الصحة النفسية للعمال المصريين: 32 مادة للسلامة البدنية وصفر للنفسية

في مصر، يعاني 28 مليون مواطن من مشكلات نفسية، أغلبهم من العمال، بينما لا يتجاوز عدد مستشفيات الصحة النفسية 15 مستشفى فقط، وسط غياب كامل للتشريعات التي تحمي الصحة النفسية للعاملين.
Picture of رشا عمار

رشا عمار

بعد معاناة شديدة مع الاكتئاب الناجم عن ضغوط العمل المستمرة، قرر أحمد ياسر (28 عامًا) ترك وظيفته السابقة في إحدى شركات التسويق العقاري بالقاهرة الجديدة. عمله في هذا المجال كان مرهقًا نفسيًا، حيث اعتمد النظام على المكافآت بدلاً من الرواتب الثابتة، ما زاد من حدة الضغط عليه. على الرغم من بحثه المستمر عن وظيفة جديدة لمدة ستة أشهر، إلا أنه لم يجد فرصًا تناسب طموحاته أو احتياجاته. ومع اقتراب نفاد مدخراته، فإن أكبر خوف له الآن هو العودة إلى العمل في بيئة مماثلة، حيث يروي عن تجربته قائلًا:
“العمل في هذا المجال كان يتطلب منا ساعات طويلة قد تصل إلى 12 ساعة يوميًا، تحت ضغط مستمر لتحقيق أهداف مبيعات محددة، وبدون أي فترات راحة. في حال لم أتمكن من تحقيق النسبة المطلوبة، كنت أواجه خصمًا كبيرًا من راتبي الزهيد. كنت أشعر وكأنني أعيش في بيئة لا تقدر الإنسان، حيث يعم الضغط النفسي والعصبي، مما جعلني أشعر يوميًا بأنني على شفا الانهيار.” يقول ياسر لزاوية ثالثة.

أصبحت أخبار انتحار الشباب في مصر بسبب ضغوط العمل تتكرر بشكل مقلق في الآونة الأخيرة، في ظل غياب أي تشريعات أو إجراءات فعّالة لحماية الصحة النفسية للعمال والموظفين. على الرغم من أن قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 يركز على الصحة البدنية، فإنه يتجاهل تمامًا الصحة النفسية، رغم وجود 32 مادة تتعلق بالصحة والسلامة المهنية، حيث لا يُولي القانون أي اهتمام للصحة النفسية، وهو ما يراه المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بمثابة ثغرة كبيرة.

في منتصف أغسطس الماضي، اهتزت محافظة المنيا جراء وفاة الشاب محمد ممدوح (29 عامًا)، نتيجة انفجار مفاجئ في المخ ناتج عن ضغط عصبي متراكم بسبب ضغوط العمل القاسية. محمد كان يعمل موظف استقبال في أحد الفنادق بالمنيا، وعاش تحت ضغط شديد لدرجة أنه أصيب بتلك الأزمة أثناء عودته من العمل. وفي واقعة مماثلة في يونيو، كشفت تحقيقات النيابة العامة بمنطقة شمال الجيزة عن انتحار موظف في وزارة الزراعة بعد أن ألقى بنفسه من أعلى أحد المباني في منطقة الدقي، بسبب ضائقة مالية خانقة وضغوط اجتماعية كبيرة.

وفي فبراير الماضي، انتحر موظف شنقًا في مدينة الحوامدية بمحافظة الجيزة، بعد أن قرر مديره خصم أسبوع من راتبه، بسبب خطأ في العمل، الأمر الذي تزامن مع مروره بأزمة نفسية شديدة بسبب ضغوط العمل والمعيشة، بحسب تصريحات زوجته، ما أدي في النهاية بانتحاره بشكل مأساوي.

ورغم أن قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 يحتوي على 32 مادة متعلقة بالصحة والسلامة المهنيتين، وأيضًا لائحة إصابات العمل، إلا أن جميعها لم تلقي بالًا لمسألة الصحة النفسية، بل انصب التركيز على الصحة البدنية فقط. من هنا، تزايدت الحاجة إلى توفير الحماية للعامل والاهتمام بالمعيار المهدر، وهو سلامة الصحة النفسية والعقلية للعامل كأحد معايير العمل الدولية، وفق دراسة حديثة أصدرها المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية للباحث العمالي، حسن بربري.

 

نوصي للقراءة: العمال.. وقود أرباح رجال الأعمال: الدولة تشاهد!

 

بيئة عمل شديدة التوتر

يقول إسلام هريدي، مهندس مدني يعمل في إحدى شركات القطاع الخاص الكبرى في مجال الإنشاءات، إنه يحصل على مقابل مادي جيد نظير عمله، إلا أن هذا لم يخفف من الضغوط النفسية والجسدية التي يعاني منها يوميًا. ففي بيئة العمل الشاقة التي لا تعرف التوقف، يشعر إسلام بالاستنزاف المستمر، مما يجعله عاجزًا عن إيجاد وقت أو طاقة للحياة الاجتماعية أو الأسرية.

يتحدث إسلام عن معاناته في بيئة العمل إلى زاوية ثالثة قائلاً: “أشعر بتوتر دائم، القلق يرافقني على مدار اليوم. نحن مسؤولون عن كل شيء، ورغم الإنجازات المستمرة والأرباح التي تحققها الشركة بفضل مجهوداتنا، فإن المديرين يرسلون لنا إشارات مستمرة بعدم الرضا، وهذا يزيد من الضغط. ومع غياب الفرص الحقيقية، وازدياد نزعة رأس المال، نشعر بأننا مجرد أدوات يُستنزف منها كل شيء. أحيانًا، يكون التوتر النفسي والجسدي غير قابل للتحمل، لكننا مضطرون للاستمرار بسبب التزاماتنا الأسرية والمجتمعية، خاصة مع زيادة تكاليف المعيشة بشكل ملحوظ.”

تتحدث سمر حسنين، طبيبة جراحة العظام في أحد المستشفيات التعليمية الكبرى بالقاهرة، عن الضغوط التي تواجهها يوميًا في عملها، حيث تقول: “أعمل في جراحة العظام وأجري جراحات يوميًا قد تتعدى سبع عمليات في بعض الأحيان، لكن الضغط النفسي والعصبي يجعلني أشعر بالتعب الدائم. أحيانًا أفكر أنني مصابة بالاكتئاب بسبب الإجهاد المستمر. الوضع مشابه بالنسبة لزملائي في الأقسام الأخرى، حيث نواجه بيئة عمل صعبة للغاية مع رواتب غير كافية.”

تتزايد معدلات الانتحار عالميًا، كما تشير منظمة الصحة العالمية، حيث بلغت 11 حالة انتحار لكل 100 ألف شخص في 2021. هذه الفروقات في المعدلات تعكس تأثير الضغوط الاقتصادية والاجتماعية في بعض البلدان. على سبيل المثال، في اليابان وكوريا الجنوبية، حيث تتسم ثقافات العمل بالضغط الشديد والتنافسية، ترتفع معدلات الانتحار بشكل ملحوظ. بالمقابل، في دول مثل السويد والنرويج، حيث تركز هذه الدول على تحقيق توازن بين العمل والحياة وتوفر شبكات دعم قوية، تنخفض هذه المعدلات.

مصر تُعد من الدول التي تشهد معدلات انتحار مرتفعة، حيث وثقت إحصائيات مكتب النائب العام 2,584 حالة انتحار في 2021. وفقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، تظهر أن الفئة الأكثر عرضة لهذا الفعل هم الشباب في العقدين الثاني والثالث من العمر، إذ سجلت مصر في 2019 3,022 حالة انتحار. هذه الأرقام تشير إلى أن ضغوط العمل، فضلاً عن تحديات الحياة الاقتصادية والاجتماعية، تلعب دورًا كبيرًا في تلك الزيادة، مما يسلط الضوء على الحاجة الماسة لإجراءات دعم الصحة النفسية في مكان العمل.

 

نوصي للقراءة: من الاحتراق الوظيفي إلى الهجرة.. لماذا يترك الأطباء النفسيون مصر؟

 

تعددت الأسباب

كان تقرير صادر عن مرصد الأزهر الشريف قد كشف أن الفترة الأخيرة شهدت بالفعل تكرار حوادث الانتحار بوسائل وطرق متعددة، مظهرًا أن هناك العديد من الأسباب التي قد تدفع بعض أفراد المجتمع إلى الانتحار، مرجعًا الأسباب إلى الاضطرابات الأسرية، والابتزاز الالكتروني، وغياب الوازع الديني، والظروف المعيشية الصعبة والضغوط.

وتتعدد الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى الانتحار، إذ تعد ضغوط العمل واحدة من العوامل الهامة التي تسهم في تفاقم هذه الأزمة. العمل في بيئة ذات متطلبات عالية وضغوط شديدة قد يخلق حالة من الإرهاق النفسي المزمن، ما يؤثر سلبًا على الصحة العقلية للأفراد، وفق منظمة الصحة العالمية.

في العديد من الحالات، يتعرض العمال والموظفون لضغوط هائلة لتحقيق أهداف غير واقعية، ما يؤدي إلى مشاعر القلق والاكتئاب، إضافة إلى ذلك، فإن عدم وجود دعم مناسب من جهة العمل يمكن أن يفاقم من مشاعر العزلة والعجز. هذا الضغط المستمر، بجانب غياب البرامج الفعالة للتعامل مع مشكلات الصحة النفسية في أماكن العمل، يسهم في زيادة احتمالات التفكير في الانتحار كوسيلة للتخلص من الألم المستمر.

خلال العقد الماضي، شهدت معدلات الإصابة بالاضطرابات النفسية في مصر زيادة ملحوظة، ما يعكس تزايد الوعي والمشاكل النفسية في المجتمع المصري. وفقًا لتقرير وزارة الصحة المصرية، فإن نسبة الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية في مصر تقدر بنحو 25% من السكان، تتصدرها اضطرابات المزاج (اضطرابات الاكتئاب على وجه التحديد) والتي بلغت 43.7% وبلغت اضطرابات تعاطى المخدرات 30.1٪، هذا الارتفاع يعكس تغيرات في الوعي والتشخيص، حيث كانت الأرقام أقل بكثير في السنوات السابقة. على سبيل المثال، في دراسة سابقة أجريت في عام 2012، كانت النسبة تقدّر بنحو 12%، مما يشير إلى زيادة ملحوظة في الحالات المسجلة والموثقة.

وبحسب المسح القومي الشامل للاضطرابات النفسية الذي أُجري عام 2023 على أكثر من 30 ألف مواطن من مختلف المحافظات، وُجد أن واحدًا من كل أربعة مواطنين يعاني من مشكلات نفسية، أي أن ما يقارب 28 مليون مواطن، أغلبهم من فئة العمال، كما أشار التقرير لديهم مشكلات نفسية تحتاج إلى العلاج، وفي المقابل، فإن عدد مستشفيات خدمة الصحة النفسية والتابعة للأمانة العامة للصحة النفسية والإدمان تبلغ نحو 15 مستشفى، بإجمالي سعة سريرية أربعة آلاف و 498 سرير، ما يوضح العجز الشديد في مؤسسات العلاج النفسي نسبة إلى عدد المصابين المصريين بالإصابات النفسية.

يعلق استشاري الطب النفسي وعلاج الإدمان، أحمد موافي، في حديثه مع زاوية ثالثة، ويبين أن الضغوط النفسية المرتبطة بالعمل يمكن أن تؤدي إلى مجموعة واسعة من الاضطرابات النفسية التي تؤثر بشكل كبير على حياة الأفراد. تشمل هذه الاضطرابات القلق والاكتئاب، والتي غالبًا ما تكون ناتجة عن بيئة العمل المحفوفة بالضغوط مثل مواعيد التسليم الضيقة، ومتطلبات العمل العالية، وعدم توازن الحياة المهنية والشخصية.

ويضيف في حديثه معنا: “عندما يواجه الأفراد ضغطًا مستمرًا في بيئة العمل، يمكن أن تتسارع الأعراض، ما يؤدي إلى تطور حالات مثل اضطراب القلق العام والاضطراب الاكتئابي الكبير، كما تشير الأبحاث إلى أن هذه الضغوط تؤثر على وظائف الدماغ مثل تنظيم المزاج والتفكير، مما يساهم في الشعور بالإرهاق العاطفي والعقلي، كذلك يمكن أن تؤدي هذه الاضطرابات إلى تراجع الأداء الوظيفي وزيادة الغياب عن العمل، ما يخلق حلقة مفرغة من الضغط والتأثير السلبي على الصحة النفسية.”

ويشير “موافي” إلى أن نسب الأمراض النفسية بين العمال والموظفين في مصر تشهد ارتفاعًا ملحوظًا، ما يعكس تأثير الضغوط المهنية على الصحة العقلية، كما تشير الدراسات إلى أن نسبة كبيرة من الموظفين في القطاعين العام والخاص يعانون من أعراض القلق والاكتئاب، وهذا يتفاقم في بيئات العمل ذات الضغوط العالية، وقد كشفت الأبحاث أن العديد من هؤلاء الأفراد لا يحصلون على الدعم الكافي أو الاستشارة النفسية المناسبة، ما يزيد من خطر تطور حالاتهم إلى مشكلات أكثر خطورة، تحسين الوعي بالصحة النفسية وتوفير الموارد اللازمة للدعم في أماكن العمل يمكن أن يكون له تأثير كبير في تقليل معدلات الانتحار وتحسين جودة حياة الأفراد بشكل عام.”

وينوه إلى أن مواجهة تأثيرات الضغوط النفسية المرتبطة بالعمل، تطلب تبني استراتيجيات فعّالة للتخفيف من هذه الضغوط وتعزيز الصحة النفسية. تشمل الاستراتيجيات الفعّالة إدارة الوقت بشكل جيد، وتحسين بيئة العمل، وتوفير دعم اجتماعي، كذلك يمكن أن يساعد تحديد أولويات العمل وتنظيم المهام في تقليل مشاعر الإرباك والإرهاق، كما أن خلق بيئة عمل إيجابية وداعمة، بما في ذلك توفير قنوات تواصل مفتوحة مع الإدارة وزملاء العمل، يمكن أن يساهم في تقليل مستويات الضغط، من الضروري أيضاً تقديم برامج دعم نفسي مثل الاستشارات النفسية والورش التدريبية حول إدارة الضغوط، ما يعزز القدرة على التكيف مع الضغوط اليومية. تحسين التوازن بين العمل والحياة الشخصية، بما في ذلك تخصيص وقت للراحة والنشاطات الترفيهية، يمكن أن يساعد الأفراد على استعادة طاقاتهم والتقليل من التأثيرات السلبية للضغوط.

 

نوصي للقراءة: الاحتجاجات العمالية في مصر… غلق كافة النوافذ أمام التفاوض السلمي

 

التشريعات وحقوق العمال

يقول الباحث العمالي بالمركز المصري للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، حسن بربري، إلى زاوية ثالثة، إن الصحة والسلامة النفسية تعد أحد أهم المعايير التي يجب مراعاتها عند الحديث عن حقوق العامل المصري، خاصة أنه يتعرض لمجموعة من الضغوط النفسية التي يمكن أن تتحول إلى اضطرابات نفسية خطيرة تؤثر على صحته النفسية، وبالتالي تؤثر على بيئة العمل، خصوصًا في ظل إهمال الرعاية النفسية للعامل.

يؤكد أهمية الصحية النفسية لارتباطها الوثيق مع الصحة الجسدية، مشيرًا إلى دراسة منشورة في مجلة العلوم التربوية – كلية التربية بجامعة الأسمرية – الجزائر بعنوان “ملامح الصحة النفسية المهنية واستراتيجية تعزيزها”، ذكرت إن “الأشخاص المصابين بالتوتر والضغوطات النفسية هم أكثر عرضة للإصابة بأمراض متعددة مثل مرض السكري وضغط الدم والشرايين والقلب، وأيضًا أكثر عرضة للجلطات.”

وينوه “بربري” في حديثه معنا إلى أهمية الالتزام بالقانون والدستور والمواثيق الدولية التي وقعت عليها مصر في هذا السياق، لكن هذا التطبيق يظل غائبًا ويقتصر فقط على معالجة إصابات العمل الجسدية فقط مع غياب كامل لأي إجراءات تتعلق بالحماية النفسية للعامل في بيئة العمل.

بحسب بربري، لم يتضمن قانون العمل المصري رقم 12 لسنة 2003 تعريفًا محددًا لمصطلح السلامة والصحة المهنية، بل اكتفى بذكر الملامح العامة في الباب الخامس من القانون، مشيرًا إلى نطاق تطبيقها في مواقع العمل. تتضمن أحكام السلامة والصحة المهنية التزامات تقع على عاتق صاحب العمل، بما في ذلك توفير وسائل السلامة والوقاية من المخاطر، إضافة إلى التزامات العامل.

يُعَدّ قانون العمل المصري رقم 12 لسنة 2003 من القوانين الأساسية التي تنظم حقوق العمال في مصر، ويشمل مجموعة من الأحكام التي تهدف إلى حماية حقوق العمال وضمان بيئة عمل عادلة وآمنة. يوفر القانون إطارًا شاملًا لتنظيم العلاقة بين العمال وأصحاب العمل، ويعالج عدة جوانب حيوية تشمل ساعات العمل، والأجور، وظروف العمل، وأيضًا الحقوق المتعلقة بالتوظيف والتسريح.

وفقًا للقانون، يتمتع العمال بحقوق أساسية تتضمن تحديد ساعات العمل اليومية والأسبوعية بحد أقصى، حيث ينص القانون على أن ساعات العمل لا يجب أن تتجاوز ثمان ساعات يوميًا أو 48 ساعة أسبوعيًا، مع توفير استراحات للراحة والطعام، إضافة إلى ذلك، يتناول القانون مسألة الأجور ويشدد على ضرورة دفع الأجور في مواعيدها المحددة، ويحدد الحد الأدنى للأجور بما يضمن تأمين مستوى معيشة لائق للعمال. كما ينص على حق العمال في الحصول على أجر إضافي عن العمل الإضافي، وكذلك على تعويضات عن العمل في الأوقات غير العادية مثل العطلات الرسمية.

علاوة على ذلك، يشمل القانون مجموعة من الحقوق المتعلقة بالسلامة والصحة المهنية، حيث يلزم أصحاب العمل بتوفير بيئة عمل صحية وآمنة، وتوفير وسائل الحماية الشخصية للعمال، ينص القانون أيضًا على حقوق العمال في الحصول على إجازات سنوية مدفوعة الأجر، وإجازات مرضية، وإجازات أمومة، مما يعكس التزامًا من الدولة برعاية صحة العمال ورفاهيتهم. من الجوانب الأخرى التي يعالجها القانون هي حقوق العمال في التظلم والتعامل مع النزاعات، إذ يوفر إجراءات قانونية للمطالبة بالحقوق عبر لجان فض المنازعات أو المحاكم العمالية.

ووضعت الأحكام إطارًا للخدمات الاجتماعية والصحية المقدمة للعاملين، ونصت على إنشاء جهاز التفتيش على المنشآت وتنظيم أجهزة السلامة والصحة المهنية، مع تحديد العقوبات المقررة للمنشآت والعاملين في حال الإخلال بهذه الالتزامات. وقد أكدت محكمة النقض المصرية على هذا الإطار، كما يتضح من الطعن رقم 2610/72 ق لسنة 2004، حيث قضت بضرورة توفير وسائل السلامة والصحة المهنية وتوعية العمال بما يكفل وقايتهم من مخاطر العمل وأضراره، وأكدت في حكم آخر، الطعن رقم 410/73 ق لسنة 2004، على أهمية توفير نفس وسائل السلامة والتوعية.

بالنسبة للسلامة والصحة النفسية، يشير بربري إلى أن القانون صاحب العمل الحق في التحقق من صحة العامل البدنية والنفسية والعقلية عند التعيين، لكنه لم ينص على ضمان الحفاظ على الصحة النفسية للعاملين، وهذا ما أشار إليه تقرير منظمة الصحة العالمية “تعزيز الصحة النفسية” الصادر في 2004، الذي شدد على ضرورة توفير السياسات والبرامج من قبل الحكومة وقطاعات العمل في مجال الوقاية من المشاكل النفسية.

بالرغم من إعلان وزارة العمل في أبريل 2023 عن إطلاق الاستراتيجية الوطنية للسلامة والصحة المهنية وتأمين بيئة العمل، إلا أن الاستراتيجية ركزت بشكل أساسي على الجوانب الجسدية دون التطرق إلى الجانب النفسي والعقلي، حسبما أفادت تصريحات مركز معلومات الوزراء في جريدة المسائي بتاريخ 28 أبريل 2023.

يشير “بربري” أيضًا إلى أن المرأة العاملة تواجه عبئًا بدنيًا ونفسيًا مزدوجًا، إذ  يتعين عليها التوازن بين متطلبات العمل والالتزامات الأسرية، خصوصًا في مجتمعات مثل المجتمع المصري، فهي تتعرض لضغوط من العمل نفسه، بما له من تأثيرات على صحتها الجسدية والنفسية، بالإضافة إلى ضغوط العمل الأسري ورعاية الأطفال أو الأقارب. وفقًا لدراسة أجراها مركز التنمية العالمية (يشير إليها بربري) فإن هذا العبء النفسي المزدوج يعرض بعض النساء لخطر متزايد لتدهور الصحة العقلية دون الحصول على العلاج المناسب.

 شهد إجمالي الإنفاق الجاري على الصحة في مصر انخفاضًا ملحوظًا من حوالي 17 مليار دولار في عام 2015 إلى نحو 15 مليار دولار في عام 2019، هذا الانخفاض أدى إلى تراجع نصيب الفرد من الإنفاق الصحي من حوالي 183 دولارًا في عام 2015 إلى 150 دولارًا في عام 2019،  يُعزى هذا التراجع بشكل رئيسي إلى تدهور الأجور بسبب ارتفاع التضخم وتطبيق سياسات تحرير الصرف في إطار برنامج الإصلاح الاقتصادي، وعلى الرغم من زيادة مخصصات قطاع الصحة أثناء جائحة كورونا، حيث ارتفعت بمقدار 14 مليار جنيه ليصل إجمالي الإنفاق العام على الصحة إلى حوالي 87 مليار جنيه لمواجهة الجائحة، فإن الإنفاق الصحي العام وفقًا لبيانات وزارة المالية، زاد إلى 93.5 مليار جنيه في موازنة 2020-2021، و108.7 مليار جنيه في موازنة 2021-2022، إلا أن الزيادة لم تعكس قيمتها الحقيقية بسبب تأثير التضخم.

وبالرغم من الزيادة الاسمية في الإنفاق على الصحة من 135.6 مليار جنيه إلى 147.8 مليار جنيه بين عامي 2021/2022 و2023/2024 بنسبة نمو بلغت 9%، فإن هذه الزيادة، بحسب المركز المصري للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، لم تكن كافية لتعويض الأثر السلبي للتضخم، ونتيجة لذلك، تراجع الإنفاق الحقيقي على الصحة بنسبة 10.7%، من 114.3 مليار جنيه إلى 102.1 مليار جنيه خلال نفس الفترة، وهذا التراجع يعكس عدم كفاية الزيادات في الإنفاق لمواكبة تدهور القدرة الشرائية وتأثير التضخم، ويشير إلى أن نصيب الإنفاق على الصحة من إجمالي النفقات العامة ومن الناتج المحلي الإجمالي لا يزال أقل من النسب التي نص عليها الدستور المصري لعام 2014، الذي يلزم الدولة بتخصيص ما لا يقل عن 3% من الناتج القومي الإجمالي للإنفاق على الصحة.

يشير واقع الموظفين في مصر إلى أن غياب الرعاية النفسية في بيئات العمل أصبح قضية ملحة تتطلب اهتمامًا عاجلًا من السلطات والمجتمع. الضغوط النفسية الناتجة عن العمل في بيئات قاسية، إلى جانب غياب التشريعات التي تضمن حماية الصحة النفسية للعاملين، تساهم في زيادة الأزمات النفسية وتؤدي إلى ارتفاع معدلات الانتحار والاضطرابات النفسية بين الموظفين.

رشا عمار
صحفية مصرية، عملت في عدة مواقع إخبارية مصرية وعربية، وتهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية.

Search