في الخامسة صباحًا، تجلس السيدة مِسعدة عبد الحي، البالغة من العمر 64 عامًا، على سطح منزلها في قرية الفواريقة، التابعة لمركز أبوقرقاص جنوب محافظة المنيا. تتنشق بحذر بعض الهواء النقي في محاولة لتجنب خطر الموت الذي يحيط بها وجيرانها، حيث يهددها الدخان المنبعث من مصنع السكر يومًا بعد يوم.
أصيبت مسعدة بمرض الربو في وقت مبكر لقُرب منزلها من المصنع، هي ليست الحالة الوحيدة في القرية التي تعاني آثار مدمرة لمصنع السكر، يُعاني مئات السكان في القرية من أمراض الصدر وحساسية التنفس، ويشمل ذلك الربو والفشل الكلوي والسرطان، حيث يشكل المصنع خطرًا على حياتهم نتيجة لإلقاء مخلفاته الغازية والسائلة والصلبة في محيط يضم حوالي 30 ألف نسمة.
وفقًا لجولة زاوية ثالثة الميدانية بين أهالي قرية الفواريقة، يُظهر هذا التحقيق حالات تفشي الأمراض وتلوث مجرى المياه المحيط بالمصنع على طول امتداده، إضافة إلى ذلك، يُوثق العبث بحياة المواطنين من خلال ري ما يقرب من 100 فدان بالمخلفات السائلة المنبعثة من المصنع، ومعاناة الآلاف من أهالي الفواريقة.
في هذه المنطقة، تتذكر السيدة جمالات وقت كان المصنع يعمل بالحطب والبوص منذ ما يقارب 70 عامًا، حيث كانت الغيمة السوداء تلوث الجو، وتتساقط الرماد على أسطح البيوت وعلى المارة، ورغم عدم استخدام المصنع الحطب والبوص الآن، إلا أن الرماد لا يزال يتراكم على أرضيات المنازل نتيجة تطاير الشوائب في أثناء الغلي، تلخص جمالات وهي تجلس على عتبة منزلها في حارة ضيقة بالقرب من المصنع عن حالة البيئة التي نشأوا بها، دون أن يلتفت إليهم أحد.
في ديسمبر 2022 أعلنت وزارة البيئة الانتهاء من تنفيذ خطط الإصحاح البيئي لشركة سكر أبو قرقاص بتمويل من برنامج التحكم في التلوث الصناعي (المرحلة الثالثة) التابع لوزارة البيئة.
وبحسب التقرير، فقد وقّعت الوزارة اتفاقية منحة للتعاون مع الاتحاد الأوروبي تبلغ قيمتها أربعة ملايين يورو، وتعد جزءًا من التمويل الخاص بالمرحلة الثالثة لتنفيذ برنامج التحكم في التلوث الصناعي (EPAP)، البالغ ميزانيته 145 مليون يورو، ويُنَفَّذ بالمشاركة مع كل من الاتحاد الأوروبي، وبنك الاستثمار الأوروبي، والوكالة الفرنسية للتنمية، وبنك التعمير الألماني. |
يقول مجدي علام -أمين عام اتحاد خبراء البيئة العرب ومستشار مرفق البيئة العالمي- في تصريح إلى زاوية ثالثة، أن وزارة البيئة تلقت العديد من المِنح الدولية، للحد من تلوث المصانع، وأوضح أن السوائل الخارجة من المصنع ستتسبب في ضرر بيئي كبير جدًا. يقول: “نحن نتحدث عن أكاسيد الكربون وأكاسيد النيتروجين وأكاسيد الكبريت الكيميائية، هذه المواد ناتجة عن عمليات التسخين والتبخير داخل المصنع، ومن الضروري أن يكون هناك معالجة للتخلص من المواد الكيميائية”.
ناموس وسحابة سوداء ورائحة كريهة
على بعد آلاف الأميال من المصنع تستطع أن تشتم رائحة كريهة جدًا، تحكي فتحية، وهي بائعة الخضار في ناصية قريبة من المصنع، عن الرائحة الكريهة التي تنبعث طوال النهار نتيجة عمليات التسخين والتبخير، تقول برغم أنها منفرة جدا ألا إنهم اعتادوها ولا يشعر بالنفور سوى الغريب عن القرية، لكنها تشير أن الضرر الكبير ليس في الرائحة فقط، لكن في الناموس الذي ينتج من تلك الرائحة، فـ “الناموس يؤرق حياتنا” في فصل الصيف، ولا يقف الأمر عند عدم القدرة على التخلص منه؛ بل تسبب في انتشار العديد من الأمراض بين الأطفال والنساء نتيجة الحساسية المفرطة، لأنهم يضطرون لاستخدام المبيدات الحشرية في كل ركن من المنازل حتى على الخضار الذي تبيعه لمنع تجمع الناموس عليه، مما يتسبب المصنع في إصدار رائحة كريهة ناتجة عن المخلفات الغازية التي يخلفها.
ينص القانون رقم 4 لسنة 1994 على أن أي تغير في خصائص ومواصفات الهواء الطبيعي يمكن أن يشكل خطرًا على صحة الإنسان أو على البيئة، سواء كان هذا التلوث ناتجًا عن عوامل طبيعية أو نشاط إنساني، ويشمل ذلك الروائح الكريهة سواء كانت صلبة أو سائلة أو غازية، والعقوبة وفقًا لما يُحدد في اللوائح التنفيذية الخاصة بهذا القانون. |
بالاتفاق مع محمد جمال -أحد عمال المصنع-، قام بجولة مصورة من داخل المصنع، يشرح فيها كيف تتم عمليات إنتاج السكر، حيث يبدأ بتنقية شرائح البنجر في خزانات مملوءة بالماء الساخن، ويشمل عملية الغسل استخدام آلاف اللترات من الماء، حيث يعمل المصنع بسعة تصل إلى 10 آلاف طن يوميًا في أثناء الموسم.
أيضًا- إلى جانب الغسل بالماء، تُضَاف مواد قلوية مثل. الصودا الكاوية أو “البيكاربونات” لتنظيف البنجر وإزالة الأوساخ العضوية والشحوم، خاصة أن عملية تنظيف البنجر تحتاج إلى مجهود مضاعف عن تنظيف القصب؛ لأن قشرة البنجر الخارجية لزجة جدا، بعد ذلك يتم عملية التسخين والتبخير للبنجر حيث يتحول جزء منه إلى سكر، وجزء سائل، وجزء يتبخر، حيث تخرج المواد المتطايرة في شكل سحابة سوداء، بينما تصب المواد السائلة من بوابة المصنع الخلفية إلى نقطة تسمى المحيط، وهي مجرى مياه يوجَد بجوار مجرى مياه الري العذبة.
الري بمياه المصنع القاتلة
على امتداد الأراضي المجاورة يخبرنا عدد من الفلاحين أنهم يستخدمون مياه المصنع في الري، حيث إنه في كثير من الأحيان لا تكون مياه الري متوفرة، ومن ثم يلجأون إلى استخدام مياه الصرف الخارجة من المصنع التي تمتد على طول الأراضي الزراعية، فيقول أشرف حمدي إنهم لسنوات طويلة يستخدمون مياه الصرف، ولم يلاحظوا تغييرًا في جودة المحاصيل إلا في السنوات القريبة فقط.
الجدير بالذكر أن مجرى المياه العذبة لم يدخل منطقة الفواريقة أو القرى المجاورة إلا من فترة قريبة، ولا تتوفر فيها المياه على نحو دائم، ما يجعل الفلاحين يعتمدون بشكل كبير على مياه المصنع المجاورة للري على طول امتداد الأراضي الزراعية
يوضح مصدر بوزارة الزراعة “فضل عدم ذكر اسمه” يوضح في حديثه مع “زاوية ثالثة” أن ما يحدث في مصنع السكر يعتبر جريمة بحق البيئة؛ إذ إن المخلفات السائلة التي تخرج من بوابة المصنع تتخذ مجرى موازيًا على امتداد الطريق الزراعي، ما يترك أثر كارثيًا يترسب في التربة، ويسبب الأمراض الخبيثة والفشل الكلوي، كما يهدد الأمن الغذائي على المدى البعيد، مؤكدًا أن مسؤولية ريّ الأراضي بمياه ملوثة تقع على عاتق قسم الأراضي والمياه بمديرية الزراعة، وعلى وزارة البيئة طبقا للمادة 4 لسنة 1994.
تشير دراسة صادرة عن الأمم المتحدة في البرنامج الإنمائي 2010 إلى أن التعرض للملوثات العضوية الثابتة غير المتعمدة يعرض الإنسان للعديد من التهديدات الصحية، بما في ذلك مشاكل الجهاز التنفسي، والاضطرابات الجلدية، والتلف الحاد في المخ، والسكتة الدماغية، والربو، والسعال، والتهاب الشعب الهوائية، وتقلل نمو الرئتين، وارتفاع ضغط الدم. كما أن العمال الذين يجمعون هذه النفايات يتعرضون إلى خطر كبير لأنهم يلامسون مواد خطرة بشكل مباشر. |
وفقًا لبيان وزارة البيئة صدر في 2017 بهدف مناقشة المشكلة، تضمن أن مصنع سكر أبوقرقاص يقوم بإلقاء مخلفاته الناتجة من استخدام محاصيل البنجر وقصب السكر في صناعة السكر وغيره من المنتجات في مصرف يسمي بمصرف “المحيط”، ما يزيد من نسبة تلوث مياهه بالكيماويات، حيث يتم صرف مخلفات المصانع من نقطة قريبة مصرف “أتليدم” -وهي نقطة قريبة من المصنع- ومنه إلى مصرف “المحيط” بمعدل يصل إلى خمسة آلاف متر مكعب يوميًا.
يوّضح “عبد الجليل” أن مجرى المياه الذي يحمل كل المخلفات والعناصر الثقيلة يتجه نحو المحافظات البحرية، حيث أن مجاري المياه القادمة من مصانع الجنوب تتجمع في بقعة واحدة، وهي مصرف “أتليدم” شمال محافظة المنيا، ومن هذه النقطة تزداد درجة التلوث في المياه بشكل كبير.
يُحظر، وفقًا للمادة الثانية من قانون حماية مجرى النيل رقم 48 لسنة 82، صرف أو إلقاء المخلفات الصلبة أو السائلة أو الغازية من المنشآت الصناعية في مجاري المياه على كامل أطوالها ومسطحاتها.
وتنص المادة الثالثة على أنه يتعين على أجهزة الصحة تحليل عينات المخالفات السائلة بشكل دوري، وفي حال تبين أن العينات تخالف المعايير التي تحافظ على صحة الإنسان، يجب سحب الترخيص فوراً من صاحب الشأن. |
عفن في التربة
بالتعاون مع المهندس الزراعي مفدي ذكي، أخذنا عينات من التربة والماء المحيطين بالمصنع، وعمل تحاليل لها في مديرية الزراعة. وكانت نتائج التقارير تشير إلى وجود عفن في التربة، وينتشر فيها دود “النيماتودا”. ويعتبر وجوده مؤشرًا على تلوث المياه بالفوسفات والمواد الكيميائية، ما يعزز من خطورة البيئة المحيطة بالمصنع وتأثيره السلبي على التربة والمياه القريبة منه.
محمد صفوت -مدير معمل خصوبة التربة بالهيئة العامة لصندوق الموازنة-، يوضح أن العفن الناتج عن الإسراف في استخدام المواد الكيميائية يتسبب في فقدان تصل نسبته إلى 30% من المحاصيل، ويُشير إلى أن التربة تتأثر بشكل عميق على مدار السنوات نتيجة لاستخدام المواد الكيميائية، حيث لا تتحلل السموم السائلة والعناصر الكيميائية في التربة، بل تترسب وتبقى تحت الأرض، مما يؤدي إلى تأثير مدمر على المدى الطويل.
في محاولة للتواصل مع الجهات المعنية لتوضيح الأمر، أكد عصام عامر -رئيس قطاع الفروع الإقليمية لشؤون البيئة-، أن الوزارة لم تتلق أي تمويل لتطوير المصانع منذ عام 2011، وأن جميع الأنشطة توقفت. هذا يتعارض مع التصريحات المتعددة التي تأتي من الصفحة الرسمية للوزارة والجهات الدولية، التي تؤكد حصول قطاع البيئة على تمويلات للإصلاح البيئي، وتصر الوزارة على أنه أُصْلِح مصنع سكر أبو قرقاص بالفعل، ما يثير التساؤلات حول الوضع الفعلي للمصنع وتأثيره المحتمل على سكان قرية الفواريقة.
وسط هذا الواقع المأساوي بين معاناة الأهالي وتصريحات الإنكار، يعيش أكثر من 30 ألف نسمة في قرية الفواريقة في حالة نسيان تحت تهديد صحي مباشر، بينما يعيش آلاف غيرهم تحت تهديد المياه والأراضي الملوثة بالمبيدات. فالحماية الفعّالة للإنسان لا تكتمل إلا بحماية البيئة التي يعيش فيها، ولا يمكن أن نحمي البيئة ما لم نستهدف مصادر التلوث، ونعالجها بفعالية وحزم.