الحصانة القضائية: درع حماية أم سلاح للفساد في مصر؟

الحصانة القضائية، التي يُفترض أن تحمي استقلالية القضاة وتعزز العدالة، قد تُستخدم في بعض الأحيان كأداة لتعزيز الأنشطة غير القانونية، مثل الفساد واستغلال النفوذ لتحقيق مكاسب شخصية.
Picture of طارق جمال حافظ

طارق جمال حافظ

كشفت أوراق ومستندات رسمية حصلت زاوية ثالثة حصريًا على نسخة منها، عن إحالة رئيس محكمة بدائرة الإرهاب بمجمع محاكم بدر إلى المحاكمة الجنائية، عقب تورطه في واقعة انتحال صفة ضابط شرطة وقيامه بخطف مهندس بشركة كمبيوتر كبرى مستغلا القوة الأمنية المكلفة بتأمينه – كونه رئيس محكمة إرهاب- في تنفيذ جرائمه، وإيهام المجني عليه بأنه ضابط شرطة ومطلوب القبض عليه، وأجبره على تحويل أموال لحساب خارج مصر، بعد أن هدده بالزج به في السجن وإلحاق الأذى بأسرته، بالاتفاق مع صديقه رئيس شركة الكمبيوتر التي يعمل بها المهندس المجني عليه. تظهر الواقعة أنواعًا من الفساد في داخل منظومة العدالة المصرية ذاتها.. فما الذي حدث في الواقعة المطروحة وما تفاصيلها؟ 

حملت القضية الرقم 6589 لسنة 2024 جنايات قسم شرطة العجوزة، وقيدت تحت رقم 14 لسنة 2024 حصر تحقيق نيابة استئناف القاهرة. والمتهمان فيها هما القاضي محمد نبيل شفيق عبدالرحمن (47 عامًا) – عمل كرئيس محكمة بـ الدائرة الثالثة إرهاب-، ورجل الأعمال تامر محسن محمد الشوربجي (50 عامًا)، ويعمل مدير عام لشركة “مترا كمبيوتر للاستيراد والتصدير”.

حسب الوقائع التي طالعناها، هدد رئيس محكمة الإرهاب، المهندس المجني عليه (أسامة شعبان محمد – 37 عامًا ويعمل مهندس كهرباء اتصالات بشركة مترا للكمبيوتر) بسجنه وإلحاق الأذى بأسرته. تفاصيل القضية – وفقًا للمستندات والوثائق الرسمية-، تبدأ من عند الشاب الثلاثيني الذي أقر بالتحقيقات، أنه وإثر اتهام المتهم الثاني ومالكي الشركة محل عمله له باختلاس مبالغ مالية، ذهب في مارس الماضي، لاستكمال التحقيق الإداري معه. مضيفًا أنه فوجئ بحضور المتهم الأول (رئيس محكمة بدائرة الإرهاب) رفقة أفراد حراسة يرتدي أحدهم الملابس الأميرية، زاعمًا أنهم من رجال الشرطة، وعمد إلى ضبطه وتفتيش مكتبه وسيارته واقتياده إلى سيارة حراسة أمنية (ماركة نيسان)، تتبعها سيارة شرطة، من أمام مقر الشركة. وحسب شهادته فقد قويض بإطلاق سراحه مقابل تحويل مبالغ مالية إلى محفظة مملوكة لصديق للقاضي محمد، يعيش في الإمارات (وقد أقر في التحقيقات بتحويل مبلغ 70 ألف جنيه إلى محفظته البنكية من حساب المجني عليه).

اعتراف 

لم يتوقف القاضي المذكور عند محاولة تزوير أو استغلال سلطته لتحصيل أموال من مواطنين دون وجه حق؛ بل سعى لاستغلال طاقم الحراسة الشرطي المرافق له في تنفيذ تلك المهام؛ ما يكشف فسادًا متأصلًا. وحسب شهادات طاقم الحراسة والتأمين في تحقيقات النيابة، فقد قالوا إنهم كُلفوا بمأمورية تأمين القاضي المتهم، والمتجهة إلى محكمة جنايات بدر، مستقلين سيارتي قطاع الحراسات وشرطة النجدة، لكن فوجئوا برئيس المحكمة يحيد عن المسار المعتاد متجهًا إلى مقر الشركة محل الواقعة. مضيفين أنه طالبهم باصطحابه إلى الشركة ثم إلى طريق السويس. وقد ثبت أن السيارة المصفحة رقم (ي أ و 914) ماركة “نيسان باترول” تابعة للإدارة العامة لشرطة الحراسات الخاصة، ومخصصة بتاريخ الواقعة لاصطحاب المتهم الأول (عضو الدائرة الثالثة إرهاب بمحكمة جنايات بدر) لمقر محكمة بدر، وبـ تعيين الحراسة بالمأمورية.

أيضًا- كشفت مستندات القضية أن القاضي المذكور عمل بالدائرة الثالثة جنايات إرهاب بدر خلال الأسبوع الرابع من شهر مارس الماضي 2024 في الفترة من 23 مارس 2024 وحتى 27 مارس 2024. كما ثبت مغادرته البلاد بتاريخ 19 إبريل 2024، بعد إبلاغ المجني عليه السلطات المعنية بالواقعة وبدء التحقيق فيها، خوفًا من افتضاح أمره والقبض عليه، ولا يزال هاربًا حتى اللحظة. ليصدر وزير العدل قراره رقم (3474) لسنة 2024 بتاريخ 4 يوليو الماضي، باعتبار الرئيس بمحكمة الإرهاب المتهم مستقيلًا اعتبارًا من تاريخ 19 مايو 2024 للانقطاع 30 يومًا متصلة عن العمل، ورفع اسمه من سجل قيد رجال القضاء والنيابة العامة.

وقد وجهّت النيابة العامة إلى القاضي المتهم تهمة الخطف بالتحايل للمجني عليه أسامة، وأنه تدخل في وظيفة من الوظائف العمومية وأجرى عملًا من مقتضيات تلك الوظيفة، بأن انتحل صفة ضابط شرطة وألقى القبض على المجني عليه دون أن يكون له صفة رسمية من الحكومة أو إذن منها بذلك. إلى جانب المبلغ المالي المتحصل عليه وتهديده بالسجن.

وحسب معلومات توصلنا إليها، فقد نظرت دائرة الإرهاب التي كان القاضي المتهم الهارب عضوًا فيها العديد من القضايا المتعلقة بأحداث التظاهرات والعنف والمصنفة على أنها قضايا إرهاب، وأصدرت أحكامًا؛ أبرزها في 26 فبراير 2023 بالسجن المشدد ثلاث سنوات على أحد النشطاء في القضية الشهيرة إعلاميًا باسم أحداث محمد محمود، على خلفية اتهامه وآخرين بحرق سيارة شرطة وقتل مجند في أحداث شارع محمد محمود التي وقعت في مايو عام 2013. وفي 30 يوليو 2023 أصدرت أحكام بالسجن المشدد خمس سنوات لمتهمين اثنين والمشدد ثلاث سنوات على 16 متهمًا والحبس سنة مع الشغل على أربعة متهمين، ووضع المحكوم عليهم تحت مراقبة الشرطة نفس مدة العقوبة، على خلفية اتهامهم في القضية المعروفة إعلاميًا باسم أحداث شغب السلام، لاتهامهم باستخدام ألعاب نارية والتجمهر في منطقة السلام وإشاعة الفوضى.

نوصي للقراءة:  محاكم التفتيش الأخلاقيّة في مصر: تمييز طبقي وانتهاك لحقوق المرأة بمادة غير دستورية 

 

الهروب

زاوية ثالثة انتقلت إلى مقر سكن المهندس أسامة للحديث معه في مدينة نصر، لم نجده. التقينا بحارس العقار شعبان الذي أكد أنه غادر مع أسرته إلى خارج البلاد.

يقول حارس العقار إن المجني عليه أنهى علاقة أولاده بالمدارس المصرية ونقلهم خارج مصر، كما رتّب سفره وزوجته خارج البلاد، وأن ذلك جاء خشية أن يتم التنكيل به من قبل المتهم، من خلال علاقاته ونفوذه، وفقًا لما تردد خلال فترة التحقيق قبل نحو شهرين تقريبًا. مضيفًا أن مباحث الشرطة حضرت في وقت سابق، وأجرت تحرياتها عن المجني عليه قبل إحالة المتهم وشريكه إلى المحاكمة الجنائية.

تعليقًا، يؤكد المحامي الحقوقي ناصر أمين – رئيس مؤسسة دعم العدالة بـ المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة-، في حديثه إلى زاوية ثالثة أن القضية التي ننفرد بنشرها هي أول واقعة يتم رصدها متهم فيها قاضي بمحاكم الإرهاب المصرية منذ تشكيلها، ويجب على السلطات المختصة أن تكمل إجراءاتها ضده رغم هروبه خارج البلاد.

يضيف أن هناك عدة تساؤلات تحيط بالواقعة وتثير الشكوك والحيرة حولها، ويجب على وزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى الرد عليها، وتتمثل في “كيف تمكن القاضي المتهم من السفر قبل اتخاذ الإجراءات القانونية ضده، ولماذا التأخير في اتخاذ الإجراءات ضده حتى تمكن من الهروب خارج مصر، وعَبر الطرق الرسمية من خلال المطار، ومن سمح له بالسفر في ظل وجود تحقيقات في قضية بمثل هذا الحجم وبهذه الاتهامات؟.”

يتابع ناصر أنه يجب على وزارة العدل أن تعلن عن الإجراءات التي اتخذتها بخصوص القبض عليه أو ملاحقته من قبل الإنتربول الدولي – عقب إخطاره-، كما يجب على مجلس القضاء الأعلى أن يعلن موقفه من الإجراءات المتبعة تجاه القاضي، إذ كان يتداول في الأوساط القضائية والقانونية أن القاضي المتهم تم انتدابه خارج مصر. مطالبًا السلطة المصرية بالتعاون مع الإنتربول الدولي وإدراجه على قوائم المطلوبين أمنيًا (الإشارة الحمراء)، وأن تكون الإجراءات حاسمة وسريعة لما تمثله الواقعة من مساس بهيبة ومنصب القاضي، إلى جانب الجريمة التي ارتكبها.

يوضح رئيس مؤسسة دعم العدالة، أن هناك قضاة تورطوا في قضايا فساد واتهامات جنائية عبر سنوات، لكن كان يتم التصدي للوقائع بسرعة من قبل مجلس القضاء الأعلى، عبر قرار بخروج القاضي أو المستشار المتورط إلى عدم الصلاحية (مصطلح يطلق عند عزل القضاة بعد ثبوت إدانتهم في الاتهامات وأنه أصبح غير صالح للعمل القضائي)، والاكتفاء بالعزل أو بتحريك الدعوى الجنائية ضدهم. مبينًا أن انتشار ظاهرة الإخلال بمبدأ سيادة القانون، خلال العشر سنوات الأخيرة في كافة المجالات، يمثل مناخًا خصبًا لـ انتشار وظهور مثل هذه الجرائم وخاصة من قبل المكلفين بإنفاذ القانون أو العمل على تطبيقه.

في السياق نفسه، يقول المحامي بالنقض والدستورية العليا، محمد حامد سالم، في حديثه معنا، إن العقوبة المتوقعة التي تنتظر القاضي المتهم جراء الاتهامات الموجهة له في قرار إحالته إلى المحاكمة الجنائية – وفقًا لنصوص مواد القانون المصري-، خاصة المادة (155) من قانون العقوبات، وتنص أن: “كل من تداخل في وظيفة من الوظائف العمومية ملكية كانت أو عسكرية من غير أن تكون له صفة رسمية من الحكومة أو إذن منها بذلك أو أجرى عملاً من مقتضيات إحدى هذه الوظائف يعاقب بالحبس”، كما نصت المادة (290) من ذات القانون أن: “كل من خطف بالتحايل أو الإكراه شخصًا، يُعاقب بالسجن المشدد مدة لا تقل عن عشر سنوات، فإذا كان الخطف مصحوبًا بطلب فدية تكون العقوبة السجن المشدد لمدة لا تقل عن 15 سنة ولا تزيد على 20.”

يضيف أنه في حال ثبوت الواقعة المثارة التي تكشفها زاوية ثالثة للمرة الأولى، ستنزل به المحكمة العقوبة الأشد وهي السجن المشدد لمدة لا تقل عن 15 سنة وتصل إلى 20، طبقًا لنص المادة (32) من قانون العقوبات. تنص: “إذا كان الفعل الواحد لـ جرائم متعددة وجب اعتبار الجريمة التي عقوبتها أشد والحكم بعقوبتها دون غيرها، وإذا وقعت عدة جرائم لغرض واحد وكانت مرتبطة ببعضها بحيث لا تقبل التجزئة وجب اعتبارها كلها جريمة واحدة والحكم بالعقوبة المقررة لأشد تلك الجرائم.”

يتابع محمد، أنه في السنوات الأخيرة انتشرت في مصر ظاهرة ارتكاب بعض القضاة جرائم العدوان على المال والمخدرات والرشوة؛ ما تسبب في صدمة للمجتمع، باعتبار أن القضاة هم حراس العدالة والأمناء عليها. مشيرًا إلى أنه لا يجوز أن ينزلق القاضي إلى مهاوي الجريمة حتى لا يفقد الناس الثقة العامة في منظومة العدالة. مقدرًا أن الظاهرة أصبحت في ازدياد، وينبغي على الجهات الرقابية مجابهتها بكل قوة وحزم، لما له تأثير سلبي على المجتمع والاستثمار في مصر، ويجب دراسة أسبابها، وإن “كان مردها الجشع والطمع وميل نفس القاضي إلى الفساد سواء بالفطرة أو مكتسبة، بسبب ضعف الرقابة ومنحهم صلاحيات وسلطات كبيرة تصل ببعضهم إلى الغرور، معتبرين أنهم فوق المحاسبة وأنهم أصبحوا دولة داخل الدولة.”

ويرى المحامي الحقوقي أنه لمواجهة ذلك الفساد يجب أن يخرج القضاة إلى المعاش في سن الـ 60، والقضاء على الواسطة والشبكات العنكبوتية التي فرضت هيمنة أسرية للمناصب القضائية وتداخلها مع مناصب رقابية، فأصبحت المجاملات والنفوذ وتعارض المصالح والشبكات العائلية هي من تساعد على انتشار تلك الحوادث. مؤكدًا: “آن الأوان لتطهير المؤسسة القضائية من كل من تسول له نفسه الاستهانة بها، واستغلالها لارتكاب الجرائم في المجتمع مؤيدًا بـ حصانته، ويجب تفعيل التفتيش القضائي على كل القضاة بلا استثناء ومراجعة ملفاتهم وإجراء التحريات كل فترة عليهم، وإجراء تحليل المخدرات والكشف عن ذمتهم المالية وثرواتهم هم وأزواجهم كل خمس سنوات على الأقل، حتى يتم القضاء نهائيا على هذا الفساد.”

يفتح هذا التساؤل حول وقائع غير قانونية يقوم بها مسؤولون في السلطة القضائية خلال العشر سنوات الأخيرة، إذ تم توثيق 31 حالة من خلال تحليل بيانات أجرته زاوية ثالثة. 

 

نوصي للقراءة: المعلمون المصريون يتحدون قرارات وزير التعليم في ساحة القضاء

 

وقائع فساد 

تورط قضاة في قضايا فساد لم يكن الأول؛ رصدت زاوية ثالثة من خلال بحثها نحو 31 واقعة فساد خلال العشر سنوات الأخيرة؛ كما أن هناك بعض القضايا متورط فيها أكثر من قاض أو مستشار، إذ أنه وفقًا لقاعدة البيانات التي جمعناها من خلال رصد تلك القضايا في صحف ومواقع المصري اليوم والشروق والفجر وذات مصر والمنصة والعربي الجديد وعربي 21، إضافة إلى الجريدة الرسمية المصرية، فإن هناك 14 قضية تمثل نسبة 45.1% تتعلق بتورط القضاة والمستشارين المتهمين فيها في أعمال تجارية محظور على القضاة القيام بها، وارتكاب مخالفات ووقائع فساد أفقدتهم صلاحيتهم للعمل القضائي، وارتكاب أعمال ومخالفات إجرائية ومخالفات جنائية متنافية مع الأعراف القضائية التي تؤهلهم للاستمرار بالعمل القضائي، كما تم رصد سبع قضايا بما نسبته 22.6% تتعلق بالتربح والكسب غير المشروع والحصول على رشاوى عديدة من رجال أعمال ومتهمين، مقابل التلاعب في أحكام قضائية واستغلال النفوذ. ووفق تحليل البيانات، فإن هناك 13% من القضايا اتهم فيها قضاة بالإتجار في الآثار و حيازتها بالمخالفة للقانون، بواقع أربع قضايا. فيما أن 6.5% من القضايا تتعلق بالتورط في علاقات جنسية غير شرعية، بواقع قضيتين، ونفس النسبة لقضايا تتعلق بالتورط في جرائم خطف واغتصاب وإجبار على الزواج العرفي، فيما رصدنا قضية واحدة تمثل نسبة 3.2% تتعلق بالتربح والكسب غير المشروع، وقضية واحدة تمثل 3.2% لجريمة قتل.

أشهر تلك القضايا؛ إدانة المستشار سامي محمود علي عبد الرحيم – قاضي شغل منصب رئيس محكمة وصاحب أحكام تتعلق بقضايا سياسية في محكمة استئناف الإسماعيلية-، إذ صدر ضده حكمًا في 21 أغسطس 2022 من محكمة جنايات بورسعيد بالإدانة والحصول على رشاوى من رجال أعمال وتجار مخدرات وأسلحة كانوا متهمين لديه في المحكمة التي يرأسها، مقابل منحهم أحكام بالبراءة في قضايا منظورة أمامه.

وقضت المحكمة بمعاقبة القاضي السابق في القضية التي حملت الرقم 110 لسنة 2022 كلي القاهرة الجديدة وقيدت تحت رقم 160 لسنة 2022 جنايات أمن الدولة العليا، بالسجن بمجموع أحكام بلغت 24 سنة وغرامة بلغت ثلاثة مليون و610 ألف جنيه، وقد توفي قبل أسابيع قليلة داخل محبسه نتيجة حالته المرضية أثناء قضاء فترة عقوبته.

ومن أبرز الأحكام السياسية التي أصدرها القاضي المدان، حكم بمعاقبة المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين محمد بديع، والقياديين بالجماعة محمد البلتاجي والداعية الإسلامي صفوت حجازي، و 92 آخرين بالسجن المؤبد 25 عامًا، ومعاقبة 28 آخرين بالسجن المشدد عشر سنوات بالقضية الشهيرة إعلاميًا بإسم “أحداث قسم شرطة العرب”. أيضًا- حكمًا بالإعدام على المتهم الشهير بعادل حبّارة، لقتل مخبر شرطة بوحدة مباحث أبو كبير بمحافظة الشرقية.

وفي 18 يونيو 2022، قضت محكمة جنايات القاهرة بالسجن المشدد خمس سنوات على المستشار أحمد عبدالفتاح حسن – القاضي السابق بمجلس الدولة-، إثر إدانته بالاتجار في الآثار هو وزوجته، وحيازتهما 1384 قطعة أثرية داخل شقته في حي الزمالك، في القضية الشهيرة إعلاميًا باسم “شقة الزمالك الأثرية”.

وأحالت نيابة الأموال العامة، الشهر الماضي، القاضي شريف إدوار غالي بطرس الدهبي (رئيس الدائرة 62 مدني كلي حكومة شمال القاهرة، وهو نجل المستشار إدوار غالي بطرس الدهبي رئيس هيئة قضايا الدولة الأسبق، والذي عين رئيسا للهيئة بموجب قرار جمهوري من الرئيس حسني مبارك حمل الرقم 304 لسنة 1990، كما عين عقب انتهاء رئاسته للهيئة عضوا بمجلس الشورى عن الحزب الوطني المنحل)، إلى المحاكمة الجنائية، لقيامه بالتلاعب في حكمين قضائيين لصالح رجال أعمال في مقدمتهم رجل الأعمال الشهير محمود حسنين علم الدين – عضو مجلس إدارة اتحاد الصناعات التجارية ورئيس مجلس إدارة شركة رويال إنترناشيونال للكيماويات-، لتمكينهم من التهرب من سداد مستحقات للدولة بأكثر من 50 مليون جنيه قيمة تحويل 107 رخصة لمنشآت من سكني إلى تجاري. ووجهت نيابة الأموال العامة إلى المتهم الأول (رئيس الدائرة)، تهمة أنه بصفته موظفًا عامًا حصل لغيره دون وجه حق على منفعة من عمل من أعمال وظيفته.

وكانت محكمة جنايات القاهرة قد أصدرت حكمًا بالسجن المشدد 15 سنة على قاض وصديقيه المتهمين باستدراج فتاة وخطفها عن طريق التحايل واغتصابها بقرية مارينا بالساحل الشمالي، في يومي 8 و9 ديسمبر 2020 بدائرة قسم العلمين. وحسب التحقيقات فقد استغل المتهمون احتياج الفتاة لفرصة عمل، وأوهمها القاضي المدان بانعقاد مؤتمر خاص بعملها، طالبًا منها مرافقته وباقي المتهمين مدعين حجز إقامة منفردة لها، لكنها فوجئت بـ اقتحامهم غرفتها والتناوب على اغتصابها دون إرادتها. وفي وقت سابق، أحيل رئيسا محكمة وضابط للمحاكمة إثر اتهامهم في صفقة آثار كبرى قدرت بنحو مليار و 200 مليون دولار أمريكي، وقد حاولوا تهريبها من خلال استغلال سيارات كان يقودها الضابط، للهروب من الأكمنة والارتكازات الأمنية والملاحقة الأمنية، مستغلًا وظيفته في نقل الآثار وتهريبها.

وفي 16 مارس  2023 صدر القرار الجمهوري رقم 87 لسنة 2023 بعزل القاضي محمد فتوح السيد علام الرئيس بمحكمة استئناف الإسماعيلية من وظيفته، لثبوت تورط المستشار في أعمال التجارة وبيع الأراضي واستغلال سلطات وظيفته القضائية في ذلك الأمر، بل ووصل الأمر إلى اتهامه بالنصب والاحتيال والتزوير في أوراق رسمية وجهات سيادية عليا، ومن بين الضحايا أمير من العائلة الملكية السعودية.

 

نوصي للقراءة: منع ومصادرة وقضايا ضريبية.. كيف تستهدف السلطات المصرية دار نشر المرايا؟

 

رواتب القضاة

سامية خضر – أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس-، ترى أن هناك تطور في نوعية مرتكبي الجريمة في المجتمع، وارتكابها من قبل صفوة المجتمع ومن بينهم القضاة والمستشارين، وهناك جرائم أصبحت ترتكب من أشخاص ذوي حيثية لم يكن يتصور أن يرتكبونها.

تضيف في حديثها مع زاوية ثالثة: “الاتجاه الآن أصبح مركزًا على المال بشكل يكاد يكون مرضي. أرفض أن يبرر للجريمة على أنها نتيجة الغلاء المستشري؛ إذ أن العالم كله يشهد موجات غلاء متلاحقة ولم نرها في دول أخرى”، مرجعة الأمر إلى سمات فردية.

وترى سامية أن السبب وراء ذلك هو أن المجتمع افتقد الصورة النظيفة للنماذج الإيجابية، كما همشت الآداب وسرد الوقائع الإيجابية المتعلقة بالأخلاق السامية؛ ما أسهم بشكل كبير في توسع الجريمة. مشيرة إلى أن هناك قرارات غير مدروسة تعزز الأثر السلبي على المجتمع مثل إلغاء وزير التعليم تدريس علم النفس والاجتماع ووصفهما بأنهما غير ضرورين.

شهدت السنوات العشر الأخيرة مضاعفة في رواتب القضاة، وكانت بدايتها عام 2014 و2015، إذ أعلن عن رواتب تترواح بين 11 ألف و300 جنيه وحتى 38 ألف جنيه، ووفقًا للمعلن وقتها فإن معاون النيابة كان يتقاضى 11 ألف و300 جنيه، ومساعد النيابة 12 ألف جنيه، ووكيل النيابة 13 ألف جنيه، ووكيل النيابة من الفئة الممتازة 14 و300 جنيه، ورئيس محكمة (ب) 15 ألف و800 جنيه، ورئيس محكمة (أ) 17 ألف جنيه، ومستشار بمحاكم الاستئناف 21 ألف جنيه، ونائب رئيس محكمة استئناف 25 ألف جنيه، ورئيس محكمة استئناف من 30 ألف إلى 35 ألف جنيه بحسب أقدمية العضو، ومستشار بمحكمة النقض 27 ألف جنيه، ونائب رئيس محكمة النقض من 33 ألف وحتى 38 ألف جنيه بحسب الأقدمية.

واستمرت المكافآت والعلاوات في الصرف سنويًا. كان آخرها ما تم رصده في 2022 بصرف مكافأة استثنائية لأعضاء القضاء والنيابة العامة، من خلال “وثيقة سرية” حصلنا على نسخة منها، بحيث صرف للقاضي رئيس محكمة النقض – رئيس مجلس القضاء الأعلى – ومن في درجته ونوابه ورؤساء الاستئناف (من سن 64 وحتى 70 سنة) مبلغ ثمانية آلاف و100 جنيه، كما صرف لنواب رئيس محكمة النقض ورؤساء الاستئناف (من سن 60 وحتى 64 سنة) مبلغ سبعة آلاف و500 جنيه، وصرف لنواب رئيس محكمة النقض ورؤساء الاستئناف (حتى سن الستين) مبلغ ستة آلاف و700 جنيه.

وصرف لقضاة محكمة النقض ونواب الاستئناف مبلغ خمسة آلاف و450 جنيه، وصرف للمستشارين ومن في درجاتهم مبلغ خمسة آلاف و240 جنيه، كما صرف للرؤساء من الفئة “أ” بالمحاكم الإبتدائية ومن في درجاتهم مبلغ خمسة آلاف و200 جنيه، وصرف للرؤساء من الفئة “ب” بالمحاكم الإبتدائية ومن في درجاتهم مبلغ أربعة آلاف و600 جنيه، كما صرف للقضاة بالمحاكم الإبتدائية ومن في درجاتهم مبلغ ثلاثة آلاف و750 جنيه، وصرف للوكلاء والمساعدين و معاوني النيابة العامة مبلغ مالي ثلاثة آلاف و400 جنيه.

أيضًا- صرف راتب شهر على الراتب الأساسي، وخمس علاوات على راتب شهر يونيو 2015 لكافة العاملين بالقضاء والنيابة العامة والمنتدبين والعاملين بمكافآت شاملة بحد أدنى 500 جنيه، لتشير المعلومات المتداولة أن متوسط راتب المستشارين والقضاة أصبح نحو 30 ألف جنيه شهريًا.

معلقًا، يرى خالد الشافعي – الخبير الاقتصادي، رئيس مركز العاصمة للدراسات والأبحاث الاقتصادية-، أن المرتبات والغلاء والوضع الاقتصادي ليس المبرر الأساسي لارتكاب هذه الجرائم، “فهؤلاء يتمتعوا بحياة كريمة ورواتب مرتفعة وامتيازات وفرتها السلطة، مقارنة ببقية الشرائح الوظيفية الأخرى.”

يضيف في حديثه معنا: “إن اختلفت الدوافع والأساسيات، فإن الجريمة موجودة في كل العصور والأزمنة والأماكن وفي كافة أنحاء العالم، ودوافع الجريمة تحددها البيئة ونتيجة تغير الثقافات وتغير الأهداف المطلوبة. ومرتكبو تلك الجرائم المذكورة يحدث لهم بعض الاختلالات الفكرية أو الدينية أو الذهنية أو النفسية تؤدي بهم إلى هذا المستنقع.”

يوضح أن الأغنياء من مختلف فئات المجتمع يرتكبون الجرائم المالية المختلفة؛ لذا فالغلاء والظروف الاقتصادية المتعثرة ليست مبررًا لارتكاب تلك الجرائم، وينبه إلى أن غياب الوازع الديني محركًا أساسيًا تأتي بعده كافة الدوافع التي من الممكن أن تجعل من المسؤول/ المواطن فاسدًا.

وبالنظر إلى القضايا المرصودة نجد أن أغلبها استغل فيها القضاة والمستشارون “الحصانية القضائية” في ارتكاب الجرائم، وبمراجعة قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1972 المعدل بالقانون رقم 77 لسنة 2019 يتبين أنه نص في المادة (96) منه على أنه “في غير حالات التلبس بالجريمة لا يجوز القبض على القاضي وحبسه احتياطيًا إلا بعد الحصول على إذن من المجلس المنصوص عليه في المادة 94 وهو (مجلس القضاء الأعلى)، ولا يجوز اتخاذ أي إجراء من إجراءات التحقيق مع القاضي أو رفع الدعوى الجنائية عليه في جناية أو جنحة، إلا بإذن من المجلس المذكور وبناءً على طلب النائب العام.”

ليتبقى في النهاية التساؤل حول الآلية التي تضمن للقاضي حصانته القضائية الحقيقية وعدم تغول السلطة التنفيذية عليه وعلى استقلاليته وضمان عدم تدخل أي عوامل في مقتضيات عمله، وفي المقابل، تضمن الرقابة الحقيقية على تلك الفئة وعدم استغلال البعض منها حصانتها في ارتكاب الجرائم؟.

 

طارق جمال حافظ
صحفي مختص بالتحقيقات في قضايا الفساد

Search