في ذكرى تنحي مبارك: هل كان القرار استجابةً لمطلب الثوار أم حفاظًا على النظام والدولة؟

استطاع الجيش المصري كغيره من الجيوش الحديثة أن يربط نفسه بفكرة الدولة، وسادت قناعة وسط الجماعات السياسية المختلفة بأنه المؤسسة الوحيدة القادرة على تمثيل الدولة في مقابل الجماعات والفئات الأخرى
Picture of أشرف راضي

أشرف راضي

يصف ضابط شرطة مصري مشاعره لحظة إعلان اللواء عمر سليمان، نائب رئيس الجمهورية، تنحي الرئيس حسني مبارك في 11 فبراير 2011، في مذكراته التي نُشرت عام 2023 بعنوان “شاهد من أهلها: سيرة من الضفة الأخرى”. يقول: “أحسستُ أن كل شيء قد انتهى، تضاربت مشاعري بين الحزن والفقد والتوتر والغضب والخوف من المجهول.. وتأكدتُ أننا أمام فصل جديد يُكتب ونحن لا نعلم عن تفاصيله شيئًا”.

وفي وصفه لمشاعر زملائه في قسم الشرطة أثناء متابعتهم إعلان التنحي على شاشات التلفزيون، قال إن بعضهم كان يبكي، بينما اختنقت الدموع في أعين آخرين، ولم يعرف بعضهم “طريقًا للتعبير عن مشاعره أو حتى تحديدها”، ومنهم من لم يصدق ما يحدث.

تعكس هذه المشاعر طبيعة العلاقة التي كانت تربط الرئيس، الذي أطاحت به ثورة شعبية احتجاجًا على ممارسات الشرطة، بجهاز الشرطة ووزارة الداخلية، اللذين اعتمد عليهما وعلى أجهزة الأمن في إدارة شؤون البلاد. ورغم هذه المشاعر، استطاع رجال الشرطة تجاوز اللحظة، وبذلوا جهودًا لاستعادة دورهم في حفظ الأمن العام في ظل حالة من الانفلات الأمني، نتيجة هروب كثير من المسجلين خطرًا من أقسام الشرطة أو السجون التي تعرضت للاقتحام، وتم فتح بعضها بتعليمات من قيادات في وزارة الداخلية، حيث استولى المسجلون على كميات كبيرة من الأسلحة والذخيرة.

وكانت مساعدة المواطنين، الذين استشعروا الخطر على أرواحهم وممتلكاتهم نتيجة الانفلات الأمني، ومساندة الجيش عاملين حاسمين في عودة الشرطة لممارسة مهامها في حفظ الأمن.

في بيانٍ مقتضب أُذيع في السادسة مساء الجمعة 11 فبراير 2011، أعلن اللواء عمر سليمان، الذي عُيِّن نائبًا لرئيس الجمهورية عقب جمعة الغضب، أنَّه “في ظلِّ الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد، قرَّر الرئيس محمد حسني مبارك تخلِّيه عن منصب رئيس الجمهورية، وكلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد”.

ورغم التناقض الواضح في صياغة البيان، إذ كان الأدق أن يسبق الإعلان عن تكليف المجلس قرار التخلِّي عن المنصب، لأنَّ التخلِّي عن الرئاسة لا يمنح مبارك صلاحية إصدار قرار التكليف، فإنَّ المجلس الأعلى للقوات المسلحة أثنى في بيانه الثالث الصادر في اليوم ذاته على مبارك، مشيدًا بـ”تفضيله المصلحة العليا للوطن”. كما وجَّه “التحية والاعتزاز لأرواح الشهداء الذين ضحَّوا بحياتهم فداءً لحرية وأمن بلدهم خلال الاحتجاجات”.

سعى المجلس من خلال بيانه إلى اتخاذ موقف متوازن بين رئيس الجمهورية المتنحِّي، الذي كان يشغل، بحكم منصبه، رئاسة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وبين المعتصمين في ميدان التحرير.

 

نوصي للقراءة: هتافٌ ولحيةٌ وبيادة.. لماذا تحوّلتْ الثورةُ إلى شبحٍ يُطاردُ الجمهوريةَ الجديدة؟

ملابسات قرار التنحي

لا تزال تفاصيل قرار تنحي الرئيس حسني مبارك غامضة، إذ لم يتضح بعد ما إذا كان القرار قد اتُّخذ طوعًا، أو جاء تحت ضغط، أم أُعلن نيابة عنه بعد تنحيته فعليًا. المعلومات المتوفرة عن تلك الفترة محدودة، والروايات متضاربة، أبرزها ما يراه مراقبون أجانب من أن ما جرى كان انقلابًا ناعمًا قاده المجلس الأعلى للقوات المسلحة لإحباط سيناريو توريث السلطة لنجله جمال مبارك، الذي كان يشغل منصب أمين لجنة السياسات في الحزب الوطني الديمقراطي. هذه اللجنة، التي فرضت سيطرتها على معظم القرارات السياسية منذ تأسيسها، اعتُبرت الرافعة السياسية لمشروع التوريث، رغم غياب أي بيان رسمي من مبارك أو مساعديه أو كبار مسؤولي الدولة والحزب يؤكد هذا السيناريو. حتى المناشدات العلنية، مثل تلك التي وجهها الكاتب الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل، الذي دعا مبارك لنفي المشروع باعتباره انتهاكًا لتقاليد الدولة المصرية والنظام الجمهوري، قوبلت بالصمت.

يصعب فصل قرار التنحي عن مناورات مبارك للبقاء في السلطة، وسط تصاعد الغضب الشعبي وتزايد أعداد المعتصمين في ميدان التحرير وميادين أخرى في المدن الكبرى، مثل الإسكندرية والسويس. كما لا يمكن إغفال تقديرات الدوائر الأمنية والسياسية في الداخل والخارج لخطورة الموقف، إلى جانب الضغوط المتزايدة على المجلس الأعلى للقوات المسلحة للتدخل وحسم الأزمة.

تحليل خطابات مبارك الثلاث بعد جمعة الغضب وحتى عشية إعلان التنحي، يكشف تشبثه الواضح بالبقاء في السلطة حتى اللحظات الأخيرة. رغم تغيّر نبرة خطاباته، مقارنة بما قبل اندلاع الثورة، إلا أن مواقفه استمرت في التأرجح بين محاولات التهدئة وإظهار الثقة. في السابق، كانت نبرة مبارك تتراوح بين الثقة الزائدة والاستفزاز، وهو ما تجلى في سخريته من المعارضة التي أسست مجلسًا موازيًا لمجلس الشعب عقب انتخابات 2010، التي شابها تزوير واسع وفق تقارير محلية ودولية. وتبقى عبارته الشهيرة “خليهم يتسلوا”، في خطاب افتتاح مجلسي الشعب والشورى، دليلاً على استهانته بالمعارضة، قبل أن تتبدل ملامح المشهد السياسي بالكامل تحت ضغط الثورة.

يشير التحليل إلى أن خطابات مبارك الثلاثة عكست حالة من التذبذب بين المناورة، والتهديد الضمني بالفوضى، ومحاولات الاستجداء والاستعطاف. في خطابه الأول، الذي أُذيع فجر 29 يناير بعد خمسة أيام من انطلاق المظاهرات، رفض مبارك فكرة التخلي عن السلطة أو تقديم تنازلات جوهرية، واكتفى بإعلان تغيير الحكومة، وهو تعديل جاء مخيبًا لآمال المحتجين. اتسم الخطاب بنبرة مراوغة، حيث ألقى باللوم على “قوى سياسية” لم يسمّها، متهمًا إياها بإثارة المظاهرات والمتاجرة بشعاراتها، داعيًا في الوقت ذاته إلى الحوار والابتعاد عن العنف والفوضى. وفي تناقض واضح، أكد مبارك أن مظاهرات 25 يناير وما سبقها من احتجاجات كانت ممكنة بفضل ما وصفه بـ”مساحات الحرية العريضة”، في الوقت الذي كانت فيه السلطات قد قطعت شبكات الاتصالات والإنترنت لعزل المتظاهرين ومنع أصواتهم من الوصول إلى الخارج، مع تقييد عمل وسائل الإعلام العربية والدولية في تغطية الأحداث. وعلى الرغم من تعيينه عمر سليمان نائبًا له في اليوم التالي، في إشارة ضمنية لتراجع سيناريو التوريث، إلا أن خطابه لم يقدم تطمينات كافية للشارع.

في خطابه الثاني، الذي أُذيع في الأول من فبراير، أعلن مبارك عدم نيته الترشح لولاية جديدة، وكلف نائبه عمر سليمان بفتح حوار مع القوى السياسية حول قضايا الإصلاح والتعديلات الدستورية. ورغم أن الخطاب حمل طابعًا عاطفيًا واضحًا، إلا أنه لم يخلُ من التهديد، حين قال إن “أحداث الأيام القليلة الماضية تفرض علينا شعبًا وقيادة الاختيار بين الفوضى والاستقرار”. هذا التلميح بالفوضى سرعان ما ترجمته الأحداث على الأرض في اليوم التالي، في ما عُرف بـ”موقعة الجمل”، حيث تعرض المتظاهرون في ميدان التحرير لهجوم عنيف من قبل مجموعات من البلطجية، في محاولة لترهيب المحتجين وكسر اعتصامهم.

أما خطابه الثالث والأخير، الذي بُث مساء العاشر من فبراير، فقد جاء محاولة أخيرة لاستعطاف المواطنين، خاصة الشباب، عبر تأكيده على استعداده للحوار والانتقال السلمي للسلطة. وعد مبارك بإجراء تعديلات دستورية وتشريعية جوهرية، وأعلن نيته إلغاء قانون الطوارئ، الذي ظل ساريًا لعقود. لكنه في الوقت ذاته، حاول التقليل من شأن الحراك الشعبي، زاعمًا أن مطالب التغيير تأتي بإملاءات خارجية. ورغم هذه المحاولات، بدا الخطاب منفصلًا عن واقع الشارع، الذي كان قد تجاوز هذه النقاط، متمسكًا بمطلب رحيل النظام بالكامل، وهو ما تحقق في اليوم التالي بإعلان تنحيه رسميًا.

في الخطابات الثلاثة، ظل مبارك متمسكا بأمل البقاء في السلطة، فيما يزداد إصرار المحتجين على رحيله. وتفيد برقيات وتقارير تم كشفها مع تسريب رسائل البريد الإلكتروني لوزيرة الخارجية الأمريكية، هيلاري كلينتون، أن الثورة تتقدّم بسرعة وأن مبارك قد خسر بالفعل، مع تحذيرات من التداعيات الوخيمة لقمع الانتفاضة بالقوة على مصالح الولايات المتحدة.

ورصدت الوثيقة الأوضاع الميدانية للثورة في محافظتَي الإسكندرية والسويس مؤكدة أنها أكثر سخونة بمراحل من الأوضاع في القاهرة، ومُشيرة إلى أن الجيش يرغب في الحفاظ على نفسه، وأنه لا يريد التورط في صراع دموي، وخلص إلى أن رحيل مبارك “بات مجرد مسألة وقت”. وأكدت رسالة بتاريخ 2 فبراير أن الجيش لا يزال يلتزم الحياد في المواجهات الدائرة في الشارع، وأن مَن يقود المواجهة نيابة عن النظام مجموعات عنيفة من ضباط الشرطة وقادة الأجهزة الأمنية السابقين، لكنها ليست ذات أهمية سياسية. وأشارت الرسالة إلى أن مصر أمامها بضعة أيام فقط قبل أن تدخل في أزمة غذاء محلية، الأمر الذي يضغط على الجيش للتدخل وإنهاء المأزق السياسي للحيلولة دون مأزق شعبي حقيقي. وفي برقية بتاريخ 10 فبراير، جرى كشف كواليس الخطاب الأخير لمبارك ويومه الأخير في السلطة، وأشارت إلى خلاف حول محتوى الخطاب بين مبارك والمجلس العسكري حول شروط تنحيه، وكشفت رسالة بتاريخ 12 فبراير إلى أن اللواء حسن الرويني، قائد المنطقة المركزية العسكرية أبلغ بقية أعضاء المجلس العسكري بأن الجيش لن يكون بمقدوره مواجهة خطط المتظاهرين للزحف نحو القصر الجمهوري واقتحامه واقتحام مؤسسات حكومية أخرى دون استخدام مُوسَّع للعنف سيدمر العلاقة بين الجيش والشعب، مما دفع المشير محمد حسين طنطاوي، والفريق سامي عَنَان، رئيس الأركان للاجتماع بمبارك لإقناعه بالتنحي، وأسفر اللقاء عن حل وسط مؤقت يقضي بانتقال مبارك إلى منزله بشرم الشيخ مع احتفاظه بلقب الرئيس اسميا، على أن تُدار البلاد بواسطة نائب الرئيس، ولكن تحت إشراف المجلس العسكري، لكن خطاب مبارك الأخير خَلَّف انطباعات سلبية لدى الثوار الغاضبين حول نوايا الرئيس، فيما أشارت تقارير أن من شأن ذلك أن يؤدي إلى مواجهات دامية مع إعلان المحتجين البدء في الزحف نحو القصر الجمهوري، وأنهم يحظون بتعاطف ملحوظ من صغار الضباط، وهو ما أكّدته المخابرات العامة، الأمر الذي دفع رئيس الأركان للاجتماع بمبارك وطلب منه التنحي مجددا، مقابل خروجه بثروة شخصية كافية وتعهد المجلس العسكري بأنه سيضمن له خروجا لائقا، ووافق مبارك في النهاية على هذه الشروط وقَبِل بإعلان التنحي.

بغض النظر عن صحة الوقائع في هذه البرقيات التي استندت إلى تقارير صحفي أمريكي مقرب من كلينتون، فإن مجريات الأحداث وتطورات الوضع كانت تشير إلى أن الحلول السياسية تجاوزت مبارك، ورد المجلس الأعلى خطابه الأخير بإصدار بيانه الأول بانعقاده الدائم من دون وجود الرئيس، في إشارة على أن مبارك لم يعد يسيطر على الأمور، وأن الجيش لا يمانع في تنحيه، بعد أن حسمت الإدارة الأمريكية موقفها بعد رفض مبارك مقترحاتها لتهدئة الأوضاع، واختارت أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، وهو تنحية مبارك وانتخاب حكومة ديمقراطية في مصر، رغم ما يتضمنه من مخاطر على مصالحها لفقدانها حليف استراتيجي. 

نوصي للقراءة: من يرسم الطريق إلى سوريا الجديدة؟

النظام بين الدولة والثورة

يعكس قرار التنحي دور الجيش في الحفاظ على الدولة وعلى النظام السياسي، على نحو يبرز الدور السياسي للجيوش بشكل عام، فالجيوش الحديثة بحكم تعريفها تلعب دوراً في حفظ الاستقرار جرى توسيعه ليشمل حراسة الدستور أو النظام القائم ضد المخاطر التي قد تهدد استقرار الدولة وسلامة المجتمع. هذا الدور دفع بعض المحللين العسكريين إلى الحديث عن نوع جديد من الثورات تتحد فيها الشعوب مع الجيوش لإحداث التغييرات المنشودة، خصوصًا في الدول المستقلة حديثا، حيث تلعب الجيوش دوراً في عملية بناء الدولة، أو في تسريع عملية الانتقال من مرحلة إلى أخرى. ومن الواضح، أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة لعب دورًا رئيسيًا في صنع قرار التنحي، على النحو الذي خرج به، وضمن لنفسه لعب الدور الرئيسي في مرحلة ما بعد مبارك، ووسع هامش المناورة للتعامل مع الظروف الصعبة التي ترتبت على ثورة قطاعات واسعة من الشعب ضد حكمه والتي كانت تكتسب كل يوم زخمًا، وأدرك قادة المجلس أن دفاعهم من بقاء الرئيس في منصبه سيضعهم في تناقض صعب مع الجماهير المحتشدة في الميادين، وأن الغضب الجماهيري الذي كان موجهًا للشرطة ووزير الداخلية، اتسع ليشمل الحزب الحاكم ورئيس الجمهورية، وأنه لا بد وأن يبتعد خطوة عن نظام مبارك وسياساته من أجل كسب موضع قدم في أي ترتيبات جديدة في المستقبل، وأن ذلك يتطلب منه اتخاذ مبادرات تتوافق مع المزاج العام، على الرغم من تقديرات لدوائر في أجهزة الأمن بأن ما يحدث هو نتيجة لمؤامرة خارجية، وأن جماعة الإخوان المسلمين وبعض قوى المعارضة والنشطاء من الشباب ضالعون فيها، على الرغم من سيادة هذه النظرية في وقت لاحق، بعد نجاحهم في احتواء الثورة من خلال تفكيك الاتحاد الذي أظهره المحتجون المعتصمين في ميدان التحرير. 

كان انتصار المحتجين المعتصمين في ميدان التحرير في “موقعة الجمل”، يوم 2 فبراير، على المجموعات التي حاولت فض الاعتصام بالقوة، لحظة البداية الحقيقة لما حدث في 11 فبراير، وهي اللحظة التي دفعت أركان النظام إلى إدراك أن الحفاظ على الدولة ومقوماتها يفرض عليهم عدم الصدام مع الثورة بالقوة المسلحة. كانت هذه المواجهة التي خلفت عشرة قتلى وآلاف المصابين من المعتصمين في الميدان المهاجمين، دليلاً على تصميم المحتجين على الإطاحة بمبارك، ووجد المجلس الأعلى للقوات المسلحة والقوات المسلحة أن من واجبهم حماية المعتصمين والحيلولة دون وقوع المزيد من المصادمات، وكان الميدان يعبر عن مطلب مشترك لجميع طوائف الشعب المصري وفئاته وطبقاته، وكان المعتصمون يمثلون الثورة التي لا يستطيع أحد أن يقاومها أو يقف في طريقها. وعليه، فإن قرار التنحي كان ضرورياً كي يتمكن المجلس العسكري من استعادة السيطرة على مجريات الأمور في وضع ملتهب كاد أن ينفجر في أي لحظة وأن يخرج عن السيطرة، والحفاظ على النظام والدولة.  

على الرغم من الطموحات السياسية للسيد جمال مبارك، نجل الرئيس، إلا أنه لا يوجد ما يؤكد حتى هذه اللحظة، ما إذا كان هناك سيناريو لتوريث السلطة بالفعل، أم أننا كنا بصدد عملية تحول سياسي كبير في مصر كانت تشرف عليها أمانة السياسات في الحزب الحاكم تستهدف الحد من النفوذ الذي يتمتع به الجيش في النظام السياسي. لكن برحيل مبارك وتسليم السلطة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، استطاع الجيش أن يستعيد وضعه المركزي في رسم المستقبل السياسي للبلاد، دون الإخلال بالتوازن القائم الذي يميل بشدة لصالح رئيس الجمهورية والسلطة التنفيذية التي تهيمن على السلطة التشريعية من خلال ضمان أغلبية في البرلمان، والتي تراوحت علاقتها مع السلطة القضائية بين التوافق والتوتر. 

يكشف قرار التنحي طبيعة العلاقات المدنية العسكرية في الدولة المصرية، والتي تشير إلى أن قادة الجيش يعملون في إطار الدستور على الرغم من الدور المحوري الذي يلعبه الجيش في النظام السياسي، بوصفه خط الدفاع الأخير عن الدولة في مواجهة الأخطار الداخلية والخارجية، وعلى الرغم من امتلاكه القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة وتنفيذها، ومن ثم لم تشهد مصر المزيد من الانقلابات العسكرية منذ حركة الضباط الأحرار في 23 يونيو 1952، والإطاحة بالنظام الملكي وإعلان الجمهورية، مع إدراك جميع الأطراف الدور الحاسم للجيش في دعم النظام والاستقرار وتثبيت شرعية الحاكم، على غرار ما حدث في مايو عام 1971، عندما انحاز قادة الجيش للرئيس السادات في مواجهة خصومه الذين كانوا يسيطرون على أركان السلطة من خلال مواقعهم في الاتحاد الاشتراكي العربي، الحزب السياسي الوحيد في البلاد حينذاك، وفي مؤسسات أمنية والحكومة، وهو ما حدث في عام 1981، بعد اغتيال الرئيس السادات ونقل السلطة للرئيس مبارك في مواجهة خطة للتمرد المسلح يقودها تنظيم الجهاد، ثم في فبراير عام 1986 بعد تمرد مجندي الأمن المركزي، وأخيرًا في الثالث من يوليو عام 2013، وعزل الرئيس محمد مرسي والإطاحة بحكم جماعة الإخوان المسلمين.

استطاع الجيش المصري كغيره من الجيوش الحديثة أن يربط نفسه بفكرة الدولة، وسادت قناعة وسط الجماعات السياسية المختلفة بأنه المؤسسة الوحيدة القادرة على تمثيل الدولة في مقابل الجماعات والفئات الأخرى، والحفاظ على وحدتها وتماسكها مؤسسيًا، واستطاع أن يثبت في أكثر من مناسبة انحيازه للمصلحة العامة في مواجهة المصالح الجزئية للقوى الاجتماعية والسياسية، معتمداً في ذلك على أنه المؤسسة الوحيدة التي تمتلك القوة، والأكثر قدرة على التحرك المنظم في حالات الصراعات الاجتماعية والأزمات وحتى الكوارث الطبيعية، لكونه المؤسسة الأكبر والأقوى والأكثر انضباطا من بين جميع مؤسسات الدولة والمجتمع، في ظل ضعف المؤسسات الحديثة. وامتاز الجيش المصري بوضع فريد باستناده إلى تأييد الطبقات الوسطى المدنية التي رأت فيه الحامي لنمط حياتها المهدد في حالة سيطرة الإسلاميين على السلطة، والذي بات واضحاً في أعقاب تنحي مبارك عام 2011، رغم اعتماد المجلس الأعلى للقوات المسلحة على رموز ترتبط بجماعة الإخوان المسلمين لتمرير التعديلات الدستورية، وقطع الطريق على المطالب الخاصة بإعداد دستور جديد في ظل الأوضاع التي كانت سائدة، إلا أنه استفاد من ظهيره الاجتماعي المتمثل في الطبقات الوسطى في المدن والتي عبرت عن تخوفها على نمط حياتها من سيطرة الإسلاميين، الأمر الذي دفعها للمراهنة على النظام القديم والجيش. ووفرت له الانقسامات بين القوى السياسية وعدم قدرتها القوى السياسية على الاختلاف تحت سقف مؤسسات منتخبة ديمقراطياً، بل محاولات عدد منها كسبه لصفها ضد القوى أخرى، هامشاً واسعاً للمناورة خلال إدارته للمرحلة الانتقالية وما بعدها، واستغل هذه القوى جميعاً ليصبح هو المؤسسة التي تحظى بإجماع من القوى السياسية غير المتفقة على أي شيء آخر. 

أشرف راضي
كاتب ومحلّل سياسيّ مصريّ، صحفي سابق في رويترز وعدد من المنصّات الصحفيّة

Search