في الوقت الذي تكثّف فيه مؤسسات إعلامية مصرية جهودها لوضع خريطة لتطوير المنظومة الإعلامية، تنفيذًا لتوجيهات رئاسية، تتكرر في المقابل وقائع ملاحقة الصحفيين والقبض عليهم، لتكشف عن مفارقة صارخة بين الخطاب الرسمي والواقع.
خلال الأسابيع الماضية، أُلقي القبض على الصحفية صفاء الكرابيجي على خلفية منشورات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بينما واجه الصحفي محمد طاهر بجريدة الأخبار المسائي، التوقيف، صباح السبت الماضي، قبل أن يُفرج عنه لاحقًا بكفالة، إثر البلاغ المقدم ضده من معاون وزير السياحة والآثار أحمد خميس، والذي حمل رقم 7629 لسنة 2025 جنح العبور، في واقعتين أعادتا إلى الواجهة الأسئلة حول حدود حرية التعبير وأمان المهنة في مصر، في لحظة يُفترض أنها لحظة “إصلاح إعلامي شامل”.
من جهتها، نفت وزارة السياحة والآثار عبر صفحتها الرسمية على موقع “فيسبوك” تقديم أي بلاغ ضد أحد الصحفيين، مؤكدة أن هذه الادعاءات، بحسب وصفها، لا أساس لها من الصحة، وأنه لم يتخذ الوزير أو الوزارة أي إجراءات قانونية ضد أي صحفي. جاء ذلك، تعقيبًا على البيان الذي أصدره نقيب الصحفيين بشأن القبض على الصحفي محمد طاهر، والذي أشار إلى أن الواقعة جاءت على خلفية بلاغ قدّمه وزير السياحة والآثار.
لاحقًا، أوضح نقيب الصحفيين أنه تلقى اتصالًا هاتفيًا من الدكتور شريف فتحي، وزير السياحة والآثار، أكد فيه أنه لم يتقدم بأي بلاغ، وأنه سيتقدم غدًا بشكوى إلى نقابة الصحفيين ضد من زجّ باسمه في البلاغ، مشددًا على أنه يرفض التعامل مع الصحفيين عبر البلاغات. وأضاف النقيب أنه أكد للوزير رفض النقابة للطريقة التي تم التعامل بها مع الزميل محمد طاهر، فيما أوضح الوزير أنه ليس مسؤولًا عن تلك الواقعة.
وفي السياق نفسه، جدّدت نيابة أمن الدولة العليا، في الثالث عشر من أكتوبر الجاري، حبس الصحفية صفاء الكوربيجي لمدة 15 يومًا على ذمة التحقيقات. وكانت قوات الأمن قد ألقت القبض على الكوربيجي في 6 أكتوبر، قبل أن تُحال إلى نيابة أمن الدولة العليا التي وجّهت إليها تهمتي “الانضمام إلى جماعة إرهابية” و”نشر أخبار كاذبة”. وبحسب إيمان عوف، مقررة لجنتي الحريات والمرأة بنقابة الصحفيين، فإن الكوربيجي سبق أن حُبست على ذمّة التهم نفسها لمدة تقارب عامين.
وخلال الخمسة أشهر الماضية، تم التحقيق مع ما يزيد عن 12 صحفي، بعضهم تحقيقات في النيابة وأخرى استدعاء لجهات أخرى- بحسب ما ذكرته مقررة لجنة الحريات لزاوية ثالثة.

النشر
تسرد إيمان عوف، مقرّرة لجنة الحريات بمجلس نقابة الصحفيين، في حديثها لـ”زاوية ثالثة”، تفاصيل ما تعرّض له الصحفي محمد طاهر. موضحة أن طاهر كان أول من نشر خبر سرقة الأسرة الفرعونية، بعد حصوله على المعلومة من مصادره في 9 سبتمبر الماضي. وبعد يوم واحد من النشر، تقدّمت وزارة السياحة والآثار في 13 سبتمبر ببلاغ للتحقيق في الواقعة، أعقبه قرار من النيابة بحبس الموظفة المسؤولة وعدد من المتورطين، وهو ما يؤكد صحة المعلومات التي نشرها الصحفي وأنها لم تكن مغلوطة أو كاذبة.
وتضيف عوف أن طاهر نشر في الشهر نفسه، عقب خبر الأسورة، مادة جديدة تناولت سرقة لوحة أثرية تُعرف باسم “لوحة الفصول الأربعة” من أحد المتاحف، وهي واقعة تعود إلى نحو أربعة أشهر سابقة، ما دفع الوزارة إلى تقديم بلاغ جديد وفتح تحقيق في الحادثة.
تستطرد مقررة لجنة الحريات أن الصحفي فوجئ باستدعائه من قِبل مباحث الإنترنت لمحادثة ودية، لكنه اكتشف أن الأمر تحوّل إلى تحقيق رسمي، حيث تم التحفظ على هاتفه المحمول دون إذن من النيابة، واحتُجز لأكثر من أربع ساعات قبل إحالته إلى نيابة العبور. ولم تُخطر النقابة سواء بالاستدعاء أو بالتحقيق مع الصحفي، وهو ما اعتبرته عوف مخالفة واضحة للقانون وتوجيهات النائب العام التي تشترط حضور النقيب أو من ينوب عنه في قضايا النشر.
وقدمت مقررة لجنة الحريات ثلاثة طلبات للنيابة: بطلان التحقيق لعدم إخطار النقابة، الاعتراض على التحفظ على الهاتف لما يشكله من تهديد لمصادر الصحفي، الاعتراض على فرض الكفالة المالية في قضايا النشر، إذ يفترض أن يتم الإفراج بضمان النقابة فقط.
وخلال التحقيقات، واجهت النيابة الزميل طاهر بما يقارب تسعة منشورات كان قد نشرها عبر صفحته على “فيسبوك” تناولت جميعها وقائع فساد ومشكلات إدارية داخل وزارة السياحة والآثار. وعقب التحقيقات قررت النيابة إخلاء سبيله بكفالة قدرها 2000 جنيه، ما يعني استمرار القضية- بحسب ما ذكر مقررة لجنة الحريات.
وترى عوف أن أزمة الكفالات في قضايا النشر تفاقمت خلال الأشهر الأخيرة، حيث تراوحت مبالغ الكفالة بين 2000 و10 آلاف جنيه، ما يعد تطورًا جديدًا وخطيرًا، حيث أنه لا كفالة مالية في قضايا النشر. ووفقًا للمبدأ المستقر، قضايا النشر يُفترض أن يُخلى سبيل الصحفي فيها بضمان نقابة الصحفيين، مع الالتزام بالحضور للتحقيق في أي وقت يُطلب منه ذلك، دون الحاجة إلى دفع كفالة مالية. مشيرة إلى أن التحفّظ على هاتف الصحفي محمد طاهر واعتباره حرزًا في القضية يُعد تطوّرًا خطيرًا وغير مسبوق في التعامل مع الصحفيين، لما يمثّله من تهديد لسلامة وأمن مصادرهم، مؤكدة أن هذا الإجراء لم يكن مطبقًا في السابق في قضايا النشر أو التحقيقات الصحفية.
يذكر أنه في أغسطس الماضي، قررت نيابة أمن الدولة، إخلاء سبيل لينا عطا الله رئيس تحرير موقع “مدى مصر” بكفالة 30 ألف جنيه على ذمة القضية رقم 6182 لسنة 2025 حصر أمن دولة، بعد التحقيق معها وتوجيه اتهامات تتعلق بــ” تهمة نشر أخبار كاذبة وإدارة موقع بدون ترخيص” على خلفية تقرير عن الأوضاع داخل سجن بدر 3 منشور بموقع “مدى مصر”.
وفي مايو أخلت نيابة أمن الدولة العليا سبيل الإعلامية والصحفية رشا قنديل بعد التحقيق معها في القضية رقم 4196 لسنة 2025 حصر أمن الدولة، حيث واجهتها النيابة بعدد 31 بلاغ قدموا ضدها من عدد من المواطنين من محافظات مختلفة، ومهن مختلفة، وصياغات بلاغات متشابهة، وتحمل ذات المقالات، كما واجهتها النيابة بعدد من مقالاتها وتحقيقاتها الصحفية، بحسب ما ذكره المحامي الحقوقي خالد علي.
وتنتقد مقررة لجنة الحريات تصريحات وزير الآثار بشأن الواقعة، ووصفتها بـ”الكارثية”، مؤكدة أن تبرؤ الوزير من تقديم البلاغ لا يعفيه من المسؤولية السياسية والأخلاقية، متسائلة: “هل من الطبيعي أن يتقدّم موظف في الوزارة ببلاغ ضد صحفي دون علم الوزير؟ وهل يُعقل أن يُحال الصحفي للتحقيق بينما لا يُفتح تحقيق مع الموظف المتورط في واقعة فساد؟”
وتشير عوف إلى أن الوزير الحالي سبق أن اتخذ إجراءات مماثلة ضد صحفيين ومبدعين، بينهم أحد المبدعين الشباب الذي أُوقف بسبب استخدامه تقنيات الذكاء الاصطناعي في عمل فني يتناول الترويج لافتتاح المتحف المصري، معتبرة أن الوزارة تُظهر نزعة عدائية تجاه الشفافية وتداول المعلومات، في وقت تتكرر فيه وقائع السرقة والإهمال داخل المتاحف والمخازن الأثرية.
تؤكد عوف في حديثها: “أن الصحفي محمد طاهر يمارس عمله منذ أكثر من 15 عامًا في تغطية ملف الآثار، وما يكتبه هو تنبيه للمسؤولين وليس تشهيرًا بأحد. لكن يبدو أن تنبيه المسؤولين بات يقابَل بالملاحقة لا بالاستجابة وكان أولى بالوزارة أن تلاحق الفاسدين إذا كان لديها من وقت فراغ بدلًا من ملاحقة الصحفيين والمبدعين”.
نوصي للقراءة: الرئيس يدعو إلى “حرية الرأي”… والمسؤولون يردّون: لا مجال للنقد

ستة عشر صحفيًا قيد الحبس الاحتياطي
ظلت الكوربيجي لمدة عامين قيد الحبس الاحتياطي، خلال الفترة بين أبريل 2022 وفبراير 2024 على خلفية احتجاجات العاملين في مبنى الإذاعة والتلفزيون “ماسبيرو” ضد إدارة الهيئة الوطنية للإعلام ، حيث أُدرجت ضمن القضية رقم 441 لسنة 2022، قبل أن تُفرج عنها في أبريل 2024 ضمن قائمة ضمت 60 محبوسًا احتياطيًا على ذمة قضايا سياسية.
تقول إيمان عوف مقررة لجنتي الحريات والمرأة بنقابة الصحفيين في حديثها لـ”زاوية ثالثة”، إن القبض على الكوربيجي مثّل “صدمة كبيرة للجماعة الصحفية”، خاصة أنها كانت قد قضت ما يقارب العامين في الحبس الاحتياطي قبل الإفراج عنها دون صدور حكم قضائي ضدها.
تشير عوف إلى الحالة الصحية للكوربيجي إذ تعاني من إعاقة حركية ناتجة عن إصابتها بشلل الأطفال، إلى جانب حالة نفسية غير المستقرة نتيجة فترة احتجازها السابقة. وتتابع:””كنا نأمل أن يُراعى هذا البعد الإنساني وألا تتكرر تجربة احتجازها، خصوصًا في ظل تصريحات رئيس الجمهورية حول تطوير الإعلام وفتح المجال أمام حرية التعبير”.
وتضيف:”إلى جانب ما حدث مع صفاء فوجئنا خلال الأيام الماضية بإحالة معظم الصحفيين المحبوسين احتياطيًا – وعددهم 16 صحفيًا – إلى المحاكمات، ولم يعد قيد الحبس الاحتياطي الآن سوى صفاء الكوربيجي التي أُلقي القبض عليها منذ أقل من إسبوعين”.
ووفقًا لآخر إحصاءات النقابة، يبلغ عدد الصحفيين المحبوسين 24 صحفيًا، من بينهم أربعة تم الحكم عليهم بالفعل وأربعة قيد المحاكمة، فيما تمّت إحالة الباقين إلى المحاكمات بعد فترات طويلة من الحبس الاحتياطي.
وتؤكد عوف على أهمية تفعيل بدائل الحبس الاحتياطي المنصوص عليها في تعديلات قانون الإجراءات الجنائية التي طالب بها رئيس الجمهورية نفسه، مشيرة إلى أن من بين هذه البدائل ضمان النقابات المهنية لأعضائها، بما يخفف المعاناة الإنسانية والاقتصادية عنهم وعن أسرهم، ويحفظ في الوقت ذاته حق الدولة في المتابعة القانونية.
خلال التحقيق مع الصحفية صفاء الكوربيجي واجهتها نيابة أمن الدولة بعدد من التدوّينات المنشورة على صفحتها في فيسبوك، من بينها منشور تناول أزمة شاليهات عجيبة بمحافظة مرسى مطروح، التي بدأت الحكومة المصرية في إزالتها بحجة التطوير واستثمار المنطقة، وفق ما أوضحت إيمان عوف، مقررة لجنتي الحريات والمرأة في نقابة الصحفيين.
في يناير 2025، شهدت محافظة مرسى مطروح حالة من الجدل ، خصوصًا بين ملاك شاليهات منطقة “عجيبة”، عقب تداول أنباء عن خطط لإزالة الشاليهات بدعوى التطوير واستثمار المنطقة.
وجاءت نداءات المتضررين واضحة، مطالبةً بإصدار توضيح رسمي من محافظة مطروح أو أي جهة حكومية ذات صلة لشرح خلفيات القرار وتبديد ما وصفوه بـ”الضبابية المحيطة بالموقف”، معتبرين أن غياب التواصل الرسمي يفتح الباب أمام الشائعات ويزيد من المخاوف.
نوصي للقراءة: شاليهات عجيبة: اشتريناها ثلاث مرات من الحكومة.. واليوم نواجه الإزالة

الملاحقة والمحاكمة ضد في زمن التطوير
يعتبر هشام فؤاد الكاتب الصحفي والنقابي أن ما يحدث في مشهد تطوير الإعلام هندسة للمشهد الإعلامي على غرار ما يحدث في الانتخابات النيابية. فبحسب تعبيرة أن الأجهزة السيادية هي من تقرر عبر وسائل متعددة من ينجح، بل وتختار بعض المعارضين وتستبعد آخرين، ليظهر لنا مشهد يبدو وكأن هناك انتخابات وبرلمان ونواب، بينما الواقع يشير إلى أن السلطة الحاكمة هي من تمسك بزمام الأمور.
وعلى مستوى الإعلام، نرى شيئًا مشابهًا: فجأة تُصدر توجيهات من السلطة لتحرير الإعلام، وعلى الفور تقوم الحكومة بتشكيل لجان، وينبثق عنها لجان للإصلاح، ومن أجل تجميل المشهد يُسمح لبعض الأصوات المعارضة بالظهور والعودة. لكن هل يعني هذا إصلاحًا حقيقيًا؟ بالطبع لا، لأسباب عدة: أولها أن الصحافة يجب أن تكون مستقلة، ويتوجب عليها أن تتولى بنفسها اقتراح خطة الإصلاح دون تدخل حكومي- بحسب فؤاد.
يضيف القيادي النقابي أن الإصلاح الحقيقي واضح، وهناك توصيات المؤتمرات العامة للصحفيين التي تلخص عملية الإصلاح في عنصرين أساسيين لا غنى عنهما: حرية الصحافة والصحفيين، وتحرير الصحفيين من الخوف على مستقبلهم عبر ضمان التعيين والأجر الكريم.
ويرى فؤاد أن عدم الاستماع إلى هذه المطالب، سيكون نتيجته استمرار حبس الصحفيين سنوات خلف القضبان بسبب آرائهم، واستمرار تجاهل تعيين المؤقتين في المؤسسات، بل وربما التخلص تدريجيًا من المؤسسات الصحفية الحكومية.
يختم فؤاد حديثه بالتأكيد على ضرورة أن تُشكّل الجماعة الصحفية مجموعات ضغط فاعلة للمطالبة بأكبر قدر ممكن من المكاسب للصحافة والصحفيين، مشيرًا إلى أنّ تحقيق أي تغيير حقيقي يتطلب ضغطًا جماعيًا من داخل المهنة نفسها. ويعبّر القيادي النقابي عن شكوكه في وجود إرادة حقيقية للتخلّص من نظرية “الرأي الواحد”، مؤكدًا أن التحدي الأكبر يتمثل في أن يعود الإعلام إلى جمهوره، لا أن يبقى مجرد بوق للسلطة.
وفي السياق ذاته، ترى إيمان عوف أن تطوير الإعلام لا يمكن أن يتحقق في ظل استمرار حبس الصحفيين، وأن هناك ضرورة التوقف الفوري عن اعتقال الصحفيين بسبب آرائهم، والسماح بوجود رأي ورأي آخر داخل المجال العام. موضحة، أن النقابة طالبت مرارًا بالإفراج عن الصحفيين المحبوسين احتياطيًا بضمان النقابة، بحيث تلتزم الأخيرة بحضورهم جلسات التحقيق كلما طُلب ذلك، معتبرة أن هذا الإجراء “يمكن أن يكون بديلًا عادلًا وإنسانيًا عن الحبس الاحتياطي”.
نص الدستور المصري على حرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير، إذ نصت المادة (65) على أن “حرية الفكر والرأي مكفولة. ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول أو بالكتابة أو بالتصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر.” كذلك، نصت المادة (70) على أن “حرية الصحافة والطباعة والنشر الورقي والمرئي والمسموع والإلكتروني مكفولة، وللمصريين من أشخاص طبيعية أو اعتبارية عامة أو خاصة حق ملكية وإصدار الصحف، وإنشاء وسائل الإعلام المرئية والمسموعة ووسائط الإعلام الرقمي.”
وبحسب المادة (71) من الدستور “يحظر بأي وجه فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها، ويجوز استثناء فرض رقابة محددة عليها في زمن الحرب أو التعبئة العامة. ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بطريق النشر أو العلانية.”
ورغم النصوص الدستورية التي كفالة الحق في تداول المعلومات وحرية النشر،لكن في حقيقة الأمر وعلى أرض الواقع لم يُصدر البرلمان المصري، قانون حرية تداول المعلومات رغم المطالبات لتفعيل الحق في الحصول على المعلومات وفقًا للمادة 68، فيما تستمر القيود القانونية والإدارية على الصحافة المستقلة والنشر الإلكتروني، ما يجعل حرية تداول المعلومات في مصر حقًا دستوريًا معطلًا.
نوصي للقراءة: تطوير الإعلام في مصر: فرصة لإصلاح حقيقي أم تكرار لسيناريو “الحوار الوطني”؟

صورة مصغرة لواقع الإعلام في مصر
رصد تقرير حديث للمركز الإقليمي للحقوق والحريات حالة حرية الصحافة والإعلام في مصر خلال النصف الأول من عام 2025، موثقًا استمرار الانتهاكات بحق الصحفيين والمؤسسات الإعلامية، إلى جانب تفاقم التحديات الاقتصادية والمهنية التي تُقوّض بيئة العمل الصحفي.
وجاءت التجاوزات القانونية والأمنية في الصدارة، حيث استمر الحبس الاحتياطي لعدد من الصحفيين البارزين على ذمة قضايا نشر مثل الصحفيين سيد صابر وخالد ممدوح ورسام الكاريكتير أشرف عمر ، مع تجديد حبسهم لفترات طويلة دون محاكمة عادلة. كما وثّق التقرير استدعاءات جديدة لعدد من الصحفيين، بينهم رشا قنديل ولينا عطا الله، على خلفية مواد صحفية منشورة.
في المقابل، شهدت الفترة نفسها بعض الإفراجات المحدودة، أبرزها إخلاء سبيل الصحفي أحمد سراج. فقد أفرجت الأجهزة الأمنية بوزارة الداخلية عنه بعد أيام من صدور قرار نيابة أمن الدولة العليا بإخلاء سبيله على ذمة القضية رقم 7 لسنة 2025، ضمن قائمة شملت نحو 50 شخصًا، من بينهم المحامي نصر الدين حامد عبد المقصود المحتجز منذ سبتمبر 2021.
وكانت قوات الأمن قد ألقت القبض على سراج في 16 يناير الماضي على خلفية حوار صحفي مصوّر أجراه مع ندى مغيث، زوجة رسام الكاريكاتير المعتقل أشرف عمر، ووجهت له النيابة اتهامات بـ”الانضمام لجماعة إرهابية، ونشر أخبار كاذبة، واستخدام موقع للترويج لأفكار إرهابية”.
في السياق، يقول مصطفى شوقي، الباحث في حرية الصحافة والإعلام بمؤسسة حرية الفكر والتعبير، في حديثه لـ”زاوية ثالثة”، إن تشكيل لجنة لتطوير الأداء الإعلامي يمثل “خطوة غير مفهومة ومثيرة للقلق”، معتبرًا أنها افتئات واضح على صلاحيات الهيئات الدستورية المنظمة للإعلام، وهي المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والهيئة الوطنية للصحافة، والهيئة الوطنية للإعلام.
ويرى شوقي أن وجود هذه اللجنة يعكس ارتباكًا في إدارة ملف الإعلام داخل الدولة، مضيفًا:”إما أن تكون هذه المؤسسات غير قادرة على أداء دورها بسبب مشكلات في صلاحياتها أو استقلاليتها أو طريقة تشكيلها، وفي هذه الحالة يجب إعادة النظر في تشكيلها، أو أن هناك رغبة في تجاوزها عبر لجان موازية تتدخل في مهامها وصلاحياتها، وهو ما يثير علامات استفهام حول الهدف الحقيقي من اللجنة الجديدة.” مشيرًا إلى أنه لا معنى للحديث عن تطوير الإعلام في ظل احتكار السوق الإعلامي، موضحًا أن تفكيك هذا الاحتكار هو الخطوة الأولى نحو تحرير الإعلام وتمكينه من أداء دوره المهني والرقابي باستقلالية.
ويشير الباحث الحقوقي إلى أن هناك عشرات المواقع الصحفية والإعلامية في مصر لم تحصل حتى الآن على تراخيص مزاولة النشاط بسبب ما وصفه بـ”التعيينات الإدارية والأمنية المستمرة”، معتبرًا أن ذلك يُفقد أي حديث عن الإصلاح الإعلامي جديته ومصداقيته.
ويختتم شوقي في حديثه:”لا يمكن الحديث عن تطوير الصحافة والإعلام بينما لا يزال هناك صحفي واحد محبوس بسبب عمله أو آرائه. ولو أرادت اللجنة أن تترك أثرًا حقيقيًا يُذكر في التاريخ، فليكن هذا الأثر هو أن تساعد نقابة الصحفيين على أن تصبح مصر بلا صحفي واحد خلف القضبان”.

صحافة يعني حرية واستقلال
احتلت مصر المرتبة السادسة على مستوى العالم من حيث عدد الصحفيين المسجونين خلال عام 2024، إذ بلغ عددهم 17 صحفيًا مسجونًا، حسب التقرير الصادر في يناير الماضي، عن لجنة حماية الصحفيين/CPJ.
وجاءت مصر في التقرير ضمن أكبر عشر دول في العالم سجنًا للصحفيين في 2024. ومن بين الـ17 الذين رصدهم التقرير، أرجعت CPJ اعتقال 7 صحفيين في مصر بسبب الأزمة الاقتصادية، اثنان منهم على الأقل “انتقدا السياسات الاقتصادية للحكومة” حسب التقرير.
من جهته يقول الكاتب الصحفي عصام كامل، رئيس تحرير جريدة فيتو وعضو اللجنة الرئيسية لتطوير الإعلام، في حديثه لـ”زاوية ثالثة”، إن الجماعة الصحفية والإعلامية في مصر “تواجه منذ سنوات طويلة العقوبات السالبة للحريات في قضايا النشر، وتكافح من أجل مناخ يتيح حرية العمل الصحفي والإعلامي”.
ويضيف الكاتب الصحفي:”لا يمكن النظر إلى حرية الصحافة باعتبارها منحة أو هبة من أحد، فالإعلامي ليس فوق المجتمع، لكنه يؤدي مهمة مقدسة تتمثل في نقل المعلومة الدقيقة إلى القارئ الذي يمثل الهدف والغاية”. مشيرًا إلى أن تحقيق إعلام مهني ومؤثر يتطلب وجود قوانين تضمن حرية تداول المعلومات، إذ “لا يمكن للصحفي أن يقدم معلومة دقيقة في ظل غياب تشريعات تُلزم الجهات الرسمية بالرد على أسئلته”.
وينتقد كامل استمرار وجود مواد قانونية مقيّدة لعمل الصحفيين، مثل المادة 12 في القانون 180 لسن 2018 التي “تحظر على الصحفي تصوير أي حدث دون الحصول على تصريح مسبق”، متسائلًا: “هل يمكن للصحفي أن يعرف مسبقًا أن هناك عمارة ستنهار بعد يومين فينتظر ليحصل على تصريح؟! مثل هذه المواد غير منطقية وتعرقل عمل الصحافة في تغطية الحوادث الطارئة.”
يشدد رئيس تحرير فيتو على ضرورة استقلال الهيئات الإعلامية، مثل المجلس الأعلى للإعلام والهيئة الوطنية للصحافة والهيئة الوطنية للإعلام، عن الحكومة حتى تؤدي أدوارها الرقابية والمهنية بكفاءة.
ويشير إلى أن نقابة الصحفيين تعمل منذ عام تقريبًا على مشروع متكامل يشمل قانونًا لحرية تداول المعلومات، وتعديلات على القوانين المنظمة للهيئات الإعلامية، إضافة إلى إلغاء المواد السالبة للحرية في جميع التشريعات المتعلقة بالصحافة والإعلام.
ويعتبر رئيس تحرير فيتو أن “القبض على أي صحفي أو صحفية في هذا التوقيت يتناقض تمامًا مع ما أعلنته القيادة السياسية من رغبة في وجود إعلام قوي ومؤثر قادر على الوصول إلى الجمهور المحلي والإقليمي”، مؤكدًا أن “الإصلاح الإعلامي الحقيقي لا يمكن أن يتحقق في ظل استمرار هذه الممارسات”.
في تقرير أعدته زاوية ثالثة في وقت سابق بعنوان “تطوير الإعلام في مصر: فرصة لإصلاح حقيقي أم تكرار لسيناريو “الحوار الوطني”؟” تواصلنا مع عدد من القيادات الصحافية، كما رصدنا بعض المطالب والإجراءات المقترحة، لإعداد روشتة متكاملة لتطوير الصحافة والإعلام في مصر. جاءت على رأس هذه المطالب تعزيز حرية الصحافة وإطلاق حرية الصحفيين المحبوسين والتوقف عن الملاحقة الأمنية لهم في قضايا النشر، بالإضافة إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للصحفيين، تطوير المحتوى الإعلامي، دعم المؤسسات القومية والخاصة، ومواكبة التحولات الرقمية والتكنولوجية الحديثة، بما يضمن إعلامًا مهنيًا مؤثرًا ومستدامًا.
في النهاية، يأتي الحديث عن “تطوير الإعلام” في مصر محاطًا بعلامات استفهام تتزايد يومًا، في ظل ممارسات أمنية تلحق بالصحفيين لا تنتهي وفي ظل استمرار قوانين مقيدة للعمل الصحفي. وبينما تتحدث الدولة عن الإصلاح وحرية الرأي، تتزايد الوقائع التي تعكس تناقضًا بين الخطاب والممارسة على أرض الواقع.