقع من البيع، خاصة مع تراجع الأسعار عند التوريد أو غياب آليات عادلة لتسعير المحصول. مؤكدًا أن هذا الوضع لا يهدد فقط دخل الفلاحين، بل يهدد الأمن الغذائي المصري بأكمله، إذ إن البطاطس مثلًا من المحاصيل الأساسية التي يعتمد عليها المستهلك في غذائه اليومي، والبصل يعد من المحاصيل الاستراتيجية التي تدخل في معظم الصناعات الغذائية.

كذلك يلفت إلى أن استمرار هذه الأوضاع دون حلول جذرية يعمق من أزمات القطاع الزراعي. فالمشكلة ليست في المزارع نفسه، وإنما في غياب سياسات واضحة لدعم مستلزمات الإنتاج وضبط الأسواق، وهو ما يضع مستقبل الزراعة المصرية أمام تحديات صعبة تحتاج إلى تدخل عاجل من الدولة.

تُعزى موجة الارتفاع المتواصل في أسعار الأسمدة إلى جملة من العوامل المترابطة. في مقدمتها ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي، الذي يُعد المادة الخام الأساسية لإنتاج الأسمدة النيتروجينية مثل اليوريا والنترات. فقد أدت التوترات الإقليمية الأخيرة في الشرق الأوسط، إلى تعطّل إمدادات الغاز بنسبة 50% في مايو الماضي، واستمر ذلك قرابة شهرين، ما أدى إلى توقف بعض المصانع وانخفاض الإنتاج المحلي بنحو 20%. وإلى جانب ذلك، أسهمت زيادة حصة التصدير من 45% إلى ما بين 55 و63% من إجمالي الإنتاج في تقليص المعروض المحلي، الأمر الذي أوجد سوقًا سوداء ودفع الأسعار للارتفاع بنسبة وصلت إلى 40% في بعض الفترات. غير أن الحكومة أعلنت في 20 يوليو الماضي استئناف ضخ الغاز الطبيعي لجميع مصانع الأسمدة بكامل طاقتها، عقب تشغيل السفن الثانية والثالثة للتغويز، وهو ما أعاد الإنتاج إلى مستويات 100%.

بالإضافة إلى ذلك، أدى تراجع الدعم الحكومي وزيادة سعر الغاز المورد للمصانع إلى 5.5 دولار لكل مليون وحدة حرارية (من 4.5 دولار) إلى زيادة تكاليف الإنتاج، مع تأثيرات عالمية مثل الحرب في أوكرانيا التي أثرت على الطلب العالمي وزيادة الصادرات المصرية إلى 1.359 مليار دولار في النصف الأول من 2025.

 

نوصي للقراءة: مصر الأكثر تضررًا من تضخم أسعار الغذاء.. لماذا؟

هل التصدير سبب؟ 

بالرغم من الارتفاعات القياسية للأسمدة، كشفت البيانات الرسمية الصادرة عن المجلس التصديري للصناعات الكيماوية والأسمدة أن صادرات مصر من هذا القطاع حققت نمواً ملحوظاً في النصف الأول من عام 2025. فقد ارتفعت قيمة الصادرات الإجمالية إلى حوالي 4.6 مليار دولار، بنسبة نمو بلغت 13% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. وجاءت صادرات الأسمدة على رأس المنتجات المصدرة، مسجلة نحو 1.359 مليار دولار.

وأوضحت التقارير أن منتجات الأسمدة مثل اليوريا الفوسفاتية والنترات أسهمت بالنصيب الأكبر من تلك العائدات، نظراً للطلب المرتفع في الأسواق الأوروبية والآسيوية، بالإضافة إلى استمرار العقود طويلة الأجل مع بعض الدول المستوردة. ويعكس هذا الأداء الدور الذي يلعبه قطاع الصناعات الكيماوية والأسمدة في تعزيز فائض الميزان التجاري السلعي لمصر، إلى جانب زيادة مساهمته في الإيرادات الدولارية. كذلك أشار مسؤولون في المجلس التصديري إلى أن خطط الحكومة تركز على تنويع الأسواق وتعزيز القيمة المضافة للمنتجات، عبر التوسع في الصناعات التحويلية وتطوير الموانئ والخدمات اللوجستية، بما يسهم في رفع تنافسية الصادرات المصرية بالأسواق العالمية.

ويحتاج القطاع الزراعي في مصر نحو أربعة ملايين طن من الأسمدة سنويًا موزعة على الموسمين الصيفي والشتوي، ويُقدم المزارع حُصصًا تتراوح بين ثلاث إلى ست شيكارات للفدان. وسعر الشيكارة المدعومة نحو 250 جنيهًا، بينما تتراوح أسعارها في السوق المفتوحة بين 950 و1000 جنيه حسبما يقول نقيب الفلاحين حسين أبو صدام لزاوية ثالثة. 

ويؤكد أبو صدام أن المزارع قد يحتاج لشِيكارات إضافية تُشترى بالسعر الحر، خاصة أن هناك أراض كثيرة خارج منظومة الحيازات الزراعية، التي تُصرف الأسمدة المدعمة من وزارة الزراعة وفقًا لها، لكن ذلك يُحوّل إنتاج الفدان إلى عبء يفوق العائد السنوي، خصوصًا في الأراضي الفقيرة التي تحتاج إلى كميات كبيرة من الأسمدة، مما يجعل قرار إلغاء الدعم عبئًا فادحًا عليه.

وتختلف حاجة المزارع للأسمدة بحسب نوعية الأرض الزراعية؛ هناك أراض قوية لا تحتاج كميات كبيرة من الأسمدة، وبالمقابل توجد نوعيات من التربة ضعيفة وتحتاج أسمدة نوعية وبكميات كبيرة، لذلك يمثل إلغاء الدعم عن الأسمدة عبء كبير على المزارعين، وفق أبو صدام. 

 

 

وتعقيبًا على الأزمة، يقول -الأكاديمي والخبير الاقتصادي كريم العمدة-، إن مصر تُعد واحدة من الدول المنتجة والمصدّرة للأسمدة، غير أن الارتفاع المتواصل في أسعار الغاز الطبيعي، وهو المدخل الأساسي في صناعة الأسمدة، انعكس مباشرة على السوق المحلي. موضحًا أن فترة انقطاع الغاز عن المصانع، ثم عودة الحكومة لفرض زيادات متتالية في أسعاره، أدت إلى قفزات كبيرة في تكلفة الإنتاج، حتى أن الطاقة تمثل في بعض الأنواع نحو 60% من سعر السماد.

ويشير العمدة إلى أن إنتاج الأسمدة في مصر ينقسم إلى ثلاث حصص: الأولى موجّهة للتصدير وتشكل قرابة نصف الإنتاج، والثانية مرتبطة بعقود معينة، أما الحصة الثالثة فهي المخصّصة للسوق المحلي، وتقدّر بنحو 37% من إجمالي الإنتاج بموجب اتفاق مع الحكومة لتلبية احتياجات المزارعين. لكن الواقع، كما يقول، أن هذه الكمية لا تصل كاملة إلى الجمعيات الزراعية، أو تصل شحيحة وأقل بكثير من متطلبات الأراضي، وهو ما يفتح الباب أمام السوق السوداء.

ويؤكد أستاذ الاقتصاد أن ارتفاع أسعار الأسمدة وندرتها انعكس مباشرة على كلفة الزراعة في مصر، لترتفع أسعار الخضروات والفواكه والأعلاف، وبالتالي أسعار اللحوم والمنتجات الأساسية. ويضيف: “الأسمدة ليست مجرد سلعة إنتاجية، بل هي مدخل أساسي يؤثر سريعًا وبشكل مباشر على حياة المواطنين وأمنهم الغذائي.”

 

نوصي للقراءة: ما بين رفع أسعار الأسمدة والتقاوي.. لماذا يغادر الفلاحون الأرض في صمت؟

تحذيرات عالمية من أزمة غذاء

في يونيو الماضي، حذّر رئيس شركة يارا النرويجية، إحدى أكبر شركات الأسمدة في العالم، من أن التوترات المتصاعدة في الشرق الأوسط قد تشكّل تهديدًا جديدًا لاستقرار أسعار الغذاء عالميًا، نتيجة انعكاسها المباشر على سلاسل التوريد الحيوية لمغذيات المحاصيل والطاقة. وأشار في تصريحات نقلتها صحيفة فايننشال تايمز إلى أن المخاطر المحيطة بمضيق هرمز ـ الذي يعبر منه 40% من صادرات اليوريا عالميًا و20% من تدفقات الغاز الطبيعي المسال ـ تُراقَب بدقة من جانب شركات الأسمدة وعملائها، إذ قد يؤدي أي اضطراب هناك إلى تأثير واسع على إنتاج الغذاء. ولفت إلى أن الأسواق عانت بالفعل من تقلبات حادة خلال الفترة الأخيرة، ما يكشف مدى ترابط الأمن الإقليمي مع استقرار الإمدادات العالمية.

وأوضح هولسيثر أن توقف حقول الغاز الإسرائيلية مؤخرًا أدى إلى تعطيل إنتاج الأسمدة في مصر، في إشارة إلى السرعة الكبيرة التي تنتقل بها تداعيات الأزمات الإقليمية إلى خطوط الإنتاج. وقد تزامن ذلك مع تصاعد التوترات بين إيران وإسرائيل، ما انعكس على أسعار الطاقة حيث تجاوز سعر خام برنت 80 دولارًا للبرميل قبل أن يتراجع إلى 60 دولارًا بعد اتفاق لوقف إطلاق النار. 

وحذّر خبراء الصناعة من أن هذه الصراعات قد تؤدي إلى توقف أكثر من خمس إنتاج اليوريا عالميًا، خاصة مع إغلاق إيران مصانع الأمونيا لأسباب أمنية، واستمرار تعطّل الإنتاج في مصر بسبب توقف تدفقات الغاز، كما أكدت تقارير استشارية أن الضربات المتبادلة بين طهران وتل أبيب أدت إلى اضطراب واسع في أسواق النيتروجين، وخلقت تهديدات مستمرة لإمدادات الفوسفات والبوتاس والكبريت.

وتحدث هولسيثر عن هشاشة النظام الغذائي العالمي، مذكّرًا بأن ارتفاع أسعار الطاقة سابقًا، مع الحرب في أوكرانيا عام 2022، أدى إلى أزمة حادة في أسعار الأسمدة وأسهم في تفاقم أزمة الغذاء. ورغم تراجع الأسعار مع انخفاض سوق الغاز، فإن الضغوط لا تزال قائمة في أوروبا مع تنامي حصة الواردات الروسية. ورأى أن موسكو تستغل الغذاء والأسمدة كأداة ضغط سياسية واقتصادية، سواء عبر تعزيز صادراتها لزيادة الاعتماد العالمي عليها أو عبر استهداف الزراعة الأوكرانية. وأشار إلى أن أكثر من 20% من الأراضي الزراعية في أوكرانيا خرجت من الخدمة بسبب الألغام أو الاحتلال، مما خفّض إنتاج الحبوب والبذور الزيتية من 78 مليون طن في 2023 إلى 72.9 مليون طن هذا العام، وهو ما يعكس الأثر العميق للحرب على أحد أكبر مراكز الإنتاج الزراعي في العالم.

وفي مصر توفّر الحكومة دعمًا للمزارعين عبر الجمعيات التعاونية والبنك الزراعي اللذين يتوليان توزيع مدخلات الإنتاج المدعومة، مثل الأسمدة، بما يساعد صغار الحائزين على الحصول على قروض عينية تعينهم على إنتاج المحاصيل وضمان توفر الغذاء بأسعار في متناول المواطنين. لكن هذا الدور الحيوي للتعاونيات الزراعية تراجع بفعل الإهمال، إذ انخفض الدعم الحكومي الموجه للمزارعين عبر هذه المنظومة من 0.53% من إجمالي الموازنة العامة عام 2007/2008 إلى 0.10% فقط عام 2023/2024.

وقد بدأت في تقديم دعم للأسمدة الزراعية منذ عقود طويلة، وذلك في إطار جهودها لتحفيز الإنتاج الزراعي وضمان استقرار الأسعار، وفي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كانت السلطة تدرك أهمية الزراعة كقطاع حيوي للاقتصاد المصري، لذلك استثمرت بشكل كبير في دعم المزارعين وتوفير المدخلات الزراعية الأساسية بأسعار منخفضة. تم توفير الأسمدة بكميات كبيرة، وكان الهدف من ذلك تحقيق الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الأساسية مثل. القمح والأرز.

مع مرور الزمن، تطورت سياسات الدعم لتشمل أنواعًا متعددة من الأسمدة الكيميائية، مثل. الأسمدة النيتروجينية والفوسفاتية، وارتبط الدعم بتوفير المراكز التوزيعية واللوجستية لضمان وصول الأسمدة إلى المزارعين في مختلف المناطق. في التسعينيات، ومع الانفتاح الاقتصادي، بدأت الحكومة في إعادة تقييم سياسات الدعم، ومع تزايد الضغوط المالية، تم تقليص الدعم تدريجيًا، لكنه ظل يمثل جزءًا أساسيًا من استراتيجيات الحكومة للحفاظ على استقرار أسعار الغذاء.

 

في الوقت نفسه، أقدمت الحكومة على بيع حصص في أكبر شركات الأسمدة المملوكة للدولة لصناديق سيادية خليجية، ما أدى إلى تراجع كميات الأسمدة المدعومة المتاحة محليًا. هذا النقص في التوريد يترجم سريعًا إلى زيادات تتراوح بين 5% و20% في أسعار المحاصيل. وتبرز خطورة هذه السياسة في أن خصخصة شركات الأسمدة تهدد الأمن الغذائي، إذ يركز القطاع الخاص على تعظيم الأرباح والتصدير بدلًا من توفير احتياجات السوق المحلي. فبينما يشارك القطاع الخاص بنسبة لا تتجاوز 20% في تلبية احتياجات السوق المحلي، يوجه 76.4% من إنتاجه إلى الخارج، فيما يظل العبء الأكبر على عاتق القطاع العام الذي يغطي 80% من احتياجات الزراعة المحلية.

 

ورغم إلزام الحكومة للقطاع الخاص بتوريد 55% من إنتاجه في صورة أسمدة مدعمة و10% للبيع بالسعر الحر داخل السوق المحلي، فإن هذا الالتزام لم يُطبَّق بفاعلية. ووفق تقرير مجلس الشيوخ، بلغ العجز في الأسمدة المدعمة نحو 1.8 مليون طن في أكتوبر 2023، حيث لم يتجاوز ما تم توريده 2.2 مليون طن بدلًا من 4 ملايين طن مطلوبة. وقد انعكس هذا الخلل مباشرة على أسعار الأسمدة، التي ارتفعت من 4500 جنيه للطن في يناير 2023 إلى متوسط 17.3 ألف جنيه في السوق الحرة، مما ضاعف أعباء المزارعين وأضعف قدرة الدولة على تأمين الغذاء بأسعار مناسبة لمواطنيها.

مرارًا تحدثت تقارير عن نية الحكومة إلغاء الدعم عن المزارعين بشكل كامل في ضوء خطة لخفض معدلات الإنفاق على القطاع الزراعية في الموازنة العامة، خاصة مع ارتفاع تكاليف إنتاج الأسمدة التي تعتمد بشكل رئيسي على المشتقات البترولية والمواد المستورد بالعملة الأجنبية، التي تعاني الحكومة أيضًا أزمة في توفيرها.

كانت دراسة صادرة عن مجلس الشيوخ في أكتوبر الماضي قد لفتت إلى أن صناعة الأسمدة الكيماوية تمثل واحدة من أهم الصناعات الاستراتيجية التي تمتلك فيها مصر ميزة نسبية واضحة، ليس فقط لارتباطها المباشر بالأمن الغذائي، وإنما أيضًا لدورها في دعم خطط التنمية الزراعية وزيادة الإنتاجية وتحقيق عوائد اقتصادية كبيرة عبر التصدير. وأكدت الدراسة أن تحقيق الأمن الغذائي يستلزم منظومة متكاملة لإنتاج الأسمدة وتوفيرها بالكميات والأسعار المناسبة للمزارعين، خصوصًا مع ارتفاع الطلب العالمي والضغوط المتزايدة الناجمة عن التغيرات المناخية.

ورغم هذه الأهمية البالغة، رصدت الدراسة جملة من التحديات التي تواجه الصناعة وتؤثر على قدرتها في تلبية الاحتياجات المحلية. وأبرز تلك المشكلات يتمثل في عدم التزام بعض المصانع بتوريد النسبة المقررة من إنتاجها لوزارة الزراعة، ما يؤدي إلى فجوة واضحة بين المطلوب والمتاح داخل السوق المحلي. كما ساهمت الفجوة السعرية الكبيرة بين الأسمدة المدعمة التي لا تتجاوز 4500 جنيه للطن والأسعار المرتفعة في السوق العالمية في تنشيط السوق السوداء، إذ تجد الشركات في التصدير عوائد أكبر على حساب التوريد المحلي. وأشارت الدراسة أيضًا إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج من وقود ونقل وقطع غيار وأجور عمالة، وضعف التمويل المقدم من البنك الزراعي المصري، إضافة إلى محدودية القدرات التخزينية لبعض الشركات. وزادت من تعقيد الأزمة ممارسات بعض المزارعين، مثل المبالغة في التسميد الآزوتي أو صرف الكميات لمحاصيل غير محتاجة.

ولمواجهة هذه التحديات، أوصت اللجنة المشتركة بمجلس الشيوخ بوضع خطة وطنية شاملة للإنتاج والتوزيع والتصدير، على أن تتضمن خريطة سمادية واضحة وتلزم المصانع بالانتظام في توريد حصصها المقررة، مع توحيد الأسعار لمنع التلاعب. كما شددت التوصيات على تطوير السياسة السمادية لتحقيق الاستخدام المتوازن للأسمدة وفق طبيعة التربة والدورات الزراعية، والتوسع في إنشاء مصانع ومخازن جديدة وزيادة الاستثمارات الموجهة للقطاع. ودعت الدراسة إلى تعزيز الرقابة على الجمعيات الزراعية والتجار لمنع الاحتكار وضمان وصول الدعم للفلاحين، وإعادة النظر في تسعير مدخلات الإنتاج مثل الغاز والكهرباء بما يكفل استدامة الصناعة. كما طالبت بوضع استراتيجية ممتدة حتى عام 2030 تتضمن تحويل الدعم من عيني إلى نقدي، وتطوير منظومة “كارت الفلاح الذكي” لضبط عمليات التوزيع وضمان عدالة الاستفادة.

رشا عمار
صحفية مصرية، عملت في عدة مواقع إخبارية مصرية وعربية، وتهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية.

Search