أزمة الدولة الوطنية وخرائط المستقبل

يشير المقال إلى صعوبة بناء الدولة الحديثة في ظل ضعف الهويات الوطنية واستمرار الولاءات القبلية والطائفية، مع توضيح أن أزمة الدولة الوطنية مرتبطة بفشل النخب الحاكمة في تحقيق المواطنة وسيادة القانون.
Picture of أشرف راضي

أشرف راضي

يرى علماء السياسة المتخصصون في منطقة الشرق الأوسط، أن التعريف الدقيق للدولة لا ينطبق إلا على ثلاث فقط من دول المنطقة، مصر وتركيا وإيران. ووفق هذه الرؤية، تكون مصر الوحيدة من بين الدول العربية التي ينطبق عليها تعريف الدولة بالمعنى الدقيق المستخدم في علم السياسية. الأمر قد يختلف من منظور التعريف القانوني للدولة، والذي يرفع عدد دول المنطقة العربية إلى 21 دولة. وعلى الرغم من أهمية التعريف القانوني نظرًا لارتكازه على مفهوم السيادة التي تمارسها السلطة الحاكمة، إلا أن هذا التعريف غير كافٍ للتعامل مع المشكلة المتعلقة ببناء الدولة. من هنا، تبرز أهمية المعنى الاصطلاحي المستخدم في العلوم السياسية، الذي يركز على جوانب يغفلها التعريف القانوني الذي يختزل الدولة في إقليم وشعب وحكومة واعتراف دولي، الذي يساعدنا على رصد ما قد يعتري الدولة من ضعف وهشاشة قد تهدد وجودها. ولا يساعد التعريف القانوني أيضًا على تفسير هيكل السلطة داخل الدولة والعلاقة والتفاعل بين مكوناتها، ونمط العلاقة بين السلطات الثلاث – التشريعية والتنفيذية والقضائية، أو طبيعة العلاقات المدنية- العسكرية أو شكل العلاقة بين الدولة والمجتمع والمواطن الفرد. كذلك، لا يساعدنا التعريف القانوني على فهم الأشكال المختلفة للدول، وفي المقابل، يسمح التعريف السياسي بالاستفادة من النظم المعرفية العامة والفرعية التي تهتم بدراسة الدولة، من بينها علم السياسة وعلم الاجتماع السياسي وعلم الاقتصاد السياسي، وعلم الإدارة والأنثروبولوجيا.   

بتطبيق التعريف السياسي للدولة، يُلاحظ أن مصر تحتل مكانة بارزة بين الدول الشرق أوسطية الثلاث المشار إليها. فإلى جانب أنها أقدم دولة عرفها التاريخ المدون للبشرية، فهي تتمتع منذ تأسيس الدولة الحديثة، على يد محمد علي وأبنائه، بحدود مستقرة وكيان متماسك، جغرافيًا واجتماعيًا وبشريًا، رغم تنوعه. ومصر بحدودها الراهنة كانت مركزًا لمشروعات إمبراطورية جرى إجهاضها على مدى التاريخ، كما أنها تمتعت بوضع متميز في ظل الإمبراطوريات التي تعاقبت على المنطقة بدءًا من الإمبراطورية الرومانية وانتهاء بالإمبراطورية العثمانية. وإذا نظرنا إلى خريطة المناطق التي كان يتم حكمها من مصر حتى عام 1840، يمكن فهم المنطق وراء الشكل الراهن للنظام الدولي لمنطقة الشرق الأوسط، من منظور القوى الأوروبية التي كانت تتنافس في ذلك الوقت على تركة رجل أوروبا المريض. لكن قدرة الدول الوطنية على البقاء والصمود، لم تكن مرهونة فقط بإرادة القوى الخارجية، وإنما استندت إلى تكوينات اجتماعية وإلى عوامل داخلية داعمة حافظت على بقاء الدولة الوطنية، أو القُطرية، بشكلها الراهن، على الرغم من الأزمات التي ارتبطت بعملية بناء الدولة.  

 

نوصي للقراءة: 13 عامًا عجاف في ظلّ الثورة المضادّة..  لماذا هُزمت يناير؟

 

مصر وأزمة الدولة الوطنية

لا يمكن فهم طبيعة الأزمة الراهنة للدولة الوطنية في المنطقة دون فهم البدايات التأسيسية لتشكل نظام الدول في منطقة المشرق العربي، التي تضم العراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين تحت الانتداب، بدون العودة إلى جذورها المرتبطة بالملابسات التي أدت إلى معاهدة لندن في عام 1840، والتي عبَّرت عن استجابة القوى الأوروبية الكبرى لما كان يُعرف في ذلك الوقت بـ “المسألة الشرقية”، ويصورها كثير من المراقبين على أنها مؤامرة استعمارية لتقليص النفوذ المصري، ووضع قواعد لتعامل القوى الكبرى مع القدرات الكامنة للدولة المصرية لا تزال سارية حتى اليوم، والتي تتلخص في الحفاظ على الحد الأدنى اللازم لبقاء الدولة وتحجيم نفوذها الإقليمي وتقليص قدرتها على التأثير المتجاوز لحدودها، خصوصًا في منطقة الشام والمشرق العربي. لقد كانت معاهدة لندن التي وقعت في 15 يوليو 1840 بين الدولة العثمانية وأربع قوى أوروبية هي الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية النمساوية وبروسيا (التي تعد نواة الدولة الألمانية) وبريطانيا، محاولة لدعم الدولة العثمانية في مواجهة طموح والي مصر، ووضع حدود لتوسع النفوذ الإقليمي لمصر بقيادة محمد على، مستغلاً الاضطرابات في الولايات العثمانية في منطقة الشام، بعد نجاح هذه الدول في تقليص قوة مصر العسكرية، إثر تدمير أسطولها في معركة نفارين البحرية في أكتوبر 1827. 

قبل حكَّام مصر على ما يبدو، ولا يزالوا يقبلون، تلك الحدود التي وضعتها القوى الكبرى لنفوذها الإقليمي. فبعد فترة قصيرة من رفض شروط الاتفاقية، بدعم من فرنسا، اضطر محمد على لقبولها في 27 نوفمبر 1840، من أجل الحفاظ على مكاسبه في مصر، والتركيز على بناء الدولة في مصر، بعد انتزاع تأييد القوى الأوروبية الكبرى واعترافها بأن يكون لمصر وضع مميز تحت حكمه هو وأبنائه من بعده، وأدخلوا إصلاحات أفرزت كيانا سياسيًا واجتماعيًا متماسكًا يضمن وجودًا مستمرًا للدولة المصرية، معتمدًا في ذلك على الوضع التاريخي لمصر، ووجودها المستمر على مدى قرون رغم تعاقب الغُزاة عليها من كل حدب وصوب. لقد أنهت هذه الاتفاقية الحرب المصرية العثمانية الثانية، بإخراج القوة العسكرية المصرية من الشام، لكنها لم تنجح في حل المشكلة هناك التي كانت تعرف بأزمة المشرق، وتتجلى في أزمة الدول الوطنية المتعددة القوميات والطوائف والأعراق، التي تجعل أي تغيير سياسي محتمل يشكل تهديدًا وجوديًا للدولة ذاتها، واحتمال تفككها إلى عدة دويلات أو إمارات متحاربة الأمر الذي يهدد الاستقرار الإقليمي. وتجسد أزمة الدولة في العراق وفي سوريا وفي لبنان، وإلى حد ما في الأردن رغم نجاح العرش في الحفاظ على استقرار المملكة في ظل تحديات إقليمية مرتبطة بالصراع الإسرائيلي- الفلسطيني والذي أدى إلى تحديات داخلية بسبب التركيب الديموغرافي الذي يشكل الفلسطينيون أغلبية فيه وأغلبية ساحقة في العاصمة عَمَّان.

لعب مشروع الدولة الحديثة الذي تبناه محمد علي وأبنائه دورًا محوريًا في بلورة الهوية المصرية بنهاية القرن التاسع عشر، وكانت هذه الهوية الوطنية المتميزة، ثقافيًا واجتماعيًا، بدأت في الظهور أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وأعطتها الحملة الفرنسية دفعة جديدة، إلى أن تجسدت في مطلع القرن العشرين بمشروع “مصر للمصريين”، لتصبح هذه الهوية المصرية هي الأساس الذي منح المصريين ثقة مكنتهم من التعامل مع شعوب المنطقة في المحيط العربي والشرق أوسطي والمتوسط، والذي جعل مصر مركزاً ثقافيا في العالم، رغم الاحتلال العسكري البريطاني، والأهم أنه كان الركيزة الأساسية التي قام عليها مشروع الدولة الوطنية الحديثة. لكن ليس هناك ما يدعو إلى الاطمئنان إلى بقاء الدولة المستند إلى إرث تاريخي ممتد لدولة مركزية تكاد أن تكون هي الحقيقة الثابتة في تاريخ مصر العريق، وما الحديث الذي تكرر في الآونة الأخيرة عن أن الدولة في مصر ليست استثناء، وأن وجودها قد يكون مهددًا، إلا تعبيراً عن هاجس يؤرق كثير من المصريين، منذ مطلع الثمانينات، حين جرى تداول وثيقة منسوبة إلى صحفي إسرائيلي يدعى أوديد ينون، وهو موظف سابق في وزارة الخارجية الإسرائيلية عن خطة صهيونية لتقسيم مصر إلى دويلات، ولاقت هذه الوثيقة رواجًا بسبب اعتقاد ثابت لا يتغير بأن تفتيت المنطقة وتقسيمها هدف تسعى إليه إسرائيل والقوى الدولية الداعمة لها.

مشكلة هذا الاعتقاد أنه يحول دون رؤية التغيرات الجارية، سواء فيما يخص التصور الإسرائيلي أو الدولي للمنطقة أو فيما يخص طبيعة أزمة الدولة الوطنية لدينا، والنظر إلى أي تحليل نقدي لهذه الأزمة على أنه يخدم هذه المؤامرة الصهيونية الأمريكية، أو المؤامرة اليهودية على العالم، بتعبير الإسلاميين. هكذا نظر البعض إلى تصريحات الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي في عام 2016، حين قال “لسنا في دولة حقيقية.. إنما أشباه دولة”، مشيرًا إلى أن الدولة الحقيقية هي “دولة قانون ومؤسسات.. دولة تحترم نفسها والعالم يحترمها”، رغم أن هذا التصريح يذكرنا بحديث الرئيس السادات عن بناء دولة المؤسسات بعدما حسم الصراع على السلطة لصالحه في مايو عام 1971. المشكلة هي أن الرئيس نفسه كثيرًا ما يصدر تصريحات عديدة له تحذر المصريين وتعكس تبنيه هذا الاعتقاد بأن هناك مؤامرة دولية تستهدف الدولة المصرية لانتقاد المعارضة لسياساته الداخلية، ولا تفيد مثل هذه التصريحات أيضًا في تحليل طبيعة الأزمة المزدوجة التي تعانيها مصر فيما يخص أزمة الدولة الوطنية في المنطقة، والتي تطعن في شرعية الكيانات التي حصلت على استقلالها عن القوى الاستعمارية تباعًا في السنوات التالية للحرب العالمية الثانية.

 

نوصي للقراءة: مأزوم أم محتجز: الانتقال إلى الديمقراطيّة في ظلّ ولاية السيسي الأخيرة 

 

الدولة القطرية والدولة القومية

للمفكر اللبناني الراحل جورج طرابيشي كتاب بعنوان “الدولة القطرية والنظرية القومية” صدر أيضًا في مطلع عام 1982، يحاول فيه التنظير لظاهرة الدولة القطرية في سياق نظرية القومية العربية التي تطرح وحدة البلدان العربية كوسيلة أساسية ليس فقط لمواصلة مشروع التحرر الوطني واستكمال مهامه وفي مقدمتها تحرير فلسطين، وإنما أيضاً كآلية لتحقيق نهضة شاملة في المنطقة وأن تحتل مكانها اللائق على الخريطة العالمية. الإشكالية هنا أن النظام الإقليمي العربي، الذي تعد جامعة الدول العربية التعبير المؤسسي له قام ليدافع عن حدود الدول التي نشأت بعد الاستعمار، في حين أن المفكرين القوميين العرب الحالمين بالوحدة العربية يعتبرون هذه الدول القطرية ونخبها الحاكمة عقبة أساسية في الطريق لتحقيق الوحدة العربية وأنه لهم مصلحة في الإبقاء على واقع التجزئة الذي يعتبرونه سبباً أساسياً فيما تواجهه الشعوب العربية من أزمات ونكبات، على النحو الذي تجلى في الحرب الأخيرة على غزة. هناك مشروع وحدودي آخر يزاحم مشروع الوحدة العربية، هو مشروع الوحدة الإسلامية، وهناك مشتركات كثيرة في موقف المشروعين من الدولة القطرية، أو ما نطلق في هذا المقال الدولة الوطنية.

على الرغم من ارتباط النخبة المصرية منذ أربعينات القرن الماضي، وما قبلها بمشروع الجامعة الإسلامية ثم بمشروع الجامعة العربية والذي يعبر عن تحولات في إدراك تلك النخبة للهوية المصرية في العقود السابقة على هذا التحول، رصدها كتاب “هوية مصر بين العروبة والإسلام 1900- 1930″، إلا أن مصر دافعت بقوة عن الدول الوطنية القائمة في المنطقة في أكثر من مناسبة منذ الخمسينات فيما يخص استقلال السودان عن مصر وفيما يخص لبنان والكويت، مع تشجيعها للتجارب الوحدوية الطوعية التي كانت مصر نفسها طرفًا أساسيًا في بعضها، والتي فشلت بسبب قوة التزام النخب السياسية بعد الاستقلال بالدولة الوطنية التي ورثوها عن الحقبة الاستعمارية، والتي أصبحت واقعًا مؤسسياً يصعب تجاهله. لكن ثمة إشكالية أخرى تتصل بمفهوم الدولة في الخبرة العربية الإسلامية تناولها العديد من المفكرين والكتاب العرب، وتناولها بمزيد من التحليل المفكر الفلسطيني القومي المقيم في قطر، عزمي بشارة، في كتابه “مسألة الدولة: أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات”، الصادر في عام 2023، والذي حاول فيه صياغة مفهوم للدولة من منظور نقدي إنساني، في محاولة للتنظير لمفهوم الدولة الحديثة كأساس لمشروع إعادة بناء الدولة في المنطقة العربية، وفي منطقة الشرق الأوسط، وهو موضوع وثيق الصلة بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، أيضًا، وأشار إلى ضرورة التنظير لمفهوم الدولة في ضوء التحولات في الفكر السياسي المرتبطة بظاهرة العولمة ومرحلة ما بعد الدولة.

هذا المقال هو أيضًا محاولة لإعادة النقاش حول أزمة الدولة الوطنية في وقت يتزايد فيه الحديث عن خرائط يعاد رسمها لدول المنطقة بما يتماشى مع المصالح الإسرائيلية والغربية المتصورة. والفرضية الأساسية التي ينطلق منها المقال هي أن أزمة الدولة الوطنية في المنطقة لا يرتبط بواقع التجزئة وفشل مشروعات الوحدة العربية أو الإسلامية المتخيلة، وإنما يرتبط أساساً بفشل النخب الحاكمة في بناء الدولة الوطنية وبلورة الهويات الوطنية التي تجعلها أكثر ثقة في الانفتاح على العالم وعلى مشاريع التعاون الإقليمي وبناء نظام إقليمي فاعل وقادر على تمكين مجموعة الدول التي يتألف منها على النهوض بشعوب المنطقة اقتصاديًا واجتماعيًا وفكريًا. بعبارة أخرى، يحاول هذا المقال التطرق إلى بُعدٍ جوهري غفل عنه الخطاب العربي المتعلق بإعادة طرح مشروع للوحدة العربية على غرار مشروع الاتحاد الأوروبي متعلق بفكرة الدولة الحديثة التي تقوم على أساس المواطنة وسيادة القانون، وهي الفكرة التي جعلت تصفية نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ممكنة على أساس مبدأ الحق المتساوي للمواطنين في نظام ديمقراطي وقانون يحقق المساواة لأبناء الدولة الجديدة وفق المبادئ المنصوص عليها في كثير من الدساتير العربية، والتي لم تبرح مكانها من النصوص إلى الواقع.

 

نوصي للقراءة: سيناريوهات التغيير السياسيّ والانتقال الديمقراطيّ في مصر

 

بين الإمبراطورية ومزيد من التجزئة

لفهم هذه النقطة يكون من الضروري التمييز بين مفهوم الدولة، وغيره من مفاهيم قد تتداخل معه كمفهوم النظام السياسي أو الحكومة، لكن فهم التداخل بين الدولة وبين هذه المفاهيم والترتيبات والتفاعل فيما بينها ضروري لفهم طبيعة أزمة الدولة الوطنية بعد الاستعمارية في المنطقة من ناحية، وفهم طبيعة أزمة الدولة المصرية من ناحية أخرى، خصوصاً في ضوء التطورات الأخيرة في سوريا بعد الإطاحة بحكم بشار الأسد والمخاطر المتصورة التي تهدد وجود الدولة السورية. وعلى الرغم من صمود العراق بمكوناته الثلاث، الشيعية والسنية والكردية، في مواجهة مخاطر مماثلة تهدد وجوده في أعقاب حرب الكويت عام 1991، والتي تفاقمت في أعقاب الغزو الأمريكي في عام 2003، لا تزال هناك مخاطر تهدد بتغيير شكل الكيانات السياسية التي تشكلت في تلك المنطقة بسبب تكويناتها الاجتماعية والعقائد السياسية المتصارعة ولكونها ساحة للصراع والتنافس فيما بين ثلاث مشروعات إمبراطورية، الأمر الذي يستدعي بدوره تدخلات دولية وإقليمية. هناك تحديات أخرى تضغط على مفهوم السيادة الذي يعد ركناً أساسياً في تعريف الدولة بالمعنى القانوني وأيضا بالمعنى السياسي، ناجمة عن التحولات في بنية الاقتصاد السياسي العالمي بسبب العولمة، وأخرى ناجمة عن تطور المعايير الدولية والمنظمات الداعمة لها. 

في ظل هذا السياق الذي تتداخل فيه العوامل الداخلية مع العوامل الدولية والإقليمية، يحاول هذا المقال فهم أزمة الدولة الوطنية ومعرفة كيف يمكن للتعامل مع الأبعاد والتداعيات المختلفة لتلك الأزمة، أن يؤثر على خريطة منطقة الشرق الأوسط، وما هي النتائج المترتبة على التطورات الراهنة في منطقة المشرق العربي نتيجة للصراعات الممتدة على الكيانات السياسية الراهنة؟ وكيف يمكن لمصر أن تتعامل مع هذه التطورات ومع أزمة الدولة الوطنية، في ظل الترتيبات والقيود التي أرسيت منذ عام 1840 وما بعده، وما تأثير ذلك على مستقبل مصر كدولة؟ فخلافاً لفترات سابقة في تاريخ المنطقة، لم يتأثر خلالها كيان الدولة المصرية ولا هويتها الوطنية بالتطورات في المنطقة، فإن المصريين حكاماً ومحكومين قد يستشعرون خطراً وجودياً يعززه إحساس بوجود تهديدات ومخاطر خارجية نتيجة للتحولات الكبيرة في استراتيجيات القوى الدولية الكبرى، لاسيما الولايات المتحدة، وفي ظل وجود قوى إقليمية تطمح لفرض سيطرتها على المنطقة، ونتيجة تراجع الدور الفعال والمؤثر لمصر على المستوى الإقليمي، وبسبب أزماتها الداخلية، التي تؤثر على قدرتها على التكيف مع المتغيرات والتعامل معها. 

ومن المؤسف أن نقاط القوة التي كانت تتمتع بها مصر وفي مقدمتها هويتها الوطنية طرأت عليها بعض التغيرات نتيجة صعود الولاءات الأولية، لاسيما الولاء الديني، والولاءات القبلية والعشائرية والعائلية والجهوية، بسبب تحولات سياسية كبيرة على المستويين العالمي والمحلي، وهذا الوضع قد يجعل مصر على قادرة على التعامل مع أزمة الدولة الوطنية في المنطقة، في وقت تواجه فيه دولها تهديدًا وجوديًا قد يسفر عن تفكك الكيانات السياسية فعليًا إلى دويلات طائفية وعشائرية وإثنية، تتوزع ولاءاتها لقوى إقليمية أكبر، أو إلى بقاء الكيانات السياسية كما هي لكن مع تقاسمها ضمن مناطق لنفوذ القوى الإقليمية المتصارعة، أو ابتلاعها في كيان امبراطوري في حال تحقيق أحد المشاريع الإمبراطورية نصراً واضحاً وحاسماً. إن هذا الوضع يتطلب التفكير في مسألة بناء الدولة الوطنية والحفاظ على مقوماتها كحد أدنى للصمود في مواجهة التحديات المذكورة. 

 

نوصي للقراءة: أزمة الحكم في مصر: كيف تعيق الهيمنة السياسية أفق الإصلاح؟

 

نظرية الدولة الفاشلة وبناء الأمم

من اللافت في هذا الصدد، ربط الرئيس السيسي بين الحديث عن الدولة الفاشلة وبين حرب الشائعات التي حذر المصريين منها، وهو ربط لا يخدم تقدم الحوار بشأن تأمين المجتمع المصري والدولة في مواجهة المخاطر الداخلية والخارجية. ولا ينفصل هذا التصور عن استمرار الخلط بين الدولة وبين النظام السياسي، والتصورات الأخرى المرتبطة بوظيفة الدولة وعلاقتها بالمواطن الفرد والمجتمع من منظور الدولة الحديثة. فعلى الرغم من اتفاق الفلاسفة والمفكرين، عبر العصور على ضرورة الدولة وأهميتها، واتفاقهم بشأن الدفاع عن حقها المشروع في احتكار السلطة الإلزامية، إلا أنهم اختلفوا حول الغاية أو الحكمة من وراء هذا الاحتكار وحول طبيعة الأهداف التي تسعى الدولة لتحقيقها، والتي تتراوح بين توفير الحياة الكريمة أو حفظ الأمن والنظام العام أو إدارة شؤون المجتمع وحفظ حق أفراده في الحياة والدفاع حقهم في الحرية، ويرى كثير من الفلاسفة أن الدولة أنشأت للدفاع عن حرية الفرد وحقوقه في مواجهة كيانات أخرى أكثر طغيانًا. ويتفق الفلاسفة والمفكرون على أن ممارسة السلطة الإلزامية للدولة وطاعتها ليست أمراً مطلقاً وإنما مشروطة ومقيدة بالقوانين واللوائح التي تضع حدودًا لممارسة هذه السلطة والعمل على تحقيق الأهداف التي يعتبرها المواطنون نواحي أساسية لانتظام حياتهم، فالمواطنون يهتمون بالنتائج التي تحققها الدولة.

فالتمييز بين الدولة والحكومة من المبادئ الأساسية في علم السياسة، الذي ينظر إلى الحكومة باعتبارها وكيل عن الدولة تقوم على تنفيذ أغراضها، وهي ليست في حد ذاتها السلطة الإلزامية العليا، وتستمد سلطتها من الصلاحيات المخولة لها من الدولة وفي حدودها وتحاسب الحكومة إذا تجاوزت هذه الحدود، وتعتمد الدولة على وسائل مثل الدساتير المكتوبة وقوانين حقوق الأفراد ومبدأ الفصل بين السلطات لمنع سوء استخدام الحكومة للسلطة التي تمنحها لها الدولة. هذا الخلط وقع فيه بعض المنظرين الغربيين الذي سكوا مصطلح الدولة الفاشلة، فالدولة كمفهوم مجرد لا يمكن التعامل معها من منظور النجاح أو الفشل، وإنما الذي ينجح أو يفشل هو الحكومات أو النظم السياسية المكلفة بإدارة شؤون الدولة. فالمشكلة في سوريا أو في أي دولة عربية أو غير عربية ليست في وجود الدولة وإنما في الحكومات أو في أنظمة الحكم التي تعاقبت عليها وفي الصراع على السلطة من أجل السيطرة على الدولة ومؤسساتها وإدارتها بأسلوب غير ديمقراطي لا يحقق مصالح الغالبية العظمى للمواطنين، وفي تضخم الدولة إلى الحد الذي يدمر الوكالات الاجتماعية القادرة على توفير الحماية للأفراد المنتمين لقوى اجتماعية، وتهميش الشعوب وحكمها بالقوة والحديد والنار. 

إن مفتاح التعامل مع أزمة الدولة الوطنية في المنطقة يبدأ بالتعامل مع أزمة بناء الدولة الحديثة التي تعمل لصالح مواطنيها وتعمل على تمكينهم. ففي مصر ترى بعض الأوساط المجتمعية فيها أن عام 2025، هو “الاختبار السياسي الأصعب للدولة المصرية”، بسبب التحولات التي شهدتها سوريا والتي أعطت لتيار الإسلام السياسي قوة دفع جديدة، وبسبب الإصرار على تصوير الأزمة في مصر كما لو كانت نتيجة تدخلات أجهزة استخبارات أجنبية فقط، تسعى إلى توظيف مثل هذه التوقعات للتأثير نفسيًا على المواطنين والتمهيد لتغييرات معينة لصالح مشروعات أخرى، من خلال التشجيع على إثارة الفوضى. ولا يمكن التعامل مع أزمة الدولة الوطنية إلا من خلال التصدي لمظاهر التردي والانهيار السياسي والاقتصادي والاجتماعي التي تعاني منها كثير من البلدان العربية، ومن بين مصر، فإنكار المشكلة لا يفيد في منع وقوع الكارثة، والاعتراف بوجودها يكون غالباً مقدمة للحل، وهذا الحل لا بد وأن يفضي إلى أن تصبح مصر دولة حقيقية لا أحد فيها فوق القانون، دولة تؤكد مفهوم السيادة للشعب وتصون حريات المواطنين وحقوقهم وتعزز قدرة المجتمع على تنظيم نفسه عبر كيانات مدنية مستقلة.

يجب أن تكون رسالة مصر واضحة لجميع الأطراف الإقليمية والدولية وهي أن أي خرائط للمستقبل تدفع إلى تفتيت دول المنطقة إلى دويلات وإمارات لن يؤدي إلا إلى مزيد من زعزعة الاستقرار الإقليمي واستقرار الدول والمجتمعات، فخرائط المستقبل يجب أن تنطلق من فكرة الدولة الوطنية التي لطالما دافعت مصر عنها، والحفاظ على سلامتها الإقليمية واستقرارها الاجتماعي والعمل على بناء الدولة الحديثة ضمن هذه الحدود، وأن بناء هذه الدول واطمئنان نخبها الحاكمة وتأمينها ضد أي تهديدات خارجية وتشجيعها على التعامل مع القضايا والمشكلات الداخلية المرتبطة بعمليات بناء الدولة من شأنها يفتح الطريق في المستقبل لعلاقات أكثر استقرارا وفائدة على المستويين الإقليمي والدولي ويفتح الباب لحل كثير من المشكلات والأزمات المعقدة.     

أشرف راضي
كاتب ومحلّل سياسيّ مصريّ، صحفي سابق في رويترز وعدد من المنصّات الصحفيّة

Search