جرافات التطوير تصلُ “ضاحية الجميل” ببورسعيد: إخلاءٌ دون تعويض

بحسب ما حصلنا عليه من معلومات فإن الضاحية قد بنيت وعُمّرت بأموال سكانها، بترخيص من المحافظة، بموجب نظام حق انتفاع طويل الأمّد، كما أدخل الأهالي كافة المرافق من مياه، وغاز، وكهرباء على نفقاتهم الخاصة
شيماء حمدي

في الثالث من فبراير الجاري، انتشرت الجرّافات وقوة من الحي، بمصاحبة الشرطة في أنحاء ضاحية الجميل بمحافظة بورسعيد، لتبدأ بعدها أعمال هدم وإزالة منازل حي الضاحية، التي قد تستمر لأيام مقبلة حتى تنتهي السلطة التنفيذية من مهامها في الهدم. في اليوم الثاني من بداية العمليات سقط ركام منزل على حارسه، ليسقط قتيلًا، ويصبح ضحية أولى لعمليات الإزالة والهدم.

ضاحية الجميل تقع ضمن أحياء مدينة بورسعيد الواقعة شمال شرق مصر، في عام 1978، خصصت محافظة بورسعيد 317 قطعة أرض تقع مباشرة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، على بعد 10 كيلومترات من مدينة بورسعيد، وذلك ضمن توّجه المحافظة حينها، لتقليل الاكتظاظ السكاني عبر توزيع السكان في مناطق جديدة من المحافظة.

تواصلت زاوية ثالثة مع عدد من سكان “ضاحية الجميل” على مدار الأيام الماضية للوقوف على آخر التطورات، كما تواصلنا مع محامين موكلين من عدد من السكان، للدفاع عنهم ضد قرارات الإزالة والهدم التي أقرتها المحافظة دون تعويض. وبحسب ما حصلنا عليه من معلومات؛ فإن الضاحية التي تضم أكثر من 400 عقار سكني، وما يقارب 2500 أسرة، قد بنيت وعُمّرت بأموال سكانها، بترخيص من المحافظة، بموجب نظام حق انتفاع طويل الأمّد منحته المحافظة لسكان الحي يجدد سنويًا، كما أدخل الأهالي كافة المرافق من مياه، وغاز، وكهرباء على نفقاتهم الخاصة دون أي دعم حكومي، وهو ما اشترطته المحافظة حينذاك، إذ سلّمتهم المنطقة حق انتفاع شرط البناء والتعمير.

هدمت جرّافات المحافظة التي تحميها قوات الشرطة حتى إعداد هذا التقرير نحو 15 عقارًا، جميعها فارغة لا سكان فيها، لكن الأمر من الواضح أنه لن يتوقف عند هذا الحد، فقد عززّت وضاعفت المحافظة من أعداد جرافات الهدم التي تقوم بعمليات الهدم والإزالة خلال الأيام الماضية، حسب رواية الأهالي.

اقرأ أيضا: أهالي رأس الحكمة.. سنواجه بيع مدينتنا

بلطجية

تخبرنا داليا جابر، وهي أمّ لثلاثة أبناء وواحدة من سكّان الضاحية أنّه بعد أن اشترت المنزل الّذي تقيم فيه ومعها عدد من أشقّائها: “المنطقة عبارة عن فيلات سكنيّة مقسّمة إلى أدوار، أنا وأشقّائي الثلاثة اشترينا عقارًا بأدواره الكاملة، واستقرّينا به منذ عشر سنوات تقريبًا”.

وتوضّح: “أزالت الحكومة نحو 15 عقارًا كانت في مرحلة البناء بالطوب الأحمر، على يومين أو ثلاثة، وفوجئنا بانتشار بلطجيّة اقتحموا الحيّ وأشاعوا الخوف والإرهاب، إذ اقتحموا عددًا من المنازل الفارغة والّتي أغلقها ساكنوها، وسرقة كلّ ما يمكن سرقته من أبواب وشبابيك وغيرها، في ظلّ وجود قوّات الشرطة والّتي لم تتدخّل لمنعهم”.

وحسب وصفها، بعد انتهاء البلطجيّة من عمليّات السرقة يبدأ الحيّ في الهدم باستخدام الجرّافات، وبدأوا بالعقارات الشاغرة، وأخبروهم أنّ لديهم تعليمات بإزالتها، “لكن نحن على علم بأنّهم بدأوا بها وبمجرّد الانتهاء سيصبح الدور على العقارات المأهولة”. مشيرة إلى أنّ السلطات المسؤولة لم تشرع حتّى اللحظة في مفاوضات مع الأهالي عن التعويضات اللازمة. وتابعت “منذ عامين أرسلوا لنا إنذارات بالإخلاء، ورفضنا وتوجّهنا إلى القضاء على أمل إيقاف تلك القرارات، بعدها بعام أصرّ المحافظ على استكمال إخلاء الأرض وسحبها؛ بحجّة أنّها أصبحت منطقة عشوائيّة”. وتصف كيف وجد الأهالي تجمّعات من القمامة والأثاث المتهالك في شوارع الضاحية دون تحديد مصدرها؛ ثمّ علّمنا أنّ المحافظة قدّمت للمحكمة في أثناء نظر قضايا المتضرّرين من السكّان، بصور لتلك التجمّعات، للدفع بأنّ المنطقة أصبحت عشوائيّة ولا بدّ من إزالتها، على غير الحقيقة.

واختتمت حديثها أنّ المحافظة أبلغتها بمخالفتها القانون حين اشترت وأقاربها العقار الّذي تقطن فيه؛ على الرغم من أنّ عمليّة البيع والشراء تمّت في الحيّ، وبشكل رسميّ.

فتحي الفيّوميّ -أحد سكّان المنطقة-، يقول “المحافظة أعطت لنا الأرض حقّ انتفاع بعقد يجدّد سنويًّا، ومنذ أربعين سنة ندفع قيمة العقد بشكل منتظم، سلّمت الأرض صحراء لا مباني ولا مرافق وعمرناها”.

“أنا ساكن في المنطقة من 40 سنة، كان اسمها قرية الجميل السياحيّة، وحاليًّا حيّ ضاحية الجميل السكنيّة، هناك بعض الفيلات فارغة وبعضهم يؤجّرونها، لكنّ الأغلب مأهولة، والمحافظة تريد نزعنا من المنطقة حتّى يقوموا ببيعها لمستثمر مجهول”، يقول الفيّوميّ. مستطردًا أنّ الأزمة بدأت منذ عامين حينما رفضت سلطة الحيّ استلام مقابل حقّ الانتفاع، وفقًا للتعاقد بحجّة أنّ الأرض لا بدّ من إخلائها، إذ إنّ المحافظة قرّرت عدم التجديد دون الحديث عن أيّة تعويضات، لذلك توجّهوا إلى المحكمة لتسديد قيمة الإيجار، والآن وبعد عامين شرعوا في هدم المباني تمهيدًا لإخلاء الأرض، وحتّى الآن لم يطّلع السكّان على قرارات الإزالة. مشيرًا إلى أنّ حصولهم على الأرض حقّ انتفاع حرمهم من الحصول على شقق أو تخصيص يتبع المحافظة.

يكمل “انتشار عمليّات البلطجة المتزامن مع عمليّات الهدم، يجعلنا نسهر طول الليل لحماية ممتلكاتنا، الرجال في الخارج والنساء في داخل المنازل لا ينامون أيضًا خوفًا من اقتحام المنازل والسرقة”.

في المقابل، أقبل عدد كبير من سكان الضاحية على رفع دعاوى قضائية لوقف قرارات المحافظة، وذلك بعد تسلمهم إنذارات بضرورة الإخلاء منذ عامين.

تقدّم خليل أبو طالب، الّذي يمتلك فيلا مقامة على قطعة أرض بحيّ ضاحية الجميل ومرخّصة بعقد تخصيص مؤرّخ في 2008 بناء على قرار المجلس الشعبيّ المحلّيّ، بدعوى إلى القضاء الإداريّ ضدّ قرار المحافظة، وذلك بعد تسلّمه إنذارًا في مارس 2022، بدون بيانات واضحة بإخلاء الفيلا بالمخالفة لبنود عقد التخصيص، وذلك رغم التزامه بكافّة بنود العقد، إذ إنّه شيّد فيلًا طبقًا للمواصفات المطلوبة، والّتي صدر ترخيص البناء الخاصّ بها باسمه.

وانتقدت المفوّضيّة المصريّة للحقوق والحرّيّات في بيان لها عمليّة الهدم والطرد. وقالت “عمليّات الإخلاء القسريّ لسكّان ضاحية الجميل غرب بورسعيد، تشكّل تهديدًا خطيرًا للمواطنين، ويعتبر استمرارًا لسياسات التهميش والإهمال الّتي يعيشها المجتمع، وتؤكّد أنّ ما يحدث حاليًّا هو انتهاك لحقّ أصيل من حقوق الإنسان في مسكن آمن وملائم، ونتيجته تشريد مئات الأسر دون توفير بديل، ومخالفة صريحة لمعاهدات مصر الدوليّة”.

 

التعويض وفق القانون المدني

الانتفاع في القانون المدني وفق المادة 985، متفرع عن حق الملكية يخول للمنتفع الاستغلال والاستعمال عن شئ مملوك للغير، ويكون للمالك حق التصرف ويطلق عليه حق ملكية الرقبة، ويحق للمالك وفق القانون الانتفاع بالملكية فقط في الأوجه التي اتفق عليها مع المالك الأصلي، وحصوله على ثمار الشيء الطبيعية والمدنية، أو الانتفاع به عن طريق التنازل عنه للغير أو رهنه دون المساس بملكية حق الرقبة.

منذ أربعة عقود استقرّت العائلات في هذا الحيّ بعد أن خصّصت لهم قطعًا من الأرض بموجب حقّ الانتفاع، حتّى عام 2019، عندما أعلنت محافظة بورسعيد انتهاء التعاقد منفردة، ورفضت استلام الدفعات السنويّة من السكّان مقابل الوحدات، بحجّة أنّ الحيّ أصبح عشوائيًّا، ويجب إزالته وتطويره.

المحامي محمّد عبده سالم -أمين صندوق نقابة المحامين ببورسعيد-، وأحد وكلاء سكّان الضاحية، يقول: “خصّصت أرض الضاحية وكانت شاغرة بعقد انتفاع لمدّة عام واحد يجدّد سنويًّا بشرط البناء، وأصدر الحيّ تراخيص مباني باسم من خصّصت لهم الأرض للبناء، وبات السكّان مالكين للمباني لا الأرض”.

وتابع في مقابلته مع زاوية ثالثة أنّ بدء تنفيذ الإزالة دون الحديث عن تعويض أو تفاوض مع المالكين للمباني، يعدّ أزمة كبيرة، وإذا كانت الدولة ترغب استرداد الأرض فلا بدّ من تعويض مالكي المباني وفقًا للقانون المدنيّ. مشيرًا إلى أنّه طالما الحيّ سمح للمواطنين بالبناء وأعطى تراخيص، أصبحت الدولة ملزمة بدفع تعويضات للمالكين.

وأوضح أمين صندوق نقابة المحامين أنّ المواطنين الّذين خصّصت لهم الأرض، حرموا من أيّة مشاريع طرحتها، غير أنّه لا بدّ من موافقة المجلس المحلّيّ للمحافظة على خطّة التطوير، الّتي تستهدف إزالة المباني وسحب الأرض، لأنّه لا يصحّ أنّ المحافظ منفرد هو من يتّخذ مثل هذه القرارات، وخصوصًا أنّ المجلس المحلّيّ هو من قرّر تسليم الأراضي للأهالي حينها.

وبحسب المادة 925 من القانون المدني المصري، إذا كان من أقام المنشآت المشار إليها فى القانون يعتقد بحسن نية أن له الحق في إقامتها، فلا يكون لصاحب الأرض أن يطلب إزالة، وإنما يُخيّر بين أن يدفع قيمة المواد وأُجرة العمل أو أن يدفع مبلغًا يساوي ما زاد في ثمن الأرض بسبب هذه المنشآت، هذا ما لم يطلب صاحب المنشآت نزعها.

يتّفق مع هذا المحامي رجب صابر -أحد وكلاء سكّان ضاحية الجميل- إذ يقول إنّ من حقّ المالكين التعويض العادل. وأضاف: رفعنا دعاوى وقف الإنذارات في القضاء الإداريّ وطالبنا بالتعويض، وطالبنا بانتداب خبير لتقدير قيمة المباني، لكن مع الأسف المحكمة لم تستجب لنا، والآن نحاول مجدّدًا أمام الإداريّة العليا.

وأوضح المحامي بالنقض أنّ عادة المحافظة تعويض السكّان في حال صدور قرارات إزالة، لكنّ هذه المرّة لم يحدث. مشيرًا إلى أنّ قرار الهدم صادر عن التخطيط العمرانيّ وليس المحافظة.

في مارس 2023 تقدم النائب أحمد فرغلي -عضو مجلس النواب-، ببيان عاجل ضد رئيس الوزراء بشأن ما تشهده ضاحية الجميل من أعمال هدم الوحدات والمباني السكنية للأهالي، نتج عنها أعمال سرقة للوحدات وفزع للأهالي و انتشار البلطجية وتُجّار الخُردة بالمنطقة بعد بدء أعمال الهدم. موضحًا أن ضاحية الجميل السكنية تتعرض لأعمال هدم الوحدات والمباني السكنية للأهالي دون سابق إنذار ودون قرار قضائي أو تنفيذي. حيث تم تخصيص عدد (319 قطعة بمساحة 120 متر مربع للقطعة) عام 1978 من المجلس الشعبي المحلي لمحافظة بورسعيد. 

والتزم المنتفعون بسداد قيمة حقّ الانتفاع السنويّ ورسوم الضريبة العقاريّة طوال السنوات الماضية بعقد حقّ انتفاع غير محدّد المدّة، وتمّ البناء وإدخال المرافق على نفقة المنتفعين، وقد اكتسب السكّان وضعًا قانونيًّا واجتماعيًّا قائمًا بالفعل منذ 42 عامًا. ونتج عن هذه القرارات حالة من الفزع لدى الأسر، وانتشرت حالات السرقة. مطالبًا بالإيقاف العاجل والفوريّ لأعمال الهدم إلى حين دراسة المقترحات والبدائل المختلفة والوضع القانونيّ للمنطقة.

 

ضاحية الجميل ومخطط التطوير 

كان اللواء عادل الغضبان -محافظ بورسعيد-، تحدث في كلمته أمام المجلس التنفيذى للمحافظة، أن الوضع الحاليّ لضاحية الجميل السكنيّة، “لا يليق بما تشهده بورسعيد من أعمال تطوير وتنمية. ولابدّ من إعادة النظر في قرار تخصيص الأرض بحقّ الانتفاع عن طريق المجلس الشعبيّ المحلّيّ للمحافظة في سنوات سابقة، بقيمة سنويّة قدرها 600 جنيه للمتر. وهي منطقة فيلات ترتفع إلى دورين وثلاثة ولابدّ من تغيير هذا الوضع؛ لأنّ هذه المنطقة تعتبر محميّة طبيعيّة، وما عليها من عشوائيّات يجب أن يتغيّر”.

واستكمل: “لا بدّ أن تدخل المنطقة حيّز التطوير الّذي يتمّ في مدخل بورسعيد الغربيّ، ولا يجوز أن تملك محميّة طبيعيّة، وعلينا أن نصحّح أخطاء سابقة حسب متطلّبات المرحلة الحاليّة”.

وردًّا على طلب الإحاطة الّذي تقدّم به النائب البورسعيديّ أحمد فرغلي، بشأن قيام محافظة بورسعيد بإرسال إنذارات لأهالي “الجميل” لإخلاء سكّانها، وأنّ هناك من الأهالي من لديه استعداد لشراء تلك الأراضي بـ”الجميل” بأسعارها الحقيقيّة. قال الغضبان إنّه “لا ضرر ولا ضرار، نحن نعمل على جذب الاستثمار من أجل وطننا والمواطنين”.

وكان المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانيّة قد وافق في ديسمبر 2020، على إعلان ضاحية الجميل ببورسعيد، كمنطقة “إعادة تخطيط”، ما يعني وفقًا للمادّة 47 من قانون التخطيط العمرانيّ رقم 3 لسنة 1982، أنّه يمكن إزالة العقارات بتلك المنطقة لأغراض التطوير والمنفعة العامّة مع تعويض ملّاكها، وأصحاب الحقوق. كما نقل منفذ الجميل الجمركيّ إلى قرب المنطقة السكنيّة؛ ما جعلها مطمعًا للمستثمرين. في حين يتساءل الأهالي عن المستثمر المجهول الّذي يرغب في شرائها، وأيّ منطقة ستكون التالية في التهجير القسريّ لسكّانها؟.


اقرأ أيضًا:
ناهيا تحت قضبان قطار التطوير.. تهجير وشيك وهدم مرتقب

شيماء حمدي
صحفية مصرية، تغطي الملفات السياسية والحقوقية، وتهتم بقضايا المرأة. باحثة في حرية الصحافة والإعلام والحريات الرقمية.

Search