انتهى موسم الانتخابات الرئاسية المصرية لعام 2024، بتولي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ولاية ثالثة، في وقت برزت فيه حرب غزة كفاعل رئيسي في مجريات العُرس الانتخابي، حيث فسّر السيسي فوزه بأنه جاء لرفض “الحرب غير الإنسانية” على قطاع غزة، لا سيما بعد “التهديدات الأمنية تحيط بالحدود الجنوبية والغربية والشرقية”، فعلى الحدود مع غزة تقود قوات الاحتلال حربه على القطاع التي لم تخلُ من تهديدات للجانب المصري، وعلى الحدود مع السودان؛ باتت مصر مسارًا رئيسيًا للسودانيين الفارين من الحرب الأهلية حيث استقبلت نحو 300 ألف لاجئ. كما انخرطت مصر في نقاشات حادة مع إثيوبيا حول إدارة الوصول إلى مياه نهر النيل نتيجة بناء سد النهضة الإثيوبي، الأمر الذي زاد من حدة التوترات الإقليمية.
ويعتبر قليل من المصريين أن اختيار السيسي يمثل العسكرية المصرية التي تحتاج إليها في وقت الأزمات، حسبما وصف ناشطون.
المدقق في المشهد المصري قبيل حرب غزة، يرى أن السيسي قد نجح ونظامه في تحويل الدّفة لصالحه بعد اشتعال الحرب؛ خاصة وأنه ووفق مراقبين قد شعر بالقلق الشديد إزاء صعود نجم المرشح الذي لم يمكَن من جمع التوكيلات المطلوبة لخوض السباق الرئاسي، أحمد طنطاوي، الذي نجح في تحريك الشارع المصري لصالحه، وكسب جماهيرية مفاجئة في وقت قصير، في مقابل المرشحين الآخرين الذين مثّلوا حسب وصف محللين، بديلًا لخلق صورة “مثالية” للاستحقاق الانتخابي.
في الوقت نفسه تصاعدت الأصوات الخارجية الغاضبة والرافضة لوجود السيسي، حيث احتدت النقاشات في البرلمان الأوروبي على نظامه الذي صور بأنه نظامًا قمعيًا خاصة في ملف الحريات. واعتمد البرلمان في أكتوبر الماضي من جانب واحد قرارًا يدعو مصر إلى إجراء انتخابات رئاسية نزيهة وعادلة، والتوقف عن قمع أصوات المعارضة في الفترة التي تسبق الانتخابات. كما انتقد القرار معاملة مصر للسجناء السياسيين ووسائل الإعلام والمعارضة ومرشحين رئاسيين محتملين. في حين درست اللجنة المسؤولة عن المساعدات الخارجية في الكونجرس الأمريكي مقترحًا بالإبقاء على المساعدات المصرية عند مستواها الحالي، وتقسيم المساعدات العسكرية لأربعة أجزاء، واقترانها بشروط؛ أولها إجراء انتخابات ديمقراطية.
ونشر مركز ستراتفور -مركز دراسات إستراتيجي وأمني أمريكي-، قبيل عمليات الاقتراع، ورقة تقدير موقف عنوانها: “ماذا تعني ولاية أخرى للسيسي بالنسبة لمصر؟”، جاء فيها أنه فقد جانبًا من التأييد بين الناخبين المصريين، بسبب الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في البلاد. وأنه من المرجح أن يفوز ونظامه بفارق كبير في الأصوات؛ ما يمكنّه من سنّ السياسات التي تعهد باتباعها خلال فترة ولايته الثالثة، بما في ذلك الإصلاحات المؤلمة المحتملة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، تحت ذريعة منحه تفويضًا شعبيًا مفتوحًا في كل قراراته من خلال عدد الأصوات التي حصدها؛ في إشارة إلى حسم التصويت لصالحه قبيل بدء الانتخابات.
وفي مقال لها على واشنطن بوست، تحدثت الكاتبة والمحللة كلير باركر، عن أن السيسي ونظامه راهنا على أن المصريين والأجانب يتسامحون مع ممارسات القمع الداخلية، وتقلص فضاء الحقوق المدنية وسوء الإدارة الاقتصادية، طالما ضمن لهم أن القاهرة ستظل هادئة ومستقرة في المنطقة التي تمزقها الاضطرابات. وهو ما مثّل حجر الزاوية في طريقة إدارة السيسي للدولة منذ أن جاء للسلطة في العام 2014. وقد وضع هذا المبرر مرة أخرى كبرنامج انتخابي بديل عقب اشتعال حرب غزة؛ ملوحًا بتهديدات تخص استقرار المنطقة إذا ما تصاعدت الأمور؛ لذا كان على المجتمع الدولي قبول استمراره لضمان الاستقرار وممارسة القاهرة دور فاعل لإنهاء الحرب.
تمكنَ السيسي وفقَ النتائجِ المعلنةِ من الهيئة الوطنية للانتخاباتِ ، من الحصولِ على نحوِ 39 مليونا و 702 ألف صوت ، بنسبةِ 89.6 % ، في حينِ حصلَ منافسوهُ ؛ فريد زهران على نحو مليون و 779 ألفِ صوت ، بنسبةِ 4 % ، وحازم عمر على مليون و 986 ألفِ صوت بنسبةِ 4.5 % ، وأخيرًا عبد السند يمامة على ما يقربُ من 822 ألف صوت بنسبةِ 1.9 % . وجاءت نسبةُ المشاركة ب 66.8 % بحضور نحو 44 مليونا و 777 ألفا و 668 ناخبًا ، منْ إجمالي عدد المسجلين البالغ نحوَ 67 مليونًا و 32 ألف ناخبٍ . بأصوات صحيحة بلغتْ 44 مليونًا و 288 ألفًا و 361 صوتًا ، في حين مثلت الأصواتُ الباطلةُ نحوَ 489 ألف صوت بنسبةِ 1.1 %. |
نبض الشارع
وفق النتائج، حصل السيسي على أعلى عدد أصوات في الانتخابات الرئاسية للعام الجاري 39.7 مليون صوت، مقارنة بـ23.8 مليون صوت في الولاية الأولى في العام 2014، و21.8 مليون صوت في الولاية الثانية في العام 2018، فيما تراجعت نسبة عدد الأصوات التي حصل عليها إلى 89.6% مقارنة بـ 97% في الولايتين الماضيتين.
تعليقًا على النتائج، وفي مقابلات ميدانية في أثناء وبعد الانتخابات، أجرتها “زاوية ثالثة” مع مواطنين، عبّر محمود عن تعجبه من انتهاء موسم الانتخابات، يقول: “لم أكن أعلم بوجود سباق انتخابي من الأساس، وشعرت أنني أحيا في عالم مُوَازٍ، ولم أعلم ببدء عمليات الاقتراع إلا حينما تفاجأت بعدم انقطاع التيار الكهربائي في التوقيت الصباحي اليومي؛ فطالعت صفحات السوشيال ميديا، وصدمت بمقطع فيديو للشيخ علي جمعة يتحدث عن عدد المشاركين في الانتخابات الذين شارفوا 45% من الناخبين، ومعه كانت كافة وسائل الإعلام تتحدث أيضًا بأن نحو 40% شاركوا في عمليات الاقتراع في الساعتين الأوليتين من اليوم الأول من الانتخابات فقط”. مضيفًا أنه لم يتمكن من فهم كيفية مشاركة كل هذا العدد في وقت قصير للغاية؛ ما يعني أن كافة شوارع وميادين مصر كانت مزدحمة للغاية بأكثر من ثلث عدد السكان، متسائلا: “كيف يعقل؟”. ويرى أن نظام السيسي معروف بميله للبروباجندا ورسم صورة غير واقعية، متوقعًا أن يكون النظام قد نجح بالفعل في حشد خمسة ملايين مواطن في اليوم الأول كأقصى تقدير، وأن نسبة 89% التي حصدها الرئيس، تحدث عنها البعض في لجان انتخابية منذ اليوم الأول؛ ما يعني أنها ربما تكون “مدبرة”.
في حين رأى مجدي أنه ربما يكون النظام قد نجح في اجتذاب عدد كبير من المواطنين بالفعل، وذلك عن طريق عدد من الوسائل؛ مثل الحشد التام لجميع موظفي الحكومة والقطاع الخاص بالقوة الجبرية، إضافةً إلى الكشوف التي أعدت سابقًا بحجة تحديث التعداد السكاني، قبيل الانتخابات بثلاثة أشهر تقريبًا. مضيفًا: “حتى الأعداد التي صورت أمام اللجان لا يمكن أن تقول إنه شارك 45 مليون، إنما هي تجهيزات مسبقة من جهات معاونة لتغطية الصناديق الانتخابية”.
ويسرد إبراهيم شهادته عن التوكيلات الرئاسية، فيقول: “شاهدت بنفسي كيف جمعت بعض الأحزاب بطاقات الهوية للعمال والموظفين بالإجبار، وبعضهم أجبر على الذهاب عنوة لتحرير توكيل رئاسي، في حين اكتفى مسؤولو بعض المناطق بمجرد تصوير البطاقات الشخصية، وتحرير توكيلات بدلًا عنهم”. مشيرًا إلى أنه ربما يكون النظام قد حصد بالفعل 45 مليون صوت؛ ولكن دون ذهاب الناخبين إلى صناديق الاقتراع، وتم الانتخاب نيابة عنهم من قبل الجهات المعنية. مؤكدًا: “لم يشارك أي شخص في عائلتي في عمليات الاقتراع للثلاثة أيام كاملة، وفي محيطي عائلات كثيرة لم يخرج منها فرد للجنة انتخابية أيضًا”.
وأضافت نجوى: “أي انتخابات لا تُعلن فيها نتائج اللجان الفرعية والعامة أولًا بأول وبالتفاصيل، فهي بالضرورة مزورة ومُعدّة سلفًا، كانت أمام منزلي في حي حلوان لجنة انتخابية خاوية على عروشها طوال أيام الاقتراع، وشاهدت بنفسي عناصر مأجورة تجبر المواطنين على ارتياد سيارات أجرة والاتجاه إلى اللجان”.
وفق العميد السابق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة عالية المهدي، فإن ما يقرب من ثلث المواطنين المصريين البالغ عددهم 112 مليون نسمة يعيشون في براثن الفقر (تشير التقديرات إلى أن الفقراء يشكلون في العام 2023 نحو 33.3% من إجمالي السكان، مقابل 29.5% في العام 2019. وهذا يعني أن نحو 37 مليون شخص يعيشون في فقر). وقد تراوح معدل البطالة في الربع الثالث من العام 2023 حول 7.1%، بارتفاع بمقدار حوالي 94 ألف متعطل عن العمل عن الربع السابق له، بنسبة 4.3% -حسب الجهاز الرسمي للإحصاء-. ما يعني أن إعادة انتخاب نفس النظام الذي عمدت سياسته الاقتصادية إلى زيادة حالة الفقر، أمر غير منطقي؛ خاصة وأن استطلاع رأي أجراه المركز المصري لبحوث الرأي العام (بصيرة) -غير حكومي ومقره القاهرة-، في العام 2018، أظهر حصول ثلاثة ملفات على متوسط رضا من المواطنين أقل من 50 نقطة، هي الأسعار (42 نقطة) وتوفير فرص العمل (40 نقطة) وتحسن مستوى معيشة محدودي الدخل (40 نقطة)، وفي العام 2019، حصدت نفس الملفات متوسط رضا أقل من 50 نقطة بترتيب (46 نقطة، و 43 نقطة، و40 نقطة) على التوالي. وهي ملفات ترتبط بالحالة الاقتصادية.
كيف حصد الرئيس أصواته الانتخابية؟
بموجب القانون رقم 198 لعام 2017؛ تتولى الهيئة الوطنية للانتخابات الإشراف على كافة الاستحقاقات الانتخابية في مصر . ويمنح القانون رئيس الجمهورية سلطة تعيين المشرفين على كل أنواع الانتخابات، بما في ذلك الانتخابات التي سيترشح فيها. بعدما كانت الانتخابات الرئاسية من قبل تُنظم بموجب القانون 22 لعام 2014. الذي ينص على تشكيل اللجنة المشرفة على الانتخابات من رئيس المحكمة الدستورية ورئيس محكمة النقض بالقاهرة، وأقدم نواب رؤساء المحكمة الدستورية ومحكمة النقض ومجلس الدولة. ووفق تعديلات 2019 الدستورية؛ فقد منحت المواد 185 و193 من الدستور لرئيس الجمهورية حق تعيين رؤساء الهيئات القضائية، والتحكم في تشكيل المجلس الأعلى للقضاء واختيار النائب العام، وفق تعديل الفقرة 2 من المادة 189؛ وبالتالي التحكم في هيئة تنظيم الانتخابات؛ في تعارض مع المبادئ الأساسية لسيادة القانون المتعلقة بفصل السلطات، واستقلالية القضاء.
وعززت تلك الخطوة من خلق مزيد من التشكك حيال نزاهة الانتخابات، خاصة وأن السيسي قد أمر في الرابع من أكتوبر الماضي بتغيير جزئي في تشكيل الهيئة الوطنية للانتخابات، بعد صدور قرار جمهوري بتعيين خمسة مستشارين جدد في رئاسة وعضوية مجلس إدارتها. وذلك عقب يومين فقط من إعلانه نيته الترشح لخوض السباق الانتخابي.
أولا، كانت عملت “زاوية ثالثة” على إجراء مقابلات ميدانية مع 600 مواطن، في 38 حيًا هم أحياء العاصمة القاهرة، قبيل بَدْء العملية الانتخابية في المدّة من 20 سبتمبر– 30 أكتوبر الماضيين، جاء عدد المواطنين الذين أدلوا بشهادتهم حول لجوء قوات شرطية أو أفراد أو تنظيمات حزبية موالية للسلطة إلى إجبارهم على تسليم بطاقاتهم الشخصية أو صورة منها بنحو 400 مواطن، بنسبة 66.6% من عينة البحث، الذين تتراوح أعمارهم ما بين 20-55 عام، ويعملون في مهن غير رسمية مرتبطة بالشارع (سائقي تكاتك، باعة متجولين، عمال مقاهي، مقدمي وجبات سريعة، عمال جراجات). واجتمعت شهاداتهم ما بين “استدعاء من قسم الشرطة” وإجبارهم على تسليم بطاقاتهم وجمع ما بين 10-20 هُوِيَّة لكل فرد منهم وتسليمها خلال مدة أقصاها سبعة أيام، دون مقابل، أو مقابلة أشخاص ينتمون لأحزاب موالية للسلطة يعملون في العمل الجماهيري، طلبوا منهم مساعدتهم في جمع بطاقات مواطنين في مقابل 200 جنيه ليوم العمل الواحد. يقول سعيد (اسم مستعار، يعمل كحارس جراج في حي حلوان جنوب العاصمة) إنه حصد وحده 100 بطاقة هوية وسلمها إلى المختص في قسم الشرطة قبيل الإعلان عن فتح باب الترشح للانتخابات، ولم يحصل على أية أموال في مقابل استمرار عمله؛ حيث وفقًا له فقد “حرص على اجتذاب كافة السائقين الذين يستأجرون منه مساحات في الجراج وذويهم”.
فيما نفى 33.4% ممن قابلناهم صدور أية توجيهات بشأن جمع البطاقات، ومثلت غالبيتهم نساء من ربات المنازل غير العاملات، أو العاملات المنزليات بالأجر اليومي، وعمال تراحيل، وموظفين بسلسلة ماركات تجارية.
ووفقًا لعينات البحث و التقارير والشهادات المتعددة التي رصدناها على تطبيقات السوشيال ميديا المختلفة خلال فترة التجهيز وإدارة العملية الانتخابية، فقد عمدت الجهات المتعاونة في تنظيم حملة السيسي، لحشد أصوات الناخبين خاصة من أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة إما بالتهديد والإجبار أو عن طريق الترغيب ومنحهم مبالغ مالية تتراوح ما بين 200-300 جنيه لليوم الواحد، وقد استخدمت ظاهرة الطوابير الدوارة بما يعني حشد نفس الأشخاص يوميًا لكن في شكل تبادلي بين اللجان المختلفة. وتمثلت غالبية الشهادات في جمع بطاقات شخصية ومواطنين يعملون في وظائف غير منتظمة أو عمال اليومية وسائقي المركبات والتكاتك وغيرهم.
حسب جهاز الإحصاء الرسمي؛ فإن عدد مركبات التوكتوك المرخصة في مصر حتى ديسمبر من العام 2022، بلغت 219 ألف و900 مركبة؛ في حين صرح المتحدث الرسمي لمجلس الوزراء في العام 2021، مشيرًا إلى وجود 2 مليون و500 ألف توكتوك غير مرخص في مصر. فيما أفاد مستشار الرابطة العامة لمالكي التكاتك في نفس العام إلى وجود نحو 5 ملايين و400 ألف توكتوك. وبالقياس ووفقًا لشهادات عدد من سائقي التوكتوك الذين قابلناهم؛ فبافتراض أن هناك 5 ملايين توكتوك يقودها سائقان للمركبة الواحدة؛ فإن هناك 10 ملايين بطاقة، نفترض أنه قد تم جمعها أو حشد أصحابها للتوجه للجان انتخابية.
|
وقد رصدنا توجيهات من مسؤولي التضامن الاجتماعي، للعمال المسجلين تحت طائلة (عمالة غير منتظمة) بسرعة التوجه للجان الانتخابية، ومن قبلها تحرير توكيلات تحت تهديد بوقف الإعانات الشهرية المقدمة من الوزارة في حال عدم الاستجابة، ويبلغ عددهم الرسمي المسجل مليون و 66 ألفًا و 873 عاملًا غير منتظمًا.
ثانيا، الموظفون والعمال في القطاع الحكومي وقطاع الأعمال العام، الذين يمثلون 20% من عدد المشتغلين على مستوى الجمهورية والبالغين 27 مليون و900 ألف في العام 2022، أي أن موظفي الحكومة يبلغ عددهم وفقًا للإحصاء الرسمي 5 مليون ونص المليون موظف.
ثالثا، المستفيدون من منظومة التكافل الاجتماعي والإعانات المقدمة من وزارة التضامن، خاصة برنامج تكافل وكرامة وعددهم 22 مليون مواطن في العام 2023.
حاولت “زاوية ثالثة” من خلال متابعتها العملية الانتخابية ووفق ما رصدته على مدار شهرين، توثيق عدد من الشهادات وطرح فرضية لكيفية حشد الأصوات بناء عليها؛ وحسب البيانات السابقة فإنه بافتراض أنه تم إجبار تلك الفئات على المشاركة، فإن مجموعها يمثل نحو 44 مليون مواطن (عدد سائقي المركبات والتكاتك 10 مليون، وعدد عمال المقاهي والخدمات المعاونة نحو 6 مليون، وعدد عمال الجراجات نحو 435 ألف، وعدد العمالة غير المنتظمة الرسمية نحو مليون و66 ألف مواطن، إضافة إلى موظفي الحكومة ويمثلون نحو 5 ملايين نصف مليون موظف، وأخيرًا المنتفعون من برنامج تكافل وكرامة ويمثلون نحو 22 مليون مواطن).
لماذا نفترض أن أرقام الحضور المعلنة ليست صحيحة؟
لسببين، الأول، أنه ووفقًا لما نشرته “زاوية ثالثة” بتاريخ 10 ديسمبر الجاري، بعنوان: من الدوائر الحكومية إلى صناديق الاقتراع.. ما نعرفه عن حشد الناخبين، فقد تبين استخدام النظام لعدد من الوسائل لحشد الناخبين أو بطاقات الهوية الشخصية لهم.
الثاني، أنه في انتخابات رئاسة مصر عام 2012 بعد ثورة يناير، التي يعتبرها العديد من المصريين أول تجربة انتخابية ديمقراطية في البلاد، قامت جماعة الإخوان بتكثيف جهودها لدعم مرشحها محمد مرسي، بينما قام داعمو حسني مبارك والقوى المؤيدة للدولة بتقديم دعمهم الكامل للمرشح أحمد شفيق. في الوقت ذاته، قامت قوى اليسار بدعم حمدين صباحي، وتبنت تيارات متنوعة مرشحين آخرين، بما في ذلك عبد المنعم أبو الفتوح. ورغم كل تلك الجهود والتنافس الكبير، إلا أن عدد المشاركين في هذه الانتخابات لم يتجاوز 23 مليونًا و672 ألفًا و236 مصريًا فقط. في المقابل، في انتخابات عام 2024، حصل الرئيس عبد الفتاح السيسي على مجموع أصوات تخطى كل أعداد المشاركين في انتخابات ما بعد ثورة يناير، حيث بلغ إجمالي المصوتين له 39 مليونًا و720 ألفًا من بين إجمالي الأصوات البالغة 44 مليونًا و777 ألفًا و685 ناخبًا، مما يمثل نسبة تأييد بلغت 89.6%. جعلنا هذا نتساءل عن مدى صحة الأرقام المعلنة.
هذا جعلنا نجري تصويتًا لقياس حجم المشاركة في الانتخابات الرئاسية المصرية الماضية، وأجرينا التصويت عبر موقع التواصل الاجتماعي X في 19 ديسمبر الماضي، وشمل 344 شخصًا للوقوف على مدى تفاعل المواطنين مع العملية الانتخابية.
وأظهرت نتائج الاستفتاء أن 90.1% من المشاركين لم يمارسوا حقهم الانتخابي، وفي المقابل، أفاد 5.2% من المشاركين بأنهم شاركوا في الانتخابات، بينما قال 4.7% أنهم قرروا إبطال أصواتهم.
رغم أن مستخدمي موقع” X” لا يعبرون عن كل الشعب المصري، إلا أنه يمثل نسبة ليست ضئيلة، فأشارت آخر الأرقام المنشورة في موارد الإعلانات على الموقع أن لديه 5.80 مليون مستخدم في مصر في بداية عام 2023.
هذا بالإضافة إلى أن الأعداد المعلن أنها شاركت في انتخابات الرئاسة 2024 تتناقض بشكل واضح مع بحث ميداني أجراه المركز المصري لبحوث الرأي العام بصيرة بعد تولي السيسي فترة الرئاسية الأولى بعامين، تحديدًا في 2016، ووجد البحث أن شعبية الرئيس انخفضت إلى 68 %، مقارنةً بنسبة رضاء 82 % في انخفاض بلغ 14 % في شهرين فقط. قياسًا على هذا التراجع الذي حدث نتيجة ارتفاع الأسعار وتأثير على المصريين، قد ارتفعت أسعار السلع الأساسية في مصر في عام 2023 بشكل غير مسبوق في مصر، ولم تنجح الحكومة المصرية في تخفيض الأسعار كما وعدت. عقد مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، في أكتوبر الماضي، اجتماعا مع مسؤولين لمتابعة موقف توافر السلع الغذائية في الأسواق وضبط الأسعار، اتفقوا على ضرورة وضع حلول جذرية تضمن انخفاض أسعار السلع الأساسية لتخفيف العبء عن المواطنين. وأعلنوا بعدها عن إطلاق مبادرة تخفيض أسعار السلع الأساسية، بنسب تتراوح ما بين 15 إلى 25 %، ويرى أعضاء بمجلس النواب أن أسعار السلع الأساسية تشهد زيادات مستمرة، رغم مرور أكثر من شهر على إطلاق رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، مبادرة تخفيض السلع الأساسية، مشيرين إلى استمرار تحركاتهم من أجل تطبيق المبادرة بشكل جاد. وعلق عضو لجنة حقوق الإنسان بمجلس النواب، محمود عصام، على هذه المبادرة التي طرحتها الحكومة بتصريحه “إن ارتفاع أسعار السلع الأساسية كالدواجن واللحوم والأرز والسكر وغيرها من السلع التي تضمنتها المبادرة لم تنخفض، بل شهدت زيادات مستمرة منذ إطلاق المبادرة”. هذا بالإضافة إلى أزمات غير مسبوقة في ارتفاع أسعار السلع الأساسية كالسكر والبصل، وهي من أساسيات المطبخ المصري.
وفق دراسة حديثة أعدتها الباحثة مروة لاشين، فإن درجة السلبية وانعدام الوعي السياسي لدى غالبية المصريين مرتفعة، ولا يفضل المصريون الحديث حول الأمور المتعلقة بالسياسة خوفًا من التعرض لمخاطر، وإنما يتركز حديثهم حول تساؤلات بشأن رغيف الخبز والمواد التموينية، وأمور أخرى متعلقة بـ معاش تكافل وكرامة وسبل العيش. وتذكر الباحثة أنه على الرغم من زيادة الأحزاب السياسية بعد ثورة يناير من العام 2011 فإنها لا تمثل سوى 2.2% من مشاركة الشباب المجتمعية، ويشكل المشاركون في الأحزاب 0.12% من إجمالي الشباب في الفئة العمرية من 18-29 عامًا التي تمثل نحو 21.9 مليون نسمة بنسبة 21% من إجمالي السكان في يناير من العام المنقضي. الذين يمثلون فعليًا أقل من نصف المدرجين في القوائم الانتخابية من المواطنين؛ لكنهم لا يهتمون بشكل حقيقي بالعمل السياسي.
وحسب الباحثة، فإنها أجرت دراستها على الطبقة العاملة في إحدى قرى الريف المصري، وخلصت إلى تعدد أسباب مشاركتهم الإيجابية في عمليات التصويت على الاستحقاقات الانتخابية منذ تولي السيسي شؤون البلاد في العام 2014، حيث تنوعت ما بين الوعي بأهمية أصواتهم لحماية البلاد من “بطش الإخوان والإرهاب”، والخوف من الغرامة المفترضة التي ينص عليها القانون لمن لم يشارك في عمليات الاقتراع (حسب القانون 500 جنيه بما يعادل نحو 16.14 دولارًا أمريكيًا)، والتصويت مقابل مواد تموينية وأموال انتخابية ووسائل انتقال من منازلهم إلى اللجان الانتخابية. فيما امتنع بعضهم عن المشاركة في أية استحقاقات انتخابية منذ ثورة العام 2011، إما بسبب انعدام ثقتهم في الدوائر السياسية والنواب وعلمهم أن صوتهم “بلا قيمة”، أو وجود أحكام قضائية نتيجة تدهور أوضاعهم الاقتصادية واستدانتهم، أو جهلهم بوجود استحقاق انتخابي من الأساس.
ووفق تقرير أعده المجلس الأطلسي -مركز أمريكي مختص بتقديم برامج لدراسة القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية-، فكان من المتوقع فوز السيسي وعدم إجراء أية تغييرات، تماثلًا مع حقيقة أن الانتخابات الرئاسية للعام 2018 كانت “زائفة”. وإنه قد أعيد انتخاب السيسي بنسبة 97% من الأصوات وسط إقبال منخفض بعد أن خاض الانتخابات ضد مرشح منافس وحيد، كان نفسه من أنصار السيسي. فيما تم القبض على المنافس الرئيسي—سامي عنان -رئيس أركان الجيش السابق-، ووضع المنافس الثاني، أحمد شفيق، قيد الإقامة الجبرية. ودفعت الاعتقالات مرشحين جادين آخرين مثل الحقوقي خالد علي إلى الانسحاب، مشيرين إلى المضايقات والترهيب. وهوَ نفسهُ ما حدثَ معَ السياسي أحمد الطنطاوي الذي لمْ يمكن من حصدِ التوكيلاتِ اللازمةِ في الانتخاباتِ الأخيرةِ للترشح .
وقد سمحت التعديلات الدستورية التي تمت الموافقة عليها بأغلبية ساحقة في استفتاء وطني أجري في العام 2019 بتمديد فترة الرئاسة إلى ست سنوات. كما ألغت التعديلات الحد الأقصى لفترتين على بقاء الرئيس في منصبه. وقد مهدت التنقيحات الطريق أمام السيسي للترشح لولاية ثالثة مدتها ست سنوات والبقاء في السلطة حتى العام 2030. ما يعني بقاء السيسي حتى إذا لم ينتخبه أحدا.
يؤيد هذا الاتجاه الباحث في قوانين الانتخابات سيد أبو العلا، الذي يعمل كمراقب للانتخابات المصرية منذ العام 1995، ويقول في حديثه إلى “زاوية ثالثة” تعليقًا على نسبة الحضور: “من المستحيل أن تكون تلك الأرقام صحيحة بأي حال، فوفق مراقبة الشارع المصري أثناء أيام الانتخابات كان خاليًا من المواطنين تقريبًا، واعتبر المصريون أيام التصويت إجازة قضوها في المنزل، وهناك قاعدة معروفة لدى المراقبين للعمليات الانتخابية، وهي أنه يمكن توقع الأعداد المشاركة وفقًا لأعداد المشاركين في حملة المرشح، فإذا كان عدد المشاركين في حملة السيسي مثلا مليون شخص على مستوى الجمهورية؛ فإن عدد الناخبين يكون عشرة أضعافهم، ما يعني أن المشاركين في العملية الانتخابية لن يتجاوزوا 10 ملايين مواطن”.
وشدد على أنه لم يكن هناك انتخابات حقيقية، وأن المصريين في أغلبهم قاطعوا تلك الانتخابات لسببين؛ الأول منع النظام لوجود مرشحين حقيقيين غير مؤيدين لنظامه، ما يعني انتهاء العملية الانتخابية في مهدها، لأن الانتخاب يكون بين عدد من المرشحين المختلفين فيما بينهم، وليس بين مرشحين يؤيدون مرشحًا مشاركًا، والسبب الثاني -حسب وصفه- هو تصاعد حرب الإبادة على غزة التي عززت من نفور المصريين من المشاركة في الانتخابات، وسط إبادة شعب مجاور وشقيق؛ ما أشعرهم بالخجل إذا انصرفوا عن دعم غزة بشؤون داخلية. مضيفًا: “جزء كبير من الحاضرين في انتخابات الرئاسة هم من موظفي القطاع العام والخاص الذين أجبرتهم الأجهزة الأمنية على المشاركة في الانتخابات”.