حق الانتفاع يُسحق بالجرافات: ما وراء إزالات قرية الفردوس ببورسعيد

تنفذ محافظة بورسعيد حملة هدم في قرية الفردوس رغم وجود عقود قانونية وأحكام قضائية نهائية تؤكد ملكية السكان، دون إخطار أو تعويض، ما يثير تساؤلات دستورية وقانونية واسعة.
Picture of شيماء حمدي

شيماء حمدي

في عام 2004، حوّل “العربي علام” الشاليه الذي تمتلكه أسرته منذ ما قبل عام 2000 في قرية الفردوس غرب بورسعيد، إلى مسكن دائم له ولزوجته عقب تقاعدهما من العمل في قطاع التربية والتعليم. بعد أن منح الزوجان منزلهما الأصلي لابنهما ليبدأ حياته الزوجية، لم يكن أمامهما سوى الشاليه الصيفي كملاذ دائم.

تقع قرية الفردوس على شاطئ البحر المتوسط، على بُعد نحو 5 كيلومترات من وسط مدينة بورسعيد، وتضم أكثر من 1200 شاليه، ما بين إقامة موسمية وسكن دائم.

“لم نكن نملك رفاهية شراء عقار جديد لابني، تخلّينا عن بيتنا من أجله، وسكنا الشاليه. لم يكن مجرد مكان إقامة، بل كل ما نملك من عمرنا وشقائنا”، يقول علام لـ”زاوية ثالثة”، مستعيدًا مشهد فجر يوم 6 مايو، حين اقتحمت قوات الأمن القرية وبدأت في تنفيذ قرارات هدم مفاجئة.

بينما كان علام وبعض السكان يتأهبون لصلاة الفجر، لاحظوا انتشارًا أمنيًا كثيفًا قرب قرية الفيروز (دياموند بلو) المجاورة. “ظننا أن الأمر لا يخصنا، فنحن ملاك وشاغلون، ولدينا قضية منظورة أمام المحكمة بشأن الإخلاء، ولم يُفصل فيها بعد”، يقول.

لكن نحو السابعة والنصف صباحًا، وبينما كان علام يتهيأ للذهاب إلى عمله الذي التحق به بعد التقاعد لتحسين دخله المتواضع الذي لا يتجاوز 3500 جنيه شهريًا، بدأت القوات تتحرك باتجاه بوابات قرية الفردوس.

عبر مكبر صوت المسجد، دعا أحد السكان الأهالي إلى التجمع والتصدي للتحرك الأمني، فخرج نحو 40 رجلًا و20 سيدة من القاطنين الدائمين بالشاليهات، في محاولة لفهم ما يجري ووقفه. كان المشهد، بحسب وصف علام، “صادمًا ومهينًا: قوات أمن مركزي، لودرات، تشكيلات فض شغب، ومدير أمن بورسعيد حاضر بنفسه… كأننا في ساحة حرب، كأننا في غزة، لا في قرية سكنية داخل بورسعيد”.

 


اقتحام بلا قرار 

توجه  علام برفقة محاميه إلى القيادات الأمنية صباح يوم 6 مايو، في محاولة لتأجيل تنفيذ الإزالة لحين صدور حكم المحكمة المقرر في 18 مايو، بعد تأجيل جلسة سابقة كانت محددة في 4 من الشهر نفسه. إلا أن المفاجأة، بحسب روايته، كانت أن القوات لم تُبرز أي قرار رسمي بالإزالة أو أمر قانوني صريح بالهدم. ورغم مطالبة السكان بانتظار وصول مسؤولي الشؤون القانونية، بدأت القوات التنفيذ دون التزام.

يروي علام تفاصيل المشهد قائلًا: “بينما تجمع عدد من السكان عند إحدى البوابات المغلقة، بدأت قوات الأمن اقتحام القرية من جهة أخرى، مستخدمة اللودرات وتحت حماية تشكيلات من قوات الأمن المركزي المزوّدة بالعصي وقنابل الغاز. بدأوا بالمحال التجارية، دمروا المتاجر، لم يمنحوا العمال فرصة لجمع ممتلكاتهم من الاستراحات الزراعية، ولم يُستثنَ حتى مستودع الأنابيب”.

محاولات السكان لوقف الهدم أو حتى تأجيله قوبلت بتجاهل كامل، كما يقول علام، مضيفًا أن نادي التوكيلات، الذي يحمل حكمًا قضائيًا نهائيًا بوقف أي إجراء هدم، تعرّض هو الآخر للهدم. “كأنهم يقولون لنا بوضوح: هذا القانون الذي تتمسكون به لا يعنينا”.

ويؤكد علام أن معركة الإخلاء تعود إلى عهد المحافظ السابق اللواء عادل الغضبان، الذي سبق أن أزال قرية ضاحية الجميل، ثم وجّه قرارات الإزالة إلى قرية الفردوس، مدعيًا أن على سكانها مديونية لصالح المحافظة تبلغ 36 مليون جنيه. يقول علام: “قمنا بسداد المبلغ بالكامل، ولدينا أحكام قضائية تُثبت أن لنا مستحقات لدى المحافظة بقيمة 10 ملايين جنيه لم نتسلمها حتى الآن. تفاوضتُ مع الجهات المعنية، وكان هناك أمل في تسوية، لكن لم تكن هناك نية حقيقية للاستماع”.

ويتابع: “أثناء حديثي مع أحد الضباط، فوجئت بقوة تقتحم الشاليه الذي أعيش فيه مع زوجتي، رغم وعود مسبقة بعدم المساس بالمساكن المأهولة. لم تلتزم القوات بذلك؛ فقد شملت عمليات الهدم وحدات يسكنها الأهالي، من بينها شاليهي الذي تضرر من الخارج، قبل أن تدخل القوة وتصادر أثاثًا منزليًا، من بينها ‘الانتريه’ من غرفة المعيشة، دون سابق إنذار أو تفسير”.

يضيف علام بصوت متهدّج: “نبكي ليلًا ونهارًا، أنا وزوجتي، لقد ضاع شقى عمرنا، ولم يبقَ لنا سوى معاش محدود وراتب بسيط من عملي الإضافي. لا نعلم أين نذهب الآن. لماذا تصرّ الحكومة على تشريدنا؟ ماذا تبقى لنا؟”، قبل أن يختم حديثه بترديد: “حسبي الله ونعم الوكيل”.

وتأتي عمليات الإزالة في قرية الفردوس بعد عام واحد من تنفيذ محافظة بورسعيد إجراء مماثل بحق قرية ضاحية الجميل، والتي كانت تضم أكثر من 400 عقارًا سكنيًا، يقطنها نحو 2500 أسرة. وقد بُنيت هذه العقارات وسُكنت بأموال السكان، بناءً على تراخيص رسمية صادرة عن المحافظة بنظام حق الانتفاع طويل الأمد المتجدد سنويًا.

وتُثير هذه الإجراءات، وفق ما رصدته “زاوية ثالثة”، مخاوف من نمط متكرر في التعامل مع المجتمعات السكنية التي بُنيت على نظام حق الانتفاع، رغم التزام قاطنيها بالشروط القانونية والمالية، من تراخيص وسداد رسوم. ما يطرح تساؤلات جدية حول الضمانات القانونية لحماية الملكية في هذا النوع من العقود.

وخلال التحقيق، تواصلت “زاوية ثالثة” مع سبعة من سكان قرية الفردوس، أفادوا جميعًا بتعرض وحداتهم السكنية لأضرار جسيمة، ومصادرة ممتلكاتهم دون سابق إنذار أو توضيح رسمي. لم يكن العربي علام وحده من تضرر، بل شملت الأضرار وحدات أخرى، وصادرت القوات خلالها سيارات ومعدات وميكروباصات وسيارات خاصة مملوكة للأهالي، إضافة إلى مقتنيات من شاليهات مغلقة أثناء تنفيذ الإزالة، دون إخطار ملاكها الذين كانوا خارج بورسعيد.

كما اطلعت “زاوية ثالثة” على عدد من الإيصالات والمستندات التي تؤكد قيام السكان بتسديد كامل المستحقات المالية المطلوبة، سواء لمحافظة بورسعيد أو للمرافق العامة المرتبطة بخدمات الكهرباء والمياه.

 

نوصي للقراءة: جرافات التطوير تصلُ “ضاحية الجميل” ببورسعيد: إخلاءٌ دون تعويض

إزالة دون إنذار ومصادرة ممتلكات

فوجئت نهلة محسن، إحدى مالكات الوحدات السكنية بقرية الفردوس في محافظة بورسعيد، ببدء تنفيذ الإزالة دون أي إخطار رسمي مسبق للسكان. تقول في حديثها لـ”زاوية ثالثة”: “لم يُخطرنا أحد بوجود قرار إزالة. علمنا بالأمر صباح الأربعاء من خلال اتصالات وردت من سكان مقيمين داخل القرية. توجهنا على الفور، لنتفاجأ بأن عمليات الهدم بدأت بالفعل وسط انتشار أمني مكثف، شمل أفرادًا وآليات تابعة لقوات الأمن المركزي”.

وتتابع محسن أن قوات الأمن منعت الملاك من دخول سياراتهم إلى القرية، وأجبرتهم على التوجه سيرًا على الأقدام إلى وحداتهم. وتوضح: “حين وصلنا إلى الشاليه، أبلغتنا القوات بأن أمامنا مهلة ثلاثة أيام فقط لإخلاء ممتلكاتنا. حاولنا جمع كل ما نملك وأغلقنا الوحدة بالمفتاح، لكن عمليات الهدم استمرت خلال تلك المهلة بوتيرة متسارعة، لم تُفرّق خلالها بين الشاليهات المأهولة بالسكان وتلك المُغلقة لأغراض الاصطياف الصيفي”.

وبحسب قولها، فإن بعض ممتلكات السكان صودرت من داخل الوحدات دون أي سند قانوني واضح، فيما قامت قوات الأمن بقطع الكهرباء والمياه والغاز عن القرية بالكامل، حتى قبل انقضاء مهلة الإخلاء.

وتُقدّر محسن عدد وحدات قرية الفردوس بنحو 1600 شاليه، يقطنها مزيج من السكان الدائمين والمصطافين الموسميين. وتقول إن الأرض مقامة وفق نظام “حق الانتفاع غير المحدد المدة”، والذي لا ينتهي – بحسب العقود الأصلية – إلا بزوال المباني. ومع ذلك، أبلغ محافظ بورسعيد، اللواء عادل الغضبان، السكان في عام 2019 بوجود مديونية على القرية تُقدّر بـ36 مليون جنيه، زاعمًا أن مدة الانتفاع هي 25 عامًا فقط، وقد انتهت.

تقول محسن: “استجبنا كملاك وقمنا بجمع المبلغ المطلوب من السكان، بل زدنا عليه نحو 10 ملايين جنيه، ليصل إجمالي ما دفعناه إلى 45 مليون جنيه. نملك إيصالات رسمية تثبت ذلك. وبحسب ما تم الاتفاق عليه، يظل حق الانتفاع قائمًا حتى زوال المباني، لكننا نعتقد أن الدولة لجأت إلى الهدم عمدًا لإسقاط هذا الحق قانونيًا”.

وتضيف أن سكان القرية تناقلوا عبر مجموعة “واتساب” أن النائب أحمد الفرغلي تواصل مع مسؤولي المحافظة بخصوص ما يجري، وجاءه الرد بأن “الأمر ليس بيد المحافظة، وإنما هو تنفيذ لتعليمات عليا”.

وكان من المفترض أن تُعقد جلسة قضائية في 18 مايو الجاري للنظر في مستندات رسمية قدمها عدد من السكان الذين حرروا توكيلات قانونية للمحامي هشام العيسوي، أملًا في وقف قرارات الإزالة وحماية الحقوق القانونية للملاك.

في سياق متصل، يُنظّم القانون المدني المصري حق الانتفاع في المادة 985 باعتباره أحد فروع حق الملكية، ويمنح المنتفع حق استعمال واستغلال الشيء المملوك للغير، بينما تبقى ملكية الرقبة لصاحب الأصل. ويُجيز القانون للمنتفع الحصول على ثمار الشيء الطبيعية والمدنية، أو التنازل عنه للغير أو رهنه، دون المساس بحق الملكية الأصلي. ويشترط القانون أن يتم أي إنهاء للانتفاع بموجب اتفاق تعاقدي أو حكم قضائي، لا عبر إزالة مادية دون مسوغ قانوني.

 

نوصي للقراءة: ناهيا تحت قضبان قطار التطوير.. تهجير وشيك وهدم مرتقب

مساءلة برلمانية

في أعقاب بدء عمليات الهدم في قرية الفردوس، تقدّم النائب أحمد الفرغلي، عضو مجلس النواب عن محافظة بورسعيد، في 6 مايو الجاري، بطلب بيان عاجل إلى رئيس البرلمان موجّه إلى الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، لمساءلته بشأن ما وصفه بـ”الإزالة غير القانونية” التي نُفذت دون إخطار مسبق أو سند قانوني معلن. يأتي هذا الطلب استنادًا إلى المادة 134 من الدستور، والمادة 215 من اللائحة الداخلية لمجلس النواب.

وأوضح الفرغلي في تصريح إلى  “زاوية ثالثة” أن قرية الفردوس خُصصت عام 1994 بنظام حق انتفاع غير محدد المدة، مقابل قيمة إيجارية محددة تُسدد للمحافظة. وأضاف أن الملاك، ومن بينهم أفراد وهيئات تابعة للدولة وجهات حكومية، قاموا ببناء وحدات القرية على نفقتهم الخاصة، إلى جانب إدخال كافة المرافق.

ورغم وجود دعاوى قضائية منظورة بين الملاك والمحافظة لم يُفصل فيها بعد، يشير النائب إلى أن المحافظة شرعت، بناءً على قرار صادر عن رئيس مجلس الوزراء، في دخول القرية وبدء الهدم وقطع خدمات المياه والكهرباء، دون توجيه أي إنذار رسمي إلى الملاك بموعد الإخلاء أو توضيح الأساس القانوني الذي استندت إليه في هذا الإجراء.

واعتبر الفرغلي أن ما جرى يمس جوهر مبدأ سيادة القانون، قائلًا: “احترام دولة القانون يجب أن يكون منهجًا للحكومة قبل أن يُطلب من المواطنين. ما حدث في قرية الفردوس من اقتحام مفاجئ دون إعلان، ودون إبراز أي قرار قضائي أو سند قانوني، يُشكل تهديدًا مباشرًا لدولة القانون ويبعث برسالة سلبية للمواطنين”.

وطالب النائب في بيانه العاجل بمناقشة القضية في أول جلسة عامة قادمة بمجلس النواب، داعيًا إلى فتح تحقيق في الإجراءات الحكومية التي رافقت عملية الهدم، والكشف عن المستندات القانونية والقضائية التي استندت إليها المحافظة أو الحكومة في تنفيذ الإزالة، بما يضمن الحفاظ على الحقوق القانونية للملاك حتى في حال استكمال تنفيذ قرار الهدم.

 

نوصي للقراءة: التطوير مقابل الإزالة: كيف ضّحت الحكومة بمواطنيها من أجل الطرق؟

من التخصيص إلى الهدم رغم الدعاوى القضائية

تُشير الوثائق الرسمية إلى أن قرية الفردوس أُنشئت في تسعينيات القرن الماضي، بموجب قرار صادر عن المجلس المحلي ومحافظة بورسعيد، استجابةً لأزمة سكن كانت تعاني منها المدينة آنذاك. وقد خُصصت أراضي القرية بنظام “حق الانتفاع غير محدد المدة”، وبدأ المستفيدون آنذاك في اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة للبناء، إلى جانب تأسيس اتحاد ملاك لتولي إدارة شؤون القرية.

المحامي محمد محمود صفا، أحد المتابعين للملف القانوني لسكان القرية، يوضح في تصريح إلى “زاوية ثالثة” أن اتحاد الملاك شرع بالفعل في إصدار عقود تمليك للوحدات وفقًا لنظام الانتفاع، دون أن يُدرج فيها أي شرط زمني يُقيّد المدة. إلا أن الموقف الرسمي تغيّر لاحقًا، حيث بدأت المحافظة تُثير مسألة فروق أسعار الأراضي، وشكّلت لجنة انتهت إلى أن مدة حق الانتفاع لا تتجاوز 25 عامًا، وهو ما يصفه صفا بـ”التناقض الصريح” مع قرار التخصيص الأصلي الصادر عن المحافظة.

ويشير إلى أن المحافظة طالبت السكان لاحقًا بسداد مبلغ 34 ألف جنيه عن كل وحدة، ما دفع الأهالي إلى اللجوء إلى القضاء. ووفقًا لتقرير خبير منتدب من المحكمة، قدّرت القيمة الفعلية المستحقة بـ20 ألف جنيه فقط لكل وحدة. وقد التزم السكان بسداد هذا المبلغ كاملًا، بل تجاوزوه؛ إذ جمع الملاك مبالغ إضافية بلغ مجموعها نحو 10 ملايين جنيه، أودعت في خزينة المحافظة، دون أن تُعاد أو تُخصم أو يُوضح مصيرها حتى الآن.

منذ عام 2019، بدأت المحافظة – بحسب صفا – تلوّح بإنهاء نظام حق الانتفاع، وطرحت فكرة الهدم ضمن ما وصفته بخطط “التطوير”. وقد تكرر هذا النهج سابقًا في منطقة ضاحية الجميل، التي شهدت إزالة مماثلة رغم الاعتراضات القانونية. وعلى غرار ذلك، بدأت أعمال الهدم في قرية الفردوس، رغم وجود دعاوى قضائية لا تزال منظورة أمام القضاء، تستند إلى أن حق الانتفاع يبقى قائمًا ما دامت المباني قائمة.

ويقول صفا: “كيف تبدأ الدولة في تنفيذ الإزالة دون انتظار حكم قضائي؟! أين احترام التعاقدات والدستور؟ كان من الأولى أن تنتظر الحكومة الفصل القضائي، بدلًا من اتخاذ موقف القوة ضد مواطنين ملتزمين قانونًا”.

ويكشف أن المحافظة، بعد إزالة ضاحية الجميل، عرضت تعويضات مالية لملاك الوحدات قُدّرت بنحو 150 ألف جنيه فقط للوحدة، وهي مبالغ، وفق تعبيره، “لا توازي بأي حال القيمة السوقية للعقارات في المنطقة”، خاصة مع وجود أزمة سكن حادة في بورسعيد وندرة في الوحدات البديلة.

ويختم حديثه قائلًا: “إذا كان الهدف من الإزالة هو إقامة مشروع استثماري أو تطوير عقاري جديد، فالأَوْلى أن يُمنح سكان القرية وحدات بديلة في الموقع ذاته، لكن ما يحدث حاليًا هو أن الحكومة تتعامل بمنطق الاستقواء لا التفاوض. وهذا نهج مرفوض. في كل الأحوال، المواطن المصري أولى بالحماية من أي مستثمر”.

تواصلت “زاوية ثالثة” مع اللواء محب حبشي، محافظ بورسعيد الحالي، للحصول على رد رسمي بشأن أزمة قرية الفردوس وشكاوى السكان من تنفيذ الإزالة رغم وجود دعوى قضائية لم يُصدر فيها حكم نهائي. وحتى لحظة كتابة ونشر هذا التحقيق، لم تتلقِ المنصة أي رد رسمي من المحافظة.

 

نوصي للقراءة: شاليهات عجيبة: اشتريناها ثلاث مرات من الحكومة.. واليوم نواجه الإزالة

عقود مدنية وأحكام قضائية… تُسحق تحت عجلات الإزالة

أوضحت المذكرة قانونية المرفقة في الدعوى القضائية بشأن قرية الفردوس المقدمة من المحامي هشام العيسوي نيابة عن عدد من سكان القرية، والتي حصلت زاوية ثالثة على نسخة منها، أن العلاقة القانونية بين محافظة بورسعيد وملاك الوحدات المصيفية في قرية الفردوس، الكائنة بالكيلو 9 غرب بورسعيد، بدأت بموجب عقود مدنية معنونة بـ”عقد تمليك وتقرير حق انتفاع”، تم تحريرها خلال أعوام 1994، 1996، و1997. وتضمنت هذه العقود بنودًا موحدة تنص على تمليك المباني فقط دون الأرض، التي بقيت مملوكة للمحافظة وخاضعة لشروطها، سواء بالتمليك أو بنظام حق الانتفاع.

وبحسب ما جاء في المذكرة فإن محافظ بورسعيد آنذاك،  قد فوض بموجب قراره رقم 122 لسنة 1989، المهندس حسام الحديدي ــ عضو مجلس إدارة المشروع ومدير القرية ــ بالتوقيع على هذه العقود، وهو ذاته من تولى لاحقًا رئاسة اتحاد ملاك القرية، الذي أُشهِر رسميًا في 15 نوفمبر 1995 تحت رقم 5474 بمصلحة الشهر العقاري. وقد نص عقد الاتحاد على أن مدة الاتحاد غير محددة، وأنه لا ينقضي إلا بهلاك القرية، مؤكداً ملكية كل عضو لوحدته.

وأوضحت المذكرة أنه رغم مرور أكثر من عقدين على هذا الوضع القانوني المستقر، قامت المحافظة في عام 2000، وبشكل منفرد، بتشكيل لجنة قدرت مدة حق الانتفاع بـ25 عامًا تنتهي في 2019، بالمخالفة لما ورد في العقود. وفي ضوء ذلك، صدر قراري المحافظ رقم 153 لسنة 2020 و95 لسنة 2021 بتولي لجنة تابعة للجهاز التنفيذي إدارة القرية بدلاً من اتحاد الملاك، بزعم انتهاء التخصيص.

وقد صدّقت المحكمة الإدارية العليا على هذين القرارين، غير أن هذه الأحكام لم تتناول جوهر التعاقد المدني على المباني، وهو ما أكده القضاء المدني في الدعوى رقم 658 لسنة 2021 مدني كلي بورسعيد، المقامة من نادي العاملين بالتوكيلات الملاحية ــ أحد ملاك القرية ــ حيث قضت المحكمة بمدنية العلاقة التعاقدية، وببطلان وعدم الاعتداد بالقرارين الإداريين سالفي الذكر، وباستمرار نفاذ اتحاد الشاغلين وفقًا لقانون البناء الموحد. وقد تم تأييد هذا الحكم استئنافيًا في جلسة 6 فبراير 2024، وأصبح نهائيًا وباتًا.

وأشارت المذكرة إلى أنه رغم هذا الحكم المدني النهائي، تجاهل محافظ بورسعيد مخرجات القضاء، ولم يُطلع رئيس مجلس الوزراء على حيثياته أو حتى يُقر بوجوده. وبدلاً من ذلك، لجأ إلى تنفيذ قراريه الإداريين المنقوضين فعليًا، وشرع صباح 6 مايو 2025 في تنفيذ حملة هدم قسرية على القرية، تضمنت هدم عدة مبانٍ دون إخطار مسبق أو سند قانوني أو حكم قضائي.

وقد سبق أن قامت المحافظة، خلال سنوات سابقة، بفرض رسوم انتفاع على السكان، وتم جمع مبالغ وصلت إلى ما يجاوز 10 ملايين جنيه، لا تزال مودعة لدى المحافظة، دون رد أو تسوية. كما تم إيهام السكان بإمكانية تقنين أوضاعهم، وهو ما جعلهم يستمرون في الاستثمار في وحداتهم وبناء مساكنهم.

وأشارت المذكرة القانونية إلى أن هناك دعاوى قضائية منظورة حاليًا أمام القضاء المدني، منها: الدعوى رقم 552 لسنة 2025 مدني كلي بورسعيد – مؤجلة إلى جلسة 17 مايو 2025. الدعوى رقم 503 لسنة 2025 مدني كلي بورسعيد – مرفوعة من اتحاد الشاغلين، مؤجلة إلى 18 مايو 2025. وتطالب هذه الدعاوى بإلزام المحافظة بعدم الإخلاء القسري للملاك، وبالاحتكام إلى أحكام العقود المدنية المبرمة، وفي حال وجود نية لإقامة مشروع ذي نفع عام، فيجب اتباع إجراءات نزع الملكية وتعويض الملاك بشكل عادل.

وكانت المحكمة الدستورية قد أقرّت في حكمها رقم 130 لسنة 5 ق، جلسة 6 فبراير 1993، بأن الملكية لا تنقضي إلا بهلاك الشيء محل التملك. واستقرت محكمة النقض على أن القرارات الإدارية الصادرة بشأن علاقات مدنية، لا تُعد قرارات إدارية بالمعنى الفني، وبالتالي لا يُعتد بها في مواجهة التعاقدات المدنية الملزمة- بحسب المذكرة.

 

نوصي للقراءة: هل يواجه 6 ملايين مواطن خطر الإخلاء؟ الوجه الآخر لتعديلات قانون الإيجار القديم

نصوص دستورية تُنتهك

ما جرى في قرية الفردوس لا يمكن عزله عن نمط عمراني متكرر شهدته مصر خلال العقد الأخير، يتمثل في إزالة مجتمعات سكنية قائمة تحت لافتة “التطوير” دون ضمانات عادلة أو مشاركة مجتمعية فعلية. من مثلث ماسبيرو إلى جزيرة الوراق، ومن نزلة السمان إلى منشأة ناصر، تكررت الوقائع: توسع استثماري في مناطق ذات قيمة عقارية مرتفعة، يقابله إخلاء مفاجئ أو قسري، تعوزه الشفافية ويغيب عنه التفاوض، وتتفاوت فيه التعويضات بشكل كبير مقارنة بالقيمة السوقية. ففي ماسبيرو مثلًا، أُخليت آلاف الأسر مقابل تعويضات محدودة أو وحدات بديلة في الأسمرات، رغم الاعتراض على ضعف البدائل. وفي الوراق، التي تضم نحو مئة ألف نسمة، عُرض على السكان 1400 جنيه للمتر مقابل سعر سوقي يُقارب 8000 جنيه، وترافقت الإخلاءات مع مواجهات سقط خلالها قتيل. أما في نزلة السمان، فقد قُدّمت تعويضات لاحقة بعد احتجاجات واعتقالات، وسط اتهامات بإقصاء السكان عن رسم مستقبل منطقتهم. وفي منشأة ناصر، استُخدمت تصنيفات “غير آمنة” لتبرير الإخلاء، دون حلول واضحة. بهذا السياق، تبدو أزمة قرية الفردوس امتدادًا لهذا النمط، الذي يُغلب منطق القرار الإداري والتوسّع العقاري على الحقوق الدستورية في السكن، ويُقصي السكان عن حقهم في التفاوض، مما يثير تساؤلات واسعة حول حدود التنمية وحدود العدالة.

نصت المادة(195) من الدستور المصري المعدل في 2019 على أنه:”تنشر في الجريدة الرسمية الأحكام والقرارات الصادرة من المحكمة الدستورية العليا، وهي ملزمة للكافة وجميع سلطات الدولة، وتكون لها حجية مطلقة بالنسبة لهم. وينظم القانون ما يترتب على الحكم بعدم دستورية نص تشريعي من آثار.” كما نص الدستور في مادته (35) على أن “الملكية مصونة لا تُمس، ولا يجوز نزعها إلا للمنفعة العامة، ومقابل تعويض عادل يُدفع مقدمًا”. وهو ما لا يتوفر في حالتي قريتي الفردوس وضاحية الجميل. كما نصت المادة (63) من الدستور أيضًا : يحظر التهجير القسري التعسفي للمواطنين بجميع صوره وأشكاله، ومخالفة ذلك جريمة لا تسقط بالتقادم. كما تنص المادة (9) من الدستور: تلتزم الدولة بتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين دون تمييز. إذ اعتبر المحامون أن تفريغ القرية وإزالتها لصالح الاستثمار الخاص يُعد تمييزًا ضد المواطنين خاصة من الطبقة المتوسطة ومحدودة الدخل.

وتأتي الإجراءات التي تتعرض لها قرية الفردوس في سياق أوسع يرتبط بتنفيذ القرار الجمهوري رقم 550 لسنة 2019، الذي ينص على إنشاء مدينة عمرانية جديدة تحت اسم “غرب بورسعيد”، على مساحة تبلغ 3075.38 فدان.

ويشمل المشروع، الذي يُعد جزءًا من خطة التنمية العمرانية القومية، مناطق سكنية، صناعية، وسياحية. وقد تم بموجب القرار ضم 462 فدانًا من أراضي الهيئة العامة لتنمية الثروة السمكية لصالح المشروع، في إطار إعادة تخطيط المنطقة الغربية من بورسعيد.

غير أن هذه التوسعات العمرانية لم تُواكبها إجراءات شفافة لتسوية أوضاع السكان القائمين فعليًا في المنطقة، وفي مقدمتهم ملاك قرية الفردوس، الذين يملكون وحداتهم بموجب عقود مدنية موثقة منذ التسعينيات. ولم تُجر أي مفاوضات جماعية عادلة معهم، كما لم يُعرض عليهم أي بدائل عادلة أو تعويضات حتى كتابة هذا التقرير.

من الفردوس إلى الجميل، ومن الوراق إلى نزلة السمان، تتكرّر الأسئلة ذاتها: هل يُمكن للتخطيط العمراني أن يُبنى على الإزاحة القسرية؟ وهل تكفي الشعارات عن “المنفعة العامة” لتبرير تهميش المجتمعات المحلية دون تفاوض أو تعويض؟

رغم وضوح الوثائق، وتعدد الشهادات القانونية، وتقدّم الدعاوى القضائية، بدأت أعمال الإزالة في قرية الفردوس دون تقديم قرار إداري معلن أو سند قانوني واضح، في تجاهل صريح لنصوص الدستور والقانون المدني، وفي ظل صمت رسمي من محافظة بورسعيد حتى لحظة نشر هذا التحقيق.

المعلومات التي جمعتها “زاوية ثالثة” من سكان القرية، ومحاميهم، ومن متابعة الوثائق الرسمية، تشير إلى نمط ممنهج يُعيد إنتاج نموذج قرية “ضاحية الجميل”، حيث يتحوّل التخطيط العمراني إلى أداة لنزع الملكية بلا إنصاف، ويُستبدل حق الانتفاع بعقود تُقطع بقرار إداري لا يُراجع.

في انتظار حكم القضاء، وبينما تواصل الجرافات هدم ما تبقى، يظل مصير أكثر من 1200 أسرة معلّقًا، في غياب أي بدائل واضحة أو مسارات قانونية مفعّلة تضمن حقهم في البقاء، أو على الأقل في تعويض عادل. وفي غياب إجابة رسمية على تساؤلات السكان، يبقى ملف قرية الفردوس شاهدًا مفتوحًا على الطريقة التي تُطبَّق بها “التنمية” في مصر.

شيماء حمدي
صحفية مصرية، تغطي الملفات السياسية والحقوقية، وتهتم بقضايا المرأة. باحثة في حرية الصحافة والإعلام والحريات الرقمية.

Search