مرضى العظام الرخامية في مصر: حين يتحول الأمل في زراعة النخاع إلى معركة بقاء

زراعة النخاع تعد الأمل الوحيد للأطفال المصابين بمرض العظام الرخامية رغم تكاليف العلاج الباهظة
Picture of سهاد الخضري

سهاد الخضري

يُعانى مرضى العظام الرخامية في مصر وذويهم، إذ يفتك المرض بأجسادهم منذ الولادة حتى الوفاة. آمال البشلاوي – أستاذ طب الأطفال وأمراض الدم بكلية طب قصر العيني التابعة لجامعة القاهرة-  توضح في حديثها إلى زاوية ثالثة، أن عمليات زراعة النخاع تعد الأمل الوحيد في علاجهم؛ ما يجبر البعض على إجرائها، لكن ذلك يُحمّل أسرة المريض تكاليف العلاج وضرورة البحث عن متبرع.

تشير تقديرات الأكاديمية المصرية لصحة العظام وأمراض العظام الأيضية، إلى أن 53.9% من النساء بعد انقطاع الطمث لديهن، يتعرضن لبدايات هشاشة العظام، في حين أن 28.4% مصابات بهشاشة العظام بالفعل، فيما كشفت الدراسات إلى أن 26% من الرجال يعانون من بداية هشاشة العظام و21.9% مصابين به. بحسب الأكاديمية فإن معدل انتشار مرض هشاشة العظام عند النساء بعد انقطاع الطمث في المناطق الريفية في صعيد مصر في المقدمة بنسبة 47.8%، وفي حين وجود بعض الإحصائيات عن مرضى هشاشة العظام؛ إلا أن أحدًا لم يهتم بإظهار تعداد مرضى العظام الرخامية في مصر حتي الآن.

مرض العظام الرخامية، المعروف أيضًا باسم “تصخر العظام”، هو اضطراب وراثي نادر يتميز بزيادة كثافة العظام بشكل غير طبيعي نتيجة خلل في عملية تكوين العظام. على الرغم من أن العظام تبدو أكثر صلابة، إلا أنها تصبح هشة جدًا، مما يجعلها عرضة للكسر بسهولة. المرض يمكن أن يؤدي إلى مضاعفات خطيرة مثل فشل نخاع العظم، وفقدان السمع والبصر، وتأخر النمو، وغالبًا ما يظهر في مرحلة الطفولة المبكرة. العلاج الوحيد المتاح حاليًا هو زراعة النخاع العظمي.

 

 

قصة معاناة مع مرض العظام الرخامية

عمر محمود (27 عامًا) من مواليد محافظة القليوبية، يعمل في الأعمال الحرة. في عام 2020، فقد وزوجته طفلهما الأول ياسين، الذي توفي بعد عام واحد من ولادته بسبب مرض العظام الرخامية، وهو مرض نادر أثر عليه بشدة، حيث تسبب في فقدان حاستي السمع والبصر، وفشل نخاعه وتوقف نموه. وفي عام 2024، استقبلت الأسرة طفلها الثالث، إلياس، الذي ولد مصابًا بالمرض نفسه.

يروي عمر تفاصيل معاناة طفليه مع هذا المرض الوراثي النادر، المعروف باسم “تصخر العظام”، ويقول: “رزقت بطفلي الأول والثالث مصابين بمرض العظام الرخامية. فقدت طفلي الأول بعد معاناته الطويلة مع نزيف حاد، وحاجته المستمرة لنقل الدم، بالإضافة إلى الأنيميا الشديدة، عدم قدرته على الرضاعة، والتشنجات المستمرة”.

ويضيف: “ترددنا على أطباء في محافظتي القليوبية والقاهرة، وفي البداية تم تشخيصه بسرطان الدم، مما دفعنا للعلاج في معهد الأورام بالقليوبية لمدة ثلاثة أشهر. لكن بعد إجراء تحليل بذل النخاع الذي نفى إصابته بسرطان الدم، تم تشخيص حالته كمرض العظام الرخامية عندما كان يبلغ من العمر ثمانية أشهر. للأسف، التشخيص استغرق خمسة أشهر حتى تم اكتشاف خطأ التشخيصات السابقة بسبب ضعف أنسجته ومناعته”.

وأشار عمر إلى أنه بناءً على توصية أحد الأطباء، أُرسل تحليل جيني إلى معمل “سنتوجين” في ألمانيا، وهو مختص في إجراء التحاليل الوراثية، ليتم التأكد من إصابة طفله بمرض تصخر العظام.

وفيما يتعلق بضرورة إرسال عينات التحليل الجيني إلى معامل خارج مصر، أكدت مصادر مسؤولة في المعامل المركزية بوزارة الصحة لـ”زاوية ثالثة” أن المستشفيات الحكومية لا تقوم بتحويل المرضى مباشرة إلى معامل خارجية. عادةً ما يتم ذلك بتوصية من الطبيب المعالج، ويتحمل المريض أو ذويه تكلفة التحليل، وقد تتدخل إحدى الجمعيات الخيرية لتغطية التكلفة بسبب ارتفاعها. ووفقًا لذوي المرضى، غالبًا ما يتم تحويل العينات إلى معمل “سنتوجين” في ألمانيا لإجراء هذه التحاليل.

من ناحية أخرى، أفادت مبادرة رئيس الجمهورية للكشف عن الأمراض الوراثية أن مرض تصخر العظام لا يندرج ضمن الأمراض الوراثية التي تشملها المبادرة. كما أن معامل وزارة الصحة لا تجري فحوصاته باعتباره مرضًا نادرًا. ومع ذلك، أوضحت الدكتورة “البشلاوي”، أن الأطباء المتخصصين الذين لديهم خبرة في التعامل مع هذا المرض يمكنهم تشخيصه من خلال الفحص الإكلينيكي دون الحاجة إلى إجراء التحليل الجيني في كل الحالات.

 وفي سبتمبر 2023، افتتح وزير الصحة، أول معمل متكامل لـ التحاليل الباثولوجية والجينية في مصر، بالمركز المصري للتحكم والسيطرة على الأمراض، بالتعاون مع شركة “روش” العالمية الرائدة في مجال المستحضرات الدوائية والاختبارات التشخيصية، وشركة “اتش دي في إيجيبت” الرائدة في الاختبارات التشخيصية، والممثل الرسمي لشركة “ايومينا إنك” العالمية في مجال اختبارات التتابع الجيني.

يوضح “محمود” أن طبيبة مصرية ساعدتهم على تدبر تكاليف التحليل الجيني الباهظة بالنسبة لهم، إذ تخطت نحو 440 يورو حينذاك (سجل اليورو في يناير 2020، بالتزامن مع إجراء التحليل نحو17.47 جنيهًا مصريًا بسعر البنك، لتبلغ تكلفة التحليل 7687 جنيها حينذاك)، يضيف: “أخبرنا الأطباء أن حالة الطفل متأخرة وحال أجريت عملية زرع نخاع له نسبة نجاحها لن يتجاوز الـ 2%”.

 يتذكر كلماته الأخيرة للطبيب المعالج لطفله الأول ياسين. يقول: “طالبته بإجراء العملية مهما كانت نسبة نجاحها  باعتبارها الأمل الأخير له”.

يقول: “بعد حجزه وإعداده للعملية في المستشفى الجوي بالقاهرة مدة 15 يومًا، خلال عام 2020، عارضني الطبيب  مرددا أنهم لن يقوموا بإجراء العملية، لأنها محكومة بالفشل، ولن يتقبل جسده النخاع المزروع”. توفي ياسين قبل إجراء العملية في عمر العام.

 

المعاناة تتجدد والأسرة تلجأ لدار الإفتاء

حملت آلاء محمد، زوجة عمر، في طفلتها الثانية جويرية قبل أيام من وفاة طفلهما الأول ياسين. ولدت جويرية سليمة وغير حاملة لمرض شقيقها، لكن المأساة تجددت مع ولادة الطفل الثالث إلياس، الذي وُلد مصابًا بمرض العظام الرخامية نفسه.

يقول والد الطفل: “أجرينا تحليلًا جينيًا لإلياس وهو لا يزال جنينًا، في أحد المعامل المتخصصة في ألمانيا، وتبين من التحليل أنه مصاب بالمرض. تجاوزت تكلفة التحليل 28 ألف جنيه، وتأخر ظهور نتيجته، مما حال دون اتخاذ قرار مبكر بإجهاض الجنين. بعد ظهور النتيجة، وتحديدًا في الشهر الخامس من الحمل، توجهنا إلى دار الإفتاء للحصول على تصريح بالإجهاض، لكن تم رفض الطلب”.

يوضح عمر أن دار الإفتاء استندت إلى فتوى شرعية تفيد بأن الجنين في الشهر الخامس تكون الروح قد نُفخت فيه، وبالتالي يعتبر الإجهاض في هذه المرحلة “حرام شرعًا”، لأنه يُعد إزهاقًا لروح، وفقًا لفتوى الدار.

بحسب لجنة الفتوى بمجمع البحوث الإسلامية فقد أجمع الفقهاء على أن الجنين إذا نفخت فيه الروح ببلوغه 120 يومًا – أي أربعة أشهر- يُحرّم إجهاضه، لكن إذا ثبت بتقرير طبي معتمد من جهة حكومية أن بقاء الجنين فيه خطورة على حياة الأم يصبح إجهاضه من باب الضرورة.

يضيف: “تحركنا بشكل أسرع لإجراء عملية زراعة النخاع منذ اليوم الثاني للولادة قبل ظهور أعراض المرض عليه، تقدمنا بأوراقه للجهات المختصة لإصدار قرار بإجرائها على نفقة الدولة، وصدر القرار بتحمل الدولة 230 ألف جنيه من إجمالي التكلفة التقديرية الأولى المقدرة بـ600 ألف جنيه، بعد تبرعي له بالنخاع بعد أن أظهرت الفحوصات نسبة التطابق بيننا 50%، دفعني ذلك للاستغاثة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لجمع باقي تكلفة العملية، ليتم سداد 600 ألف جنيه تحت الحساب في مستشفى وادي النيل المقرر إجراء العملية بها، وقد تتخطى التكلفة الإجمالية للعملية مليون و200 ألف جنيه حسب عدد أيام الاحتجاز والعلاج بالمستشفى وحالة الطفل”.

من جانبها، تقول آمال البشلاوي – أستاذ طب الأطفال وأمراض الدم كلية طب قصر العيني- في حديثها مع زاوية ثالثة: “يعانى المصاب بمرض تصخر العظام أو العظام الرخامية من أنيميا شديدة، تضخم في الكبد والطحال، تأخر نمو الطفل، وتضرُر العصب البصري نتيجة الضغط عليه؛ ما يؤدي لـ إصابتهم  بالعمى، إذ تظهر الأعراض في الشهور الأولى عقب ولادة الطفل”.

تشير إلى أن زواج الأقارب من العوامل التي تساعد على انتشار أو وجود المرض، وتؤكد عدم وجود إحصائيات حول تعداد المصابين بالمرض داخل مصر، إذ أن معدلات الإصابة به لا تصل إلى 0.5%، لكونه أحد الأمراض النادرة.

 بحسب وزارة الصحة المصرية قامت مبادرة رئيس الجمهورية للكشف المبكر عن الأمراض الوراثية لدى الأطفال حديثي الولادة، بفحص 486 ألف و 387 مولود وفقًا للتحديث الأخير في 30 أغسطس الماضي، وأشار وزير الصحة إلى أن المبادرة تعمل حاليًا بمرحلتها الأولى، وتستهدف الكشف عن 19 مرضًا وراثيًا لدى الأطفال المبتسرين، في حضّانات مستشفيات وزارة الصحة، ومن المقرر أن تشمل المرحلة الثانية إجراء المسح الطبي لجميع الأطفال حديثي الولادة، بكافة الوحدات الصحية على مستوى الجمهورية.

ومن جانبها، أوضحت سعاد عبد المجيد – رئيس قطاع الرعاية الصحية والتمريض-، أن الأمراض الـ 19 التي يتم الكشف عنها، تشمل (قصور الغدة الدرقية الخلقي، تضخم الغدة الكظرية الخلقي، أنيميا الفول، ارتفاع حمض جلوتاريك بالدم، ارتفاع حمض أيزو فاليريك بالدم، مرض البول القيقبي، التليف الكيسي، الفينيل كيتونوريا، نقص رباعي هيدرو بيترين، ارتفاع التيروزين في الدم “النوع الأول” ارتفاع الجالاكتوز في الدم، ارتفاع هوموسيستين بالبول، ارتفاع الأرجينين بالدم، ارتفاع السيترولين بالدم، نقص الأورنيثين ناقل الكربامويل، أكسدة الأحماض الدهنية، ونقص إنزيم البيوتينيداز)، وبحسب تصريح غادة القماح – أستاذ ورئيس قسم الأمراض الوراثية سابقا بالمركز القومي للبحوث-، فإن هناك 4% من الشعب المصري مصابون بأمراض وراثية.

وتؤكد “البشلاوي” عدم توفر علاج ناجع لهذا المرض، لكن الحل الوحيد المتاح يعد إجراء عمليات زراعة نخاع قبل تدهور حالة الطفل وفقدان بصره. على الرغم من ذلك لا تعد عمليات زراعة النخاع ناجحة بنسبة 100% لهؤلاء، و تطالب أولياء أمور الأطفال المصابين بهذا المرض بسرعة عرضهم على أطباء متخصصين لاتخاذ الإجراءات الطبية اللازمة، وبحث إمكانية زراعة نخاع قبل حدوث مضاعفات للمرض.

تشير إلى أنه خلال رحلة عملها الممتدة على مدار 40 عامًا لم تستقبل سوى أربع حالات مصابة به، ورغم إجراء بعضهم عمليات زراعة نخاع لكن لم تتحسن حالتهم بالصورة المناسبة واضطروا لاستئصال الطحال وما زالوا يعانون من الأنيميا، على حد قولها.

المعاناة ذاتها عاشها حسن مبارك (38 عامًا) من مواليد محافظة قنا بصعيد مصر، مع طفله عصام البالغ من العمر سبع سنوات، الذي فوجئ بولادته مصابًا، نتيجة عوامل وراثية تسبب بها زواج الأقارب. يقول: “ظهرت أعراض المرض بعد ولادته بأربعة أشهر، فوجئنا به يعاني من نقص حاد في الهيموجلوبين لـ يسجل 4.5  و 6 درجات؛ ما يعرضه لنزيف مستمر وحاجة لنقل دم، علاوة على معاناته من عدم القدرة على المشي بسبب الضغط على النخاع، ظللنا نتردد على الأطباء مدة خمسة أشهر، لكن لم يستطيعوا تشخيص حالته إلا بعد رحلة طويلة على إثرها أقروا بضرورة إجرائه عملية زراعة نخاع، أجريت العملية بمستشفى معهد ناصر بعد بلوغه عام ونصف العام، عقب تبرع والدته له بعد أن أظهرت الفحوصات نسبة التطابق بينهما 100%، تحسنت حالة طفلي بعد إجرائه العملية إلا أنه مازال يعانى من تشوهات باللثة بدأت تظهر بعد العملية”.

 

مطالبات

ينصح عمر الأزواج الذين رزقوا بأطفال مصابين بأمراض نادرة إنجاب غيرهم بالحقن المجهري لتجنب نقل المرض لهم، كما يطالب بافتتاح معمل متخصص أسوة بمثيله في ألمانيا لإجراء تحاليل الأمراض الوراثية فيه، بدلا عن اضطرار الأسر لإجراء تلك التحاليل بتكاليف باهظة تفوق قدرتهم؛ ما يحملهم أعباء مادية ونفسية لاحصر لها.

يضع والد الطفل المريض بمرض العظام الرخامية السلطة أمام مسؤوليتها، ويطالبها بتحمل تكاليف إجراءات عمليات  زراعة النخاع كاملة بغض النظر عن نوع التطابق، بعد إجراء بحوث اجتماعية عنهم وإثبات عدم قدرتهم على تحمل نفقاتها، خاصة أن تكاليف العلاج بعد العملية باهظ للغاية، وقد يتخطى 100 ألف جنيه شهريًا.

وبحسب نشرة علاج المواطنين على نفقة الدولة بالداخل والخارج الصادرة في يونيو 2023 عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، تراجعت تكلفة علاج المواطنين على نفقة الدولة من عشرة مليار و400 مليون في 2019 إلى تسعة مليار جنيه في 2020، وبحسب النشرة ذاتها بلغ تعداد المرضى الذين تم علاجهم على نفقة الدولة خارجيًا في 2019  حوالى 36 مريضًا، بينما تراجع العدد في 2020 إلى 13 مريضًا. و في 2019 بلغ تعداد من تم علاجهم على نفقة الدولة داخليًا عشرة مليون و374967 مريض، فيما تراجع في 2020، إلى تسعة مليون و 32883 مريض، وبلغ تعداد عدد مرضى العظام ممن تم علاجهم على نفقة الدولة لعام 2020، نحو 91116 مريضًا – بما يمثل 3.4% من جملة المرضى الذين تم علاجهم على نفقة الدولة-، بتكلفة 413489 ألف جنيه، فيما بلغ تعداد من تم إجراء جراحات لهم على نفقة الدولة بغض النظر عن موضع الجراحة 51519 مريض بتكلفة 143337 ألف جنيه.

تعيش أسرة إلياس على أمل نجاح عملية طفلها لينجو الرضيع الذي لم يتجاوز عمره الشهر من متاعب المرض الذي فتك بجسد شقيقه الأكبر في مايو 2020 ، سعت أسرته عقب ولادته مباشرة لاتخاذ الإجراءات اللازمة للإسراع في إجراء العملية كى لا يقع فريسة لمرض ينهش النخاع والعصب البصري والسمعي.

سهاد الخضري
صحفية مصرية عملت في عدد من الصحف المصرية والمواقع العربية، وتهتم بالتحقيقات والقصص الإنسانية.

Search