عزلة سيناء في مواجهة الغلاء: انعكاسات الأزمة الاقتصادية على واقع المواطنين

أدى توحش الغلاء إلى حالة من الغضب التي انتابت المواطنين في سيناء، ما دفع كثيرين إلى الكتابة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
محمد سلمان 

عادت الخمسينية سالمه زايد، إلى منزلها الذي تقيم فيه بإحدى القرى الواقعة بمنطقة جنوبيّ مدينة الشيخ زويد في شمال شرق سيناء، تجرّ أذيال الخيبة، بعد فشلها في الحصول على عدد من الأجهزة والمفروشات لابنتها المقرر زواجها في عيد الفطر المقبل، إذ رفض أصحاب المحال التجارية بيعها بالتقسيط، نظرًا للارتفاع اليومي للأسعار.

تقول “زايد”: سبق وذهبت إلى السوق في مدينة العريش -عاصمة شمال سيناء-، لشراء أجهزة كهربائية ومفروشات لابنتي الذي تَحَدد عُرسها ثالث أيام عيد الفطر، ولكني فوجئت بارتفاع الأسعار أضعاف المبلغ الذي أحمله، وعندما طلبت من البائع دفع ما معي من نقود كمقدم وتقسيط الباقي لبعد العرس، رفض، بدعوى أن الأسعار تزداد يوميًا.

لم يتبق سوى أيام قليلة على عرس ابنتها، وتخشى في حال تأجيل موعد العرس أن تفقد ابنتها فرصة الزواج بعد خطبتها لنحو أكثر من عام ونصف العام، في ظل عدم قدرتها على شراء تجهيزات منزل الزوجية لابنتها، حسب وصفها.

 لم يكن هذا حال” سالمه” وحدها في شبه جزيرة سيناء، لكنه صار معتادًا بين المواطنين، على الرغم من أن المنطقة كانت تعيش ازدهارًا اقتصاديًا، خاصة في المناطق الشمالية الشرقية، قبيل العام 2013 الذي شهد نزوح أهالي القرى، وتجريف المئات من المزارع، التي كانت ما توفر دومًا دخلًا كبيرًا ورئيسيًا يعيش منه أهالي تلك المناطق.

يقول الشيخ إبراهيم السواركة -أحد الرموز القبلية بـ جنوب مدينة رفح- في حديثه مع “زاوية ثالثة” إن الغلاء الذي ضرب البلاد والعباد جعل المواطنين في شمال سيناء وخاصة أبناء القبائل، يتخلون عن بعض من عاداتهم السنوية بسبب الفاقة وفقدان المزارع التي تعد مصدر الدخل الرئيسي، إضافة إلى شُح الطعام وندرته “بعد أن كانت بيوتنا ودواوينا عامرة”.

وبالتزامن مع الظروف الاقتصادية المتدهورة في كامل مصر، فقد ضربت محافظة شمال سيناء موجة جديدة من الغلاء الفاحش، أصاب أسعار المواد التموينية وكافة المستلزمات الأساسية للمعيشة والبناء، يأتي ذلك وفق مصادر قبلية حدثتنا نتيجة لعدم وجود خطة حكومية لمعالجة آثار الحرب على الإرهاب المستمرة منذ عام 2013، التي أثّرت على كل نواحي الحياة في المحافظة.

يعلق “السواركة” منبهًا إلى أن الظروف الصعبة التي عاشتها شمال سيناء وما زالت، أدت إلى تدني مستوى المعيشة فيها، في ظل توقف عشرات المهن من الاستمرار في سوق العمل، وفقدان الآلاف من السيناوية فرص عملهم في البر والبحر، تحت تأثير عمليات الجيش المصري، وجرف المصانع والمزارع بحجج أمنية، لا سيما في مدن رفح والشيخ زويد والعريش.

بينما يشير محمد بخيت، الذي يسكن بقرية أبو طويلة بنطاق مركز مدينة الشيخ زويد، إلى أن المواطنين في سيناء باتوا يفكرون لأكثر من مرة قبل شراء ما يحتاجونه مهما كان حجمه وأهميته في المنزل، وبينها المواد التموينية والمشروبات واللحوم والأدوية، وذلك في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار، في حين لا يحاول أحد دعم المواطن والوقوف إلى جانبه في مواجهة الغلاء الفاحش.

يضيف: الوضع الاقتصادي في سيناء تردى أكثر من أي منطقة أخرى في البلاد، بسبب الإرهاب الذي ضربها طوال سنوات طويلة، وأدى إلى خسارة آلاف المواطنين عملهم ومصادر رزقهم، حيث بات  المواطن السيناوي لا يستطيع توفير لقمة العيش المطلوبة لتأمين احتياجات عائلته.

في المقابل، يقول وائل الكاشف -تاجر مواد غذائية وتموينية بمدينة العريش-، إن أسعار المواد التموينية زادت بشكل ملحوظ خلال الأسابيع القليلة الماضية، بسبب التكاليف الباهظة لإنجاز عملية إدخالها إلى سيناء، والمرتبطة بضرورة حصول التجار على تصاريح أمنية لإنجاز عمليات إدخالها على المعديات والأنفاق التي تربط بين ضفتي قناة السويس، إذ تبقى البضائع أيامًا على الطرقات ونقاط العبور إلى سيناء خلال رحلة وصولها إلى مدن المحافظة، خاصة مدينة العريش (العاصمة والمركز التجاري الرئيسي لشمال سيناء).

ويؤكد سعيد أبو حمد -أحد كبار تجار الجملة، المتخصص في بيع المواد الغذائية والتموينية بالجملة- في حديثه معنا أن زيادة تكاليف نقل البضائع يتحملها المواطن وحده، في ظل عدم تدخل الجهات الحكومية للتخفيف من الإجراءات أو التكاليف، مراعاة لخصوصية ظروف المحافظة. لافتا إلى أن ربّ الأسرة بات يواجه ضغوطًا إضافية في ظل ارتفاع أسعار كل أصناف المواد التموينية والأغذية اللازمة لعائلته، لا سيما اللحوم والدجاج والبقوليات والسكر والزيت والطحين، بالتزامن مع استقرار حالة الأجور على حالها المتدني وفقدان الجنيه المحلي قيمته الشرائية. 

وينبه إلى أن ندرة فرص العمل في محافظة شمال سيناء، ينعكس على ضعف القدرة الشرائية لكل شرائح المواطنين سواء كانوا موظفين حكوميين، أو في القطاع الخاص، أو أصحاب المهن الحرة، ما يدخلهم جميعهم في أزمة اقتصادية داخلية لا يمكن الخروج منها، وهو ما يتفاقم إذا استمرت الأسعار في الارتفاع خلال الأيام المقبلة، في ظل تراجع الدعم الحكومي لسكان شمال سيناء عن الفترة التي سبقت ثورة يناير من العام 2011.

يقول حسين جهامة -مواطن من أبناء قبيلة الترابين بمركز مدينة الحسنة في وسط سيناء-، إن الحكومات التي سبقت ثورة يناير، قدمت دعمًا للمواطن السيناوي من خلال المواد التموينية (سكر وعدس وفول و مكرونة) بصفة دورية كل شهر بالمجان، إضافة إلى منح كل أسرة “شيكارة دقيق” زنة 50 كيلو جرام بالمجان. وتزداد الحصة حسب أعداد الأسرة لتصل إلى شكارتين أو ثلاثة، مراعاة لاعتماد أبناء القبائل على الخبز بصورة يومية. مضيفًا أن الفرد المسجل في بطاقة التموين، كان يحصل على حصته من الدقيق البالغة 15 كيلو جرام، ولكن قبل عدة أشهر قلصت وزارة التموين تلك الحصة إلى 10 كيلوجرام فقط؛ ما أدى إلى أزمة شديدة في الخبز لدى أبناء عشائر وقبائل سيناء وانتشار بيع الدقيق في السوق السوداء بأسعار طائلة لا طاقة للمواطن البسيط والمقتدر على شرائها.

ويشير الشيخ حميد منصور -أحد رموز قبائل شمال سيناء- في حديثه إلينا، إلى أنه التقى وزير التموين علي مصيلحي، نيابة عن أهالي سيناء، لمطالبته بإعادة دعم الدقيق، وكان رده بالموافقة على عودة خمس كيلوجرام من الدقيق لكل فرد على البطاقة التموينية، لتعود حصة الفرد إلى 15 كيلوجرامًا؛ لكن بعد شهر واحد فقط، تفاجئ الجميع بأن الوزير دفع بالحصص المتفق عليها بأسعار لا يستطيع المواطن تحملها، إذ جاءت مقابل سعر 75 جنيهًا للكيلو، يتحملها المواطن بدعوى أن هذه الحصة تباع بالسعر الحر.

 

المهجرون والغلاء

في يناير من العام الماضي 2023، بدأت إعادة المهجرين قسريًا من المواطنين المصريين، ممن يمثلون أبناء القبائل الذين أجبروا على ترك قراهم، تنفيذًا لقرار أصدره الجيش وسانده اتحاد قبائل سيناء. لكن وحسب وصف بعضهم، فإن المهجرين يعودون إلى قرى لا تشبه تلك التي تركوها، بعدما حل الدمار في كل شبر منها، واستوطن الخراب جنباتها، إذ تفاجئوا بالتداعيات السلبية لغلاء الأسعار، دون اتخاذ الجهات المعنية الإجراءات أو الحلول المقترحة لمعالجة الأزمة.

وقد أدى توحش الغلاء إلى حالة من الغضب التي انتابت المواطنين في سيناء، ما دفع كثيرين إلى الكتابة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة موقع”  فيس بوك ” للتعبير عن غضبهم، رغم الهدوء الأمني النسبي الذي تشهده منذ عدة أشهر بعد العمليات العسكرية الواسعة التي نفذها الجيش المصري، والمجموعات القبلية المساندة له، في كل مدن المحافظة.

رغم السعادة التي يشعر بها السبعيني عبد القادر أبو عرادة، بحلول شهر رمضان، فإنه حمل عناء وليمة إفطار رمضان، التي تجمع أبنائه بديوان عشيرته، في عادة سنوية، لم تنقطع منذ عشرات السنوات، مضيفًا أن تحضيرات الوليمة أصبحت مكلفة للغاية، مقارنة بالأعوام الماضية، نتيجة ارتفاع أسعار اللحوم والمواد الأساسية التي يستخدمونها في حياة البادية وعلى رأسها الدقيق لصنع خبز “الفراشيح” ويعتمدون عليه في وجبة الطعام الرئيسية، وعدم قدرتهم على شراء السمن والزيت التي تعد عصب الطعام بالنسبة لهم.

ويقول الشيخ سعيد أبو صباح -من رموز ومشايخ قبيلة البياضية في مدينة بئر العبد شمال غرب سيناء-، إن  تجمعات وولائم الأهل والأقارب في بادية بئر العبد تعد طقسًا رمضانيًا متعارفًا و تحرص الأسر عليه لا سيما في أول أيام الصيام، إلا أن الغلاء طال هذه الموائد. مشيرًا إلى أن  أسعار اللحوم التي تجاوز الكيلوجرام منها الـ400 جنيه في الأسواق، قلصت من الولائم والعزائم التي تقام بصورة دائمة في شهر رمضان.

 

تفاقم التضخم في مدن مصر خلال فبراير الماضي للمرة الأولى بعد أربعة أشهر من التراجعات، نتيجة ارتفاع أسعار بعض المواد الغذائية والخدمات، وأظهرت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في المدن المصرية قفز إلى 35.7٪ في فبراير مقارنة ب 29.8٪ في يناير، مدفوعًا بشكل أساسي بـ ارتفاع أسعار المواد الغذائية والمشروبات.

 

كمواجهة وحيدة للتضخم وارتفاع الأسعار، عملت الحكومة المصرية، ممثلة في وزارة التموين، خلال الأيام التي سبقت حلول شهر رمضان على ضخ كميات كبيرة من اللحوم الحمراء الطازجة والمستوردة والدواجن بمعارض “أهلاً رمضان” الحكومية، وكذلك داخل منافذ المجمعات الاستهلاكية، بتخفيضات نحو 30٪ عن السوق الحرة، إلا أنها تبخرت في أول يوم لانسحاب التجار في أعقاب تعرضهم لخسارة فادحة نتيجة إجبارهم على البيع بنسبة تخفيض تزيد عن سعر الجملة التي اشتروا بها المواد التموينية، حسب تصريح بعض مما تحدثنا معهم.

وقد انحصرت معارض “أهلا رمضان” على مدينة العريش دون بقية مدن شمال سيناء الخمسة وهي: الشيخ زويد، ورفح، والحسنة، ونخل، وبئر العبد؛ ما ساهم في حالة من الغضب بين أوساط المواطنين في تلك المدن، نتيجة تهميشها وتجاهلها بعدم شمولها بالمعارض المخفضة، في ظل اختفاء العديد من المواد التموينية وارتفاع أسعار المواد الأساسية، حسبما حدثنا نصر الله الرياضي، من سكان قرية نجيلة بمركز مدينة بئر العبد غربي المحافظة.

فيما توضح أحلام عبد الله -موظفة حكومية من سكان مدينة بئر العبد-، أن حالة الغلاء فرضت عليها الاستغناء عن بعض العادات والأصناف الرمضانية التي اعتادت عليها: استغنيت بداية عن شراء الياميش والمكسرات التي أفضلها، بعد ارتفاع أسعارها هذا العام، كما استغنيت عن إعداد عصائر رمضان الشهيرة مثل السوبيا والتمر هندي والخروب، التي يفضلها أبنائي وزوجي، حيث تتطلب هذه الأنواع كميات كبيرة من السكر، ولا يمكنني الحصول عليه حالياً نتيجة ارتفاع سعره وندرته بالأسواق السيناوية.

تتابع: ارتفاع أسعار اللحوم جعلنا نقاطعها ونستبدلها بالدواجن التي لم تعد رخيصة أيضا و أصبحنا نعتمد في غذائنا على الخضروات بدون لحم أو دواجن، وأحيانًا نشتري نصف كيلو لحم مفروم مستورد “برازيلي” ونضيفه إلى الخضروات المطهية. 

 

انعدام الرقابة التموينية

يقول المهندس صابر خفاجي ، بالمعاش ، أن مدن شمال سيناء تعاني من انعدام الرقابة التموينية تمامًا، ما يساعد التجار في استغلال المواطنين وبيع المواد التموينية بأسعار السوق السوداء علانية أمام أعين مفتشي التموين الذين يغضون الطرف عن ملاحقتهم، لحصولهم على امتيازات وحصص شراء مجانية من محلات السوبر ماركت والمخابز، التي تبيع الرغيف الذي لا يتعدى وزنه 30 جرامًا بجنيهين ونصف، ما جعل المواطنين يعيشون أزمات متلاحقة تعجزهم عن توفير قوت أولادهم، نظرا  للغلاء الفاحش.الذي طال كل شيء.

ويرى مدير مركز سيناء  للدراسات الاقتصادية، محمد الشريف، أن عدم قدرة الحكومة المصرية على الرقابة والتفاعل مع السوق السيناوي أحد أهم أسباب ارتفاعات الأسعار، حيث لم تتمكن الحكومة من القضاء على سيطرة بعض التجار على عدد مهم من السلع الأساسية والاستراتيجية، ما تسبب في موجات من الزيادات في جميع أسعار السلع.

ويشدد على ضرورة تفعيل الرقابة الإيجابية للحد من الزيادات العشوائية في الأسعار، قائلا إن السوق المحلية لن تشهد أي تراجع في الأسعار قبل إحكام الرقابة والقضاء على عشوائية التسعير والزيادات غير المنطقية التي يفرضها كبار التجار والمصنعين على السلع والمنتجات. مؤكدًا أن الأسواق في مدن سيناء لم تعد تشهد أي نوع من الرقابة أو الانضباط، ما عزز من وجود أكثر من سعر لكل منتج، وفي ظل هذه العشوائية لا يمكن الحديث عن أي تراجع في الأسعار، بل على العكس، سوف تشهد السوق المزيد من الارتفاعات خلال الفترة المقبلة، ما سينتج عنه مضاعفة معاناة المواطن السيناوي “الذي نهشه غول الغلاء بلا رحمة أو هوادة”.

محمد سلمان 
صحفي ومراسل زاوية ثالثة من سيناء

Search