غياب الرقابة، انتشار المراكز غير المرخصة، واستغلال المرضى من قبل غير المؤهلين باتت سمات رئيسية لقطاع العلاج الطبيعي في مصر. في واقعة أثارت موجة من الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي، تعرض أمّح الدولي، أحد مشجعي النادي الأهلي والمصاب بمتلازمة داون، لإصابة خطيرة في عموده الفقري بعد خضوعه لجلسة علاج طبيعي غير متخصصة. أدت الجلسة إلى كسر في الفقرتين 11 و12 وشرخ في فقرات أخرى، ما أفقده القدرة على الوقوف والحركة، وفقًا لتقارير طبية.
تظهر لقطات فيديو انتشرت على الإنترنت “أمّح” وهو يخضع لعلاج باستخدام تقنية الكيروبراكتيك، التي تعتمد على الضغط المباشر على العمود الفقري أو ما يُعرف بـ”الطرقعة”. ورغم أن هذه التقنية تُستخدم في حالات بسيطة، إلا أنها تشكل خطرًا جسيمًا على المرضى الذين يعانون من مشكلات هيكلية أو مفصلية، كما في حالة “أمّح”.
إلهام مصطفى (60 عامًا) مثال آخر على هذه الأزمة. تعاني من خشونة مزمنة في الركبتين وخضعت لـ 12 جلسة علاج طبيعي بناءً على توصية طبيبها، لكن حالتها لم تتحسن. بل تفاقمت آلامها بعد تمديد الجلسات، لتكتشف لاحقًا إصابتها بـ انزلاق غضروفي نتيجة تمارين خاطئة. تبين لاحقًا أن الأخصائية التي أشرفت على علاجها لم تكن سوى حاصلة على دورة تدريبية بسيطة، وتعمل في مركز علاج طبيعي دون تأهيل أكاديمي.
تقول إلهام لزاوية ثالثة: “بعد أن علمت بحقيقة مؤهلات الطبيبة، قررت عدم العودة للمركز والبحث عن مختص مؤهل لتجنب أي مضاعفات جديدة.”
وتعود هذه الأزمة إلى ضعف الرقابة القانونية على المراكز الطبية. إذ تنص المادة العاشرة من قانون مزاولة مهنة الطب على معاقبة من يزاول المهنة دون ترخيص بالحبس مدة لا تتجاوز سنتين أو بغرامة تصل إلى 200 جنيه. لكن التطبيق العملي للقانون يبدو غير كافٍ، خاصة في ظل تزايد عدد المراكز غير المرخصة. ونصّت المادة 212 من قانون مزاولة مهنة الطب على أن “كل شخص ليس من أرباب الوظائف العمومية ارتكب تزويرًا مما هو مبيّن في المادة السابقة، يعاقب بالسجن المشدد أو بالسجن مدة أكثرها عشر سنوات.”
في سبتمبر 2021، تصدرت قضية “سمكري البني آدمين” المشهد، بعد القبض على صاحب مركز غير مرخص كان يروج لجلسات علاج خاطئة بمساعدة مشاهير. ورغم إغلاق أكثر من 300 مركز وهمي على مدار ثلاث سنوات، لا تزال مراكز العلاج الطبيعي غير المرخصة تعمل تحت غطاء الدعاية الكاذبة واستغلال حاجة المرضى للعلاج.
نوصي للقراءة: قانون المسؤولية الطبية: طبيب يستقيل كل ساعتين وخمس سنوات سجن تنتظر الباقين
انتحال صفة
لم تختلف تجربة أحمد رضا (43 عامًا) كثيرًا عن الحالات الأخرى التي تعاني من آثار العلاج الطبيعي غير المتخصص في مصر. تعرض أحمد لإصابة في قدمه اليمنى أثناء مشاركته في مباراة كرة قدم، وبعد تشخيص حالته بتمزق في الأربطة، خضع لتثبيت الجبيرة لمدة شهر. ومع انتهاء فترة التثبيت، نصحه الطبيب بالبدء في جلسات علاج طبيعي لاستعادة حركته الطبيعية.
لكن رحلته للعلاج أخذت منحى غير متوقع. يقول أحمد في تصريح إلى زاوية ثالثة: “ذهبت لأحد مراكز العلاج الطبيعي، وخضعت لـ ست جلسات، لكني لم ألحظ أي تحسن، بل بدأت أشعر بآلام إضافية في مواضع أخرى.”
تفاجأ أحمد لاحقًا بأن الشخص الذي كان يشرف على جلساته لم يكن متخصصًا في العلاج الطبيعي، بل خريج كلية التربية الرياضية. هذا الشخص، رغم خبرته في التمارين الرياضية، لم يكن مؤهلاً للتعامل مع إصابات الأربطة الدقيقة، ما أدى إلى تفاقم حالته.
“لم أكن أعلم أن المركز لم يضم مختصين بالعلاج الطبيعي. بعد معرفتي بالأمر، توجهت لمركز آخر متخصص، لكنني صُدمت من ارتفاع تكاليف الجلسات بشكل كبير مقارنة بالمركز الأول،” يشير أحمد إلى أن غياب التسعير الموحد وتفاوت الأسعار بين المراكز يجعل المرضى عرضة لاستغلال مالي إضافي.
تتفاوت أسعار العلاج الطبيعي في مصر بشكل ملحوظ، ويظهر الاختلاف من مكان لآخر حسب المحافظة والخدمات التي يقدمها مركز العلاج الطبيعي. وتختلف أيضًا على حسب المستشفيات الحكومية والعسكرية. فبينما تتراوح سعر الجلسة في مراكز العلاج الطبيعي الخاصة ما بين 600 إلى ألف جنيه، بلغت أسعار جلسات العلاج الطبيعي بالعيادات الخارجية بالمستشفيات الحكومية نحو 20 جنيهًا لجلسة التمارين العلاجية اليدوية، بعدما كانت خمسة جنيهات فقط، بزيادة بنسبة 300%، كما زاد العلاج بالموجات التصادمية ليصل إلى 125 جنيهًا، وجلسة العلاج المائي إلى 100 جنيه، وجلسة دراسة أبحاث النوم إلى 400 جنيه. وهذه الزيادات ليست ثابتة، ذلك أن بعض الجلسات التي كانت أسعارها 10 جنيهات زادت إلى 20 جنيهًا، والجلسات التي كان سعرها 30 جنيهًا زادت إلى 50 جنيهًا.
تضم وزارة الصحة نحو 761 قسمًا للعلاج الطبيعي موزعة بين 277 قسمًا في المستشفيات و484 قسمًا بوحدات الرعاية الأولية على مستوى الجمهورية. وفي عام 2024، حصل أكثر من 442,803 مواطن على خدمات العلاج الطبيعي من العيادات الخارجية بالمستشفيات الحكومية، من أصل 26.6 مليون زيارة للعيادات الخارجية بشكل عام.
رغم هذا الانتشار، يشير عبد العاطي محسن، أخصائي العلاج الطبيعي، إلى أن القطاع يعاني من تزايد حالات انتحال الصفة وغياب الرقابة الصارمة. يقول محسن: “العلاج الطبيعي هو فن التعامل مع أنسجة الجسم بطريقة علمية عبر التدليك والتمارين العلاجية، لكنه قد يتحول إلى خطر حقيقي إذا مارسه غير المتخصصون.”
يؤكد محسن أنه لا يحق ممارسة مهنة العلاج الطبيعي إلا لخريجي كليات العلاج الطبيعي، مشيرًا إلى أن المهنة شهدت اختلاطًا ملحوظًا بخريجي كليات التربية الرياضية، وهو ما يتعارض مع قانون مزاولة المهنة رقم 3 لعام 1985 وقانون النقابة العامة رقم 209 لعام 1994.
ويضيف أن إصابات مرضى العظام في مراكز العلاج الطبيعي في تزايد مستمر نتيجة تعيين غير المتخصصين، الذين يُفترض أن يقتصر دورهم على التأهيل الحركي فقط بعد انتهاء العلاج الطبي. إلا أن بعض المراكز تسمح لهم بإجراء جلسات علاجية دون تأهيل كافٍ، بل تمنحهم شهادات دبلوم لمزاولة المهنة، ما يعرض المرضى لمخاطر جسيمة.
ويشير محسن إلى أن المشكلة لا تقتصر على خريجي التربية الرياضية فقط، بل تمتد إلى أشخاص لا علاقة لهم بالمجال الصحي، حصلوا على دورات تدريبية قصيرة أو دبلومات غير معترف بها، وبدأوا في ممارسة المهنة دون أي تأهيل علمي. “هذه الممارسات قد تؤدي إلى مضاعفات خطيرة مثل الشلل، أو الشعور الدائم بالألم والتنميل، بل وقد تتفاقم الحالة الصحية بدلًا من علاجها.”
أقسام خدمات العلاج الطبيعي بالوزارة الصحة تبلغ نحو 761 قسمًا، بينهم 277 في المستشفيات، و 484 قسمًا بوحدات الرعاية الأولية على مستوى الجمهورية. فيما بلغ إجمالي الحاصلين على خدمات العلاج الطبيعي في المستشفيات الحكومية بالعيادات الخارجية الحكومية والاستقبال نحو 442 ألف و803 مواطن، وذلك من إجمالي عدد المترددين على العيادات الخارجية للمستشفيات الحكومية في مصر الذين وصلوا إلى 26.6 مليون زيارة خلال 2024.
نوصي للقراءة: سوق التحاليل الطبية في مصر: احتكار وفوضى تهدد حقوق المرضى
غياب الرقابة
عاقبت المادة 211 من القانون كل صاحب وظيفة عمومية استغل وظيفته وزوّر أحكام صادرة أو تقارير أو وثائق أو دفاتر أو غيرها من السندات والأوراق الأميرية، سواءً كان بوضع إمضاءات أو أختام مزورة أو بزيادة كلمات أو بوضع أسماء أو صور أشخاص آخرين أو غيره، بالسجن المشدّد أو السجن، ووفقا للمادة “2” من قانون رقـم 3 لسنة 1985 بشأن تنظيم مزاولة مهنة العلاج الطبيعي، يشترط للحصول على ترخيص مزاولة مهنة العلاج الطبيعي، أن يكون طالب الترخيص مصري الجنسية أو من رعايا الدول التي تعامل المصريين بالمثل. وأن يكون حاصلًا على أحد المؤهلات الدراسية الآتية: بكالوريوس العلاج الطبيعي من إحدى الجامعات المصرية، أو بكالوريوس العلاج الطبيعي من معهد التربية الرياضية قبل العمل بهذا القانون، أو دبلوم البعثة الداخلية في العلاج الطبيعي من معهد التربية الرياضية قبل العمل بهذا القانون، أو شهادة أجنبية معادلة لأي من الشهادات السالف ذكرها وفقًا للقوانين واللوائح الخاصة بذلك. وأن يكون محمود السيرة حسن السمعة. وألا يكون سبق الحكم عليه بعقوبة جناية أو جنحة في جريمة مخلة بالشرف أو الأمانة أو متعلقة بمزاولة مهنة الطب أو إحدى المهن المرتبطة بها دون ترخيص، وذلك كله ما لم يكن قد رد إليه اعتباره.
وفي سياق متصل، يبين علاء غنام – مسئول الحق فى الصحة فى المبادرة المصرية للحقوق الشخصية وخبير فى إصلاح القطاع الصحي-، أن قطاع العلاج الطبيعي في مصر يعاني من عدم التنظيم والفوضى، لا سيما مع انتشار المراكز غير المرخصة في ظل غياب الرقابة القانونية اللازمة على هذه المراكز، ما يعرض المرضى لتحمل الأخطار المضاعفة في حالة اللجوء لهذه المراكز التي في الأغلب تستعين بغير المتخصصين.
يقول “غنام” خلال حديثه معنا إن قانون مزاولة المهنة لعام 1985 وكذلك قانون النقابة العامة لعام 1994، يحددان آلية عمل تلك المراكز، والشروط التي يجب توافرها في الأطباء الممارسة لمهنة العلاج الطبيعي، مبينًا أن الاستعانة بخريجي كلية التربية الرياضية للعمل في مراكز العلاج الطبيعي غير قانوني، كما أن الاستعانة ببعض الأشخاص الحاصلين على الدبلومات والكورسات المنتشرة عبر وسائل التواصل الإجتماعي يعد غير قانوني ويعرض هؤلاء الأشخاص والمركز العاملين فيه للمسائلة القانونية والسجن بتهمة انتحال صفة الأطباء، لا سيما مع الأخطاء الجسيمة التي تحدث للمرضى بسبب هؤلا الأشخاص غير المعنيين.
ويشدد مسؤول الحق فى الصحة في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية على ضرورة الرقابة على هذه المراكز من قبل الجهات المعنية للحفاظ على الحالة الصحية للمرضى، من جهة، والعمل على تقنين أوضاعها من جهة أخرى.
ويعلق على زيادة عدد الكليات الخاصة بالعلاج الطبيعي من 15 كلية في نهاية عام 2022، ليصل إلى نحو 60 كلية بجامعات مختلفة مع بداية العام الماضي، موضحًا أن ذلك يصب في صالح سوق العمل بما يتناسب مع زيادة عدد المرضى، وأيضًا يساعد ذلك في مواجهة وجود أشخاص غير مؤهلين للعمل في العلاج الطبيعي، متوقعًا أن يساهم زيادة عدد الخريجين في تخصصات مختلفة في توفير آليات جديدة للعمل بهذا القطاع الطبي الهام.
نوصي للقراءة: بعد حبس طبيبة كفر الدوار.. هل تُوقف الحلول الأمنيّة ثقافة الانتهاك ضد النساء؟
أعداد أطباء العلاج الطبيعي
كانت مصر تعاني من قلة في أعداد أطباء العلاج الطبيعي، وفق دراسة للمجلس الأعلى للجامعات بالتعاون مع وزارة الصحة خلال عام 2019، إذ أن كل طبيب مسؤول عن ألف مريض. بينما تصل أعداد كليات العلاج الطبيعي إلى 15 كلية؛ أربعة بالجامعات الحكومية و11 بالخاصة، وتنتشر الكليات في تسع محافظات هي “الجيزة، القاهرة، الدقهلية، المنيا، الإسكندرية، بنى سويف، قنا، ودمياط”، بينما في سبتمبر 2021 أعلنت نقابة العلاج الطبيعي أنها تضم 70 ألف طبيب بواقع 26 كلية في مصر.
أما أعداد الخريجين سنويًا، فتتراوح من ألف إلى ألف و 870 طالب وطالبة خلال الفترة من 2014 إلى 2018، وتزايد العدد حسب الدراسة من ثلاثة آلاف و 500 إلى أربعة آلاف طالب وطالبة، بينما ممارسي العلاج الطبيعي على أرض الواقع من أخصائيين يبلغون نحو 640 إخصائي.
قال سامي سعد – نقيب أطباء العلاج الطبيعي- في بيان له، “ازدادت أعداد كليات العلاج الطبيعي ما بين حكومية، خاصة، وأهلية أو أفرع أجنبية، الأمر الذي يجعلنا نراجع هذه المنظومة التعليمية وأثرها على مستوى المهنة والخريجين وسوق العمل والتوزيع الجغرافي، فلدينا حصر أكثر من (69) كلية علاج طبيعي في مختلف الجامعات والأقسام، لكنها غير موزعة جيدًا على الـ 27 محافظة داخل مصر.”
يتفق ذلك مع القانون رقم 3 لسنة 1985 الخاص بتنظيم مزاولة مهنة العلاج الطبيعي، والذي يحظر على الحاصلين على دبلوم التخصص في التدليك والكهرباء أو أية مؤهلات دراسية معادلة للعلاج الطبيعي العمل في أي مركز دون إشراف طبيب خريج الكلية مقيد في وزارة الصحة.
ولا يجوز لمن قيد اسمه بالسجلات مزاولة مهنة العلاج الطبيعي إلا بعد حلف يمين أمام وزير الصحة أو من ينيبه بأن يؤدي مهنته بأمانة وأن يحافظ على سر المهنة، وعلى من يخل بتلك المواد يقع تحت طائلة انتحال صفة طبيب يعاقب بالحبس مدة لا تجاوز سنتين وبغرامة لا تزيد على 500 جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.
وبين غياب الرقابة وانتشار الفوضى في قطاع العلاج الطبيعي في مصر، تتزايد آلام المرضى مع غياب المتخصصين بتلك المهنة وانتشار منتحلو الصفة، إضافة إلى مضاعفة أسعار الجلسات التي لا تخضع للتسعير من قبل الجهات المعنية.