تواجه الأمهات المعيلات في مصر تحديًا مستمرًا يتمثل في رفض القطاع الخاص توظيفهن، وهو ما يعد انتهاكًا صريحًا لقانون العمل المصري الذي يمنع التمييز بين الأفراد بناءً على الجنس أو الدين أو اللون. هذا الرفض يدفع العديد من هؤلاء الأمهات إلى قبول وظائف لا تتناسب مع مؤهلاتهن الأكاديمية أو المهنية، ما يفاقم من معاناتهن الاقتصادية والاجتماعية في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها البلاد.
من بين هذه الأمهات، تروي مي مجدي (35 عامًا) قصتها مع البطالة، بعد أن تخرجت في كلية الحقوق جامعة عين شمس في عام 2010. تقول مي إنها واجهت رفضًا مستمرًا من قبل شركات ومكاتب المحاماة بسبب وضعها كأم معيلة لأربعة أطفال، ثلاثة منهم يعانون من أمراض مزمنة، ما يجعلها تواجه تحديات كبيرة في توفير احتياجاتهم. “حتى عندما وجدت عرض عمل في إحدى الشركات، كان الراتب لا يتجاوز ألف جنيه شهريًا رغم ساعات العمل الطويلة التي تبدأ من الثامنة صباحًا وتنتهي في الساعة 11 مساءً”، تقول مي.
بسبب هذه الظروف، اضطرت مي للعمل في توصيل الطلبات إلى المنازل، وهو عمل يتنافى تمامًا مع مؤهلاتها الأكاديمية وخبراتها، لكنها اضطرت لقبوله لتأمين حياة أسرية لائقة. وتؤكد مي أن تلك الظروف الاقتصادية الصعبة تجعل الأمهات المعيلات عرضة للاستغلال من قبل أصحاب العمل الذين يستغلون حاجتهن للعمل في ظل التضخم الاقتصادي الكبير.
إن مشكلة الأمهات المعيلات في القطاع الخاص تتطلب حلولًا سريعة وعادلة، خصوصًا أن قانون العمل المصري يكفل حقوقهن. كما أن تحرك المؤسسات الحكومية والمجتمع المدني لحماية هذه الفئة من الاستغلال، مع وضع آليات لضمان تطبيق القوانين بفعالية، هو السبيل الوحيد لتحسين الوضع الحالي.
نوصي للقراءة: بين العمل والمنزل: رحلة يومية تزداد صعوبة مع ارتفاع تكاليف المواصلات
رفض التوظيف
ترى مي أن هناك تمييزًا صريحًا في الأجور بين الرجال والنساء في سوق العمل، حيث يلجأ أرباب العمل إلى تبريرات غير منطقية لرفض توظيف الأمهات المعيلات، مثل قوامة الرجل على الأسرة وقدرة الرجل على التنقل بحرية أكبر. بعد طلاقها، وجدت صعوبة كبيرة في العثور على وظيفة تليق بتخصصها، حيث فاجأها رفض العديد من الشركات، التي ربطت ذلك بوجود أطفالها. تقول: “اضطُررت إلى العمل في توصيل الطلبات بعد أن بدأت بهذا العمل قبل عامين، لكن دخلي الشهري الصافي الآن لا يتجاوز 2000 جنيه، بسبب عدم قدرتي على امتلاك وسيلة نقل خاصة، ما دفعني لاستخدام المترو، الذي يستهلك أكثر من نصف راتبي.” تحلم مي بأن تمتلك سكوتر أو دراجة لتمكنها من توصيل الطلبات بمرونة أكبر، بعيدًا عن متاعب التنقل اليومية.
في 15 أبريل 2024، أصدرت وزارة العمل كِتابًا دوريًا إلي “المُديريات” بشأن آليات تنفيذ قرار زيادة الحد الأدنى لأجور عمال القطاع الخاص إلى ستة آلاف جنيه بداية من شهر مايو الماضي؛ إلا أن العديد من مؤسسات القطاع الخاص ترفض تطبقه على أرض الواقع، هذا وتنص المادة 80 من قانون العمل في مصر على أن عدد ساعات العمل ثماني ساعات يتخللها ساعة راحة، وحال زاد عدد ساعات العمل عن المنصوص عليه قانونًا يفترض حصول العامل على مقابل مادي لتلك الساعات، بخلاف ذلك يعد مخالفة قانونية، وبحسب المادة 35 من قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 يحظر التمييز في الأجور، بسبب اختلاف الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة.
لم تكن مريم المصري أفضل حالًا من مي في مواجهة تحديات سوق العمل. بعد انفصالها عن زوجها قبل أربع سنوات، تحملت مريم، الأم لطفل لا يتجاوز عمره العشر سنوات، مسؤولية تربية ابنها بمفردها. دفعها وضعها الاقتصادي الصعب إلى البحث عن فرص عمل تأمن لها ولطفلها حياة كريمة، على الرغم من حصولها على شهادة البكالوريوس في التجارة من جامعة القاهرة.
بدأت مريم عملها في مصنع ملابس في 2022 براتب قدره 2700 جنيه، ثم انتقلت للعمل في دار مسنين في 2023، لتستقر في نهاية المطاف في وظيفة بائعة في محل حلويات. تقول مريم: “ظروفي الاقتصادية الصعبة أجبرتني على قبول وظائف لا علاقة لها بمجال دراستي، بعدما رفض أرباب العمل توظيفي بشهادتي بسبب كوني أم معيلة. لم أكن أتخيل أبدًا العمل في هذه المجالات، ولكن الحاجة للعمل دفعتني لقبول وظائف غير مناسبة تمامًا لتخصصي. ورغم ذلك، لم يتجاوز راتبي 3000 جنيه شهريًا.”
وبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، سجل معدل التضخم أعلى مستوياته في سبتمبر 2023 بـ40.30 % ليتراجع في سبتمبر 2024 إلى 26%، هذا وسجل معدل التضخم بحسب بيانات المركزي للمحاسبات عن شهر سبتمبر 2024 مقارنة بالشهر ذاته 2023 أعلى مستوياته في قسم الترفيه بـ49 %، يليه المشروبات الكحولية والدخان بـ35.9%، يليه المطاعم والفنادق بـ 31.1% ثم النقل والمواصلات بـ 30.2%.
تقول مريم: “رغم التضخم المستمر وزيادة أسعار الطعام والمواصلات والخدمات، إلا أن الرواتب المعروضة لا تكفي حتى لتلبية احتياجات الحياة الأساسية. أثناء عملي في دار المسنين، كنت أصطحب طفلي معي لتحسين وضعي المالي وتوفير بعض مصاريف الطعام والمواصلات، ولكن الوجبة المقدمة كانت ضعيفة للغاية، ورغم ذلك، لا يزال راتبي غير كافٍ لتغطية المتطلبات الأساسية.”
تحلم مريم، في الأربعين من عمرها، بالعثور على فرصة عمل ملائمة، خاصة بعد أشهر من التعطل عن العمل.
تشكو ابتسام عبدالعال (40 عامًا، من محافظة البحيرة) من التمييز الواضح في الأجور بين النساء والرجال، ما دفعها للبحث عن فرصة عمل تُمكّنها من تلبية احتياجاتها واحتياجات أطفالها الثلاثة، بعد أن تركها زوجها وسافر إلى دولة المغرب في 2018، ليقطع جميع اتصالاته بهم بعد عامين من سفره.
في عام 2020، قررت ابتسام البحث عن فرصة عمل جديدة، فانتقلت إلى محافظة دمياط للعمل هناك مع أطفالها بعد أن تزوج زوجها من امرأة أخرى في المغرب، وأصبح منقطعًا عن أسرته طوال الست سنوات الماضية. تقول ابتسام: “اضطررت للعمل كعاملة توصيل طلبات لأتمكن من رعاية أطفالي، خاصة أن أحدهم يعاني من تأخر ذهني. رغم ذلك، لم يتجاوز دخلي الشهري الـ 3500 جنيه، بينما دخل الرجال في نفس الوظيفة يتجاوز 4500 جنيه.”
وتُضيف ابتسام أنها واجهت رفضًا من أرباب العمل في مطاعم وصيدليات لتوظيفها، حيث أرجعوا ذلك إلى عدم تشغيل النساء في تلك المهن، خاصة إذا كن أمهات معيلات.
تحلم ابتسام بامتلاك عربة توصيل طلبات وشقة خاصة بها، إذ إن الدراجة التي تستخدمها حاليًا في عملها تُسبب لها الكثير من الصعوبات، خاصة في فصل الشتاء، ما يجعل عملها أكثر تحديًا في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة.
نوصي للقراءة: تسعيرة النقل في مصر: صراع الأجرة والوقود
رواتب متدنية
بحسب تقرير البنك الدولي السنوي “المرأة وأنشطة الأعمال والقانون” احتلت مصر الموقع 175 من ضمن 190 اقتصادًا، ويقيس المؤشر العام أوضاع النساء فيما يخص ثمان مجالات: “المساواة في التنقل، ومكان العمل، والأجور، والزواج، والوضع، وريادة الأعمال، والملكية، والمعاش التقاعدي”.
بحسب التقرير سجلت مصر أسوأ النتائج في مؤشر المساواة في الأجور والزواج بـ (صفر %)، أما مؤشر المساواة والحماية من التمييز في الأجر بين النساء والرجال سجلت مصر (صفر%)، وعلى مؤشر وضع الحماية القانونية ضد العنف ورعاية الأطفال، سجلت مصر 37.5% بينما المتوسط العالمي 64%.
رغم حصولها على بكالوريوس في الزراعة بتقدير امتياز، لم تتمكن رهف داوود (37 عامًا، مواليد محافظة كفر الشيخ) من العثور على وظيفة تتناسب مع شهادتها طوال سنوات عملها. بدأت رهف عملها في مجال التسويق منذ تسع سنوات، لكنها واجهت تمييزًا واضحًا في الأجور، حيث يتم توظيف الإناث برواتب متدنية مقارنة بالذكور في نفس المهن.
تحكي رهف: “أرباب العمل يبررون ذلك بتبريرات غير مقنعة، وعملت لمدة سنوات طويلة دون تعاقد أو تأمين.” في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، لم تجد رهف فرصة أفضل من العمل كـ “موديراتور وسيلز” في متجر ملابس، براتب ألفي جنيه، ويتضمن ذلك شحن باقة إنترنت بقيمة 500 جنيه شهريًا، مقابل عشر ساعات عمل يوميًا. ما أدى إلى تقليص صافي دخلها إلى 1500 جنيه، بينما يتقاضى الذكور في نفس الوظيفة ما لا يقل عن 4000 جنيه.
من جانبها، تعاني أميرة إسماعيل (34 عامًا، من محافظة الدقهلية) أيضًا من تهميش الأجور رغم مؤهلاتها العالية، حيث حصلت على ليسانس حقوق وماجستير في القانون، بالإضافة إلى تسجيلها للدكتوراه ودراسة التسويق والترجمة في الجامعة الأمريكية. تقول أميرة: “رب العمل هو المتحكم الأول في تحديد الراتب، والبقاء في العمل لفترة طويلة يتوقف على رضائه عنك. وفي لحظة، قد تفاجئين بقرار فصلك.” كما أنها تشعر بالاستغلال بعد عملها لعامين مع إحدى شركات الترجمة، حيث كانت تُحتسب إجازة العيد بيوم واحد فقط، وأي غياب يتم خصمه من الراتب أو رصيد الإجازات.
وتضيف أميرة أنه رغم أن راتبها لم يتجاوز الـ 3000 أو 4000 جنيه، فهي سيدة معيلة لطفل، وتحصل على مبلغ نفقة لا يتجاوز 800 جنيه، في حين أن طليقها، الذي يعمل كمدير بنك، يتجاوز دخله 20 ألف جنيه. تشكو أميرة من إعلان الشركات الخاصة عن وظائف برواتب تتراوح بين 2000 و3000 جنيه، رغم طول ساعات العمل التي تتجاوز الـ 12 ساعة يوميًا، ودون عقود أو تأمينات. ما دفعها للعمل كمترجمة مستقلة. وتطالب بتفعيل نظام التوظيف بعقود عمل منظمة، مؤكدة أن ما يتبعه أرباب العمل في تلك الوظائف يعد انتهاكًا لحقوق الموظفين، حيث يتم استغناؤهم بسهولة وفقًا لمزاج أصحاب العمل.
تقول هالة دومة، المحامية بالاستئناف العالي ومستشارة قانونية، في حديثها مع زاوية ثالثة: “إذا تم فصل العامل سواء كان مؤمنًا عليه أو لا، يجب عليه التوجه إلى مكتب العمل خلال عشرة أيام من الواقعة للإبلاغ عن الفصل، وإذا لم يكن بحوزته عقد عمل، عليه التوجه إلى قسم الشرطة لتقديم محضر إثبات حالة، وتوثيق تفاصيل الفصل التعسفي والرواتب المستحقة له لدى جهة العمل.”
وتضيف دومة: “في حال تم رفض تشغيل النساء في وظائف معينة بسبب كونهّن أمهات معيلات، يعد هذا تمييزًا جندريًا واضحًا، ويمكن للمتضررات تقديم شكوى في مكتب العمل ورفع جنحة تمييز ضد الجهة المتورطة، حيث يعتبر ذلك انتهاكًا لمبدأ تكافؤ الفرص المنصوص عليه في قانون العقوبات، الذي يعاقب على التمييز في العمل.”
وتستقبل دومة العديد من الشكاوى المتعلقة بالتمييز الجندري في الأجور، مؤكدة على أهمية التعامل مع هذه القضايا بشكل قانوني لضمان حقوق النساء العاملات.
نوصي للقراءة: العاملات بالزّراعَة.. نِسَاءٌ يُقهِرنَ الصِّعَاب وتقهرهُنَّ شَاحنات الموت
القطاع الخاص
تطالب منى عزت، رئيسة مجلس أمناء مؤسسة النون لرعاية الأسرة العاملات، النساء اللواتي يتعرضن لمخالفات قانونية تتعلق بساعات العمل أو الأجور، بالتوجه إلى مكتب العمل لتقديم شكاوى رسمية. وتوضح عزت أن العديد من جهات العمل الخاصة ترفض تعيين النساء، وتطرح عليهن أسئلة غير قانونية خلال المقابلات مثل: “متى موعد زواجك؟”، “هل أنتِ حامل؟”، “هل لديك أطفال؟”، و”كم عمرك؟”.
وتضيف عزت أن هذه الأسئلة تُستخدم كذريعة من قبل أصحاب العمل للتملص من التزاماتهم تجاه العاملات، مثل توفير دور حضانة أو منح إجازة الوضع ورعاية الطفل. وتؤكد أن هذه الممارسات تُعد مخالفة للقانون، مشيرة إلى أن الجهات المختصة يجب أن تركز على اشتراطات المهنة والخبرة فقط، وليس على الأمور الشخصية.
وتعزو عزت التمييز الجندري في الأجور إلى العوامل الثقافية والاجتماعية والنظرة النمطية تجاه النساء، مشددة على ضرورة تغيير هذه المفاهيم. كما تقترح أن تكون هناك جهة مختصة لاستقبال شكاوى النساء من التمييز الجندري، مقترحة أن تتولى وزارة القوى العاملة هذا الدور، مع ضرورة القيام بحملات تفتيشية على المصانع للتحقق من عدد العاملات ومدى توافقه مع الحد القانوني.
رغم هذه المطالبات، تبقى معاناة مي، ومريم، ورهف، وأميرة، وابتسام قائمة. حيث لا تجد العديد من النساء فرصًا لائقة للتوظيف وفقًا لشهاداتهن وخبراتهن، في حين يبرر أرباب العمل ذلك بكونهن أمهات معيلات، مما يزيد من التمييز في الأجور مقارنة بزملائهن من الرجال.