هروب إلى الخارج أم إعادة تموضع؟ كيف تغيّر شركات المقاولات المصرية وجهتها؟

في ظل أزمات السيولة وتأخر المستحقات وتقلّبات السوق، تتجه كبرى شركات المقاولات المصرية إلى تقليص أعمالها محليًا وتوسيع نشاطها في الخليج وأفريقيا، وسط جدل حول ما إذا كان ذلك انسحابًا أم إعادة تموضع
Picture of شيماء حمدي

شيماء حمدي

تشهد شركات المقاولات والإنشاءات المصرية تحولات استراتيجية لافتة، تتجلى في ميل متزايد لتقليص حجم الأعمال داخل السوق المحلي، مقابل التوسع في الأسواق الخارجية. ففي 26 مارس 2025، صرّح أسامة بشاي، الرئيس التنفيذي لشركة “أوراسكوم كونستراكشون”، أن الشركة تستهدف تقليص حجم أعمالها في مصر لتقتصر على ثلث إجمالي نشاطها بحلول عام 2026، وذلك في إطار خطة توسعية تركز على التوسع الإقليمي والدولي.

وأوضح بشاي أن الشركة تتبع سياسة انتقائية في اختيار المشاريع داخل مصر، حيث تُفضّل التعاقدات التي تضمن تمويلًا بالعملة الأجنبية ولو جزئيًا، في محاولة لتقليص تعرّضها لتقلبات السوق المحلي. وأشار إلى تحديات متراكمة تواجهها “أوراسكوم” في مصر، أبرزها صعوبة تحصيل المستحقات من الجهات الحكومية، رغم تحسن ملحوظ في هذا الجانب خلال الربع الأول من عام 2025، نتيجة جهود رسمية لتسوية المتأخرات المالية.

وليست هذه المرة الأولى التي يعلن فيها بشاي عن تقليص النشاط المحلي، إذ سبق أن أوضح في نوفمبر 2024 أن 64% من أعمال الشركة الجارية تتركز في مصر، مقابل 14% في الدول العربية و22% في الولايات المتحدة، مشيرًا إلى خطة لخفض الحصة المحلية إلى 50% بنهاية 2025، ورفع نسبة الأعمال في المنطقة العربية إلى أكثر من 20%.

تُعد شركة “أوراسكوم كونستراكشون” إحدى أبرز الكيانات في قطاع المقاولات المصري، وتعود جذورها إلى خمسينيات القرن الماضي عندما أسس أنسي ساويرس شركة مقاولات أُمّ تم تأميمها عام 1961، قبل أن يعيد تأسيس “أوراسكوم” عام 1976. اليوم، تمتلك عائلة ساويرس، ممثلة في ناصف وسميح، نحو 54.86% من أسهم الشركة عبر ملكيات مباشرة وكيانات تابعة، بواقع 42.36% و12.5% على التوالي.

تشمل أعمال “أوراسكوم” تنفيذ مشاريع للبنية التحتية، والإنشاءات الصناعية والتجارية، والطاقة المتجددة، إضافة إلى مساهماتها في مشروعات قومية داخل مصر. وكان آخر تلك المشاريع تنفيذ الأعمال المدنية والكهربائية في محطة إنتاج طاقة الرياح برأس غارب، على ساحل البحر الأحمر.


نوصي للقراءة: مكافحة الفساد في مصر: كيف تحوّلت الاستراتيجيات إلى حبرٍ على ورق؟

شركات مقاولات وإنشاءات تتوسع خارج مصر

يشهد قطاع المقاولات المصري في الآونة الأخيرة موجة توسع متسارعة نحو الخارج، وسط تحديات اقتصادية ومالية متراكمة في السوق المحلي. فقد أعلنت عدة شركات إنشائية عن تعزيز وجودها الإقليمي والدولي، وعلى رأسها شركة “حسن علام”، التي كشفت عن نيتها مضاعفة حجم أعمالها في أسواق السعودية والإمارات وسلطنة عمان وليبيا والعراق، بعقود تتجاوز قيمتها 2.5 مليار دولار.

في السياق ذاته، أعلنت شركة “المقاولون العرب” عن تنفيذ مشروعين لمدّ جسرين في مدينتي درنة وسوسة الليبيتين، فيما تستعد شركة “سامكريت مصر” لدخول السوق السعودية للمرة الأولى، بالتوازي مع توسيع استثماراتها في أفريقيا إلى ملياري دولار. كما تخطط شركة “كونكريت بلس” لتنفيذ خمسة مشروعات بالسعودية باستثمارات تقترب من ملياري ريال، إضافة إلى مشروع تجاري في سلطنة عمان تتراوح قيمته بين 30 و40 مليون دولار.

بالمقابل، وبينما تتجه بعض الشركات لتقليص أعمالها داخل مصر، شهد السوق المحلي إطلاق تحالف جديد بقيادة مجموعة العرجاني، يضم شركتي “أبناء سيناء” و”إنكم” التابعة لمجموعة إي جي إي، بالتعاون مع شركة CSCEC الصينية العملاقة. يستهدف التحالف تنفيذ مشروعات بنية تحتية ومقاولات داخل وخارج مصر بحجم أعمال أولي يبلغ 500 مليون دولار خلال العام الأول، على أن يصل إلى 5 مليارات دولار في غضون ثلاث سنوات.

شهد التوسع المصري في الأسواق المجاورة، وعلى رأسها السعودية والإمارات، قفزة لافتة خلال عام 2024، تعكس تحوّلًا استراتيجيًا في توجهات الاستثمار المصري الإقليمي. ففي السعودية، ارتفع عدد الشركات المصرية العاملة من نحو 500 شركة إلى ما يزيد عن 4 آلاف شركة، فيما تضاعف رأس المال المستثمر من 5 مليارات ريال إلى 50 مليار ريال، وفق بيانات رسمية. وخلال الربع الأول من العام ذاته، استحوذت الشركات المصرية على نحو 30% من إجمالي تصاريح الاستثمار الجديدة الممنوحة في المملكة، وهو ما يضعها في صدارة الشركاء الاقتصاديين العرب. وفي الإمارات، أحرز المستثمرون المصريون تقدمًا مماثلًا، إذ حلّوا في المرتبة الثالثة بين الجنسيات الأكثر تأسيسًا للشركات في دبي خلال النصف الأول من 2024، بعدد بلغ 2355 شركة جديدة، ما يعكس اتساع نطاق الحضور المصري في مراكز الأعمال الخليجية الكبرى.

يُعزى هذا الاتجاه المتزايد نحو الخارج، وفق مراقبين، إلى مناخ اقتصادي معقد يواجهه القطاع داخل مصر. يقول أكرم إسماعيل، القيادي في الحركة المدنية الديمقراطية وحزب العيش والحرية (تحت التأسيس)، إن أغلب المشروعات المُسندة للشركات المصرية، لا سيما عبر الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، تُدار وفق آليات تمويل تؤدي إلى إنهاك الشركات. ويوضح أن المقاولين كثيرًا ما يعانون من تأخيرات في صرف مستحقاتهم، حيث لا يتم سداد كامل مستحقاتهم فور الانتهاء من المشروع، بل تُدمج جزئيًا ضمن دفعات مشروعات لاحقة.

ويضيف إسماعيل أن هذه المنظومة تخلق حالة من الضغط المزمن على الشركات، إذ تضطر لتنفيذ مشروعات جديدة لتحصيل مستحقاتها القديمة، مما يُحول التوسع من خيار استراتيجي إلى ضرورة تشغيلية للبقاء، في ظل انعدام السيولة وتزايد الالتزامات. ويُفاقم هذا الوضع تقلبات سعر صرف الدولار، حيث تضطر الشركات لتحمّل فروق الأسعار في المواد الخام دون الحصول على تعويض مناسب، الأمر الذي يهدد الاستقرار المالي وجودة التنفيذ على المدى الطويل.

من جانبه، حذر المهندس محمد سامي سعد، رئيس الاتحاد المصري لمقاولي التشييد والبناء، من دخول عام 2024 في ظل أعباء ثقيلة تشبه تلك التي حملها القطاع في 2023، لا سيما بسبب أزمة السيولة وتأخر صرف مستحقات الشركات. وقال سعد إن الشركات التي تتمكن من الحصول على مستحقاتها ستكون قادرة على اقتناص مشروعات جديدة، بينما تواجه الشركات التي تعاني عجزًا في السيولة خطر الانسحاب التدريجي من السوق.

وأشار إلى توقعات بانخفاض حجم أعمال المقاولات خلال العام الجاري بنسبة تصل إلى 20%، مرجعًا ذلك إلى التضخم وارتفاع أسعار مواد البناء، بالإضافة إلى استمرار تأخر الجهات الحكومية في صرف مستحقات الإسناد. ودعا الحكومة إلى ربط الطروحات الجديدة بتمويلات واقعية تتناسب مع جداول التنفيذ الزمنية، محذرًا من أن إحجام الشركات عن المشاركة في المشروعات سيقوّض جهود الدولة في البنية التحتية والتنمية المستدامة.

 

نوصي للقراءة: نقل الشركات المملوكة للدولة إلى صندوق مصر السيادي.. خصخصة بلا رقابة؟


توسع خارجي أم انسحاب محلي؟

في مقابل الأصوات التي تربط توسع شركات المقاولات المصرية في الخارج بتدهور بيئة العمل المحلية، يرى خبراء اقتصاديون أن هذا الاتجاه قد يُفهم بصورة مختلفة تمامًا، باعتباره جزءًا من استراتيجيات النمو وتنويع مصادر الدخل، وليس بالضرورة انعكاسًا لأزمة.

يقول محمد رمضان، الباحث في الشؤون الاقتصادية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، إن الحديث عن انسحاب أو تراجع جماعي لشركات المقاولات المصرية من السوق المحلي يتسم بالمبالغة، مؤكدًا أن ما تشهده بعض هذه الشركات من توسع في الأسواق الإقليمية والدولية يُعد تطورًا طبيعيًا في إطار ديناميكيات الأعمال.

وأوضح رمضان لـ”زاوية ثالثة”، أن هذا النوع من التوسع يُستخدم عالميًا كأداة لتحقيق التوازن بين الأسواق المختلفة، وزيادة قدرة الشركات على امتصاص الصدمات وتوليد تدفقات نقدية من مصادر متنوعة. وأضاف: “حتى اللحظة، لا توجد مؤشرات واضحة تُثبت أن السوق المحلي يعاني من تآكل في نشاطه نتيجة لهذا التوسع الخارجي”، مشيرًا إلى أن هذه الرؤية يجب ألّا تُحمّل دلالات اقتصادية مفرطة أو تُقرأ كعلامة على تدهور قطاع الإنشاءات داخل مصر.

يتقاطع هذا الطرح مع ما يراه الدكتور كريم العمدة، أستاذ الاقتصاد السياسي، الذي يعتبر توسع شركات المقاولات في الأسواق الخارجية جزءًا طبيعيًا من استراتيجيات النمو المعتمدة لدى الكيانات الكبرى. ويضيف أن توسع النشاط الخارجي لا يحدث على حساب السوق المحلي بالضرورة، بل يترافق معه تراجع نسبي في حجم النشاط داخليًا، وهو ما يُعد منطقيًا في ضوء اختلاف وتيرة التمويل ومستويات الطلب بين الداخل والخارج.

وأوضح العمدة في حديثه إلى “زاوية ثالثة”، أن الأسواق الإقليمية توفر فرصًا استثمارية أكثر جذبًا، من حيث سرعة الإجراءات وتمويل المشروعات، بالإضافة إلى ارتفاع الطلب على البنية التحتية في العديد من البلدان العربية والأفريقية. وفي المقابل، فإن حجم النشاط داخل مصر بات مرتبطًا بصورة مباشرة بسياسات الحكومة التي شرعت مؤخرًا في تخفيض الاعتماد على المشروعات القومية، التزامًا بشروط صندوق النقد الدولي، والتي تشجّع على تقليص دور الدولة في الاقتصاد لصالح القطاع الخاص.

ويرى العمدة أن هذا التوجه نحو الخارج لا يخلو من مردود إيجابي مزدوج: فمن ناحية، يساعد الشركات على تعزيز ربحيتها وزيادة فرص استمرارها في السوق، ومن ناحية أخرى، يُسهم في رفع الناتج القومي وتحقيق عوائد من النقد الأجنبي تدعم الاقتصاد الوطني. وبهذا يصبح التوسع الخارجي رافدًا داعمًا لا بديلًا عن الدور المحلي.

تجدر الإشارة إلى أن الحكومة المصرية كانت قد أعلنت رسميًا، في وقت سابق، عن حزمة من ضوابط ترشيد الإنفاق العام على المشروعات القومية، بهدف مواجهة النقص الحاد في العملات الأجنبية. وفي هذا السياق، صرّح رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي بأن المشروعات القومية التي لم تبدأ بعد ستخضع للتأجيل، كجزء من خطة اقتصادية تهدف إلى تقليص العبء المالي وتحقيق الانضباط في الميزانية العامة للدولة.

شيماء حمدي
صحفية مصرية، تغطي الملفات السياسية والحقوقية، وتهتم بقضايا المرأة. باحثة في حرية الصحافة والإعلام والحريات الرقمية.

Search