السياسة في مصر.. ماذا بعد منع طنطاوي من الترشح للرئاسة؟

ئات كثيرة من المجتمع المصري، تحاول التأقلم مع سياسات السُلطوية القمعية والإفقارية في ما يخص السياسة والاقتصاد، سياسات لا تُطيقها وتتمنى زوالها وتغييره
أحمد عبد الحليم


كتبت مقالًا في إبريل الماضي عن مسارات السُلطوية مع المعارض المصري أحمد الطنطاوي الذي نوى ترشحه لرئاسة مصر ولم يتمكن من ذلك، رجحت حينها احتمالية عدم اعتقال الطنطاوي بعد وصوله مصر، وأن تتركه السُلطات طليقًا؛ لكن في الوقت ذاته تسعى للتضييق عليه وعلى أتباعه وأعضاء حملته الانتخابية كي لا يتمكن من استيفاء شرط الترشح للانتخابات الرئاسية. وهذا بالفعل ما حدث؛ منذ اللحظات الأولى بعد وصول الطنطاوي إلى وطنه عائدًا من بيروت في مايو الماضي، بدأ اجتماعاته مع شخصيات عامة وأحزاب سياسية، وسارع في تنظيم حملته الانتخابية بمكاتبها المُتعددة بين السياسي والإعلامي والقانوني. وبدأت هذه اللجان عملها حين أعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات في 25 سبتمبر الماضي، فتح الباب للمن أراد من المواطنين استصدار توكيل للأي مرشح رئاسي. ومنذ ذلك الوقت، رأينا مشاهد جديدة في السياسة في مصر، بل وجولة جديدة في معركة السُلطوية مع المرشح الرئاسي أحمد الطنطاوي.

 

معركة التوكيلات

قبل بدء فتح باب عمل التوكيلات للمواطنين، حققت السُلطوية هدفها، من حيث تقسيم المعارضة المصرية المتمثلة في الحركة المدنية وأحزابها. لم تتتفق الحركة مثلًا  على اختيار ممثًلا لها في خوض الانتخابات الرئاسية؛ حيث أعلن رئيس الحزب المصري الاجتماعي الديمقراطي، خوض سباق الانتخابات الرئاسية؛ وبعدها بأيام، أعلنت رئيسة حزب الدستور جميلة إسماعيل ترشحها للانتخابات قبل أن تنسحب مرة أُخرى. كل هذا أدى إلى تقسيم المُعارضة؛ وهذا ما تحديدًا ما ذُكر في تقرير صحفي، عن خطة السُلطوية في التنسيق مع مرشحين من الحركة المدنية، كي يخوضوا سباق الانتخابات. وعبر مشهد التعددية، حتى تبدو الانتخابات ديمقراطية وتشمل وجوهًا محسوبة على المعارضة، ومن خلال الانقسام، يستطيع الرئيس الحالي تخطي الانتخابات من فوقهم دون الحاجة إلى أي تضييقات على حملاتهم الانتخابية، أو  الاضطرار إلى تزوير في أوراق الانتخابات، لعدم شعبية هؤلاء في الشارع المصري على عكس المُرشح أحمد الطنطاوى.

 

منذ اليوم الأول لِبدء تحرير التوكيلات، عشرات الصفحات النشطة على مواقع التواصل الاجتماعي المؤيدة للمرشح الرئاسي المحتمل أحمد الطنطاوي، وشخصيات عامة سياسية وثقافية، بدأت في تأييده وفي دعوة الجميع لعمل التوكيلات باسمه، كما منسقي الحملات في جميع المحافظات الذين بدورهم أخذوا مهام إعلان أسماء أماكن مقار الشهر العقاري، فضلًا عن استلام التوكيلات منهم بعد عملها. وبالفعل توجه الآلاف من أنصار الطنطاوي لعمل التوكيلات، لكن كانت السُلطوية في انتظارهم بعد أن أعدت نفسها جيدًا، حيث حشدت المئات من المواطنين أمام مقار الشهر العقاري بزعم رغبتهم لاستصدار توكيلات للرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي أو المرشحين حازم عمر وعبد السند يمامة، فضلًا عن تعنت موظفي الشهر العقاري في تسجيلات أي توكيلات باسم المرشح أحمد الطنطاوي.

 

خلال أول يومين من بدأ عمل التوكيلات، رأينا كثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي ينشرون صورًا ومقاطع مصور توثق توزيع حزب مستقبل وطن التابع للسُلطة في مصر، (كراتين) الغذاء والأموال على المواطنين من أجل حشدهم أمام المقار، وعمل التوكيلات للرئيس السيسي، كما أظهرت الصور والفيديوهات، وجود بلطجية يعتدون على مؤيدي الطنطاوي بالسب والضرب، واعتقلت أجهزة الأمن عشرات من أنصاره ومن أعضاء حملته. خرج طنطاوي في مساء اليوم الثاني عبر فيديو على صفحته الشخصية على فيس بوك، يشجب الانتهاكات التي حدثت لأعضاء حملته ومؤيديه، ومن ثم أعلن تعليق نشاط الحملة لمدة يومين، حتى يتمكن فريق تنسيق الحملة من أخذ قرارات أُخرى، كرد فعل على قمع السُلطة لحملته.

 

في اليوم الثالث سُمح للعشرات من عمل توكيل لأَحمد الطنطاوي، إذ قلت التضييقات، لكنها  لم تنتهِ. وهذا ما فُسّر على أنه استجابة السُلطة لفتح المجال العام بِمواربة باب التوكيلات للطنطاوي وحملته، لكن الواقع أنها كانت استراتيجية فتح الباب مع عدم الدخول.
عشرات التوكيلات التي سُجلت في هذا اليوم، أعطت أملًا كبيرًا للآلاف، وخرج الطنطاوي مخاطبًا مناصريه مساء هذا اليوم، ليُعلن عن إنهاء قرار تعليق الحملة لمدة يومين. ودعا الناس إلى الذهاب إلى مقار الشهر العقاري في كل أنحاء الجمهورية، ومن أجل مساندة الناس لإجراءات القمع، وجدنا الطنطاوي يزور كل المحافظات، ويلتقي مؤيديه أمام أبواب الشهر العقاري وفي مقار حملته الانتخابية، أو أنصاره من الأحزاب الاُخرى، كحزب الكرامة والتحالف الشعبي الاشتراكي.

 

زار الطنطاوي جميع محافظات الجمهورية، والتقى بآلاف المواطنيين خاطَبهموانتقد السُلطة ورئيسها علانية، اتهمها بالفشل ووصفها بالاستبداد، وقال أنه منافسه في الانتخابات هو “المنافس اللقطة” الذي لو نافسه الطنطاوي لنجح. ك
أحدث نزول الطنطاوي حراكًا اجتماعيًا كبيرًا، هتفت الناس، “عيش، حرية، عدالة اجتماعية”، حيث هتافات ثورة يناير، وهتفوا باسمه كرئيس جديد لمصر.
اشتد هذا الحراك في الثاني من أكتوبر الماضي، حيث حشد حزب “مستقبل وطن” في هذا اليوم مؤتمرًا لتأييد الرئيس السيسي، وانقلب هذا المؤتمر إلى احتجاجات تطالب برحيل الرئيس، وتنزع صوره المُعلقة، وتهتف للطنطاوي، ما استدعى تدخل قوات الأمن المصرية، إذ اعتقلت 400 شخص إثر هذه التظاهرات.

مع هذا الحراك السياسي والاجتماعي المُبهر الذي لم يحدث مثله منذ سنوات (حتى حراك 20 سبتمبر 2019 اختلف عن الحراك الذي أحدَثه طنطاوي)، استمرت السُلطوية في قمع عملية التوكيلات، ما أدى إلى توجيه الطنطاوي مناشدة بشكل مباشر إلى المصريين في الخارج، للذهاب إلى السفارات والقنصليات لتحرير التوكيلات، بما أن تحرير التوكيلات خارج مصر، هي أقل قمعا وتضييقًا من داخل مصر. وبالفعل استجاب مئات من المصريين لدعوات الطنطاوي، خاصة في السعودية والكويت وغيرهم من بلدان عربية وغير عربية. واستلمت الحملة ما يقرب من 8 آلاف توكيل أغلبهم من خارج مصر، فضلا عن مئات التوكيلات التي حُررت لكنها لم تصل بعد إلى مقر الحملة.

 

مع ضيق الوقت وتسارع الأيام واستمرار السُلطة في منع المواطنين من تحرير التوكيلات، دعا الطنطاوي يوم 8 أكتوبر المصريين إلى البدء في عمل التوكيلات الشعبية، لتصبح بمثابة توثيق لتوكِيلات المواطنين الذين لم يتمكنوا من تحرير التوكيلات. إذ سيطبع المواطنون ذات الاستمارة التي تتواجد داخل مقرات الشهر العقَاري، وسيسُجلون بياناتهم، ويتركون مكان ختم الدولة فارغا كديلا على أن المواطنين لديهم توكيلات والدولة هي التي تمتنع عن تسجيلها لديها، وهذا يكون دليلا واضحا لتقديمه إلى الهيئة العليا للانتخابات كدليل لشكوى الحملة حول القمع والمنع التي تعرضت له طيلة أيام جميع التوكيلات.

 

استجابت الحملة والمواطنين لهذه الدعوة، وبدأت بالفعل جميع التوكيلات الشعبية من الناس وتسليمها لمنسِقي الحملة في المحافظات، لكن تتبعت أجهزة الأمن هذه الدعوة، وتم اعتقال 8 أشخاص، بحوزتهم أكثر من 500 توكيل، وقد تم عرضهم على نيابة أمن الدولة، وكالعادة تم حبسهم على ذمة قضية بتهم اعتيادية للاعتقال التعسفي الذي تمارسه السُلطة منذ سنوات. مساء هذا اليوم (9 أكتوبر)، خرج طنطاوي في خطاب بين أعضاء حملته، يعلن وقف جميع التوكيلات الشعبية، مفضلا سلامة وأمن المواطنين على جميع هذه التوكيلات. وقرّر التوجه، ومعه العديد من الشخصيات السياسية ورؤساء الأحزاب إلى مقر الهيئة العليا للانتخابات.

 

في مساء يوم 10 أكتوبر، وفي محاولة أُخرى، أعلنت حملة الطنطاوي تدشين استمارة إلكترونية، تحوي إقرار مع الاسم والرقم القومي للمواطن المصري، كنموذج إلكتروني بديل لتحرير التوكيلات، يقدم في ما بعد كدليل توثيقي للقضاء المصري، على منع ِتحرير التوكيلات في مقرات الشهر العقَاري. وفي خلال الأيام الأولى تم جمع عشرات الآلاف من التوكيلات الالكترونية التي تؤيد الطنطاوي في الترشح. وفي مساء يوم 13 أكتوبر، عقدت حملة الطنطاوي مؤتمرا في مقر حزب المُحافظين بالقاهرة، وأعلنت فيه، أنها خارج السباق الرئاسي، لأنها لم تتمكن إلا من جميع قرابة 14 ألف توكيل، وكان ثلثي هذه التوكيلات من خارج مصر. وأعلن الطنطاوي عدم استسلامه للسُلطوية، وبدء مشروع سياسي، سيعلن عنه فيما هو قادم، يكون بديلا للسُلطة التي وصفها أنها ستزول خلال سنوات معدودات.

 

ماذا بعد المنع من الانتخابات؟

قبل أسبوع واحد من إغلاق باب جميع التوكيلات، تحديدًا في 7 أكتوبر، قامت كتائب القسام، وهى الذراع العسكري لحركة حماس، بمهاجمة دولة الاحتلال الإسرائيلي، سواء قوات عسكرية أو مدنيين في مستوطنات غلاف غزة. تحت ما سمّته “طوفان الأقصى” ونتج عن هذه العملية، احتجاز وأسر العشرات من الإسرائيلين، كما قتلت المئات منهم. ومنذ الساعات الأولى، بدأت إسرائيل في عقاب قطاع غزة كاملا على هذه العملية، بالحصار والقصف. إذ بدأت الغارات الإسرائيلية التي لم تتوقف لساعة واحدة، والتي دمرت آلاف المباني، وشردت مئات الآلاف من بيوتهم المدمرة، فضلا عن قتل وإصابات الآلاف، الذي يزداد بالمئات على مدار الساعة.

 

هذه الحرب القوية شغلت العالم كله بلا استثناء، وفي القلب كانت مصر، حيث انشغلت السلطة والشارع المصري، بالحرب وتبعاتها، وقلَّ صدى معركة التوكيلات، بل والانتخابات الرئاسية كُلها، حتى في الإعلام المصري ذاته. الصدى الإعلامي والحقوقي المصري والعالمي، والذي كان يتابع عملية جمع التوكيلات، ومنع مؤيدي الطنطاوي من تحريرها، فضلا عن اعتداءات السُلطة، ما كان يزيد من فرص الطنطاوي في شغل مساحة سياسية أعلى داخل مصر وخارجها، انكمش، ويكاد يكون اختفى، بمجرّد بدء هذه الحرب. حتى انشغال السُلطة السياسة في مصر، توجه ناحية الحرب، تحديدا ناحية الموقف المصري تجاه نزوح الفلسطينيين إلى سيناء، كما دخول المساعدات الإنسانية عبر معبر رفح، فضلا عن الوساطة الدائمة التي تقوم بها مصر بين حركة حماس وإسرائيل.

 

لكن هذا الانشغال السياسي، لم يمنع التوجه الأمني في القبض على كل المعارضين المصريين، سواء كانوا ضمن حملة الطنطاوي أو حتى ليسوا ضمنها. إذ في يوم 20 أكتوبر، نزل متظاهرين مصريين في أغلب محافظات مصر، لدعم فلسطين في العدوان الإسرائيلي عليها. انقسمت هذه التظاهرات إلى قسمين. القسم الأول، كانت مظاهرات بسيطة، أُنزلت من أجل ما يعرف بممارسة “التفويض” التي طلبها منهم الرئيس المصري، من أجل تفويضه لحماية أمن مصر القومي. أما الثانية، كان دعا لها ونظمها حركات وشخصيات سياسية مصرية، ومظاهرات أُخرى عفوية خرجت من المصريين الغاضبين من العدوان الإسرائيلي على غزة.

 

في القاهرة استطاعت هذه التظاهرات أن تلتقي، خاصة المظاهرات التي تجمعت بداية من عند مسجدي الأزهر ومصطفى محمود، ومن بعد التقائها توجهت ناحية ميدان التحرير من شارع طلعت حرب، ورغم احتشاد قوات الأمن، ومنعها من الدخول بداية، استطاع المتظاهرون اقتحام الميدان، والتجمهر فيه والهتاف من أجل فلسطين. وعلت هتافات أُخرى، مثل هتافات ثورة يناير “عيش، حرية، عدالة اجتماعية، فلسطين عربية”. هتفت المظاهرات رغمًا عن الأمن، واستمرت في الهتاف. حينها طالبت قوات الأمن من المتظاهرين الانصراف. رفض المتظاهرون طلب الأمن، ما استدعى فض هذه المظاهرات بالقوة، وملاحقة المتظاهرين، حيث اعتقل يومها العشرات من ميدان التحرير ومُحيطه، وفي محافظات أُخرى، كانت أبرزها الإسكندرية.

 

وسط خضم الأحداث الفلسطينية، أعلنت الهيئة العليا للانتخابات، أن من دخل السباق الرئاسي، هم أربعة أشخاص. أولهم الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، وحازِم عمر رئيس حزب الشعب الجمهوري، وعبد السند يمامة رئيس حزب الوفد، وفريد زهران رئيس الحزب المصري الاجتماعي الديمقراطي. جميعهم استطاعوا تخطي شرط الترشح بالتزكية البرلمانية، عدا الرئيس السيسي، قد استوفى ترشحه بالتزكية والتوكيلات الشعبية أيضا. وبهذا الإعلان، تكون نفذت السُلطة ما أرادت. مشهد مسرحي، فيه مرشحون للانتخابات، منهم واحد يمثل حزب معارض، ضمن حركة مدنية تشارك في الحوار الوطني. أما المرشح التي التفت حوله مئات الآلاف، وكان يستطيع هزيمة السُلطة ورئيسها بـ”الصندوق والستارة” كما صرح كثيرا. استبعدته السُلطة.

 

حسب تصريحاته، يُجهز الطنطاوي ومعه فريق حملته وشخصيات وأحزاب سياسية أُخرى، تحالفا للأمل. مشروعا يمثل من خلاله ثورة يناير، وتحقق مساراته مطالب ثورة يناير، وتستعيد الشرعية والحكم للشعب، لا للنظام القمعي الفاشل الذي يأبى أن يترك السلطة، ويأبى أن يسمع لأي أصوات معارضة. خلال الفترة القادمة، تستعد السُلطوية لتحجيم أحمد الطنطاوي. تُريد إنهاء “الصداع” الذي سببه لها، والفضيحة التي أربكتها خلال الأسابيع الماضية. في ما هو قادم، لا تُريد السلطوية أن تلعب سياسيا مع أي أطراف غير منسقة معها، أو احتمالية وجودها قوية ومؤثرة في الشارع المصري، كما حدث مع الطنطاوي، لذلك، في غالب الظن، سريعا ستنهي السلطوية مشروع الطنطاوي، بالقبض على شركائه في هذا المشروع، وهذا ما تفعله الآن، حيث وصل آخر إحصاء لعدد معتقلين حملة الطنطاوي إلى أكثر من 130 مواطن. أو حتى يتم اعتقال الطنطاوي نفسه، سواء خلال هذه الفترة، وسط صخب الأحداث والصراعات، ما يُقلل من ضدى خبر اعتقاله، أو حتى بعد إعلان السيسي رئيسا لمصر لدورة ثالثة، مدتها 6 سنوات.

 

وفيما يخص الحركة المدنية وأحزابها، حيث مستقبلها السياسي، منذ بدايتها يعتبر هشًا فيما لو وضعناه في ميزان الحراك الاجتماعي. وحتى بالنسبة للسُلطوية السياسية، سيكون أضعف مما سبق، إذ كانت تحتاجها السُلطة، في وقت سابق، لإتمام جلسات الحوار الوطني، من خلال مشاركتها، بما أنها التحالف الوحيد المعبر عن الأحزاب المدنية داخل مصر. لكن في الوقت الحالي، وقد انتهى الحوار الوطني، ورفعت التوصيات. وخلال الأسابيع القادمة، سيجدد الرئيس الحالي مدته الرئاسية. وستُرتب السُلطوية أوراقها بعيدا عن الملفات السياسية والحقوقية، أو بمعنى أدق، ستهمّشها بدرجة أكبر مما كانت عليه ضمن إطار التهميش، وستضع أولويتها للأزمة الاقتصادية التي تغرق فيها البلاد. وربما ما يتبقى من مفاوضات بين الحركة المدنية (بعد تفككها الحالي) والسلطة، هو الحديث عن استمرار الإفراج عن معتقلين سياسيين، لكن حتى هذه المطالب، ستكون بسقف أقل، فلم تعد الحركة المدنية تملك شيئا تقدمه للسُلطوية، لا ضغطا سياسيا كما كان من قبل، والذي تمثّل في تلويحها الدائم للانسحاب من الحوار الوطني، ولا حتى ضغطا شعبيا، فهي ليست كالطَنطاوي، تستطيع تكوين كتلة جماهيرية تحت مظلتها، فضلا عن مشروع سياسي، تخاطب وتضغط من خلالهما على السُلطوية. .

 

في آخر 10 سنوات وقعت مصر تحت قبضة سلطوية قمعية لم تشهدها البلاد في تاريخها الحديث. هذه السُلطوية وفيلسوفها رأت، بل ومع الوقت تيقنتْ، أنّها جاءت من أجل إنقاذ البلاد والعباد من الإرهاب وأهل الشر، متمثلاً في الجماعات الدينية، الحركية السياسية السلمية منها والمُسلحة، كما أنقذت البلاد من مسار المؤامرة والفوضى وسقوط الدولة الوطنية، متمثلاً في ثورة يناير 2011، وما تلاها من احتجاجاتٍ. وفي إثر هذه الرؤية، مارست السُلطوية العليا، الرئيس ومُقرّبوه، حق شمولية إدارة كل ما يتواجد داخل الدولة من أجساد وسياسة واقتصاد وقضاء وأمن وثقافية وإعلام وتعليم وصحة وفنون وغير ذلك من أفضَية سياسية ومُجتمعية مُتنوعة.

في المقابل عجزت المُعارضة المصرية في الداخل والخارج من التصدي لهذا الغول السُلطوي القمعي الذي أصرَّ على استئصالها واستبعادها من حقّها في الممارسة السياسية. هذا العجز اندثر منه أسباب كثيرة قد ذكرناها، لكن كان أهمّها الخوف من القمع، الذي ذاق منه الجميع بنسبٍ مُختلفة، كما التفرَّق وعدم الاصطفاف لمواجهة السُلطوية. وحتى الآن، لم تجتمع هذه المُعارضة لترى حلولا أُخرى لمواجهة السُلطوية في مصر. وما زالت المُعارضة تقف مُشتتة في أطرافها، لا تأبى وجود مركزية لديها تُحدث السُلطوية من خلالها. وتبحث بجدّية على وسائل فكرية وتنظيمية تمتلكها، للضغط والتفاوض مع هذه السُلطوية، وخصوصاً بعد أن فقدت السُلطوية رصيدها الشعبي لدى فئات كثيرة من المجتمع المصري، أضرّتها بسياسات الإفقار التي اتخذتها تجاههم.

 

كما فئات كثيرة من المجتمع المصري، تحاول التأقلم مع سياسات السُلطوية القمعية والإفقارية في ما يخص السياسة والاقتصاد، سياسات لا تُطيقها وتتمنى زوالها وتغييرها، لكن أدوات التغيير والإصلاح فُقدت لأسباب كثيرة، كان أهمها خوف المُجتمع من بطش السُلطوية، كما تمكّن اليأس وفقدان الثقة في الثورة والإصلاح وممثّليها لدى المُجتمع. إذ شكّل الانقضاض على ثورة يناير، من قبل السُلطوية التي استعادت نفسها، بل وعززتْ أدواتها من أجل الهيمنة والبقاء، عجزا وإحباطا لدى الكثيرين، ما أفقدهم الأمل في الإصلاح أو الثورة وما يدور أو يترتب عنهما.

 


مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن “زاوية ثالثة”

 

أحمد عبد الحليم
كاتب وباحث مصري، يكتب في قضايا الاجتماع السياسي ودراسات الجسد

Search