في أحد أسواق القاهرة، تتنقل جيهان، سيدة خمسينية، بين رفوف السلع الغذائية، تتفحص الأسعار بتمعن قبل أن تعيد كيسًا صغيرًا من المكسرات إلى مكانه وهي تتمتم: “غالي”. لم يكن هذا حالها قبل سنوات، حين كانت وزوجها يستعدان لشهر رمضان دون قلق، يشتريان اللحوم وأجود أنواع التمور والمكسرات كجزء من طقوس العائلة الرمضانية. لكنه، بعد إحالته إلى المعاش عام 2019، بات يتقاضى 5600 جنيه بعد زيادات متفرقة، مقارنة براتبه السابق الذي بلغ 18 ألف جنيه أثناء عمله في هيئة البترول. تقول جيهان بأسى: “المعاش بالكاد يغطي الفواتير، الأسعار تتضاعف، والزيت وحده صار بحاجة إلى ميزانية… المكسرات أصبحت من الكماليات التي لا نجرؤ على التفكير فيها”.
ليست جيهان وحدها في هذا المأزق؛ ملايين المتقاعدين في مصر يواجهون واقعًا مشابهًا، إذ انتقلوا من حياة تتناسب مع رواتبهم إلى أخرى لا تتسق مع ارتفاع الأسعار. ومع دخول شهر رمضان، تتضاعف الأعباء مع العزائم والتجمعات العائلية، فيما يظل الحد الأدنى للمعاش عند 1495 جنيهًا، أي ربع الحد الأدنى للأجور في القطاع العام (6000 جنيه) وأقل من الحد الأدنى للقطاع الخاص (7000 جنيه). كيف يتكيف أصحاب المعاشات مع هذا التفاوت الصارخ؟ وهل هناك أفق لحل أزمتهم؟
نوصي للقراءة: هل تُشكّل الأزمة الاقتصاديّة تهديدًا لاحتفاظ المصريّين بتقاليد شهر رمضان؟
تحديات المعاش وطرق التكيف
بينما تحاول جيهان مواجهة ارتفاع الأسعار بادخار بعض المال قبل حلول شهر رمضان، تختار رجاء سعد، الستينية، البحث عن العروض لتوفير ما يمكن من مستلزمات الشهر الكريم، معتمدة على معاشها الضعيف ومعاش زوجها المتوفى، الذي تتقاسمه مع ابنتها التي لا تزال تدرس. تقول رجاء: “لم تكن حياتي هكذا قبل التقاعد. كنت أعمل إدارية في وزارة التربية والتعليم براتب 4000 جنيه، وكان زوجي موظفًا في المحافظة. بعد 38 عامًا من العمل، تقاعدت بمعاش 1900 جنيه، فيما بدأ معاش زوجي بـ2000 جنيه. اليوم، وبعد زيادات متتالية، أصبح معاشي 3450 جنيهًا، ومعاش زوجي 4800 جنيه، لكن هذه الزيادات لا تُواكب الأسعار. كنا نعيش بارتياح، لكن الآن، بالكاد نوفر الأساسيات”.
لم تكن مشكلة رجاء الوحيدة هي التكيف مع غلاء المعيشة، بل امتدت إلى تأمين مستقبل ابنتها الأخيرة، التي تعثّر تجهيزها للزواج منذ عامين ونصف، بعد أن تمكنت من تزويج أبنائها الثلاثة أثناء عملها وزوجها. “لم يعد بإمكاني الادخار كما في السابق، اضطررت للانضمام إلى جمعية وأدفع 3000 جنيه شهريًا من المعاش فقط لأتمكن من تجهيز ابنتي”.
جيهان بدورها تتساءل: “لماذا ترفع الحكومة الحد الأدنى للأجور للموظفين، بينما يُترك أصحاب المعاشات خارج الحسابات؟ وكأننا كبار في السن بلا مسؤوليات! من يتقاعد اليوم، لديه أبناء في المدارس أو الجامعات، وربما مسؤوليات زواج، فضلًا عن التكاليف الصحية المتزايدة مع العمر”.
وتتفق رجاء معها قائلة: “الأدوية وحدها تستهلك 3000 جنيه شهريًا بسبب أمراضي المزمنة، إضافة إلى فواتير الكهرباء والمياه التي ترتفع بلا توقف. نحن لا نعيش ترفًا، بل نحاول فقط الاستمرار”. في ظل هذه الظروف، تجد ملايين الأسر نفسها عالقة بين معاشات محدودة ونفقات متزايدة، مما يجعل مجرد تلبية الاحتياجات الأساسية تحديًا يوميًا، خاصة في مواسم تتطلب إنفاقًا أكبر، مثل رمضان.
نوصي للقراءة: زيادة الحد الأدنى للأجور في مصر.. بين الأرقام والواقع المعيشي
لماذا تبتلع الأسعار أي زيادة؟
رغم الزيادات المتتالية في المعاشات، يجد المتقاعدون أنفسهم غير قادرين على مواكبة التضخم، إذ ارتفع الحد الأدنى للمعاش تدريجيًا من 500 جنيه عام 2018 إلى 1495 جنيهًا في يناير 2025. ورغم أن الزيادات السنوية تُقدَّر بـ 15% وفقًا لقانون التأمينات، إلا أن الأسعار تتجاوزها بمراحل، مما يُفقد هذه الزيادات تأثيرها الحقيقي.
تشير بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى أن أسعار السلع الأساسية شهدت ارتفاعًا سنويًا بلغ 20.2% حتى يناير 2025، مع ارتفاع أسعار اللحوم والدواجن بنسبة 22.3%، والأسماك بنسبة 18%، والألبان والجبن والبيض بنسبة 20.8%، في حين قفزت أسعار الفاكهة بنسبة 50%. هذه الزيادات تجعل من رمضان، الذي يعتمد على الموائد العامرة والتجمعات العائلية، تحديًا حقيقيًا لأصحاب المعاشات، الذين باتوا عاجزين عن توفير متطلباته الأساسية.
يقول محمود، 61 عامًا، الذي تقاعد مبكرًا عام 2013: “كان دخلي متغيرًا لكنه جيد، وعندما أحلت نفسي إلى المعاش لم أتخيل أن الوضع سيصل لهذا الحد. الآن، بعد أن أصبح معاشي 2600 جنيه، اضطررت إلى تغيير نمط حياتي بالكامل. كنا نجتمع كأسرة ممتدة على موائد رمضان، واليوم بالكاد أستطيع عزومة أبنائي فقط، فاللحوم والمواد الأساسية لم تعد في متناول اليد”.
وتوضح الباحثة الاقتصادية، مي قابيل، أن المشكلة الحقيقية تكمن في أن التضخم يبتلع أي زيادة سنوية في المعاشات. وتضيف: “رغم انخفاض معدل التضخم السنوي إلى 23% في يناير 2025 مقارنة بـ 28.2% في العام الماضي، فإنه لا يزال أعلى بكثير من نسبة زيادة المعاشات المحددة بـ 15% فقط، مما يعني أن القدرة الشرائية لأصحاب المعاشات تتآكل بدلًا من أن تتحسن. المشكلة ليست فقط في غلاء الأسعار، ولكن في التراكم المستمر لهذه الزيادات، مما يجعل كل عام أكثر صعوبة من سابقه”.
ورغم التعديلات التي طرأت على قانون التأمينات في السنوات الأخيرة، لا تزال هذه الفجوة بين المعاشات والأسعار تتسع، ما يفرض واقعًا أكثر تعقيدًا على شريحة واسعة من المتقاعدين، خاصة في المواسم التي تتطلب إنفاقًا إضافيًا.
نوصي للقراء: مصر: رفع الدعم يعمق الفجوة بين الأجور والأسعار
هل تتحقق مطالبات رفع الحد الأدنى للمعاش؟
في أغسطس 2019، أُقر قانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات رقم 148، الذي ربط زيادة المعاشات بمعدل التضخم، لكنه حدد سقفًا للزيادة عند 15%، رغم تجاوز معدلات التضخم لهذا الحد بأشواط. ففي فبراير 2023، بلغ التضخم السنوي 30%، أي ضعف الحد الأقصى المحدد للزيادة السنوية، وفقًا لورقة بحثية صادرة عن “المبادرة المصرية للحقوق الشخصية”، والتي انتقدت هذا التقييد باعتباره لا يواكب الأوضاع الاقتصادية المتغيرة.
هذا التفاوت يجعل الملايين من أصحاب المعاشات، البالغ عددهم 11.5 مليون شخص، يطالبون بمساواتهم بالعاملين في الدولة، عبر رفع الحد الأدنى للمعاش إلى مستوى يكفل حياة كريمة. تقول جيهان، إحدى المتقاعدات التي تحدثنا إليها سابقًا: “الحكومة تمنح العاملين بالدولة شهورًا إضافية كعلاوات، بينما نحن لا نحصل على شيء. هذه أموالنا التي اقتُطعت منا طوال سنوات عملنا، وكان يمكن أن نستثمرها بأنفسنا في ودائع أو مشاريع. لكننا اضطررنا لوضعها في صندوق المعاشات، واليوم فقدت قيمتها بفعل التضخم.”
وفي خطوة قانونية، رفع أحمد العربي، رئيس “الاتحاد العام لنقابات أصحاب المعاشات”، دعوى قضائية تطالب برفع الحد الأدنى للمعاش إلى 6000 جنيه، أسوةً بالحد الأدنى للأجور في القطاع الحكومي، لكن القضية أُجّلت إلى مارس 2025، تاركة أصحاب المعاشات في حالة انتظار.
أما عن إمكانية تنفيذ هذا المطلب، فتقول الباحثة الاقتصادية مي قابيل: “نظريًا، 6000 جنيه كحد أدنى للمعاشات هو مطلب عادل، فهو بالكاد يكفي لتغطية الاحتياجات الأساسية، خاصة في ظل ارتفاع تكاليف العلاج. لكن عمليًا، يتطلب الأمر إعادة هيكلة سوق العمل والتأمينات الاجتماعية. فنظام التأمين الحالي يعتمد على مساهمات العاملين، بينما لا تتجاوز نسبة المؤمن عليهم 44% من القوى العاملة بأجر. كثيرون يعملون خارج المنظومة التأمينية، أو يُسجَّل دخلهم بأقل من حقيقته، مما يضعف قدرة الصندوق على تحمل زيادات كبيرة.”
أما بشأن مطلب إلغاء سقف الـ 15% للزيادات السنوية، فتشير الورقة البحثية لـ”المبادرة المصرية للحقوق الشخصية” إلى أن وضع حد أقصى قد يكون ضروريًا لحماية النظام التأميني من الانهيار في حالات التضخم المرتفع، لكنه ينبغي أن يكون مصحوبًا بآلية تُمكّن الحكومة من التدخل لتوفير دعم إضافي لأصحاب المعاشات في الأزمات الاقتصادية.
نوصي للقراءة: خسارة وديون وتلف.. مخاطرة أن تكون بائع خضروات في مصر

المنح الاستثنائية
لمواجهة الأعباء المعيشية، تلجأ الحكومة أحيانًا إلى تقديم منح إستثنائية، كان آخرها القرار الرئاسي الصادر في سبتمبر 2023 برفع علاوة غلاء المعيشة إلى 600 جنيه بدلًا من 300 جنيه، شمل جميع العاملين في الجهاز الإداري للدولة والهيئات الاقتصادية وشركات القطاع العام، بالإضافة إلى أصحاب المعاشات، ليصل إجمالي المستفيدين إلى 11 مليون مواطن.
لكن هذه المساعدات، التي تُطرح كإجراءات تخفيفية، تبقى محدودة التأثير أمام الارتفاع المستمر للأسعار. خلال المناسبات، مثل شهر رمضان، يتطلع أصحاب المعاشات إلى زيادات استثنائية تُخفف الضغط الاقتصادي عنهم، إلا أن هذه التطلعات غالبًا ما تصطدم بالواقع. ففي 2021، راجت أنباء عن منحة رمضانية لأصحاب المعاشات، سرعان ما نفتها الهيئة القومية للتأمينات. وفي فبراير 2025، انتشرت تصريحات لمسؤولين حول حزمة حماية اجتماعية جديدة تشمل زيادة الحد الأدنى للمرتبات والمعاشات، مع تأكيدات بأنها ستكون خطوة استثنائية لمساعدة المواطنين قبيل رمضان.
لكن عندما أُعلن عن تفاصيل الحزمة في 27 فبراير 2025، خابت آمال أصحاب المعاشات، إذ لم تتضمن زيادة إضافية لهم، بل اقتصرت على تطبيق الزيادة السنوية المقررة بنسبة 15% اعتبارًا من يوليو 2025. فيما أوضح وزير المالية أن صندوق التأمينات والمعاشات سيعلن لاحقًا عن الزيادة، دون تفاصيل واضحة حول موعد التنفيذ أو مدى تأثيرها على القدرة الشرائية لأصحاب المعاشات.
رجاء سعد، إحدى المتقاعدات، عبرت عن إحباطها قائلة: “رمضان بدأ ولم نحصل على أي زيادة، حتى في التموين. أما عن الزيادة السنوية، فكيف تكون 15% فقط بعد مرور سنة وأربعة أشهر! الحل هو تحديد حد أدنى عادل للمعاشات، كما يحدث مع الموظفين.”
ورغم المطالبات المستمرة برفع الحد الأدنى للمعاشات، وتعديل آلية زيادتها بما يتماشى مع التضخم، لا تزال القرارات الحكومية تتسم بالبطء، مما يترك أصحاب المعاشات أمام واقع اقتصادي لا يزداد إلا صعوبة. فمع كل زيادة سنوية، يتلاشى تأثيرها تحت وطأة الأسعار المتصاعدة، ما يجعل التحدي الأكبر ليس في تلقي الدعم المؤقت، وإنما في إيجاد حلول مستدامة تحفظ لهذه الفئة حقها في حياة كريمة.