كوارث بيئية تهدد أهالي بني سويف الجديدة

وفقًا لـمحمود محمد عمرو -أستاذ الطبّ المهنيّ والبيئيّ ومؤسّس المركز القوميّ للسموم-، فإنّ الصناعات الّتي تصدر عنها انبعاثات الكربون وموادّ كيماويّة، حين توجد بالقرب من المناطق السكنيّة تسبّب فشلًا تنفّسيًّا مبكّرًا خلال الثلاثينات أو الأربعينات من العمر،
Picture of آية ياسر

آية ياسر

منذ عدة سنوات تعاني أسرة المهندس المختص في العمارة البيئية وليد محمد، من الغثيان وصعوبة التنفس؛ بسبب روائح كريهة منتشرة في منطقته، إذ يقطن وأسرته، في منطقة شرق النيل بمدينة بني سويف الجديدة، التابعة لهيئة المجتمعات العمرانية، ويسكنها أكثر من 150 ألف نسمة، وفقًا لتعداد مصر الرسمي في عام 2022. 

وحسب “محمد” تنشط تلك الروائح خلال ساعات الليل، ولا سيما في الشتاء، ويحيل الأهالي الذين تحدثت معهم “زاوية ثالثة” سببها إلى مستنقعات الصرف الصحي المختلط بالصرف الصناعي، إضافة إلى ذلك، فهم يعانون انتشار البعوض والحشرات التي تهاجمهم خلال فصل الصيف، إلى جانب الانبعاثات الكربونية والروائح الخانقة الناتجة عن الكتل الصناعية المحيطة بالمدينة؛ إذ يبلغ عدد المصانع المنتجة في بني سويف الجديدة 139 مصنعًا، فيما وصل عدد المصانع تحت الإنشاء إلى (63) مصنعًا.

يشرح محمد متحدثًا: “استخدمنا تطبيقات للهواتف الذكية لمعرفة حركة الرياح، متاحة على متجر جوجل بلاي، مثل: مقياس شدة الريح الرقمي، الرياح والطقس، وايندر فوندر، لتتبع مصدر رائحة المجاري التي تصلنا، فاكتشفنا أن مصدرها جنوب المدينة؛ حيث محطة معالجة مياه الصرف الصحي، ويصب فيها الصرف الصناعي لمصانع المدينة؛ ما يؤثر في عملية معالجة الصرف الصحي بـالحمأة المنشطة، كما تلقى مياه الصرف في الجبل – منطقة أعلى من مستوى المدينة-، وعلى مدار سنوات تخلخلت الأرض متأثرة بذلك، ونتجت مستنقعات صرف صحي مختلطة بالصرف الصناعي تزحف في اتجاه المدينة، ما يمثل خطرًا كبيرًا في المقابل”.

تعد المعالجة بالحمأة المنشطة إحدى عمليات معالجة مياه الصرف الصحي، وتستخدم في المحطات الصناعية المتوسطة إلى الكبيرة، وهي تعتمد على إدخال دخل الهواء في الخزان/البحيرة (عبر منافذ التهوية)، ما يعزز النمو الميكروبي في مياه الصرف الصحي.

ويرى المهندس وليد محمد، القاطن بالحي الأول من المدينة، أن مشكلة الصرف الصحي تراكمت على مدار سنوات، وتحتاج إلى فصل الصرف الصناعي عن الصحي، وإلقاء مياهه المعالجة في مخرات السيول، منعًا لغرق المدينة مستقبلاً، مؤكدًا أنه وعدد من الأهالي تقدموا بشكاوى جماعية للجهات المعنية بدءًا من مجلس الوزراء، ومرورًا بوزارة البيئة، وهيئة المجتمعات العمرانية، وصولًا إلى رئيس جهاز مدينة بني سويف، كان ذلك على مدار سنوات سابقة. وحسب المقابلات التي أجروها مع المسؤولين، فقد تلقوا وعودًا بحل الأزمة؛ لكنها لم تنفذ حتى اللحظة.

صورة تظهر صرف مخلفات مصنع لتجفيف الخضروات على شبكة الصرف- خاص زاوية ثالثة

مستنقعات الصرف الصحي

تقع مدينة بني سويف الجديدة على مجرى نهر النيل، وتبعد عن العاصمة القاهرة بنحو 124 كيلومتر، وقد أنشئت بموجب قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 643 لسنة 1986. وتبلغ المساحة الإجمالية للمدينة 37.9 ألف فدان، منها 5486 فدان كتلة عمرانية، تضم نحو 16.599ألف وحدة سكنية.

تُظهر الصور الجوية الملتقطة حديثًا للمدينة، عبر تطبيق جوجل إيرث، مستنقعات وبرك الصرف الصحي، الواقعة داخل الدوائر الزرقاء من الخريطة، إضافة إلى محطة معالجة الصرف الصحي، الواقعة داخل الدائرة السوداء من الخريطة، إذ يلاصقها مجتمع عمراني جديد، عبارة عن أراضي طُرِحَت عن طريق وزارة الإسكان، وبالقرب منها تقع مدينة بني سويف الجديدة، المحاصرة بين منطقة مصانع جنوب المدينة، وبينها مصانع تجفيف الخضروات، ومنطقة مصانع شرق المدينة وبها مصانع الورق ومصنع الخميرة، كما يظهر مصنع الجنايني لـحديد الخردة، ملاصقًا للكتلة السكنية، وتبدو آثار الانبعاثات الكربونية على المباني المحيطة به.

 

صورة جوية حديثة لبني سويف الجديدة تظهر فيها مستنقعات الصرف الصحي- المصدر: خرائط جوجل

وكانت مواقع التواصل الاجتماعي قد شهدت في إبريل من عام 2022، استغاثات بسبب خروج مياه الصرف الصحي من الأحواض الخاصة بمحطة الصرف الصحي بمدينة بنى سويف الجديدة عن السيطرة، وإغراقها لمنطقة أرض جمعية النيل.

ووفقًا للموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية؛ فقد افتتحت  محطة معالجة مياه الصرف الصحي في سبتمبر من عام 2023، ويتكون المشروع من أربعة مراحل بطاقة 52 ألف متر مكعب/ يوم، وتبلغ طاقة كل مرحلة 13 ألف متر مكعب/ يوم. وتنتج المحطة ما يقرب من 12 ألف متر مكعب من مياه المعالجة الثلاثية المستخدمة في ري المسطحات الخضراء. 

محطة معالجة مياه الصرف الصحي بمدينة بني سويف الجديدة، مصدر الصورة صفحة وزارة الإسكان

دخان أسود وروائح خانقة

مشكلة أخرى يعانيها سكان بني سويف الجديدة، وهي وجود مصنع لإعادة تدوير الحديد الخردة وسط الكتل السكنية، تنجم عنه انبعاثات كربونية ورماد أسود اللون يغطي المباني المحيطة به.

“المصنع ملاصق للمباني السكنية يفصله عنها شارع، ينبعث منه دخان أسود رائحته مماثلة لرائحة احتراق الخشب. وقد صدر بحقه قرار إغلاق، ورُفعت ضده دعاوى قضائية، وحتى الآن لم يغلق”، يوضح وليد محمد.

 

صورة جوية تظهر مصنع تدوير حديد الخردة وحجم الانبعاثات الكربونية الصادرة عنه- المصدر: خرائط جوجل

ويلفت إلى تضرر السكان من قيام مصنع “الراعي لتجفيف الحاصلات الزراعية”، بـتجفيف الثوم والبصل والكُرات، إذ ينتج عنها روائح كريهة وأبخرة خانقة، تضر بمرضى الجيوب الأنفية، مضيفًا أن في بعض الأيام التي تشتد بها الرياح، تصل للمدينة روائح كريهة لحرق الدواجن النافقة ومخلفاتها من ريش وعظام، آتية من المجزر الآلي للدواجن، ومصنع شركة السلمي للدواجن “دجدوجة”، بالمنطقة الصناعية بقرية بياض العرب، بمركز بني سويف.

 

شكاوى لا مجيب لها

“ميرال مكرم”، وهي أم لطفلين تعيش مع أسرتها بالحي الرابع شرق النيل، في بني سويف الجديدة، تعاني أيضًا من الروائح الكريهة الشبيهة بتعفن حيوانات نافقة، إضافة إلى رائحة الصرف الصحي، تزداد شدتها خلال الليل لاسيما بعد الثامنة مساءً، بينما تداهمهم رائحة البصل النفاذة خلال النهار.

تصف في حديثها معنا شعورها بأنها تحيا وأسرتها داخل المجاري معظم ساعات اليوم؛ حيث تتسلل الروائح الكريهة إلى منزلها في المساء، رغم إغلاق النوافذ، وتصيبهم بالغثيان، حتى أنها توقظهم من النوم.

تشترك معها في المعاناة نهى حماده، ربة منزل تسكن في الحي الثالث بالمدينة، إذ تدفعها الروائح المثيرة للغثيان أحيانًا لمغادرة المنزل، بعدما فشلت محاولاتها في منع تسللها عبر إغلاق النوافذ ورش معطرات الجو، مشيرة إلى شدة الروائح الكريهة المنبعثة من مياه الصرف الصحي المنبعثة من محطة المعالجة، ما يجعل الأمر لا يطاق.

تقول إن السكان بدءًا من الحي الأول وحتى الرابع، إضافة إلى قاطني مساكن “ابني بيتك”، لديهم المشكلة ذاتها، وتقدم عددًا منهم بشكاوى للجهات المعنية، لكنهم لم يروا تحركًا لحلها.

شكاوى الأهالي من الروائح الكريهة في شرق النيل ببني سويف الجديدة وقرى مركز ناصر من ناحية الشرق، كان صداها قد وصل إلى المسؤولين في عام 2019؛ ما دفع بالدكتور محمد هاني غنيم –محافظ بني سويف-، لإصدار توجيهاته بعمل دراسة بيئية وفحص ميداني لعدد من المصانع بمنطقة بني سويف الصناعية شرق النيل، منها؛ مصنع دجدوجة، والشركة الكندية، ومجزر سيرة، ومصنع الخميرة، ومصنع الدهانات، ومصنع فودز، ومصنع أنجل ييست (الخميرة)، ومصنع علي عبد الرحمن للطحينة؛ لمراجعة المعايير والاشتراطات البيئية، لكن المشكلة لا تزال قائمة.

ورغم أن المحافظة لم تكشف تفصيلياً عن نتائج الدراسة إلا أن المحافظ أعلن في عام 2022 عن تحديد المصانع التي قد تسبب في انبعاث الروائح الكريهة، بعد مراجعتها فنيًا وبيئيًا بشكل شامل، موضحًا أن هناك مصنعين وراء انبعاث هذه الروائح، ومنحهما مهلة سبعة أيام لتوفيق أوضاعهما، ثم يتم اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة ضد المصنعين حال عدم تلافي تلك الملاحظات خلال المهلة الممنوحة.

شكوى جماعية قدمها الأهالي لرئيس جهاز بني سويف- حصلت عليها زاوية ثالثة من الأهالي

 

شكوى من الأهالي- من موقع منظومة الشكاوى الحكومية التابعة لمجلس الوزراء

تلوث واحتباس حراري

يرى أستاذ الدراسات البيئية بجامعة عين شمس عبد المسيح سمعان، أن التخطيط العمراني الجيد يجب أن يراعي وجود مسافة كافية تفصل بين المدن السكنية والمناطق الصناعية، ويأخذ في اعتباره اتجاهات الرياح بحيث لا تصل انبعاثات المصانع عبر الريح إلى المناطق السكنية، موضحًا أن الزحف العمراني خلق مشكلة تكتل المناطق السكنية وسط المصانع؛ ما يسبب تلوث الهواء بتلك المناطق، وينتج عنه أمراض الجهاز التنفسي والعيون والجلد لدى الإنسان، ويضر بالتنوع البيولوجي من نبات وحيوان وغيرها، كما تؤدي المخلفات الصلبة والسائلة للمصانع إلى تلوث التربة والمياه الجوفية.

 ويحذّر “سمعان” من خطورة اختلاط الصرف الصناعي والصرف الصحي، لاسيما إن كان الأول يحمل معادن ثقيلة، لكونه يؤثر في معالجة مياه الصرف التي تمر بثلاث مراحل، لتُسْتَخْدَم في ري الأشجار الخشبية، مشيرًا لكون مستنقعات الصرف الصحي المكشوفة تكون غنية بـالبكتريا الضارة والملوثات والفيروسات التي يمكن أن تسبب الأمراض حال تُركت مكشوفة، ولم يتم تغطيتها أو ضخها في أنابيب بعيدًا عن السكان.

ويشير أستاذ الدراسات البيئية في حديثه إلى “زاوية ثالثة” إلى تسبب الكربون الأسود “السناج” الذي يصدر عن بعض المصانع، في إصابة الإنسان الذي يتعرض له بـالتحجر الرئوي وضيق التنفس، مضيفًا أن عمليات حرق المخلفات العضوية ومخلفات المجازر التي تقوم بها بعض المصانع ينتج عنها ملوثات وزيادة في نسب ثاني أكسيد الكربون، المسبب للاحتباس الحراري وتغير المناخ.

 

أوبئة وأمراض متوطنة

وفقًا لـمحمود محمد عمرو -أستاذ الطبّ المهنيّ والبيئيّ ومؤسّس المركز القوميّ للسموم-، فإنّ الصناعات الّتي تصدر عنها انبعاثات الكربون وموادّ كيماويّة، حين توجد بالقرب من المناطق السكنيّة تسبّب فشلًا تنفّسيًّا مبكّرًا خلال الثلاثينات أو الأربعينات من العمر، وأضرار خطيرة على الكبد والكليتين، مضيفًا أنّه حال تشكّلت برك صرف صناعيّ غير منضبطة، فإنّها تلوّث المياه الجوفيّة والتربة لمسافة 100 كيلومتر، وينتج عن اختلاط الصرف الصناعيّ بالصرف الصحّيّ كارثة اختلاط الملوّثات العضويّة والفطريّات والجراثيم بالموادّ الخامّ والموادّ الكيماويّة ومخلّفات التصنيع، وقد يتسبّب في تلوّث مياه النيل أو البحر.

ويبين “عمرو” أن مخلفات المجازر الآلية تُكَدَّس في أكوام، ما يؤدي إلى تعفنها وتكاثر الجراثيم والبكتريا والقوارض والذباب حولها، وعند حرقها تصدر عنها روائح كريهة وأدخنة المواد عضوية محترقة. وتنقل الأمراض عبر الجهاز التنفسي أو الهضمي إذا انتقلت عبر الحشرات والقوارض، أو وصلت للصرف الصحي ورُوِيَت المحاصيل بها، لافتًا لكون مخلفات مصانع تجفيف الحاصلات الزراعية تحتوي على مواد كيماوية من أسمدة ومبيدات إضافة للمواد العضوية.

بدوره يحذر علاء غنام -مسؤول الحق في الصحة بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية وخبير السياسات الصحية-، من خطورة مستنقعات الصرف الصحي المكشوفة، والتي قد تؤدي إلى انتشار أوبئة وأمراض متوطنة كالحمى الصفراء التي تنقلها البعوضة المصرية أو الملاريا، مستشهدًا بظهور حالات للحمى الصفراء في محافظتي قنا والبحر الأحمر في وقت سابق، موضحًا أن اختلاط الصرف الصحي بالصرف الصناعي يخلق مشكلة بيئية وصحية مضاعفة، مؤكدًا ضرورة ردم مستنقعات الصرف الصحي أو تغطيتها.

ويبين أن أي تلوث بيئي ينعكس سلبًا على صحة الإنسان، وأن انبعاثات مصانع الأسمدة التي تحرق الريش والعظام والدواجن النافقة، تؤدي بدورها إلى التسبب في حساسية الصدر والربو، لا سيما عند الأطفال، مؤكدًا أن الحق في الصحة لا ينفصل عن الحق في بيئة نظيفة.

وينص الدستور المصري في المادة 4  على أن لكل شخص الحق في بيئة صحية سليمة، وحمايتها واجب وطني، وتلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ عليها، وعدم الإضرار بها، والاستخدام الرشيد للموارد الطبيعية بما يكفل تحقيق التنمية المستدامة، وضمان حقوق الأجيال القادمة فيها.

 

اللجوء إلى القضاء

ويُعرف قانون البيئة رقم 4 لسنة 1994، تلوث الهواء، بأنه كل تغير في خصائص ومواصفات الهواء الطبيعي يترتب عليه خطر علي صحة الإنسان أو على البيئة سواء كان هذا التلوث ناتجًا عن عوامل طبيعية أو نشاط إنساني، بما في ذلك الضوضاء والروائح الكريه، أية مواد أخري (صلبة – سائلة – غازية )، وفقًا لما تحدده اللائحة التنفيذية لهذا القانون.

الباحث والمحامي المتخصص في قضايا البيئة، أحمد الصعيدي، يوضح أن قانون هيئة المجتمعات العمرانية ينص بالأساس على إعادة تنظيم المدن، ويعطيها إمكانية تصحيح الأخطاء وإخراج المصانع بعيدًا عن المناطق السكنية، لتجنب الفاتورة الاقتصادية للأضرار الناتجة عنها.

ويرى ضرورة لجوء أهالي مدينة بني سويف الجديدة المتضررين من انبعاثات المصانع، لإجراءات التقاضي للحد من الانتهاكات البيئية، مستغلين المزايا التي يمنحها لهم قانون البيئة، مستشهدًا بـ قضية مصنع “إسمنت تيتان” التي كان أحد أعضاء الفريق القانوني المسؤول عنها، وقد أسفرت عن صدور حكم رقم 6882 لسنة 75 قضائية، من محكمة استئناف الإسكندرية، بتعويض قيمته 750 ألف جنيه لصالح إحدى المتضررات.

 رغم مرور عامين على إعلان محافظ بني سويف وما أسفرت عنه نتائج الدراسة الميدانية إلا أن أهالي المدينة لا زالوا يعانون من الروائح الكريهة والانبعاثات الكربونية الضارة، وبعد انقضاء عام على افتتاح محطة الصرف الصحي بالمدينة لازال السكان يشكون من مستنقعات الصرف.

 

آية ياسر
صحافية وكاتبة وروائية مصرية حاصلة على بكالوريوس الإعلام- جامعة القاهرة.

Search