في مارس الماضي، تفاجأ مصطفى محمد بكري (مصري، من مواليد العام 1981 في محافظة قنا، جنوب مصر)، بقرار مجلس الوزراء رقم (18) لسنة 2024، الذي يقضي بإسقاط الجنسية المصرية عنه، وحسب القرار المنشور في الجريدة الرسمية في عددها (11) بتاريخ 14 مارس من العام الجاري، فقد جاء القرار نتيجة تجنسه بجنسية دولة أجنبية دون إذن الحكومة المصرية.
في عام 2017، وافق البرلمان المصري على تعديلات قانون سحب الجنسية، ونصت على سحب الجنسية المصرية ممن اكتسبوها عن طريق الغش أو بناء على أقوال كاذبة، ومن صدرت بحقهم أحكام قضائية تثبت انضمامهم إلى أي جماعة أو جمعية أو جهة أو منظمة أو عصابة أو أي كيان، بهدف المساس بالنظام العام للدولة أو تقويض النظام الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، بالقوة أو بوسائل غير مشروعة أخرى، ومن أدينوا قضائيًا في جريمة مضرة بأمن الدولة من جهة بالخارج أو الداخل، ومن أدوا الخدمة العسكرية لدولة أجنبية دون ترخيص من السلطات، ومن يعملون مع دولة أو حكومة أجنبية في حالة حرب مع مصر. |
وقد أثارت التعديلات موجة من الغضب بين الأوساط الشعبية والسياسية، وأصدر حزب العيش والحرية – تحت التأسيس- بيانًا رافضًا لتلك التعديلات، قال فيه إن الحكومة المصرية أقرت تعديلًا لبعض أحكام القانون رقم 26 لسنة 1975 بشأن الجنسية المصرية، ويتضمن إضافة حالات جديدة لسحب الجنسية المصرية. مضيفًا: “ننظر إلى هذا التعديل على أنه فعل يرقى إلى الأفعال الإجرامية ولايمكن عزله عن سلسلة الإجراءات التي يستمر ويتفنن النظام في اتخاذها، لقمع معارضيه وغلق مجال العمل العام أمامهم؛ فالجنسية تعني الهوية وسحبها يعني النفي من الوجود. ومن تسقط عنه الجنسية يفقد كل أوراقه الثبوتية وتسقط عنه كل حقوقه السياسية والمدنية ويفقد كافة حقوقه الاقتصادية والاجتماعية ويعتبر جواز سفره لاغيًا، إضافة إلى أن أطفاله سيولدون بلا جنسية وبلا حقوق”.
وأشار البيان إلى أن التعديلات غير دستورية وتخالف المادة السادسة من دستور 2014، التي أقرت أن “الجنسية حق لكل من يولد لأب مصري أو أم مصرية”. مؤكدًا أن الدستور لم يمنح المُشرّع العادي إلا سلطة تنظيم الجنسية المكتسبة (التجنس) وليس الجنسية الأصلية. وبدلا من العمل على تطوير قانون الجنسية يتم العمل على تعديل القانون في اتجاه سلب الحقوق. مستطردًا: “هذه التعديلات تمنح جهة الإدارة سلطة إسقاط الجنسية وفقًا لمعايير مرنة فضفاضة وهذا ماقضت المحكمة الدستورية العليا مرارًا بعدم دستوريته، خاصة وأن الجرائم الجنائية كـ الإرهاب والقتل والخيانة العظمى، لها العقوبات المنصوص عليها في القانون”.
ولد “بكري” في قرية أرمنت التابعة لمحافظة قنا في العام 1981، وتدرج في التعليم إلى أن حصل على دبلوم الثانوي التجاري، وما لبث أن عمل في قطاع السياحة، وبعد سنوات، تزوج من فرنسية تعمل في الشركة ذاتها، ليقررا السفر إلى باريس في العام 2004 بشكل نهائي، للبحث عن فرصة عمل أفضل ويستكمل “بكري” تعليمه الجامعي في مجال القانون.
وفي العام 2007، حصل على الجنسية الفرنسية، ومنذ ذلك الوقت وحتى أشهر قليلة من ثورة 25 يناير من العام 2011، لم يكن لديه أية اهتمامات سياسية؛ لكن وحسب وصفه، جاءت ثورة يناير لتبث الأمل لديه في إمكانية المشاركة السياسية، ليصبح منتظمًا ضمن مجموعات من المصريين في الخارج، ممن قرروا المشاركة في أحداث الثورة وما تلاها. ومن هنا كانت نقطة البداية.
يقول: “شكلنا فريقًا أسميناه جمعية شباب مصر، نظمنا خلاله تظاهرات يومية في العاصمة الفرنسية باريس، كان ذلك خلال فترة الـ18 يومًا من الثورة، وفي العام 2012، شاركنا مثل غيرنا في فعاليات وتظاهرات طالبت برحيل المجلس العسكري عن حكم القاهرة، لأننا كنا على يقين من أنه سوف يسرق الثورة منا”. مشيرًا إلى أنهم لم يتوقفوا في فترة حكم الإخوان المسلمين التي صعدت بالرئيس الأسبق محمد مرسي إلى كرسي الحكم في الاتحادية، لكن في تلك الفترة سادت الخلافات فيما بينهم وبدأوا في الانقسام وظهرت أيديولوجيات مختلفة؛ بعضها مؤيد للتيار الإسلامي وآخر مؤيد لليسار أو السلطة.
يسرد “بكري” عن جهوده ومجموعته أثناء تكوين لجنة الخمسين لوضع الدستور المصري، والتي صدر قرار بتشكيلها رقم 570 لسنة 2013، يقول: “خاطبناهم بضرورة تمثيل المصريين في الخارج في البرلمان المصري واكتسابهم حق التصويت، مثل كثير من دول العالم ومنها تونس”. وبالفعل، استجابت اللجنة وتم تخصيص ثمانية مقاعد في البرلمان لتمثيل المصريين في الخارج منذ ذلك الوقت.
ويضيف: “لم أتوقع أن يكون نشاطي السياسي سببًا في اضطهادي وإسقاط الجنسية المصرية عني في وقت من الأوقات، إذ أنني أمارس حقي الدستوري والطبيعي في أن أختار تيار المعارضة، ففي العام 2014، كنت مسؤولًا عن حملة المرشح الرئاسي المعارض آنذاك حمدين صباحي في فرنسا، وقمت بمجهودات كبيرة لمحاولة كسبه مزيد من الأصوات، أيضًا- حاولت في العام 2015 الترشح على أحد مقاعد البرلمان المصري المخصصة للمصريين في الخارج، لكني لم أوفق، بينما قاطعت انتخابات العام 2020، بسبب اعتقال عدد من السياسيين وشباب الأحزاب فيما عرف بقضية الأمل”.
تعود قضية الأمل إلى يونيو من العام 2019، حين اعتقلت قوات الأمن عددًا من النشطاء السياسيين والصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان؛ لتشاروهم حول تدشين تحالف انتخابي مدني، افترض أن يضم أحزابًا وحركات سياسية وشخصيات مستقلة، لخوض الانتخابات البرلمانية التي كان من المقرر انعقادها في نوفمبر من العام نفسه. وقد وجهت لهم نيابة أمن الدولة اتهامات بـ مشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أغراضها، ونشر وبث أخبار كاذبة عبر مواقع التواصل الاجتماعي بغرض إثارة الفتن وقلب نظام الحكم، فضلاً عن اتهام بعضهم بتمويل وإمداد الجماعة الإرهابية. |
يعود “بكري” للحديث، ويضيف: “في العام 2018، التقيت السفير معصوم مرزوق، وكان ينوي الترشح لانتخابات الرئاسة حينئذٍ؛ لكن ممارسات السلطة قتها أجبرته على التراجع، خاصة بعد ملاحقات ومضايقات مورست، وأدت إلى تراجع أو انسحاب عدد من المنتوين للترشح، مثل المحامي الحقوقي خالد علي، والسياسي محمد أنور السادات، والعسكري أحمد قنصوة”.
أثارت الملاحقات والانتهاكات التي مارستها السلطة المصرية في انتخابات العام 2018، غضبًا كبيرًا، إذ أعلن العميد أحمد قنصوة ترشحه للرئاسة، وبمجرد الإعلان، قُدم للمحاكمة، لتقضي المحكمة بسجنه ست سنوات، فيما تراجع “السادات” معربًا عن أن الجدول الزمني للانتخابات جاء مقيدًا، مضيفًا أن “الأمر أكبر من جمع توقيعات أو إعداد توكيلات”. فيما انسحب خالد علي، معتبرًا أن إمكانية تحويل الاستحقاق الانتخابي إلى فرصة لبداية جديدة قد انتهت، بينما قُدم السفير معصوم مرزوق للمحاكمة بتهمة مشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أهدافها، وتلقي تمويل بغرض إرهابي، والاشتراك في اتفاق جنائي الغرض منه ارتكاب جريمة إرهابية، على إثر دعوته مبادرة للاستفتاء على استمرار النظام السياسي في مصر. |
يستكمل “بكري”: بالطبع، عقب اعتقال السفير مرزوق، خاطبنا الاتحاد الأوروبي، وشكلنا مجموعة ضغط في الخارج، لإجبار القاهرة على إطلاق سراحه وعدد من السياسيين، خاصة وأنه كان في طريقه لتأسيس حزب “الناس الديمقراطي”، لكن التجربة أجهضت قبل أن تبدأ. مشيرًا إلى أن اهتمامه بملف سد النهضة وأزمة المياه، شكّل لدى السلطة في القاهرة، أزمة، إذ أنه كوّن مع مؤسسين آخرين ما أسماه “جبهة المصريين في الخارج للدفاع عن النيل”، التي عملت على مخاطبة فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي، مطالبة بالتدخل في التوصل لحلول مناسبة لأزمة سد النهضة، التي ستؤدي حال اكتمال السد إلى تعريض أمن مصر المائي لأخطار شديدة الصعوبة.
عمل “بكري” ومجموعته ما بين العامين 2020-2022، على ملف سد النهضة، ما أدى -حسب زعمه- إلى اقتحام أفراد يفترض أنهم من الأمن المصري، منزله في باريس، في العام 2022، وقاموا بسرقة حاسوبه الإلكتروني الباسبور الفرنسي الخاص به. لم يستسلم، ورفع قضية أمام القضاء الفرنسي، يتهم فيها السلطة المصرية بملاحقته وسرقته؛ إلا أن تلك القضية أزعجت السلطة، وأثناء عودته إلى مصر في أكتوبر الماضي، تم توقيفه في مطار القاهرة الدولي، واحتجازه داخل المطار مدة خمسة أيام، والتحقيق معه بتهمة تشويه سمعة مصر في الخارج بسبب تأسيسه لجبهة الدفاع عن النيل. ثم قاموا بترحيله إلى فرنسا ثانية.
يقول: “ساومني الأمن على التنازل عن القضية في مقابل عدم انتزاع الجنسية المصرية مني، والسماح لي بدخول مصر ثانية، لذا قمت بالتنازل عنها بالفعل، لكني منعت من دخول مصر بعدها في ديسمبر الماضي، حين قررت النزول للترشح في الانتخابات الرئاسية، تأكيدًا على حقي كمواطن في ذلك، حتى وإن رفضت اللجنة المشرفة على الانتخابات أوراقي لتمتعتي بجنسية أجنبية، لكني تفاجأت في مطار مرسى علم بتوقيفي وترحيلي في اليوم التالي من مطار الغردقة الدولي”. يعقب بحسرة: “منعت من دخول بلدي نهائيًا”.
وما لبث أن علم بصدور قرار إسقاط جنسيته المصرية في فبراير الماضي، رغم مساومة السلطة له، وتنازله عن القضية المرفوعة ضدها بالفعل. يعلق: “القرار تعسفي وانتقامي، نظرًا لانضمامي لصفوف المعارضة في الخارج، أعيش أسوأ أيامي حاليًا، ولا أتخيل أن أكون غير مصري، هذا حقي. وأعي جيدًا أن من ضمن أبرز الأسباب التي أدت لنزع جنسيتي قسرًا، كان عملنا على إعداد قوائم بأسماء بعض اليهود/ الإسرائيليين من أصل مصري، الذين قرروا مخاطبة الحكومة المصرية أو اللجوء للقضاء، في مطالبة لاستعادة أملاكهم قبل الرحيل من مصر عقب حركة الضباط الأحرار في خمسينيات القرن الماضي، أو شراء أراض وممتلكات في سيناء. إذ أننا سلمنا القوائم إلى مسؤولين من المخابرات الحربية في باريس، وبعدها بأسابيع قليلة قاموا بإسقاط جنسيتي”.
سحب الجنسية كأداة للترويع
يرى أستاذ العلوم السياسية ودراسات التنمية، عمرو حمزاوي، أن صياغة التعديلات الخاصة بقانون سحب الجنسية، “مطاطية”، وتطلق يد السلطة في إدانة المغضوب عليهم من المصريات والمصريين بجرائم هلامية تسلب الجنسية. ويضيف: “الجنسية في دستور 2014، وفي المواثيق الدولية التي وقعت عليها الحكومات المصرية المتعاقبة، حق أصيل لا يسلب بإعمال الإرادة الفردية للحكام حتى وإن تموضعت قانونيًا وقضائيًا، لذا فإن مخالفة مجلس الوزراء المصري لدستور البلاد والمواثيق الدولية بتمرير التعديلات تعني تورطه في الإخلال بالأسس الدستورية والقانونية الضامنة لحقوق وحريات المواطن”.
معلقًا، يقول المحامي الحقوقي علي أيوب، إن المادة (10) من القانون رقم 26 لسنة 1975، تعرضت لحالة “بكري”، بقولها إن: “لا يجوز لمصري أن يتجنس بجنسية أجنبية إلا بعد الحصول على إذن بذلك يصدر بقرار من وزير الداخلية، وإلا ظل معتبرًا مصريًا من جميع الوجوه وفي جميع الأحوال، ما لم يقرر مجلس الوزراء إسقاط الجنسية عنه طبقًا لحكم المادة (19) من القانون. ويترتب على تجنس المصري بجنسية أجنبية، متى أذن له في ذلك، زوال الجنسية المصرية عنه”.
ويضيف: “حرص المشرع في القانون القديم على النص على أن التجنس بجنسية أجنبية دون الحصول على إذن الحكومة ممثلة في وزارة الداخلية المصرية، لا يخرج الشخص من الجنسية المصرية، بل يظل مصريًا بالرغم من تجنسه بجنسية أجنبية؛ الأمر الذي قد يترتب عليه ازدواج الجنسية. وتطبيقًا لذلك، قضت محكمة القضاء الإداري، بأن تجنس مصري بالجنسية البريطانية لا يزيل عنه الجنسية المصرية، إذا لم يكن قد حصل على إذن التجنس بتلك الجنسية. فيما أجاز لمجلس الوزراء أن يوقع جزاء ضد هذا الشخص بإسقاط الجنسية المصرية عنه، وقد مارست الحكومة سلطتها في الإسقاط تطبيقًا لهذا الحكم في عدة حالات. والمفروض، أن يطلب الشخص الإذن بالتجنس قبل الدخول في الجنسية الأجنبية، فإذا ما طلبه بعد الدخول فيها، لا يفقد الجنسية المصرية إلا من تاريخ الإذن بالتجنس”.
في حين ينتقد ممدوح جمال -المحامي الحقوقي- في حديثه مع زاوية ثالثة، المادة الخاصة بإسقاط الجنسية المصرية للإضرار بأمن الدولة من جهة الخارج، إذ وحسب وصفه، فإنها مادة “فضفاضة”، وغير مفهومة، كما أن القانون قد نظم عددًا من الشروط لإسقاط الجنسية، لكنه يصفها بـ غير الدستورية، وتأتي مخالفة للمادة السادسة من الدستور المصري الصادر في العام 2014، التي أقرت حق الجنسية كحق أصيل لا يجوز انتزاعه.
ويرى أن التعديلات في قانون الجنسية، تعديلات انتقائية، استخدمت ضد المعارضين للسلطة أكثر منها لتطبيق النص أو مراعاة للمصالح العليا للبلاد. معلقًا على قرار سحب الجنسية من “بكري”، يقول: “القرار وفق قانون 1975 صحيح، لكن تطبيقًا يدل على سوء النية من السلطة تجاهه، إذ أن هناك غيره من الذين حصلوا على جنسيات أجنبية ولم تسقط جنسيتهم بعد”. مؤكدًا أن باستطاعته التقدم إلى مجلس الدولة للطعن ضد القرار في أي وقت، مطالبًا باسترداد جنسيته مرة أخرى.