إغلاق 120 مكتبة وبيت ثقافة في مصر.. سياسة الانكماش الثقافي تكتسب طابعًا رسميًا

وزارة الثقافة المصرية تقرر إغلاق 120 وحدة ثقافية، ومثقفون وبرلمانيون يحذرون من خصخصة الثقافة وتفكيك دور الدولة التنويري.
Picture of آية ياسر

آية ياسر

تشهد الأوساط الثقافية والفنية في مصر حالة من الغضب والاستياء، عقب قرار وزارة الثقافة بإخلاء 120 مقرًا من بيوت الثقافة والمكتبات المؤجرة في عدد من المحافظات، وتسليمها إلى مالكيها، مع إعادة توزيع العاملين فيها. وقد اعتبر عدد من المثقفين أن القرار يمثّل تراجعًا خطيرًا في دعم الثقافة العامة، ويُسهم في تقويض العدالة الثقافية التي يكفلها الدستور المصري.

وينص الدستور، في مادته رقم (48) المعدّلة عام 2019، على أن “الثقافة حق لكل مواطن، تكفله الدولة وتلتزم بدعمه وإتاحته لجميع فئات الشعب دون تمييز”. ويرى منتقدو القرار أن انسحاب الدولة من دعم المساحات الثقافية، خصوصًا في المناطق المهمشة، يفتح المجال أمام تفشي الجهل والانغلاق الفكري، ويُضعف الدور التنويري للمؤسسات الثقافية.

القرار صدر عن اللواء خالد اللبان، مساعد وزير الثقافة لشؤون رئاسة الهيئة العامة لقصور الثقافة، بتكليف رؤساء الأقاليم الثقافية باتخاذ الإجراءات القانونية لإعادة توزيع العاملين في البيوت والمكتبات التي تقرر إخلاؤها، وذلك بناءً على موافقة مجلس إدارة الهيئة في جلسته رقم (324) المنعقدة بتاريخ 5 مارس 2025، والمعتمد محضرها من وزير الثقافة بتاريخ 13 مارس 2025. وحدد القرار مهلة نهائية لتنفيذ الإخلاء في موعد أقصاه 29 مايو 2025.

تواجه الهيئة العامة لقصور الثقافة تحديات مزمنة تتعلق بضعف الميزانية المخصصة للنشاط الثقافي، والتي لا تتجاوز 87 مليون جنيه سنويًا، فضلًا عن نقص الكوادر المتخصصة في المجالات الثقافية والفنية، وافتقار العديد من منشآتها للبنية الأساسية التي تؤهلها لاستقبال الجمهور. هذا ما أكده وزير الثقافة المصري، الدكتور أحمد فؤاد هنو، خلال كلمته أمام الجلسة العامة لمجلس الشيوخ في يناير من العام الماضي.

ورغم هذه الظروف، أظهرت بيانات الوزارة أن الهيئة نجحت خلال عام 2024 في تنفيذ أكثر من 90 ألف نشاط ثقافي وفني، استفاد منها نحو 4 ملايين مواطن في مختلف المحافظات، ما يعكس حجم الضغط الواقع على هذه المؤسسة في ظل محدودية مواردها.

وبحسب ما أفاد به مسؤولون في وزارة الثقافة، فإن عدد المواقع الثقافية في مصر يبلغ حاليًا 619 موقعًا، ومع تنفيذ قرارات الإغلاق الأخيرة التي تشمل قرابة 100 بيت ثقافة، سيتراجع العدد إلى ما يقرب من 500 موقع فقط. ويؤكد هذا الاتجاه التنازلي ما ورد في تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الصادر عام 2022، والذي أشار إلى أن عدد قصور وبيوت الثقافة انخفض من 594 موقعًا في عام 2016 إلى 347 فقط بحلول عام 2021، فيما سجل عام 2017 بداية الانحدار الحاد، إذ بلغ عددها آنذاك 336 موقعًا فقط.



نوصي للقراءة: التراث المصري في المزاد..إرث حضاري مهدد بالسرقة

عوائد الثقافة لا تُقدّر بمال

يكشف مسؤول في وزارة الثقافة – فضّل عدم ذكر اسمه – في حديثه إلى زاوية ثالثة، أن قرار إغلاق المواقع الثقافية سيطال عددًا كبيرًا من المحافظات، على رأسها محافظة سوهاج التي تضم 19 موقعًا ثقافيًا، بينها أربعة قصور: قصر ثقافة سوهاج المتوقف عن العمل منذ سنوات بسبب أعمال الترميم، قصر طهطا، قصر المنشأة، وبيت ثقافة أخميم الذي أُنشئ حديثًا. ووفقًا للقرار الوزاري الأخير، سيتم إغلاق 15 موقعًا في سوهاج وحدها، تتنوع بين بيوت ثقافة ومكتبات، معظمها مؤجرة.

وفي محافظات أخرى، يُتوقع إغلاق 3 بيوت ثقافة ومكتبة في فرع ثقافة الإسكندرية، و4 بيوت ثقافة و5 مكتبات في البحيرة، و7 بيوت و4 مكتبات في الغربية، إضافة إلى 11 بيتًا و4 مكتبات في المنوفية، وبيت ثقافة واحد في فرع مطروح، وفق ما أفاد به المصدر نفسه.

من جانبه، يرى الشاعر يسري حسان أن قصور الثقافة تمثّل أحد أعمدة البنية التحتية الثقافية في مصر، وتعود جذورها إلى تأسيس “الجامعة الشعبية” و”جهاز الثقافة الجماهيرية” في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، قبل أن تتحول إلى هيئة مستقلة. وتضم الهيئة حاليًا نحو 600 قصر وبيت ثقافة تقدم خدمات مجانية للمواطنين في مختلف المحافظات، عبر أندية للأدب، والمسرح، والموسيقى العربية، والإنشاد الديني، وفعاليات موجهة للمرأة والطفل. ويُقدّر عدد العاملين فيها بنحو 15 ألف موظف، كثيرٌ منهم عُيّنوا دون تدريب كافٍ، إلا أن المؤسسة لا تزال، بحسب حسان، تؤدي دورًا إيجابيًا يستحق الدعم.

ويعتبر حسان أن هناك خللًا في فهم مفهوم “الاستثمار الثقافي” داخل أروقة وزارة الثقافة، إذ تُعامَل الثقافة كأنها قطاع ربحي، في حين أن عوائدها لا تُقاس بالمال، بل تتمثل في ترسيخ الوعي، وتنمية الإدراك العام، وحماية الشباب من التطرف والانغلاق. ويضيف أن دعم الثقافة لا يقل أهمية عن دعم رغيف الخبز أو تسليح الجيوش، محذرًا من أن قرارات الإغلاق قد تمهد لخصخصة قطاع قصور الثقافة، وهو ما يراه “خطًا أحمر”.

وفي تصريح  إلى زاوية ثالثة، أشار إلى أن ميزانية وزارة الثقافة تبلغ نحو مليار و800 مليون جنيه، يذهب الجزء الأكبر منها إلى أجور العاملين، بينما تُخصص نسبة أقل للنشاط الثقافي. وأضاف أن الوزارة أدرجت مؤخرًا مشروع “سينما الشعب” ضمن أنشطتها، وهو مشروع يهدف إلى تحقيق إيرادات تجارية، تُقدَّر بنحو 6 ملايين جنيه سنويًا. إلا أن حسان يرى أن مقارنة هذه الإيرادات بحجم الإنفاق العام على القطاع تُظهر أن نموذج الاستثمار المعتمد “سطحي”، وأن وزارتي الثقافة والتعليم لا ينبغي أن تعملا بمنطق الربحية.

ويقترح الشاعر أن يكون الاستثمار الثقافي الحقيقي من خلال أنشطة مدروسة لا تمس جوهر الخدمة المجانية، مثل إنشاء مراكز تدريب على الحرف اليدوية والعزف الموسيقي. ويضيف: “هناك على ما يبدو صراع غير معلن بين الوزارات حول من يُدر أموالًا أكثر إلى خزينة الدولة، وهو منطق يحوّل المواطن إلى زبون، والدولة إلى تاجر”، مؤكدًا أن الأولوية في ظل ما تشهده البلاد من فقر وجهل ومرض، يجب أن تكون لضمان خدمات التعليم، والصحة، والثقافة، بشكل مجاني وشامل.

وتُعد الهيئة العامة لقصور الثقافة إحدى أبرز المؤسسات الثقافية الرسمية في مصر، إذ تأسست عام 1945 تحت مسمى “الجامعة الشعبية”، وتحولت عام 1965 إلى “الثقافة الجماهيرية”، ثم صدر قرار جمهوري عام 1989 بتحويلها إلى هيئة عامة ذات طبيعة خاصة. وتضطلع الهيئة بمهمة رفع المستوى الثقافي وتوجيه الوعي القومي في مجالات الفنون، والآداب، والموسيقى، والطفل، والمرأة، والمسرح، والمكتبات، وغيرها، في مختلف المحافظات.

 

نوصي للقراءة: معرض الرباط للكتاب يشهد غيابًا لافتًا لدور النشر المصرية

الثقافة في خطر

يُبدي الكاتب والناقد الدكتور إيهاب بديوي قلقه من التوجهات الراهنة لوزارة الثقافة، معتبرًا أن المؤشرات منذ تولّي الوزير الحالي تُنذر بتحولات سلبية واضحة. ويقول في تصريح إلى زاوية ثالثة إن الوزير لم يُبدِ اهتمامًا جادًا بإصلاح الترهلات الإدارية أو الاستماع لملاحظات المثقفين، بل ترك الإدارة اليومية لقدامى الموظفين، وذهب في اتجاه تكريمهم والمشاركة في الفعاليات والسفريات، دون معالجة الاختلالات البنيوية في أداء الوزارة.

ويضيف بديوي أن أولويات الوزارة كان يجب أن تتركز على دعم فروع الثقافة في المحافظات، وتحسين بنيتها، بدلًا من اتخاذ قرارات تؤدي إلى التخلص من المراكز الثقافية بحجة تقليص الأعباء. ويصف هذا النهج بأنه اختزال للنشاط الثقافي في بعض الفعاليات الرمزية داخل أندية الأدب والمراكز الثقافية، التي تعاني أصلًا من نقص التمويل وغياب الدعاية، ويؤكد أن المثقفين الحقيقيين هم من يتحملون العبء عبر الجهود الذاتية.

ويعتبر بديوي أن إغلاق أي مركز ثقافي، بغض النظر عن حجمه أو مستوى نشاطه، يمثّل فشلًا إداريًا واضحًا، ويصبّ في مصلحة القوى الظلامية التي تسعى للسيطرة على وعي الشباب، مؤكدًا أن “الثقافة في خطر والمستقبل يتجه نحو ظلام دامس”، على حد تعبيره.

من جهته، يرى الروائي إبراهيم عبد المجيد، في حديثه إلى زاوية ثالثة، أن شبكات قصور وبيوت الثقافة، التي تضم نحو 150 قصرًا ثقافيًا في المدن وقرابة 300 بيت ثقافة في القرى، ظلت تلعب دورًا ثقافيًا محدودًا منذ الثمانينيات والتسعينيات، حيث واجهت صعوبات متعددة، كان من أبرزها التراجع الجماهيري تحت ضغط الخطاب المحافظ الذي روّج لتحريم الفنون التشكيلية والموسيقى والمسرح.

ويضيف عبد المجيد أن وزارة الثقافة تستخدم حاليًا ذريعة الإيجارات الرمزية للمراكز المستأجرة كتبرير لقرارات الإغلاق، في وقت كان يجب فيه التفكير في بدائل إنتاجية. ويقترح تحويل بيوت الثقافة إلى مراكز للفنون الشعبية، تضم ورشًا لصناعة الملابس التراثية، والتحف، والتماثيل، مع تقديم خدمات تدريبية للمواطنين مقابل اشتراكات رمزية، وبيع إنتاج تلك الورش لدعم استقلالها المالي. كما يدعو إلى تفعيل شراكات مع شركات القطاع الخاص لرعاية وتطوير الفعاليات الثقافية، بدلًا من تقليص المساحات المتاحة للعمل الثقافي.

 

مصادرة ومنع: كيف يعاني قطاع النشر في مصر من التضييق؟

تحركات برلمانية

أثار قرار إغلاق 120 وحدة ثقافية، من بيوت ومكتبات، موجة من الاستياء داخل مجلس النواب المصري، ودفع بعدد من النواب إلى تقديم طلبات إحاطة عاجلة للحكومة، محذرين من تداعيات هذه الخطوة على المشهد الثقافي في البلاد.

ففي 13 مايو الجاري، تقدّمت النائبة الدكتورة مها عبد الناصر بطلب إحاطة موجّه إلى وزير الثقافة ورئيس مجلس النواب، انتقدت فيه ما وصفته بـ”الخطة الممنهجة” لإغلاق عدد كبير من قصور وبيوت الثقافة، واصفة ذلك بأنه “كارثة ثقافية تمسّ أحد أهم أدوات الدولة في نشر التنوير ومواجهة الجهل والتطرف”. واعتبرت أن الإغلاقات تتم إما تحت ذريعة التطوير، أو باسم ترشيد الإنفاق، أو بادعاء ضعف إقبال الجمهور، وهو ما اعتبرته توجهًا عامًا نحو التخلي التدريجي عن الدور التنويري للدولة.

وأوضحت عبد الناصر أن أكثر من 70 قصرًا وبيت ثقافة ومكتبة مغلقة تمامًا أو تعمل جزئيًا، رغم الإنفاق الكبير سابقًا على إنشائها وتطويرها، دون مردود فعلي. كما أشارت إلى وجود أكثر من 300 منشأة ثقافية على مستوى الجمهورية لا تقدم أي خدمات حقيقية، نتيجة غياب العاملين، أو تهالك الأبنية، أو نقص الميزانيات، أو غياب البرامج. وقدّمت أمثلة من محافظات عدة، منها محافظة سوهاج، حيث تم حصر 11 موقعًا مغلقًا أو يعمل دون أنشطة، مثل قصر ثقافة طهطا المغلق منذ سنوات للصيانة، وبيت ثقافة المنشأة الذي وصفته بـ”الهيكل الفارغ”. كما رصدت في قنا إغلاق بيت ثقافة الوقف وتعطّل مكتبة العليقات وبيت ثقافة أبو تشت، وفي أسيوط أُغلق بيت ثقافة ديروط منذ عام 2020، وأصبح قصر ثقافة القوصية شبه مهجور.

وكشفت النائبة عن تقارير صادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة تفيد بأن أكثر من 120 بيت ثقافة ومكتبة في القرى تُدار دون مدير دائم، ولا تقدم أنشطة فعلية، وبعضها يُستخدم كمخازن أو يُترك مهجورًا، فيما لم تنظم 60% من تلك المؤسسات أي فعالية خلال عام 2024. وأضافت أن معظم ميزانية الهيئة تُنفق على أجور وبدلات إدارات لا تتابع عملها ميدانيًا، مشيرة إلى أن محافظات مثل كفر الشيخ، والغربية، والمنوفية شهدت تحويل بيوت ثقافة إلى مقرات إدارية صامتة أو تركها للانهيار نتيجة غياب الصيانة.

وانتقدت عبد الناصر غياب خطة حكومية واضحة لإعادة تشغيل المواقع المغلقة أو تطويرها، محذّرة من تصريحات بعض المسؤولين التي تُلمّح إلى إمكانية تحويل هذه المؤسسات إلى مشاريع “استثمارية ثقافية” بالشراكة مع القطاع الخاص، مما قد يؤدي، على حد تعبيرها، إلى “خصخصة الثقافة” وتحويلها إلى سلعة تُتاح فقط لمن يملك ثمنها، بدل أن تظل حقًا عامًا لجميع المواطنين.

وحذّرت من أن ما يحدث هو “انسحاب صريح من دور الدولة في بناء الإنسان المصري”، يبدأ بهدم المكتبات وتحويل بيوت الثقافة إلى أطلال، وينتهي بجيل لا يعرف الكتاب أو المسرح أو الموسيقى أو الفكر الحر. ووصفت ذلك بأنه “تفريط في الأمن القومي الناعم وضرب مباشر لهوية مصر الثقافية”، مطالبة بإلغاء قرارات الإغلاق فورًا، ووضع خطة شاملة لتحديث وتوسيع المؤسسات الثقافية، مع تحديد جدول زمني لإعادة فتح جميع المواقع المغلقة خلال مدة لا تتجاوز ستة أشهر، إلى جانب تعزيز القوافل والأنشطة الثقافية في المناطق المحرومة.

وفي اليوم التالي، 14 مايو، تقدّم النائب الدكتور فريدي البياضي، عضو مجلس النواب ونائب رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، بطلب إحاطة عاجل موجّه إلى رئيس الوزراء ووزير الثقافة، على خلفية ما تردد بشأن خطط لتحويل بعض بيوت وقصور الثقافة إلى رياض أطفال “حضانات”، بالتعاون مع وزارة التضامن الاجتماعي. وعبّر البياضي عن رفضه لهذا التوجه، واصفًا إياه بـ”العبث بالدور الثقافي للدولة”.

وأوضح أن تحويل القصور إلى حضانات لا يمثل تطويرًا، بل تفريغًا لمحتواها الثقافي في وقت تحتاج فيه مصر إلى تعزيز الفكر ومواجهة التطرف عبر المعرفة والفن. وطالب الحكومة بوقف أي إجراءات في هذا الاتجاه، وإعلان خطة واضحة لتطوير قصور الثقافة، وفتح تحقيق عاجل في أسباب تدهور أوضاعها، ومحاسبة المسؤولين عن الإهمال المتراكم في هذا الملف.

في مذكرة تفسيرية مرفقة بطلب إحاطة قدمته إلى مجلس النواب، واطلعت زاوية ثالثة على نسخة منها، أكدت النائبة الدكتورة ضحى عاصي أن إغلاق بيوت ومكتبات الثقافة يمثّل تراجعًا خطيرًا عن الدور التنويري للدولة، وإضعافًا مباشرًا لأدوات بناء الوعي الجمعي، لا سيما في القرى والمناطق المهمشة.

وشددت عاصي على أن الثقافة ليست ترفًا، بل حق دستوري منصوص عليه في المادة (48) من الدستور المصري، التي تُلزم الدولة بتوفير الثقافة للجميع دون تمييز. وأشارت إلى أن بيوت الثقافة لا يجب النظر إليها باعتبارها منشآت خاسرة، بل بوصفها مساحات مقاومة للجهل والتهميش، تلعب دورًا رئيسيًا في ضمان الحد الأدنى من الخدمات الثقافية للمواطنين في المناطق النائية، ووجودها الرمزي والمكاني يُسهم في دعم التماسك المجتمعي. وأوضحت أن تقييم هذه المؤسسات بمنطق الجدوى الاقتصادية يعكس خللًا عميقًا في فهم الثقافة بوصفها خدمة عامة لا يُقاس مردودها بالأرباح.

واعتبرت النائبة أن ضعف الكفاءة أو قلة النشاط في بعض المواقع لا يبرران الإغلاق، بل تستدعي تطوير نماذج تشغيل مرنة وفعالة. وأشارت إلى أن ما يُقدَّم رسميًا على أنه “إعادة تنظيم” يبدو، في واقع الأمر، أقرب إلى “انكماش ثقافي”، يؤدي إلى تقليص التغطية الجغرافية للثقافة ويقوّض حضورها الرمزي والاجتماعي، بصرف النظر عن النوايا أو الخطابات الرسمية.

وتطرقت المذكرة إلى وجهة النظر الرسمية التي تُبرّر قرارات الإغلاق بعدم تحقيق “الجدوى الاقتصادية” في بعض البيوت الثقافية، من حيث عدد الزوار أو حجم التفاعل المجتمعي، ووصفت هذا المنطق بأنه غير قابل للتطبيق على الثقافة، تمامًا كما لا تُغلق المستشفيات أو المدارس بسبب قلة الإقبال، بل تسعى الدولة إلى تحسين خدماتها. ولفتت إلى أن انخفاض التفاعل لا يعكس فشل المؤسسة نفسها، بل ضعف الرؤية الإدارية، وغياب البرامج الجاذبة، والقصور في الترويج.

وحول الوضع البنيوي لبعض البيوت الثقافية، قالت عاصي إن عدداً منها يقع في مبانٍ متهالكة أو غير مطابقة لمعايير السلامة، وهو ما تستخدمه الوزارة ذريعة للإغلاق، متسائلة: “لماذا لا يتم تخصيص ميزانيات للترميم؟”، خصوصًا أن الكثير من تلك البيوت مقامة على أراضٍ مملوكة للدولة أو في مبانٍ حكومية، ما يجعل تطويرها أكثر جدوى من الإغلاق. وشددت على أن مسؤولية تدهور حال تلك الأبنية لا تقع على الجمهور، بل على الدولة التي أهملت صيانتها لعقود.

كما تطرقت إلى الجانب الإداري، منتقدة ما وصفته بـ”الخلل المزمن في الهيكل الوظيفي”، مؤكدة أن الحل لا يكون بإغلاق المؤسسات، بل بإعادة هيكلة الوظائف، وتوفير برامج تدريب وتأهيل، ووضع آليات صارمة لتقييم الأداء والمساءلة. وأشارت إلى أن إغلاق البيوت لن يؤدي إلى تقليص عدد الموظفين، لأنهم على قوة الدولة، وسيتم نقلهم إلى جهات أخرى تعاني أصلًا من التكدس الإداري، مما يعني انتقال المشكلة بدلًا من حلها، واستمرار الأعباء المالية على الموازنة دون تغيير يُذكر. كما حذّرت من أن قرار الإغلاق سيمسّ بشكل مباشر قرابة 1900 موظف، سيُطلب من العديد منهم العمل في مناطق بعيدة عن مقارّ سكنهم، بما يحمله ذلك من أعباء معيشية ونفسية واضطرابات اجتماعية.

وفي ما يتعلّق بالمقرات المستأجرة، فنّدت النائبة تأثير قانون 2022 الخاص بالعقود الإيجارية للجهات الاعتبارية، والذي اعتُبر مبررًا لزيادة الإيجارات أو تسليم بعض المواقع. وأكدت أن القانون لا يسري على كل البيوت، إذ أن عددًا كبيرًا منها مقام على أراضٍ مخصصة للهيئة العامة لقصور الثقافة، أو في مبانٍ حكومية تؤجر بأسعار رمزية.

وانتقدت المقترحات التي طرحتها الوزارة، مثل “العربات الثقافية المتنقلة”، مؤكدة أنها ليست بدائل حقيقية لمراكز ثقافية مستقرة تقدم خدمات مستدامة للمجتمع. ووصفت هذه الحلول بأنها مؤقتة، غير عملية، ولا عادلة، ولا تفي بالدور المطلوب من الدولة في تعميم الثقافة على مستوى جغرافي عادل.

واختتمت النائبة تصريح إلى زاوية ثالثة: “وزارة الثقافة قدمت وجهة نظرها بأن هذه البيوت لا تعمل بشكل جيد، وبالتالي ليست ضرورية، وقد دار بيننا وبين الوزير نقاش حاد بهذا الشأن خلال مناقشة ميزانية الوزارة. وقدّمت، مع عدد من النواب، طلبات إحاطة بهذا الملف، لكنها لم تُدرج على جدول المناقشات حتى الآن”.

عقدت لجنة الإعلام والثقافة والآثار بمجلس النواب اجتماعًا في 17 مايو الجاري، حضره الدكتور أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة، وعدد من قيادات الوزارة، إلى جانب المستشار محمود فوزي، وزير الشؤون النيابية والتواصل السياسي. وخلال الجلسة، أكد وزير الثقافة أن قرار إغلاق 120 وحدة ثقافية استند إلى مراجعة دقيقة لأداء تلك الوحدات، مشيرًا إلى أن بعضها، كمكتبات لا تتجاوز مساحتها 9 أمتار مربعة، يعمل بها ما يقرب من 9 موظفين دون تقديم أي نشاط ثقافي فعّال. وأضاف أن الوزارة تمتلك حاليًا 619 وحدة ثقافية على مستوى الجمهورية، وأن 500 منها تُعد كافية لتغطية الاحتياجات الثقافية بالمحافظات.

في المقابل، يرى عدد من المثقفين والنواب البرلمانيين أن قرار وزارة الثقافة لا يمكن اعتباره مجرد إجراء إداري يهدف إلى ترشيد الموارد، بل يُنظر إليه باعتباره امتدادًا لنهج سياسات تتجه إلى تقليص الدور التنويري للمؤسسات الثقافية العامة. ويؤكد هؤلاء أن هذا التوجّه ينذر بتحوّل تدريجي في فلسفة الدولة الثقافية، من اعتبار الثقافة حقًا دستوريًا مكفولًا للجميع، إلى جعلها امتيازًا نخبويا محصورًا في من يستطيع الدفع، في ظل مؤشرات متزايدة على خصخصة بعض الخدمات الثقافية.

وبدلًا من تطوير هذه المؤسسات ومعالجة مشكلاتها الإدارية والبنيوية، تذهب الوزارة – وفقًا لمنتقدي القرار – إلى إغلاقها تحت ذرائع تتعلق بالكفاءة أو الموازنة، وهو ما يُخلف آثارًا تتجاوز الجوانب الإدارية لتطال البنية الثقافية للمجتمع بأكمله. ويعتبر المعترضون أن تقليص المساحات الثقافية، في وقت تتزايد فيه التحديات المعرفية والمجتمعية، يشكّل خطرًا على مستقبل الوعي العام، ويُضعف قدرة الدولة على تعزيز قيم الانفتاح والخيال والإبداع، الضرورية لحماية الحاضر وصياغة المستقبل.

آية ياسر
صحافية وكاتبة وروائية مصرية حاصلة على بكالوريوس الإعلام- جامعة القاهرة.

Search