الكاسافا في مصر: فرص أضاعتها البيروقراطية وطريق لسد الفجوة الغذائية

14 عامًا مضت منذ راود الدكتور عُمر تَمّام، حلمه بزراعة وتوطين نبات الكاسافا في مصر، لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الدقيق وسد الاحتياجات من الخبز، لكن حلمه سرعان ما اصطدم بصخرة البيروقراطية ومشكلات البحث العلمي في مصر.
آية ياسر

14 عامًا مضت منذ راود الدكتور عُمر تَمّام، حلمه بزراعة وتوطين نبات الكاسافا في مصر، لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الدقيق وسد الاحتياجات من الخبز، لكن حلمه سرعان ما اصطدم بصخرة البيروقراطية ومشكلات البحث العلمي في مصر.

“عندما جلبت معي نباتي الكاسافا واليام من دولة نيجيريا لأغراض البحث العلمي أُوقِفْت في مطار القاهرة، أخبرتهم أنني عميد معهد البيئة ومع ذلك أجبروني على دفع مبلغ 17 ألف جنيه، كرسوم جمركية ورسوم ثلاجة، من حسابي الشخصي”. يحكي عمر تمّام، أستاذ المحميات الطبيعية وعميد معهد البيئة السابق.

 

ما حدث في المطار في عام 2010 لم يثن الأكاديمي المصري عن محاولة تحقيق حلمه، فأحضر من نيجيريا خبير أجنبي لتعليم الباحثين والأكاديميين وطلاب معهد البيئة كيفية زراعة الكاسافا، لكن الخبير اشترط الحصول على أجر كبير، لم توافق الجامعة على دفعه.

“الخبير الأجنبي كان أجره ألف دولار في الأسبوع، والجامعة رفضت الدفع، فساهم معي بعض الطلاب، وأقام في غرفة استراحة العميد، وظل في مصر لمدة شهر، قام خلاله بتعليم الطلاب كيفية زراعة الكاسافا، لكن للأسف لم تُزْرَع بشكل تجاري، واقتصر الأمر على الأبحاث العلمية؛ يُتَخَلَّص منها بعد إجراء التجارب العلمية عليها، ولا تُرْسَل للصناعات الغذائية” يضيف تمّام، منبهًا إلى أزمة البحث العلمي في مصر، وضعف أجور الباحثين.

وتعد الكاسافا أو البَفرة، عشبة معمرة موطنها الأصلي أمريكا الجنوبية، وذات جدوى اقتصادية وغذاء مفيد للإنسان تدخل في كثير من الصناعات الغذائية، وهي مصدر رئيسي للسكريات، وثالث أكبر مصدر الكربوهيدرات والسعرات الحرارية في العالم، وتعتبر أفريقيا أكبر مركز إنتاج لها.

وتتوقع منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة “فاو” بأن يصبح نبات الكسافا، الذي تعتبره غذاء الفقراء، محصول القرن الـ21، في ظل الارتفاع الكبير لأسعار الحبوب لاسيما القمح.

ويرى أستاذ المحميات الطبيعية أن مصر بيئة مناسبة لتوطين الكاسافا، التي تنمو في البيئات الحارة وتصيبها الآفات في البيئات الرطبة المطيرة، وتتحمل الجفاف لمدة شهرين، معتبرًا أنها النبات الوحيد الذي يمنع حدوث المجاعات، كون أوراقها تحتوي على 40% بروتين، وتُفْرَم درناتها وتحويلها إلى جار أبيض أو أصفر مضاف إليه زيت، يستخدم في المخبوزات، وتصنع منه عصيدة مخلوطة بالحليب، وتعصر لتستخرج منها “نشا التابيوكا” والدقيق، وتستعمل قشور درناتها بعد تجفيفها كعلف، وتستخدم في الطاقة الخضراء وصناعة الأكواب الورقية، موضحًا أن طريقة الزراعة تكون بغرس سيقان الكاسافا في التربة، ويعد التوقيت الأمثل لذلك في شهر أبريل، ويُحْصَد في ديسمبر، ويتراوح إنتاجها بين خمسة إلى 40 طنًّا للفدان، حسب كفاءة الأرض.

 

الحلم التائه بين أوراق الحكومة

حالة البيروقراطية وتجاهل الأفكار الجديدة عانى منها رجل الأعمال “محمد طارق نجيب”، الذي راوده حلم زراعة وتوطين النبات في مصر، منذ التسعينات، كونه كان المستورد الوحيد لـ”التابيوكا“، النشا المستخلص من الكاسافا، لحساب بنك التنمية والائتمان الزراعي، والشركة القابضة للصناعات الغذائية لاستخدامها في أعلاف الماشية والدواجن، كما شاركت شركته في تجارب ناجحة لإدخال الكاسافا للغذاء الآدمي والحيواني، ضمن مشروع رفع الكفاءة البحثية رقم 871012، بمعهد الكفاية الإنتاجية بجامعة الزقازيق.

بعد نجاح تجربة الزراعة وحصاد المحصول بعد نحو عام، صنع الباحثون المشاركون فيها بالتعاون مع شركة “نجيب” دقيق ونشا “التابيوكا”، وأعدوا منه مخبوزات وفطائر وخبز “بيتي بان”، ثم أرسلوها كهدية لقرينة الرئيس الأسبق، سوزان مبارك، فتناولت منها ولاقت إعجابها، بحسب ما يحكي “نجيب” لـ”زاوية ثالثة”، مضيفًا أن “مبارك” سأل “يوسف والي”، أحد قيادات الحزب الوطني الديمقراطي المنحل والوزير السابق للزراعة واستصلاح الأراضي، عن تلك المنتجات مشيدًا بجودتها، وأنه أبدى موافقة على مشروع زراعة الكاسافا، متهمًا “والي” بأنه عطّل المشروع خوفًا من الولايات المتحدة الأمريكية، على حد تعبيره.

“خلال التسعينات كنت أستورد من الكاسافا بسعر 70 دولارًا، مستغلًا اتفاقية “جات 1994″، استوردت 185 طناً لحساب بنك التنمية، و80 ألف طن لحساب الشركة القابضة، ولكن بعد انتهاء الاتفاقية تضاعف سعر الطن نحو خمسة أضعاف، فتوقفت عن استيرادها” يقول نجيب، الذي لم يتخل عن حلمه، وعاود المحاولة في يناير من العام 2016، متقدمًا لكلٍ من: وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي ومجلس الوزراء ورئاسة الجمهورية، بمشروع مبادرة المليون ونصف فدان ومشروع زراعة وإنتاج الكاسافا بمصر، وفقًا للشروط وأسعار شركة تنمية الريف المصري الجديد.

ولم تسفر أشهُر من المراسلات مع الجهات الحكومية والمركز القومي للبحوث، عن تنفيذ شيء من المشروع على أرض الواقع، ولكن رجل الأعمال الستيني يعتزم البدء في مشروع لزراعة الكاسافا على مساحة ألفي كيلو متر في الوادي الجديد، واستخدام القطفة الأولى منه لصنع دقيق ونشا “التابيوكا”، وتحميل فول الصويا على محصول الكاسافا والإفادة منهما في صناعة العلف، مؤكدًا أهمية زراعة النبات في المناطق الحدودية لكون سيقانه تصل لارتفاع ثلاثة أمتار، وتعمل كمصدات للرياح، وتكافح أسراب الجراد.

ويوضح “نجيب” أن تجارب زراعة الكاسافا بمصر بدأت في مارس ويونيو 1983، بمزارع الخطارة والعدلية بمحافظة الشرقية، ومزرعة كلية زراعة قناة السويس بمحافظة الإسماعيلية، ومزارع خاصة بمحافظة المنيا، ومعهد الكفاية الإنتاجية بجامعة الزقازيق، ومركز بحوث البساتين بالقاهرة. وقد أظهرت النتائج أن زراعته تزدهر في المناطق الحارة والأراضي الرملية قليلة الخصوبة، والتي تقل فيها مياه الأمطار والري؛ حيث يحتاج إلى 150 سم مكعّبًا من المياه سنويًا، ولا يكاد يحتاج سماد، وأنه أعطى إنتاجًا وفيرًا من الممكن أن يغني مصر عن استيراد القمح والذرة؛ حيث ينتج النبات الواحد بعد نحو تسعة أشهر من زراعته، درنات جذرية تزن حوالي أربعة كيلوجرامات، وينتج الفدان الواحد دقيقًا يعادل ستة أضعاف المستخرج من القمح.

 

قادرة على سد الفجوة الغذائية بمصر

 فاطمة علي أحمد -أستاذ كيمياء النبات ونائب رئيس مركز بحوث الصحراء السابق-، تبين أن الكسافا تصلح بنسبة 65% للاستهلاك الآدمي، و21 % لتغذية الحيوان، وتستخدم نسبة 14% منها في صناعة النشا، حيث تحتوي جذورها على حوالي 25-30% نشا، أي ثلاثة أضعاف النشا الموجود في البطاطس، وهو يستعمل في أغراض صناعية كـإنتاج البسكويت والحلوى والفواكه المعلبة والمربى، كما يستخرج منها دقيق الكسافا الذي يمكن خلطه بدقيق القمح، بنسبة 10% إلى 20% لصناعة الخبز، كما تستخدم درنات الكسافا في صناعة رقائق الشيبسي، وهي أكثر قيمة غذائية واقتصادية من درنات البطاطس، ما يجعلها قادرة على تحقيق الأمن الغذائي وسد الفجوة الغذائية في مصر بصورة جزئية، لافتة لكون الكسافا مصدرًا هامًّا لإنتاج الوقود الحيوي (الإيثانول) النظيف الخالي من ثاني أكسيد الكربون، مما قد يحد من الاعتماد على المصادر التقليدية للطاقة.

ورغم الفوائد الصحية للكسافا، كـامتصاص السموم من الأمعاء، والوقاية من السرطان، وعلاج الإسهال، وتنشيط عملية الهضم، وتنظيم مستوى السكر، إضافة لاحتوائها على الألياف الغذائية وقليل من الفيتامينات والمعادن، إلاّ أن أستاذ كيمياء النبات، تُحذّر من احتوائها على بعض المركبات التي تمنع امتصاص الفيتامينات والمعادن، وتتعارض مع عملية الهضم، كـ “الصابونينات والتانينات”، مشددة على ضرورة إزالة القشرة الخارجية للكاسافا، ثم نقعها في الماء لمدة يومين، قبل طهيها وتناولها.

في السياق ذاته، يؤكد وليد فتحي – مهندس تأكيد جودة يعمل في مجال الصناعات الغذائية-، أهمية استخدام الكاسافا في صناعة الأغذية، لكونها غنية بالنشويات، ويصنع منها الدقيق والنشا، وتمتاز بخلوها من الجلوتين، ما يجعلها مثالية لمرضى الحساسية الغذائية والسيلياك، ومن يتبعون حمية خالية من الغلوتين كـمرضى الفيبروميالجيا والتوحد.

ويوضح أن الصناعات الغذائية المتعلقة بالكاسافا عرفت طريقها إلى مصر منذ سنوات، وهي تحمل مواصفة قياسية رقم 6211/2007 في المواصفات القياسية للهيئة العامة، وتختص هذه المواصفة القياسية بالاشتراطات الأساسية والمعايير الوصفية للأنواع التجارية من الكاسافا الحلوة (الجذور) من جنس (Manihot esculenta crantz) التابع لعائلة (Euphorbiaceae)، التي تقدم طازجة للمستهلك بعد التجهيز والتعبئة، في حين يحمل دقيق الكاسافا للاستهلاك الآدمي، المواصفة القياسية رقم 2853/ 2005.

 

الزراعة على نطاق محدود

من جهته، يكشف الدكتور محمد علي فهيم -مستشار وزير الزراعة ورئيس مركز معلومات التغير المناخي-، في حديثه مع زاوية ثالثة عن أن زراعة الكاسافا نجحت في مصر على نطاق ضيق من التجريب، ولكن لم يتم توطينها وزراعتها لأغراض تجارية لعدم وجود طلب عليها، ووجود بدائل أرخص بالنسبة للمزارع كالبطاطا والبطاطس على النقيض من محاصيل استوائية أخرى كـالأفوكادو وفاكهة التنين والليتشي، التي وُطِّنَت، إضافة لاختلاف البيئة المناخية لكونه بالأساس محصول بيئة استوائية أو شبه استوائية، عادة ما يزرع في أمريكا الجنوبية والهند وإفريقيا، على مياه الأمطار، بينما تعد البيئة في مصر جافة شحيحة الأمطار.

ولا يتفق “فهيم” مع كون الكاسافا يمكنها أن تنافس القمح، وتحل محله في إنتاج الخبز، موضحًا أن مصر تزرع نحو ثلاثة ملايين ونصف المليون فدان، تنتج عشرة ملايين طن قمح، ولا تسمح الموارد المائية من مياه النيل والمياه الجوفية بأكثر من ذلك، لكنه يرى ضرورة زراعتها بشكل تجاري على نطاق محدود، لاستخدامها في صناعة المواد الغذائية الخالية من الجلوتين والمنتجات التكميلية والمكملات لصالح مرضى الحساسية.

وفق تقرير التوجهات الاستراتيجية للاقتصاد المصري للفترة الرئاسية الجديدة (2024-2030)، الصادرة عن مجلس الوزراء، تحتاج مصر خلال العام الجاري، ما مجموعه 7.7 مليون طن من القمح، وذلك من أجل توفير 93.5 مليار رغيف خبز خلال السنة، وفي العام الماضي 2023، بلغت واردات مصر من القمح حوالي عشرة ملايين طن، نسبة 68% منها تأتي من روسيا منفردة. كما تستورد مصر النسبة المتبقية من عدد آخر من البلد وصل إلى 22 بلدا، منهم 11 رئيسيين لسد الفجوة ما بين إنتاج مصر واستهلاكها من القمح.

في ظل المشهد، وحسب آراء الخبراء من الممكن أن يصبح نبات الكاسافا هو المنقذ لأزمة القمح في مصر.. فهل تسعى السلطة لتوفير بدائل سريعة للقمح الذي لم تستطع تحقيق الاكتفاء الذاتي منه، ولا تزال تستورد الكميات الأكبر منه من الخارج؟

آية ياسر
صحافية وكاتبة وروائية مصرية حاصلة على بكالوريوس الإعلام- جامعة القاهرة.

Search