ظل الجدل محتدمًا خلال الأيام الماضية حول معامل التحاليل الطبية في مصر، على خلفية قرار نقابات الصحفيين، والمحامين، والمهندسين بوقف تجديد تعاقداتها مع معامل “البرج”، “المختبر”، و”ألفا”، بسبب الزيادة الكبيرة التي فرضتها هذه المعامل على أسعار الخدمات الطبية المقدمة. وقد اعتبرت النقابات أن هذه الزيادة كانت بشكل مبالغ فيه، حيث تجاوزت الأسعار المعدلات المتفق عليها مع نقابة الأطباء، مما أدى إلى قرار تعليق التعاقدات مع هذه المعامل.
وقالت نقابة الصحفيين في بيان رسمي إن العقود المبرمة مع المعامل الثلاثة تنص على تحديد الأسعار وفقًا للمعايير المحددة من نقابة الأطباء، إلا أن المعامل خالفت هذه الاتفاقات مع زيادة الأسعار بنسبة تتجاوز 30% مقارنة بمعامل أخرى. وأضاف البيان أن المعامل رفعت الأسعار بنحو 42% في نهاية العام الماضي، وهو ما دفع النقابة إلى رفض هذه الزيادة ومطالبة المعامل بالالتزام بأسعار العام السابق، مما قوبل بالرفض من جانب المعامل، مما أدى إلى اتخاذ القرار بوقف التعاقد.
وفي الوقت الذي تشهد فيه سوق التحاليل الطبية في مصر حالة من الاضطراب المستمر منذ التسعينات، يتضح أن بعض المعامل تقوم بممارسات احتكارية، في حين أن بعض المعامل الأخرى تعمل دون ترخيص، مع غياب الرقابة الكافية من الجهات المختصة. هذا الأمر يعرض المرضى لخطر الممارسات غير المشروعة، ويجعلهم يتحملون عبئًا ماديًا وصحيًا بسبب فوضى السوق.
نوصي للقراءة: قانون المسؤولية الطبية: طبيب يستقيل كل ساعتين وخمس سنوات سجن تنتظر الباقين
بداية الأزمة
في أواخر عام 2018، كان اتحاد نقابات المهن الطبية بلا مدير يقر الزيادة السنوية، ولذلك قرر المسئولون صدور قائمة تدعى (المهن غير الطبية)، للتعامل بها مع النقابات الأخرى، بزيادة وقتها تزيد في عام 2019 على أسعار نقابة الأطباء بـ 10%، وحينها وافق المسئولون في نقابة الصحفيين على الزيادة بالمخالفة للتعاقد، ثم ظلت هذه الزيادة ترتفع سنويًا عامًا تلو الآخر حتى وصلت النسبة إلى 30%.
تعد معامل البرج والمختبر جزء من شركة التشخيص المتكاملة القابضة. تأسست عام 2012 في جزيرة جيرسي، وهي إحدى الجزر التابعة للتاج البريطاني، والمعروفة بكونها ملاذًا ضريبيًا تستخدمه الشركات لتجنب دفع الضرائب في البلاد التي تعمل فيها. ويتبعها عدة شركات تعمل في مصر والسودان والأردن والسعودية ونيجيريا، من بينها (المختبر – البرج – المختبر السودان – ألترا لاب – إيكو للتحاليل والأشعة – بيولاب).
تخصصت في مجال الرعاية الصحية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتقدم الشركة الخدمات التشخيصية وتشمل رعاية المرضى والتشخيص الجزيئي، واختبار الوراثة، والأشعة، إضافة إلى المختبرات الأخرى التي تعمل من خلال ست ماركات مختلفة، كما تشمل أنشطتها الطبية شركة وياك للأدوية ومجموعة عيادات جولدن كير. وارتفع عدد فروع معامل التحاليل ومراكز الأشعة التي تملكها الشركة من 235 فرعًا عام 2012، تتوزع على مصر والسودان والأردن والسعودية، إلى 608 معملًا مع نهاية العام الماضي. وتمتلك 567 فرعًا في مصر وحدها، بنسبة 93% من إجمالي فروعها في الدول المختلفة، وتستحوذ على أكثر من نصف إيرادات سوق التحاليل الطبية، بحسب موقعها الإلكتروني، رغم وجود نحو 18 ألف معمل مُرخص في مصر.
ووفق منشور منصة “متصدقش” على خلفية الخلاف القائم بين معامل التحاليل والنقابات الثلاثة، فإن شركة “IDH” تحمل رقم تسجيل 117257، يظهر عنوانها في (Capita Registrars (Jersey) Limited 12 Castle Street St Helier Jersey JE2 3RT)، وهو أحد عناوين تسجيل الشركات التي ظهرت في تسريبات “أوراق الجنة”، التي نشرها الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2017، لسجلات شركات وهمية مسجلة في ملاذات ضريبية لرجال أعمال ومستثمرين على مستوى العالم.
ولقد تنامى صافي ربح الشركة من 155 مليون جنيه في عام 2015، إلى 468 مليون جنيه في عام 2023. ورفعت الشركة متوسط الأسعار بنسبة 23% خلال العام الجاري، مقارنة بالعام الماضي، في حين وصل متوسط سعر الاختبار 142 جنيهًا مصريًا في الأشهر التسعة الأولى من عام 2024، مقارنة برقم 115 جنيهًا مصريًا المسجل في الأشهر التسعة الأولى من عام 2023، بحسب تقرير نتائج في الربع الثالث من 2024.
بحسب البيانات الرسمية للشركة، ساهم السوق المصري بـ 82.1% من إجمالي إيرادات الشركة، التي بلغت 4.1 مليار جنيه في التسعة أشهر الأولى من العام الماضي 2024، منهم صافي ربح 724 مليون جنيه، بنسبة ارتفاع 87% عن الفترة المماثلة من عام 2023.
وفي مايو 2021، حصلت الشركة المذكورة على قرض مدته ثمان سنوات بمبلغ 15 مليون دولار من مؤسسة التمويل الدولية، لتمويل خطط نموها عبر الأسواق الجديدة والحالية والمساعدة في توسيع الوصول إلى خدمات التشخيص عالية الجودة في الأسواق الناشئة عالية النمو، إضافة إلى وجودها الحالي في مصر، والأردن، ونيجيريا، وتعد مصر – بحسب بيانات الشركة- أعلى دولة ارتفعت فيها هامش الربحية من إيرادات الشركة قبل مصروفاتها خلال التسعة أشهر الأولى من عام 2024، مقابل الفترة نفسها من عام 2023. إذ زادت النسبة 35% في مصر.
نوصي للقراءة: الحكومة تُقيد الحق في الصحة: لائحةٌ جديدة تُعيدنا إلى الوراء
محاولات للتفاوض
من جانبه، يوضح نقيب الصحفيين خالد البلشي، أن النقابة من جانبها قامت بمحاولات للتفاوض خلال الفترة الماضية – بالتعاون مع نقابتي المهندسين والمحامين- مع المعامل الثالثة، لتطبيق الأسعار المقررة من جانب اتحاد نقابات المهن الطبية، لاسيما أن تلك الأسعار ارتفعت بنسبة 20%، ما قوبل بالرفض من تلك المعامل.
وعرضت النقابة زيادة 5% على الأسعار المقررة في محاولة منها لحل المشكلة، لكن المعامل الثلاثة تعنت في قرارها ورفضت ذلك الحل أيضًا، ما دفع النقيب للتواصل مع عبد الحليم علام نقيب المحامين، وطارق النبراوي نقيب المهندسين، لرفض التعاقد مع تلك المعامل التي تمارس ممارستها الاحتكارية على سوق التحاليل الطبية في مصر، حسب “البلشي”.
ووفق بيانات شركة “التشخيص المتكاملة” فقد قدمت الخدمة لـ 6.2 مليون مريض في مصر خلال الأشهر التسعة الأولى من 2024، يمثلون 94% من المرضى الذين تلقوا خدماتها في مختلف الدول.
تأسست شركة “التشخيص المتكاملة”، عبر سلسلة من الاستحواذات أجرتها مجموعة أبراج كابيتال الإماراتية في السوق المصري، بدأت عام 2008 بشراء 76.9% من سلسلة معامل البرج وارتفعت إلى 99.3% بحلول 2012، وهو نفس العام الذي استحوذت فيه على 99% من معامل المختبر. ونتج عن الصفقتين التي بلغت قيمتهما الإجمالية ملياري و44 مليون جنيه، سيطرة “أبراج” على نصف سوق التحاليل الطبية الخاصة في مصر، بحسب بيانات الشركة.
وفي عام 2016، تخارجت “أبراج كابيتال” من شركة التشخيص المتكاملة القابضة، بعد أن ساعدت في خلق كيان شبه احتكاري يتحكم في الأسعار، ومسيطر على نحو 50% من سوق التحاليل الطبية، فضًلا عن الأشعة، وخدمات طبية أخرى.
تعليقًا، يؤكد وائل جمال – الباحث الاقتصادي- أن شركة التشخيص المتكاملة أكبر لاعب في سوق التحاليل الطبية في مصر، موضحًا أن شركة أبراج الإماراتية كان لها علاقة بالشركة وهي التي أدارت عمليات الاستحواذ على البرج والمختبر، لاسيما أنها كانت المساهم الأساسي في شركة التشخيص المتكاملة التي تأسست عام 2012. و تخارجت من الشركة بعد أزمة الفساد اللي أطاحت بها ولا تمتلك أي حصة بالشركة حاليًا.
يضيف خلال حديثه إلى زاوية ثالثة أن الشركة تمتلك استثمارات في دول أخرى، ولكن تعتبر السوق المصرية هي الأكبر بما يتجاوز 80٪ من دخلها، وتستحوذ على ما يزيد من نصف عوائد القطاع، والتي تضم كافة معامل المستشفيات العامة والخاصة.
وفي هذا السياق، يبين “جمال” أن الشركة حققت استفادة كبيرة خلال أزمة كورونا، ما مكنها من تحقيق حجم أرباح ضخمة خلال عام 2021 ، إذ تخطى عدد المرضي الذين تم التعامل معهم عشرة ملايين.
ويؤكد الباحث الاقتصادي وجود سيطرة على هذا القطاع، ما يعتبر أحد الممارسات الاحتكارية التى تحتاج إلى تدخل جهاز حماية المنافسة ومنع الاحتكار حتى لا يتم التحكم بالأسعار من قبل مؤسسات بعينها.
يقول إنه وفقًا للأرقام الرسمية التي تفصح عنها الشركة، فإنها تستحوذ على نسب تتخطى الـ 50% من قطاع التحاليل الطبية في مصر، إضافة إلى أن كثير من المعامل الصغيرة التي تمتلك الأجهزة الطبية المطلوبة تعتبر مجرد وسيط بين المريض والمعامل الكبرى، ما يجعلها غير قادرة على المنافسة بشكل عادل.
ويشيد “جمال” بموقف النقابات الثلاثة التي لم تخضع للممارسات الاحتكارية لتطبيق الأسعار المخالفة من قبل هذه الشركة، وذلك تطبيقًا لمبدأ العرض والطلب لا سيما أن عدد أعضاء هذه النقابات كبير بما يمثل شريحة كبيرة من العملاء، مشددًا على ضرورة قيام جهاز المنافسة ومنع الاحتكار بالنظر لهذا القطاع وإصدار البيانات التي تؤكد وجود الممارسات الاحتكارية أو تنفيها.
وفي سياق متصل، يؤكد طارق النبراوي – نقيب المهندسين- أن موقف النقابات الثلاثة جاء نتيجة إصرار معامل التحاليل الطبية على تطبيق أسعار مرتفعة بشكل كبير عن التى تم تحديدها من قبل نقابة المهن الطبي، بالرغم من محاولات التفاوض التي استمرت قرابة شهرين، مبينًا خلال حديثه معنا أن المغالاة في الأسعار المقررة تؤثر على الطرفين سواء العضو أو النقابة.
يشير إلى أن “المعامل لم تتراجع عن موقفها حتى الآن، لذلك عمدت النقابة إلى توفير البدائل من خلال التعاقد مع معامل أخرى تتمتع بنفس الكفاءة والجودة للأعضاء وتلتزم بتطبيق الأسعار المقررة، كما أنها تتميز بالانتشار الجيد خلال المحافظات المختلفة.”
يعلق على الممارسات الاحتكارية التي يعاني منها سوق التحاليل الطبية. يقول: “هذه القضية تتمثل مشكلة تواجه كافة المواطنين، ما يتطلب تدخل أجهزة الدولة المعنية لتنظيم عمل هذه المعامل بما يتوافق مع القوانين المنافسة والشفافية.”
نوصي للقراءة: انسحاب سعودي إماراتي ومحلي يعطل مشروعات ضخمة في مصر
فوضى سوق المعامل الطبية
بين الحين والآخر تقوم الإدارة المركزية للمؤسسات العلاجية غير الحكومية والتراخيص، بإصدار قرارات لإغلاق العديد من المعامل الطبية، وذلك لعدم التزامها باشتراطات التراخيص، أو عدم تطبيق سياسات مكافحة العدوى، وأيضًا تواجد عمالة غير مؤهلة.
يؤكد علاء غنام – مسئول الحق في الصحة في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية وخبير إصلاح القطاع الصحي-، أن سوق المعامل الطبية في مصر يعاني من الممارسات الاحتكارية من قبل بعض الشركات التي تفرض أسعارها، وعدم قيام إدارة العلاج الحر بمواجهة هذه الكيانات لتغير أسعارها يضاعف من تلك الممارسات، إضافة إلى معاناته من الفوضى وعدم التنظيم، في ظل وجود كيانات تقوم بالعمل في هذا التخصص الطبي دون الالتزام بالمعايير اللازمة.
يبين خلال حديثه معنا أنه يوجد خلل في تسعير أغلب الخدمات الطبية سواء التحاليل أو الإشاعات في القطاع الطبي في مصر، ما يتزايد مع غياب دور الجهات الرقابية، مشددًا على أهمية توحيد أسعار تلك الخدمات، مؤكدًا أن هذا حل تلك المشكلات يكمن في تطبيق القانون الخاص بمنع الممارسات الاحتكارية، وأيضًا زيادة الرقابة على الكيانات غير المصرح لها بالعمل في هذا النشاط لحماية المواطنين وتقديم الخدمات الرعاية اللازمة بما يتوافق مع القوانين.
“موقف النقابات الثلاثة يعتبر خطوة أولية لفتح ملف قطاع التحاليل والإشاعات الطبية، وتواجه نحو دراسة المشكلات التي يعاني منها في محاولة لوضع الحلول اللازمة لحماية المواطنين”، إضافة إلى أن غياب الرقابة على المعامل الطبية، خاصة الموجودة فى الريف ومحافظات الصعيد، تسبب فى خلق نوع من الفوضى فى آليات عمل هذه المعامل، وفى نتائج تحاليلها، يقول “غنام”.
يضيف مسئول الحق في الصحة في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أنه ليس هناك رقم محدد لعدد معامل التحاليل في مصر، طبقًا للقانون رقم 367 الصادر عام 1954 فإنه يحق لكل من خريجى كليات (العلوم، الطب، الصيدلة، البيطرى، الزراعة( الحصول على ترخيص مزاولة مهنة التحاليل.
وفي هذا السياق توضح رشا عبد الهادي* – طبيبة تعمل بأحد معامل التحاليل الطبية بمحافظة الجيزة-، أن هذا القطاع يعاني من ممارسات كثيرة غير قانونية، بداية من قيام آلاف المعامل بمزاولة المهنة دون ترخيص أو تأجيرها من آخرين لاسيما في المناطق الريفية ومحافظات الصعيد، مبينة أنها قامت بالتدريب في العديد منها حتى تتمكن من الالتحاق بالعمل في أحد المعامل الكبرى بمحافظاتها.
وتبين أن أغلب هذه المعامل لا تمتلك الأجهزة اللازمة للقيام بإجراء التحاليل الطبية، ما يجعلها تقوم بإرسال العينات التى يجب تحليلها إلى أحد المعامل الكبرى عن طريق مندوب يحضر يوميًا لأخذ العينات مقابل نسبة السعر، وهو ما لا يمكنها من المنافسة بشكل عادل مع المعامل، إضافة إلى قيام الكثير من تلك المعامل بالتعاقد مع الأطباء لتحويل المرضى إليهم مقابل نسبة يحصل عليها الطبيب بشكل شهري، ما يضعف توزيع آلية العمل بين تلك المعامل بشكل عادل.
تضيف طبيبة التحاليل أن “الملاءة المالية القوية التى تتسم بها الشركات الكبرى لمعامل التحاليل في مصر، تمكنها من التحكم في هذا القطاع وأسعاره، إلى جانب توسعاتها في محافظات ومدن مصر يجعلها الوجهة الرئيسية لكثير من المرضى”، مؤكدة أن معامل “البرج والمختبر وألفا” تنفرد بإجراء بعض التحاليل الطبية في مصر، خاصة تلك التي تحتاج أجهزة باهظة الثمن مثل بعض أنواع تحاليل الغدد، ما يجعل الأطباء يوجهون مرضاهم لمراكز التحاليل التابعة لها.
ومع استمرار الممارسات الاحتكارية والفوضى في قطاع التحاليل الطبية في مصر، تتفاقم معاناة المرضى، لاسيما مع فرض الأسعار غير العادلة، و قيام كيانات غير مؤهلة بالعمل في هذا القطاع الطبي.