حبٌ يُشتّتهُ السجن: رحلة إيلينا في البحث عن حريةِ زوجها بدر

“رحلة حب وألم”.. هكذا ترى إيلينا حياتها منذ أن جاءت من فيينا إلى القاهرة.
إسلام الكلحي

“لا أريد سوى استرداد حياتي الطبيعية، وانتهاء هذه المعاناة؛ أرهقني اعتقال زوجي، وأنهي ما تبقى لديّ من طاقة”.

طيلة ثلاث سنوات ماضية، لم تتوقف مطالبات النمساوية إيلينا بيشلر (28 عامًا)، بالإفراج عن زوجها المصري بدر محمد عبد الله، الصادر بحقه حكمًا بالسجن خمس سنوات على خلفية تظاهرات 16 أغسطس 2013 التي شهدتها منطقة رمسيس وسط العاصمة المصرية القاهرة. قاده حظه العاثر إلى التواجد في موقع الأحداث وقتئذٍ.

التقت “زاوية ثالثة” بزوجة “بدر” في منزلها بوسط القاهرة، الذي يبعد بضعة كيلومترات عن منطقة رمسيس التي شهدت أحداث مسجد الفتح التي تسببت في حبسه. تتزين جدران المنزل بصور مختلفة لـ إيلينا وبدر وابنتهما أمينة، يملأها الحب والدفء الأسري بين المصري والنمساوية.

وفدت إيلينا إلى القاهرة في مطلع عام 2019 للعمل كمدرسة لغة ألمانية. كانت تخطط للبقاء مدة عام تستكشف فيه بلاد “الفراعنة” ثم تعود إلى بلادها؛ إلا أن زيارتها امتدت لتتحول إلى قصة أكثر درامية لم تخل من الفقد والمعاناة. لم تكن تتوقع الفتاة النمساوية البالغة من العمر وقتها 23 عامًا أن تقع في الحب، فهي لم تكن تخطط للارتباط بأي رجل من الأساس.

لكن بعد بضعة أشهر تعرفت على الشاب المصري بدر محمد عبد الله، في حفل نظمه بعض الأصدقاء. توطدت علاقتهما شيئًا فشيئًا. سافرا سويًا إلى مدينة دهب الواقعة في جنوب سيناء، استكشفت معه معالم مصر السياحية. ومع نهاية عام 2019، أيقن كلاهما أنهما وقعا في الحب، وقررا الارتباط.

عانى “بدر” من تبعات تجربة اعتقاله حينما كان في السابعة عشر من عمره، لوجوده في منطقة رمسيس بالتزامن مع وقوع تظاهرات مناهضة للسلطة التي تشكلت بعد الإطاحة بنظام الإخوان في 3 يوليو 2013. وتركت ندوبًا في نفسه، وهو ما رصدته إيلينا، دون أن يورطها في مشاعر الخوف من تكرار اعتقاله.

“كان يتحدث عن مشاعره فقط، وليس تفاصيل ما جرى معه حتى لا أخاف من مصر. لم يكن يتحدث سياسة”، تقول إيلينا.

قبل مجيء إيلينا إلى مصر ببضع سنوات، وبالتحديد في أغسطس من العام 2013، شهد ميدان رمسيس بوسط القاهرة، تظاهرات من أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي انتهت باشتباكات دامية مع السلطات الأمنية. وتقول منظمات حقوقية إن أجهزة الأمن استخدمت خلالها القوة المميتة غير القانونية لفض المتظاهرين ما أسفر عن وفاة 97 شخصًا على الأقل، إضافة إلى عشرات المصابين.

في اليوم التالي، أُلقي القبض العشوائي على المحاصرين بمسجد الفتح والمتواجدين بمحيطه، ومن بينهم بدر الذي كان متوجهًا لشراء مستلزمات دراسية من منطقة الفجالة تحضيرًا لبدء عامه الدراسي الأول بكلية الهندسة، وكان آنذاك يبلغ من العمر 17 عامًا، وفقا للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية. 

بدر وإلينا في القاهرة (الأسرة)
بدر وإلينا في القاهرة (الأسرة)

قضى بدر ثلاثة أشهر رهن الحبس الاحتياطي على ذمة القضية قبل إخلاء سبيله في العام نفسه (2013)، وفق المحامي الحقوقي إسلام سلامة – المحامي بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية-، ووكيل بدر القانوني.

مرت الأيام سريعة، وارتبطت إيلينا ببدر في مطلع 2020؛ وفي مايو من العام نفسه علمت بأنها حامل. ذهبت وزوجها إلى أسرته حتى يزف الخبر السعيد في أثناء تجمعهم على مائدة الطعام لتناول وجبة الإفطار خلال شهر رمضان.

لكن قبل أن يحدث. اقتحمت الشرطة المنزل، وجرى القبض على بدر الذي كان يعتقد أن قضية أحداث مسجد الفتح طويت صفحتها، وجرى إغلاقها كما جرت العادة؛ إذ كانت مثل هذه القضايا التي تُصنف بأنها “سياسية” تُغلق دون محاكمات قبل أحداث 30 يونيو 2013 التي أطاحت بنظام الإخوان.

“كان يبتسم، ويمسك يدي ويقول: كل شيء سيكون على ما يرام”، تقول إيلينا والدموع تملأ عينيها. وأضافت بأنه بعد الزج ببدر في السجن فلا يقول لها الآن أن أي شيء بخير. وطفت على وجهها ابتسامة ساخرة مفعمة بالحسرة.

جرى القبض عليه مرة أخرى، على خلفية صدور حكم غيابي ضده بالسجن خمس سنوات في قضية “أحداث رمسيس/ مسجد الفتح” التي ضمت 494 متهمًا، وصدر فيها أحكام مشددة على 442 من المتهمين.

منظمة العفو الدولية وصفت المحاكمة حينها بأنها “محاكمة جماعية فادحة الجور” شهدت إجراءات مُخجلة انتُهكت فيها أبسط المعايير الأساسية للمحاكمة العادلة، بينما أفلت من العقاب أفرادُ قوات الأمن، الذين استخدموا القوة المفرطة والمميتة خلال المظاهرات في اليوم نفسه. ولفتت إلى أن “المحكمة بنت أحكام الإدانة بشكل كامل على أساس من تقارير معيبة لقوات الأمن وتحريات أجراها “قطاع الأمن الوطني”.

في أثناء اقتياد رجال الأمن لبدر نحو سيارة الشرطة أخبر والده بأن إيلينا حامل. طالبت أسرة الزوج الذي يؤكد بشكل متكرر أنه كان متواجدًا في محيط ميدان رمسيس لشراء مستلزمات دراسية، من الزوجة النمساوية البقاء معهم، لكنها لم تستطع من الصدمة. كما لم تقو على العيش في المنزل الذي أسسته مع بدر من دونه. تقول إن نظرتها إلى المنزل باتت مختلفة. تبدلت الذكريات الجميلة بأخرى مقبضة.

“هذا ليس منزلي”، تقول إيلينا.

حاولت إيلينا أن تبتعد عن القاهرة موطن الأحزان قليلا بعودتها إلى بلدها، لكن سرعان ما عادت النمساوية مرة أخرى إلى مصر لتكون قريبة من بدر. ورُزقت بطفلتها أمينة.

وعن تربية الطفلة الصغيرة في غياب الأب، تقول: “تربية أمينة بدون والدها أمر صعب. أن تكون الأم والأب في وقت واحد صعب جدا. أنا لست أم عزباء؛ هناك شخص في حياتي كان يحلم بأن يشاركني لحظات نمو الطفلة، يلعب معها، يمسك بيديها، وغيرها من أمور ليست متاحة على غير رغبتنا”.

تحاول إيلينا أن تحتفظ بذكريات ما تعيشه من لحظات مع أمينة، حتى تحكيها لزوجها “المحروم” من مشاركتها هذه الأوقات حينما يُطْلَق سراحه. لكن عند كل فعل جديد تقوم به الطفلة الصغيرة مثل أول مرة تقف دون مساعدة، وأول خطوة خطتها، وأول مرة ركضت؛ تكون مشاعر الأم متضاربة. “في هذا الوقت أكون سعيدة لما تقوم به أمينة، لكن حزينة أيضًا؛ لأن بدر ليس معنا ليرى ذلك”.

تشعر إيلينا بأنها منفصلة عن زوجها، لكن هذا الانفصال قسري كما تصف.

مرة أخرى، كانت نبرة صوتها تشير إلى أنها على وشك البكاء، لكنها نجحت في المقاومة؛ إلا أنها تعترف: “في بعض الأوقات أشعر بأني مرهقة والحمل ثقيل وكبير جدًا. لقد انتهت طاقتي”.

“أعتقد أن الأمر صعب جدًا”، تقول إيلينا.

 تحدثت عن محاولاتها تخفيف أثر السجن على الحالة النفسية لزوجها الذي ترى خلال زيارته الشهرية له في السجن نظرة الحزن في عينيه، لأنه ليس بجانبها، ولا يستطيع أن يحتضن ابنته أمينة التي يقضي معها بضع دقائق فقط كل شهر، لا يستطيع الإجابة عن سؤالها “لماذا لا تأتي معنا؟”، حيث قالت إنها تكون في حيرة شديدة، ولا تعرف كيف تخفف عنه وطأة السجن.. “أفكر في بعض الأحيان أن أحكي له عن شيء ما فعلته أمينة، ولكن أقول لنفسي هل هذا سيسعده أم سيجعله حزينًا؛ لأن هذا الأمر فاته.. للأسف لحظات كثيرة تفوته، بينما هو قابع في السجن”.

يوجد في المنزل العديد من الورود الورقية التي صنعها بدر في السجن لإيلينا وابنته أمينة. تقريبًا في كل أركانه هناك مزهرية تضم باقة من هذه الزهور. تعيد إيلينا ترتيب الزهور الموضوعة على الطاولة التي بجانبها قبل أن تعاود الحديث مرة أخرى.

وفق القانون المصري، يجوز لمن حُكم عليهم غيابيا استئناف الحكم، كي تُعاد محاكمتهم أمام المحكمة نفسها، وهذا ما فعله محامو بدر. لكن على مدار ثلاث سنوات استمر تأجيل جلسات إعادة الإجراءات للنظر في الحكم الغيابي الصادر ضد بدر، حتى صدر في الثاني عشر من يناير 2023 من محكمة الجنايات قرارًا بتأييد الحكم عليه.

ويوضح المحامي الحقوقي إسلام سلامة، في حديثه إلى “زاوية ثالثة”، أن جلسات إعادة محاكمة بدر لم يُعرض خلالها أي أدلة مادية تفيد بمشاركته في أحداث مسجد الفتح وتثبت إدانته. ولم يواجه بشهود إثبات حقيقيين.

وأضاف المحامي الحقوقي أن المحكمة لم تأخذ بأقوال الشهود الذين أكدوا عدم مشاركة بدر في التظاهرات. مشيرًا إلى أن المحكمة استندت في الحكم الصادر بحق بدر وباقي المتهمين في القضية إلى تقارير سرية قدمتها الأجهزة الأمنية، موضحًا أن هذه التقارير لا يطّلع عليها المتهمون ومحاموهم.

“سلامة” قال إنه تقدم وكيلا عن بدر محمد، في فبراير الماضي، بطعن في الحكم أمام محكمة النقض، لكن لم تُحَدَّد جلسة لنظر الطعن حتى الآن. وأضاف أن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية تقدمت أيضا بطلب إلى رئاسة الجمهورية لإصدار عفو رئاسي عن بدر، وتأمل إطلاق سراحه قريبًا.

يعتقد بدر أنه سبب معاناة زوجته وعائلته، ولهذا تؤكد له إيلينا في كل مرة تزوره بالسجن إنه ليس المخطئ، وغير مسؤول عن أي معاناة يعيشونها، وأنها سعيدة لأنه في حياتها، وفخورة لكونه والد ابنتها.

قضى بدر أكثر من نصف المدة المحكوم عليه بها. وتقول المبادرة المصرية للحقوق الشخصية إنه “حسب إجراءات التقاضي في مصر، ستستمر إجراءات نقضه للحكم لفترة قد تتخطى إجمالي باقي المدة المحكوم عليه بها”.

“رحلة حب وألم”.. هكذا ترى إيلينا حياتها منذ أن جاءت من فيينا إلى القاهرة، ففي بداية رحلتها وقعت في الحب، وعاشت بضعة شهور من السعادة مع بدر، لكن الحال انقلب واختبرت “الألم الشديد” في مايو 2020، وما زالت تختبره إلى الآن.

عائلة بدر المصدر (زوجته إيلينا)
عائلة بدر المصدر (زوجته إيلينا)

وتأمل إيلينا أن تتخطى قريبا مرحلة “الوجع” وتسترد حياتها الطبيعية بعودة زوجها إلى أحضانها، وألا تكون مضطرة لأن تكون قوية في كل الأوقات. وتؤكد أنها وبدر وأمينة بحاجة إلى التعافي من هذه التجربة القاسية. مطالبة كل الأشخاص الذين يعدونها بإطلاق سراح زوجها بعد ستة أشهر بذل قصارى جهدهم لأن يحدث ذلك الآن وليس غدًا.. “كلما كان ذلك أسرع، كلما ساهم ذلك في ألا تزيد جراحنا. ويجعل جروحنا تلتئم أسرع”.

وتؤكد إيلينا في ختام حديثها أن كل لحظة تعيشها الآن فيها “ألم”. كما أن بدر نفسه صار محبطًا للغاية. وينبغي عليها مواجهة إحباط زوجها وأسئلة ابنتها المتكررة عن أبيها، وهي نفسها بحاجة لمن يساعدها على الصمود.

وفي 10 مارس الجاري، نظم أحباء وأصدقاء بدر محمد، مظاهرة إلكترونية أشاروا خلالها إلى أنه سجين منذ ثلاث سنوات وتسعة أشهر “رغم كونه بريئاً”، وأنهم منذ مايو 2020 يواصلون المطالبة بالإفراج عنه، بمساعدة العديد من المنظمات والأشخاص الذين وعدوا ببذل قصارى جهدهم، لكن لم يسفر أي من تلك الجهود عن إطلاق سراحه.

وذكرت إيلينا بيشلر في تدوينة لها خلال هذه الفعالية الإلكترونية أن من مشاهد معاناة بدر في السجن أنه يتوجب عليه مشاهدة طفلته تكبر من خلف القضبان، لم تتح له أي فرصة للتعرف عليها وهو حر.

وتؤكد المبادرة المصرية للحقوق الشخصية -منظمة غير حكومية-، أن حالة بدر تظهر “مستحقة” للعفو الرئاسي، إلا أن أسرته لم تتلق ردًا على ما قدمته من طلبات للجنة العفو، التي أعلنت أن نطاق عملها سيستمر في التركيز على “الشباب المحبوسين”، عقب إعلان رئيس الجمهورية إعادة تفعيلها منذ ما يقرب من سنتين، وبالتحديد في أبريل 2022.

إسلام الكلحي
صحفي مصري

Search