حمى الضنك.. نفي حكومي وضحايا يستغيثون في الصعيد

مقابلات أجرتها “زاوية ثالثة” على مدار أسبوع، كشفت فيها أن حمى الضنك الذي بدأ منذ شهر يوليو الماضي مازال منتشرًا في صعيد مصر، وأن التضارب الحكومي في التعامل مع الأزمة زاد من سوئها.
نادية إبراهيم

“لم تسجل وزارة الصحة حالات إصابة دخلت المستشفيات أو وفيات جراء مرض حمى الضنك”.. بهذه الكلمات نفى المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة، حسام عبد الغفار، خطورة الوضع في قرى “حجازة” بمركز قوص بمحافظة قنا، جنوب العاصمة القاهرة، مشددا على أن الوضع الوبائي مستقر -حسب تعبيره-؛ لكن الوضع على الأرض مختلف عما ذكره “عبد الغفار” بحسب شهادات ومقابلات أجرتها “زاوية ثالثة” على مدار أسبوع، كشفت فيها أن الوباء الذي بدأ منذ شهر يوليو الماضي مازال منتشرًا، وأن التضارب الحكومي في التعامل مع الأزمة زاد من سوئها.

عصام البريج، واحد من سكان قرية “حجازة القبلية”، أصيب بحمى الضنك هو وشقيقه. واستطاع النجاة لكن شقيقه توفي قبل ثلاثة أسابيع، وظل هو يعاني من مضاعفات المرض.

فما الذي يحدث بالتحديد في مصر؟

 

ليس المرض وحده

يقول عصام: “هي أعمار، لكن الأزمة أننا نعاني من مرض وتلوث وإنكار المرض. أيضًا هناك نقص في الأدوية و الوحدات الصحية”، مستطردًا في الشرح يذكر أنه وقبل الأزمة لم يكن أي طبيب يستمر في عمله بالوحدة الصحية بعد التاسعة صباحًا، وفي أحسن الظروف حتى منتصف الظهيرة، إضافة إلى طبيبة صيدلانية تجيب دومًا “الدواء غير متوفر”. ومع ضغط الأهالي ونواب البرلمان الممثلين للمركز، أصبح هناك خمسة أطباء متواجدين يوميًا في المستشفى لمدة أسبوعين “ثم أصبح هناك طبيب أو اثنين متواجدين، والباقين لا نعرف أين هم”.

تعامل الوزارة مع المرض أيضًا جاء متخبطًا -بحسب عصام-، فالوزارة التي أعلنت عن وجود المرض في يوليو الماضي بحسب تقارير لجنتها التي جاءت للتحقيق في تفشي المرض من عدمه، عادت وأنكرت التشخيص الأول، وتركت المواطنين يتخبطون بين ثلاثة خيارات؛ الأول حمى الضنك، والثاني متحور كورونا، والأخير فيروس جديد لم يتم تحديده بعد، لكن في المقابل اطلع عصام على التقارير الطبية الخاصة بشقيقه في (مستشفى حميات قنا) التي أكدت إصابته بفيروس حمى الضنك لكن إدارة المستشفى عمدت إلى إخفاء التقارير الطبية لذوي المرضى والمتوفين التي تثبت إصابتهم بالمرض.

مستفيضًا، يصف عصام مراحل المرض ويقول: “ثلاث مراحل بموجب ثلاثة أيام في كل منها؛ الأولى تتمثل في ارتفاع درجة الحرارة بصورة شديدة تزيد عن الـ 40 درجة، وألم بالعظام والعضلات، ثم تبدأ فيها الأعراض المعوية من قئ وألم شديد في المعدة وفي بعض الحالات إسهال ونزيف، وآخرها وهي الأيام الحاسمة، يكون الجسم قد تعرض لتكسير شديد في الصفائح الدموية، وتسبب الفيروس في حدوث سيولة شديدة بالدم تسهل حدوث حالات النزيف، لكن في بعض الحالات بالقرية بسبب أمراض أخرى تعرض المصابين لجلطات، وفي كل الحالات فإن المصابين يحصلون على بروتوكول علاج الكورونا عدا دوائين فقط، وهو ما تسبب في حيرة الاهالي وتصديق بعضهم أن الإصابات هي متحور جديد لكورونا، لكن أغلب الأطباء داخل القرية ومركز قوص أكدوا أنها حمى الضنك”. مشيرًا إلى أن قرى “حجازة” طاردة للعمالة، ويغادر مئات من شباب القرية إلى جميع ربوع مصر للعمل دومًا؛ ما يعني أنها قد تصبح مركزًا لتفشي المرض؛ وفي المقابل اكتفت السلطة بعربات “رش المبيدات الحشرية” الخاصة بالبعوض.

 

طبقاً لتعريف منظمة الصحة العالمية فإن حمى الضنك مرض منقول من البعوض للإنسان، ورغم تعدد أنواع البعوض الناقلة للمرض إلا أن (البعوضة الزاعجة المصرية) صاحبة الإسهام الأكبر في نقل العدوى. وتتسبب حمى الضنك في العديد من الأعراض أهمها ألم العظام، حتى أنها معروفة أيضا بالحمى المؤلمة للعظام، وارتفاع درجة الحرارة وضيق التنفس والصداع والقيء وكذلك الطفح الجلدي وتورم الغدد، وفي الحالات الوخيمة تتسبب في الألم الشديد في البطن ونزيف اللثة والأسنان ووجود الدم في القيء أو البراز، ويظل المريض يشعر بالإرهاق والتعب لأسابيع بعد التعافي، وهو ما يشعر به عصام حاليًا.

 

كورونا أم ضنك 

منذ يوليو الماضي، يستقبل طبيب الباطنة عاصم رضا -اسم مستعار-، العديد من المرضى في عيادته، ورغم توقع المرض وانتشاره في ذات التوقيت في مدينة “القصير” القريبة من قرى “حجازة” إلا أن الأقرب لأذهان المرضى كان “كورونا” قبل أن يتم تأكيد انتشار المرض. يقول عاصم لـ “زاوية ثالثة”، إن الحالات المصابة بالمئات من قرى حجازة الثلاثة (حجازة قبلي و حجازة بحري والعليقات)، وكلها بذات الأعراض، والفيصل في تحديد ذلك يكون في إجراء تحليل للكشف عن المرض. 

ويضيف أن الوزارة اعترفت بعد زيارة لجنتها إلى القرية بظهور حمى الضنك داخل حجازة، إلا أنها أنكرت بعد ذلك وقالت أنه متحور “كورونا” دون معرفة السبب. ورغم التخبط يرى أن من الممكن أن يكون هناك مرضين لا مرض واحد، الأول حمى الضنك وهو المنتشر في قرى حجازة قبلي وبحري، والثاني هو متحور كورونا في “العليقات”.

 

لماذا قرية حجازة؟

تنتقل عدوى حمى الضنك عبر لدغات البعوض الذي يتغذى على دماء مصاب سابق بالفيروس، وتعد المياه الراكدة أهم مصادر الجذب لبعوضة الزاعجة المصرية بحسب وزارة الصحة العمانية، لذلك تعد “حجازة” موطنًا مثاليًا حيث لا يوجد نظام للصرف الصحي، وتعتمد القرى على “الطرنشات” (عبارة عن خزانات تحت الأرض تتجمع فيها مياه الصرف الصحي والفضلات، ويتم تجميعها عبر عربات مخصصة لذلك الغرض تلقي بها بعد ذلك في المناطق غير المأهولة القريبة من القرية). وفي حجازة هناك بركة ضخمة لمياه الصرف الصحي بالقرب من القرية، وذلك رغم الإعلان عن انضمام قريتي حجازة قبلي وبحري لمبادرة حياة كريمة والبدء في تنفيذ محطة صرف صحي في العام 2021،  إلا أنها لم تنتهي حتى الآن.

برك الصرف الصحي ليست فقط مصدر المياه الراكدة الوحيدة في القرية، فحسب عصام البريج فإنه نتيجة طبيعة القرى الجبلية وارتفاعها، فإن ضخ المياه في المنازل ضعيف، ولا يصل للأدوار العلوية؛ ما يضطر الأهالي لاستخدام خزانات المياه، والتي تعد واحدة من أسباب تواجد مياه راكدة تسفر عن تجمع البعوضة الزاعجة.

وفي الوقت الذي عاني فيه عصام من أعراض المرض، كان أحمد سامح البصيلي أحد أهالي القرية يحاول لفت الأنظار إلى ما يحدث في داخلها عبر موقع التواصل الإجتماعي “فيسبوك”. يحدثنا “البصيلي” قائلًا: “الإصابات والوفيات كثيرة، لكن وزارة الصحة تجاهلت الوضع رغم اعترافها السابق بتفشي المرض، وفوجئنا بقولها إن أعداد الوفيات هذا العام لا يزيد عن المعدل الطبيعي وفقًا للعام الماضي، ولكن هذا غير دقيق، ونحن المقيمين في القرية نعرف معدل الوفيات جيدًا في داخلها”. شارحًا أنه وبسبب تخفيف الأحمال واستمرار قطع الكهرباء في فصل الصيف (فترة انتشار البعوضة) أدى ذلك لنتيجة كارثية، أيضًا عاني المصابون من ارتفاع درجات الحرارة وعدم توفر الأدوية، خاصة المحلول الملحي والذي أصبح يباع بأضعاف سعره دون رقابة. مطالبًا السلطة المختصة بأخذ عينات من المواطنين، للتأكد من وجود المرض ومواجهته وتوفير الأدوية للمواطنين في الوحدات الصحية.

ومع بداية الأزمة في يوليو الماضي، لجأ أهل القرية إلى نائب دائرتهم أشرف أبو الفضل، الذي أكد أنه تواصل مع وزير الصحة الذي أمر بتواجد الكوادر الطبية في الوحدات الصحية على مستوى مديرية قوص الصحية منذ الثامنة صباحاً وحتى الحادية عشر مساء. وأكد أنه واجه وزير الصحة في يوليو الماضي، في لقاء جمعه بمحافظ قنا ونواب البرلمان. وكان المرض في بدايته؛ ليرسل الوزير لجنة شخصت المرض بأنه حمى الضنك، وبالفعل تواجدات الطواقم الطبية داخل المستشفيات والوحدات الصحية، كما نظم على نفقته الشخصية قافلة طبية في مقره لمدة 14 يوم. متعجبًا يقول إن: “تصريحات وزارة الصحة النافية للمرض رغم خروج تقارير من لجنتها سابقًا بتأكيد ظهوره، غريبًا”. مشيراً إلى أن خلال لقاءاته مع مسئولي الوزارة أكدوا له أن حمى الضنك ستكون عدوى موسمية في مصر كل عام في نفس الموعد.

 

تاريخ المرض 

ظهرت حمى الضنك في مصر قبل ثمانية أعوام، في العام 2015، في ثلاث قرى بأسيوط بمجمل إصابات 253 إصابة كانت أغلبها بسيطة، وفي العام 2017 انتشرت في مدينة القصير بالبحر الأحمر، واستمرت عدة أسابيع، إلا أن انتشارها هذه المرة تركز في سبتمبر وأكتوبر وأوائل نوفمبر الماضيين، رغم أن انتشارها الموسمي في الأساس يكون في شهور الصيف من يوليو حتى سبتمبر.

“المهم ليس التوقيت بل الطقس”، يفسر مدحت صادق -أستاذ علم الحشرات بكلية العلوم جامعة أسيوط-، انتشار حمى الضنك في شهري أكتوبر ونوفمبر قائلاً: “البعوضة الزاعجة المصرية حشرة استوائية بالأساس، تنتشر في درجات الحرارة المرتفعة، لذلك لا يهم التوقيت وإنما درجة الحرارة. وخلال السنوات الأخيرة مع التغيرات المناخية فإن الموجات الحارة تستمر حتى نوفمبر؛ لذلك يستمر انتشار البعوضة الناقلة للمرض في المناطق المؤهلة لظهورها وهي مناطق تواجد مسطحات المياه الراكدة، وكلما زادت فترة ارتفاع حرارة الجو كلما زادت حالات الإصابة”.

ما قاله صادق يتطابق مع ما رصدته منظمة الصحة العالمية حول ارتفاع حالات المرض حول العالم، حيث ارتفعت عدد الحالات التي أُبلغت بها المنظمة من  505 ألف حالة في العام 2000 إلى نحو 5 ملايين و200 ألف حالة في العام 2019.

ويرجع بداية الكشف عن ظهور المرض هذا العام إلى تعزيز هيئة الرقابة الروسية الإجراءات الصحية على الرحلات الجوية من مصر، بعد الإعلان عن ظهور مرض غامض في يوليو الماضي، وبحسب تصريحات البرلماني “أبو الفضل” كان المرض متواجدًا قبل هذا الموعد في مركز قوص، لأنه عرض الأمر على وزير الصحة قبيل إجراء الرقابة الروسية بيوم كامل. وفي اليوم التالي للإجراءات الروسية، أصدرت وزارة الصحة المصرية بيانًا حول انتشار المرض لكنها لم تشير من قريب أو بعيد إلى الغردقة أو مدينة القصير، وإنما أكدت انتشار المرض في “نجع سندل” التابع لقرية “العليقات”، وقالت إن أغلب الحالات بسيطة وتلقت علاجها في المنزل.

وعلى مدار ما يزيد عن ثلاثة أشهر من يوليو إلى نهاية أكتوبر الماضي، تجاهلت الوزارة أي حديث حول المرض رغم صدور استغاثات شبه يومية تحولت إلى وسم (#انقذوا_حجازة)، حيث واجهت مديرية الصحة في قنا بنفي وقوع أي وفيات جراء المرض، في الوقت الذي امتلأت صفحات حجازة على وسائل التواصل الاجتماعي ببرقيات العزاء. في المقابل استمر متحدث الصحة في نفي وجود المرض، مدعيًا أن أغلب المتوفين، لقوا حتفهم نتيجة “أمراض أخرى مزمنة”.

 

أزمة عامة وخاصة 

مركز الحق في الدواء (ابن سينا) -مؤسسة أهلية غير حكومية-، والتي تابعت انتشار المرض منذ لحظاته الأولى بحسب مدير المركز محمود فؤاد، حيث قال إنه تلقى أول بلاغ عن الحالات في يوليو الماضي من مدينة القصير، ثم انتقلت الحالات إلى مركز قوص وعدة قرى منها قرى “حجازة”، وتواصل المركز مع وزارة الصحة التي أفادت بأنها تقوم بـ”حملات تطهير”. مضيفًا لـ”زاوية ثالثة” أن الوزارة تنكر تفشي المرض لقرب مركز الانتشار من الغردقة وحركة السياحة؛ ما سيؤثر بصورة سيئة على رواج السياحة، ولكن مع الانتشار الكثيف للحالات، وحاجة الكثير منها للنقل للمستشفيات اعترفت بالأزمة.

وأضاف أن أزمة الأدوية الخاصة ببروتوكول علاج حمى الضنك ليست حالة خاصة وإنما عامة، فمصر منذ ما يزيد عن عام تعاني من أزمة دواء بسبب نقص الدولار الذي أثّر على الأدوية المستوردة، ثم مع زيادة أزمة الدولار بدأ النقص يطول الأدوية المحلية بسبب نقص المواد الخام وغيرها من عناصر التصنيع.

.. قد تنتهي أزمة حمى الضنك هذا العام سريعًا بسبب بدء انخفاض درجات الحرارة، ودخول فصل الشتاء، ولكن على وزارة الصحة المصرية أن تستعد لمواجهة المرض في الأعوام المقبلة، لاسيما وأن مصدره مازال قائمًا.

صور تظهر سوء الخدمات والتلوث الحاد في قرية “حجازة القبلية” في صعيد مصر، حيث يُظهر انتشار مياه الصرف الصحي في الشوارع.


نادية إبراهيم
صحفية مصرية متخصصة في التحقيقات والتقارير

Search