مراسل زاوية ثالثة من سيناء
في وضح النهار، وعلى واجهات المحال التجارية، يقف المواطن السيناوي، ناظرًا إلى بعض من المنتجات الضرورية والأساسية؛ ملابس، ومنظفات، وأدوات للاستحمام، وأحذية وغيرها؛ لكنّ اللافت للاهتمام أنها تحمل عبارة “صُنع في إسرائيل”، وتُباع علنًا على بَسطاتٍ بالشوارع، وداخل المحال في مدينة العريش عاصمة شمال سيناء، بعد أن هُرِّبَت – في السابق- عبر الأنفاق من قطاع غزة، أما الآن فتباع عبر الحدود المصرية مع فلسطين المحتلة.
تنتشر بضائع ومنتجات الاحتلال الإسرائيلي كـتجارة رائجة في أسواق مدن العريش، والشيخ زويد الحدودية، لاسيما مع إقبال التجار والمواطنين عليها، ويُرَوَّج لهذه المنتجات عبر صفحات ومجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة؛ ومن بينها أحذية وملابس رجالية ونسائية، وأدوات تجميل وعطور، إلى جانب أغذية مثل: اللبن المُجفف، والشامبو، ومستلزمات نظافة مثل الصابون من ماركة “هاواي”، وأدوات الطهي الكهربائية. ويشتري تجار مصريون البضائع المهرّبة من قطاع غزة وفلسطين المُحتلّة.
يقول مواطنون تحدثنا معهم إنهم اعتادوا شراءها، ليس لرخص ثمنها إذا ما قورنت بالمصرية؛ ولكن لجودتها. مؤكدًا يشير عماد حجاب – مواطن من شمال سيناء- في مطلع حديثه إلى “زاوية ثالثة” إلى أنهم يجدون في منتجات الاحتلال الإسرائيلي جودة لا تقارن بالمنتجات المصرية، ما يدفعهم لشرائها، فضلاً عن توافرها بشكل كبير بعد تهريب كميات كبيرة منها، في ظل غض الطرف من السلطات المصرية، خاصة مديرية التموين بشمال سيناء؛ ما شجع التجار على بيعها علنا بالمحال التجارية.
ويضيف: “المنتجات الغذائية كانت الأكثر رواجًا على مدار السنوات الماضية وتحديدًا من بعد ثورة 25 يناير في العام 2011، وكانت الأمور ميسرة تمامًا في وصولها، إلى درجة أن زبادي “الشمينت” كان يصل إلينا في نفس يوم إنتاجه أو اليوم التالي كأقصى تقدير، وكذلك الألبان ومنتجاتها؛ ولكن بعد إغلاق الأنفاق تمامًا أصبح البديل هو التهريب عبر الحدود مع فلسطين المحتلة”.
طبقًا لأحكام قانون الجمارك الجديد رقم 207 لسنة 2020، وينص على أنه “مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد ينص عليها أي قانون آخر، يعاقب كل من هرّب بالحبس وبالغرامة التي لا تقل عن عشرة آلاف جنيه، ولا تجاوز مائة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين”. وطبقا للقانون إذا كان التهريب “بقصد الاتجار كانت العقوبة الحبس مدة لا تقل عن ثلاث سنوات، ولا تجاوز خمس سنوات، وبالغرامة التي لا تقل عن خمسة وعشرين ألف جنيه، ولا تجاوز مائتين وخمسين ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين”. |
ويعتبر في حكم التهريب تقديم مستندات أو فواتير مزورة أو مصطنعة أو وضع علامات كاذبة أو إخفاء البضائع أو العلامات أو ارتكاب أي فعل آخر يكون الغرض منه التخلص من الضرائب الجمركية المستحقة عليها كلها أو بعضها أو بالمخالفة للنظم المعمول بها في شأن البضائع الممنوعة.
في هذا السياق، يشير أحمد الأزعر -تاجر من شمال سيناء- إلى أن كافة منتجات الاحتلال الإسرائيلي كانت تصل إلى مدن الشيخ زويد والعريش، من خلال الأنفاق الحدودية مع قطاع غزة، وخلال تلك الفترة لم يقتصر نوع المنتجات التي تدخل سيناء على الألبان ومنتجاتها فقط؛ بل تعدتها إلى الشاي والبُن والكاكاو والشيكولاتة والبسكويت والمقرمشات والمربى وزيت الزيتون والملابس.
يضيف: بعد إحكام السلطات المصرية قبضتها على الأنفاق وإغلاقها تمامًا، أصبح البديل “تجار الشنطة” والمسافرين الفلسطينيون القادمين من القطاع عبر معبر رفح البري، إلى جانب عمليات التهريب المكثفة التي يقوم بها أبناء القبائل من جانبي الحدود؛ خاصة في مناطق رأس النقب والمنبطح ووادي العمرو، لأنها بضائع ومنتجات ذات جودة عالية ولها زبائن يبحثون عنها، ويشترونها رغم ارتفاع أسعارها.
فيما تقول إيمان الكاشف -مواطنة سيناوية- أنها تهتم أكثر بنوع المنظفات الواردة من الجانب الآخر. وتضيف “لا يعنيني أن تكون نوعية منتجات الاحتلال الغذائية هي المتوفرة، بقدر ما يهمني نوع المنظفات، فأشتري الصابون من ماركة هاواي، بكميات كبيرة للاستخدام المنزلي، لأنه النوع الوحيد الذي ثبت أنه يتفاعل مع المياه المالحة في منازلنا أو الواردة عن طريق الخزانات، خاصة أن غالبية المياه في المدن السيناوية غير صالحة للشرب أو عذبة، ولا يجدي معها الصابون المصري أو التركي.
وحسب مواطنين من مدينة العريش، يعد صابون “هاواي” الأفضل رغم ارتفاع ثمنه، وكان سعر الصابونة الواحدة حوالي 20 جنيهًا، ثم واصلت الارتفاع لتصل إلى نحو 60 جنيهًا بعد بدء الحرب الإسرائيلية على القطاع المحاصر، وعدم وصول المسافرين و”تجار الشنطة” من قطاع غزة، واقتصار المصدر على التهريب عبر الحدود فقط.
رحمة.س -طالبة جامعية بجامعة سيناء- التقتها “زاوية ثالثة” خلال شرائها منتجات مماثلة، بسوق جواد وسط مدينة العريش، وأجابت “نعم، أشتري الشامبو والبلسم الوارد من هناك، والعديد من أدوات التجميل، وملابس المنزل -خاصة الشتوية-، لأنها تتمتع بجودة عالية، وفي ذات الوقت تباع عيانًا بيانًا في العديد من المحال؛ ما يعني أنها غير ممنوعة”. وتضيف أن سعر عبوة الشامبو تتراوح ما بين 130 و250 جنيهًا.
لم تكن وفرة بضائع الاحتلال الإسرائيلي في بعض أسواق سيناء -خاصة السوق السوداء- جديدة. فوفق حديثنا مع بعض من شيوخ سيناء، فقد انتشرت حتى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، نظرًا لظروف الحرب واحتلال تل أبيب لشبه جزيرة سيناء. وكان المتبقي من تلك المنتجات كبيرًا بما يسمح بتداوله لفترات طويلة بعد انتصارات أكتوبر من العام 1973. ظل الوضع على ما هو عليه، حتى اختفت المنتجات تدريجيًا من الأسواق المصرية في العام 1995؛ لكنها عاودت الظهور مرة أخرى مع انتعاش ما عُرف بـ”الاقتصاد الأسود” المتمثل في التجارة عبر الأنفاق بين مصر وغزة منذ العام 2005. لتصبح مدينتا العريش والشيخ زويد، بمثابة سوق سوداء سرية لمنتجات الاحتلال الإسرائيلي المتنوعة. ووصلت شهرتها إلى الحد الذي جلب مواطنين من محافظات حضرية لشرائها، ومنهم بعض المشاهير والفنانين. |
وعلى الرغم من علانية البيع والشراء لمنتجات الاحتلال الإسرائيلي، رفض أحد التجار في مدينة الشيخ زويد، تصوير المنتجات في محله، متابعًا: “لا نريد مشاكل مع التموين”، مستطردًا في تهكم: “نعم نشتري تلك المنتجات للمنازل واحتياجاتنا، لكن بشكل غير معلن، وإن تناقلت الصحف ما يحدث ستجدنا نعتبر أنه جريمة، ما باليد حيلة”.
فيما يقول سالم سواركة -تاجر سيناوي-، إنه ولعدم قانونية بيع هذه المنتجات المُهربة، قبل 25 يناير 2011، فقد كنا نضع شعار “صنع في فلسطين” أعلى عبارة “صنع في إسرائيل”، خوفاً من الملاحقات الأمنية، خاصة أن هذه المنتجات تحمل عبارات باللغة العبرية، وليس لها أي أوراق تثبت دخولها البلاد بطريق الاستيراد عبر منافذ مشروعة، كما أن هناك إجراءات قانونية تُتَّخَذ حيال أي سلعة مجهولة المصدر تباع في الأسواق.
يستكمل: لكنّ اليوم بعض التجار عقدوا صفقات كبيرة على منتجات للاحتلال الإسرائيلي، وخزنوها على مدار الأشهر الماضية، مع بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، كي يستطيعوا المتاجرة في تلك السلع المتنوعة بالسعر الذي يحددونه.
في السياق ذاته، يؤكد إسماعيل جودة -تاجر من شمال سيناء-، في حديثه معنا أن تلك المنتجات لها زبونها، وهناك محلات معروفة تمامًا أنها لا تبيع إلاها، خاصة بعد تراجع الرقابة التموينية وإقبال موظفي التموين على شراء مثل هذه البضائع مع مراعاتهم في الأسعار لكونهم يغضون الطرف عن بيعها.
ويضيف “هناك بضائع تعرض تحت أسماء مجهولة، في حين أنها إسرائيلية الصنع، وفي أحيان أخرى يجري الكشف عن بعض السلع من خلال عبارة صغيرة جدًا مكتوبة أحيانًا بالعبرية وأحيانًا بالإنجليزية، تشير إلى مكان التصنيع، لكنها ليست ملحوظة للعامة، ومؤخرًا جرى اكتشاف تهريب أجهزة هواتف حديثة مثل الموبايلات، من صناعة الاحتلال الإسرائيلي”.
ويشير “جودة” إلى أن هامش الربح من بيع تلك المنتجات الإسرائيلية، مضيفًا أن “الربح ليس كبيرًا نظرًا لأنها مُهربة، وتُتَنَاقَل من يد إلى يد، وفي كل مرحلة يتقاضى المهرب نسبة من الأرباح، لكن الإقبال الكبير على الشراء من شأنه أن يعوض تلك المصروفات من خلال كثرة البيع، فهو أعلى بكثير من ربح المنتجات المصرية على أي حال”.
مجيبًا على تساؤل كيف يقبلون على شراء تلك المنتجات، يقول: “ندرك أن هذه البضائع والمنتجات الإسرائيلية مهربة وممنوع دخولها وتداولها بالبلاد نهائياً، إلا أن حالة التغاضي من قبل السلطات المعنية، رغم بيع المنتجات الإسرائيلية علانية بعدد من الشوارع والأسواق شجع المهربين والتجار على جلب هذه البضائع وبيعها في وضح النهار دون أي اعتبارات قانونية، لأن البائع يدرك أنه لا سلطة موجودة تستطيع مصادرة تلك البضائع وتحرير قضايا ومخالفات لهم”.
ويعترف صاحب أحد المحلات قائلاً: “ندرك أنها مجازفة كبيرة، لكن ماذا نفعل؟ من أين سنأكل ونُطعم أطفالنا؟ إذا كانت الدولة لم تضع يديها على ما يُهَرَّب عبر الحدود مع فلسطين المحتلة، فلا تلُم التجار الصغار الذين يتاجرون فيما هُرِّب، ونحن في نهاية الأمر نتاجر في سلع استهلاكية، وليست قنابل أو أسلحة”.
ولا ينكر خليل عبد الكريم -تاجر سيناوي، خطورة أن يكون مصدر هذه المنتجات مجهولاً، ويقول: “هناك واقعة شهيرة حدثت في رمضان الماضي، حيث أصيبت أسرة من مدينة العريش بالتسمم، نتيجة تناول إحدى المنتجات الغذائية المهربة وكانت فاسدة، ولم يكن أحد يعرف ذلك”.
بحسب ما رصدنا في جولتنا الميدانية، فإن تلك المنتجات موجودة في شارع 23 يوليو بالعريش، وأصبحت متداولة بصورة جلية في الأسواق وخاصة “سوق جواد” و”سوق غزة” أكثر من المنتجات المصرية، وأنها تلقى إقبالًا كبيرًا من سكان المدينة. |
يقول محمد بكر -صاحب أحد محال العطارة الشهيرة في مدينة العريش- إن أسواق العريش والمدن الحدودية بها كميات كبيرة من هذه المنتجات؛ إلا أنها لا تعرضها للعيان، وإنما تبقى مخزنة وتحت طلب الزبون، مشيرًا إلى أن معدل الإقبال عليها كبير، ليس من المواطنين بسيناء فقط، بل إن هناك زبائن يأتون من القاهرة والإسكندرية خصيصا للحصول عليها.
ويضيف بسام سمري -الذي يعرض منتجات الصابون والشامبو داخل محل العطارة الذي يمتلكه بشارع 23 يوليو بالعريش-، أن معدل الربح من وراء بيع المنتجات قد يتجاوز نسبة 50% حسب الزبون الذي يشتري هذه البضاعة، فيما يوضح علاء البلك -بائع بأحد محلات العطارة- أن المنتجات وخاصة الشامبو وبعض المنتجات الغذائية، ومنها الكاجو والفستق والصنادل والأحذية، يتم بيعها عادة بمحلات العطارة والخردوات لكونها معروفًا عنها منذ سنوات طويلة ببيع هذه المنتجات بصورة عامة إلى جانب المنتجات المهربة.
فيما يقول عيسى سلمان -تاجر متخصص في الملابس والأحذية الواردة عن طريق التهريب-، إن الملابس وخاصة المعاطف لها زبائن خاصة من أبناء القبائل، لكونها مميزة من حيث الجودة والتصميم، إذ إنها لا تؤثر فيها الأمطار. ويتراوح سعر المعطف ما بين 1600-2000 جنيه.
ويوضح “سلمان” أن من بين البضائع التي تلقى رواجًا شديدًا الصنادل من ماركة “شورش”. ويصل سعرها إلى 3000-3500 جنيه، إلى جانب الصنادل من ماركة “توست”، والبناطيل المصنعة من الجبردين، وكشافات الإضاءة التي يستخدمها عادة أبناء القبائل في الصيد البري.
ومنذ 7 أكتوبر الماضي تشن إسرائيل حربا مدمرة على قطاع غزة شبهها كثيرون بحرب إبادة جماعية، وخلفت عشرات آلاف الضحايا معظمهم أطفال ونساء ودمارا هائلا بالبنية التحتية وكارثة إنسانية، الأمر الذي أدى إلى مثول إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهم ارتكاب جرائم إبادة جماعية.