كانت ليلة هادئة، وكالعادة، بمجرّد أن أنهى عشاءه، لم يترك كرسيّه، ومدّد ساقيه على كرسيّ آخر. حقّق ربحًا كبيرة هذه الليلة× وعاملته بروكسل بلطف شديد، امتلأت مائدته بأطباق لذيذة، زيتون، جبن موزريلا من جنوب إيطاليا، رنجة سويدي فاخرة، قهوة مكسيكيّة دون أيّ تداخلات صناعيّة أو كيميائيّة؛ بدت الأشياء كلّها وكأنّه مصمّمة خصّيصًا للّيلة سعيدة لا تحمل أخبارًا سيّئة؛ خطئًا واحدًا قد ارتكبه، تصفّح هاتفه المحمول لقراءة الأخبار!
“نتوقّع أن تكون المحيطات والبحار مستعدّة لصيف دافئ وجافّ بشكل غير عاديّ على جنوب أوروبا هذا العام”، كلمات نقلها عالم في مقال قصير جدًّا حول معدّل ذوبان جليد جرينلاند، يتحدّث المقال عن كيف يمكن أن نتنبّأ هذا بحالة الطقس في أوروبا خلال الصيف؛ لم يتخطّ المقال الّذي نشر في الجارديان 20 سطرًا؛ ويبدو أنّ الإعلام تجاهل تلك المقالة؛ المجهول الّذي قضى ليلة هادئة أفسدتها مقالة قصيرة؛ لم يلحظ أنّ إعلاميًّا واحدًا حلل تلك المقالة أو حتّى اقتبس منها؛ أفسد هذه ليلته الهادئة، وجعل الأطباق الفاخرة المقدّمة في بروكسل بلا طعم، وطفت مخاوفه على السطح.
كانت الأخبار المخصّصة عادة لجمهور أكاديميّ، نشرت سابقًا في مجلّة “Weather and Climate Dynamics -“، سرد حقائق في مجال علم المحيطات بدا مملًّا، لكنّ آثار تلك الحقائق والأحداث المتوقّعة يجب أن يؤخذ على محمل الجدّ. هكذا كان يفكّر.. ببساطة: الأجواء الدافئة في جرينلاند (أكبر جزيرة في العالم) تجلب المزيد من مياه الذوبان الجليديّ إلى المحيط الأطلسيّ، إذ إنّ هذه المياه أخفّ وزنًا من مياه البحر، فتبقى على قمّة المحيط، وتقلّل من تبادل الحرارة بين الهواء والبحر. في فصل الشتاء، يؤدّي ذلك إلى زيادة في عدم الاستقرار الجوّيّ المرتبط برياح أقوى حول منطقة المياه المذابة الّتي تؤدّي إلى تحوّل شماليّ في تيّار المحيط الأطلسيّ (وهو تمديد لتيّار الخليج، الّذي يعتبر مهندس مناخ أوروبا المعتدل). ونتيجة لذلك، في الصيف التالي، تتبّع الرياح اتّجاه التيّار، وتنحرف شمالًا – ممّا يساعد على تشكيل ظروف تدور في نطاق واسع في الدورة الجوّيّة تجلب طقسًا أكثر دفئًا وجفافًا على أوروبا والبحر الأبيض المتوسّط.
بدأ يتخيّل صيفًا غير طبيعيّا مرّة أخرى، بارتفاع درجات الحرارة، وانخفاض هطول الأمطار، وفترات جافّة ممتدّة ومزيد من حرائق الغابات. بدأ يعتقد أنّه جزء من المشكلة، مع طعامه الفاخر من جميع أنحاء العالم، وأنّ الضفادع والثعابين وأسماك المياه العذبة الّتي كانت جزءًا من شبابه ستختفي للأبد. بمعنى آخر، أنّ طفولته، والنباتات والحيوانات الّتي كانت ترافقه في إيقاع الفصول، ستزال أيضًا من الذكريات.
فجأة، دون سحب ساقيه من الكرسيّ، رمى كأسه على الحائط غاضبًا، تحطّمت الكأس إلى قطع صغيرة كثيرة. خاف من نفسه؛ جمع أفكاره، ووضع ماء على النار ليحضر نفسه كوبًا من الشاي بالبابونج، ثمّ بحث في الدراسة عن مقال المجلّة الّذي كان يرغب في إخفائه في درج قبل بضعة أيّام.
“الانبعاثات المرتبطة بشركات النفط والغاز الكبرى قد تسبّب ملايين الوفيات بسبب الحرارة بحلول عام 2100” وفقًا لدراسة نشرتها منظّمة جلوبال ويتنس. أظهرت الدراسة أن الانبعاثات المجتمعة من الوقود الأحفوري المنتجة من قبل شركات مثل Shell, BP, TotalEnergies, ExxonMobilm, Chevron قد يؤدي إلى وفاة 11.5 مليون شخص حتى عام 2050، نتيجة لارتفاع درجة الحرارة بشكل هائل عام 2100.
هل كان الرجل المجهول الّذي أعرفه جيّدًا، ويقول إنّه يكره الصيف مريضًا؟ أم مصابًا بوسواس قهريّ؟! كيف يمكن لأحد على هذه الأرض أن يكره الصيف، حيث الإجازات والليالي الدافئة على شواطئ البحر، والنهار الطويل المشرق والمضاء بأشعّة الشمس؟ أنا لست طبيبًا لأعرف ما إذا كان مريضًا، لكنّ ما أعرفه أنّ هذا الرجل يتناول مهدّئات في بعض الأيّام، يطفئ الأضواء جميعها، ويظلّ في منزله لا يجيب هاتفًا. لقد علمت أيضًا أنّه لا يلمس أيّ شيء صنع من مادّة البلاستيك. وهناك أيّام أخرى يقضي كلّ ما لديه من أموال في محلّات بيع الأطعمة الفاخرة والمأكولات اللذيذة، ويأكل كما لو أنّه لم يأكل من قبل. إحالته تتوجّب العلاج في المشفى؟!
دعني أخبركم أنّني أيضًا بدأت أن أكره الصيف، ولا أخفي عليكم سرًّا أنّها إحدى أسوأ تجارب تلحين الألم؛ الصيف هو الرغبة في الحياة، والتفاؤل، وسحر الروائح حولنا؛ إنّه ترانيم الحياة ذاتها؛ أو كان كذلك. أن تغيّر المناخ جعلنا نكره اهتماماتنا الطبيعيّة السابقة. أنا لا أكره الصيف بمنعناه الحقيق، لكنّي أخاف الصيف، وكان لسلوك الرجل الّذي أعرفه جيّدًا، ولم أذكر اسمه أسبابًا منطقيّة للقلق الرهيب، لقد أثّر خوفه وقلقه عليّ أنا شخصيًّا. حتّى إنّني بدأت في دراسة المسألة، واكتشفت أنّ هناك مجموعة كاملة من الأدبيّات المتعلّقة بالأمراض النفسيّة المرتبطة بتغيّر المناخ وأزمة البيئة.
وفقًا للجمعية الألمانية لطب النفس والعلاج النفسومناعي والأعصاب (DGPPN)، فإنّ تغيّر المناخ والزيادة المترتّبة عنها في حدوث الظواهر الجوّيّة الشديدة له تأثير سلبيّ مباشر على الصحّة العقليّة. فالكوارث الطبيعيّة مرتبطة على نحو خاصّ بزيادة في حالات الاكتئاب والقلق واضطرابات الصدمة. وتمثّل العواقب غير المباشرة لتغيّر المناخ مثل نقص الغذاء والأزمات الاقتصاديّة والصراعات العنيفة والهجرة القسريّة عوامل خطر نفسيّة هائلة. تؤكّد الجمعيّة ذاتها أنّ القلق المرتبط بتغيّر المناخ ومصطلح “سولاستالجيا”، أي الحزن على الفضاء الحيّ الّذي فقد، هما متلازمتان نفسيّتان جديدتان في ظلّ التهديد الوجوديّ الّذي يشكّله أزمة المناخ. “سولاستالجيا” اسم جميل، يمكن أن يكون اسم فتاة جميلة ومأساويّة، لكن بدلًا من ذلك يستخدم لتعريف حالة جديدة من الكآبة الحياتيّة.
يصنّف معهد جرانثام البريطانيّ هذا الشعور باسم “الضياع الّذي يعانيه شخص عندما تتغيّر بيئة منزله بطرق تدرك على أنّها سلبيّة بشكل عميق، سواء بسبب أحداث تتعلّق بتغيّر المناخ أو سيناريوهات مثل إنشاء منجم أو بركان”. التغييرات الّتي تهاجم إحساس شخص ما بالمنزل، حتّى دون نزوح، يمكن أن تثير الحنين الشديد للوطن؛ الحنين الشديد الّذي يعتبر ذا أهمّيّة عالية بالنسبة لكثير من الشعراء، لكنّه ذو طبيعة مختلفة؛ لن يكون الحنين من الآن فصاعدًا نوعًا من الحنين الّذي يتغذّى على غياب أرض عزيزة ومفتقدة، الّتي على الرغم من بعدها، فإنّ جمالها يبقى.
كما في حالة الشاعر الإيطاليّ العظيم أوجو فوسكولو، الّذي كان عاشقًا لجزيرته المشمسة، زاكينثوس (جزيرة يونانيّة تقع في البحر الأيّونيّ وهي ثالث أكبر الجزر الأيونيّة)، حيث ولد وتعلّم هناك كيفيّة تقدير الجمال: “لن أرى شاطئك المقدّس مرّة أخرى، حيث تمدّد جسدي في الصغر.. زاكينثوس، تتأمّلين نفسك في أمواج بحر اليونان، حيث ولدت فينوس عذراء.”
بدلًا من ذلك، سيكون الحنين بلا طعم، لأنّ افتقادنا لأراضينا الّتي نفتخر بالانتماء إليها لا يمكننا تجنّبه؛ قد نجبر على متابعة تشويه الطبيعة في أفضل سنواتنا، قد نضطرّ إلى مشاهدة معالم الجمال تتحوّل إلى مسخ وقبح كوجه امرأة جميلة رسمت على وجهها جروحًا وحروق.
بالعودة إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض في الصيف، أظهر تحليل نشر عام 2021 أنّه مع كلّ زيادة درجة مئويّة واحدة، نواجه خطرًا بزيادة 1% في نسبة الإصابة بالأمراض العقليّة، ما يؤدّي بشكل عامّ إلى مستوى أدنى من الرفاهية الاجتماعيّة – وفق الباحثين في جمعيّة الطبّ النفسيّ والعلاج النفسومناعيّ والأعصاب الألمانيّة. أمّا الباحثون الفرنسيّون في المعهد البوليتكنيكيّ في باريس، يشكّكون في سبب تأثيرات الحرّ النفسيّة الشديدة، ويلمحون إلى تفسير يتعلّق بالنوم،الّذي يعدّ عنصرًا أساسيًّا في الصحّة العقليّة..
يمكن أن تؤدّي التغيّرات في درجة الحرارة أيضًا إلى تغييرات فيزيولوجيّة، من خلال التأثير في الدورة الدمويّة والجهاز العصبيّ، ممّا سيؤثّر في القدرات الإدراكيّة والعاطفيّة.
في نقطة ما يجب أن نتوقّف عن قراءة تلك الدراسات، ونعيد استحضار كلّ الذكريات الجميلة الّتي نربطها بالصيف، لكن متى سنتوقّف عن لعن ما يسمّى بـ “الموسم الجميل”؟ متى سيعتبر ذلك الرجل المجهول الّذي أعرفه حالة منفصلة، شخصًا فضوليًّا أو غريبًا؟
أنا لا أكره الصيف، على الأقلّ لم أفعل بعد، ولكنّي أشعر بالقلق منه، وأنتظره بتوتّر. فقط… أتمنّى أن يستمرّ الشعراء العظماء في تأليف الأبيات الّتي تصوّر الصيف كترنيمة للفرح، وليس كفخ مميت.
في هذا الربيع المبكّر، عندما بدأ الأجواء أن تدفّئ، لم أستطع منع نفسي من التفكير في ذلك المجهول الّذي أعرفه. ثمّ بحثت في مكتبتي، وعلى الإنترنت عن قصائد وروايات قصيرة يمكن أن تذكّرنا بالأوقات الجميلة الّتي قد نعيشها في الصيف القادم. جمعتها، وطبعتها، وأحضرتها له شخصيًّا، وقلت لنفسي إذا كان هناك علاج يمكن أن يبعدنا عن “الحنين إلى الوطن” أو القلق المرتبط بالمناخ، طالما أنّنا لا نستطيع التوقّف عن حرق الوقود، فإنّ هذا العلاج يكمن في قراءة الشعر. عندما رأى المجهول هديّتي، كاد أن يعانقني، وقبل أن يودّعني، طلب شيئًا بسيطًا: “لكن هل ستتخلّى، عن سيّارتك نهائيًّا؟”
مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن زاوية ثالثة