شاب في منتصف الثلاثينات من عمره، يهاجم جاره الخمسيني بمنطقة أبو الجواد بمحافظة الأقصر، ويقطع رأسه بمنتصف الشارع، ثم يحملها ويتجول بها بين المارة مهمهمًا بكلمات غير مفهومة. جريمة هزت قلوب المصريين وأثارت الرعب والفزع على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها ليست الأولى من نوعها، فقد شهدت محافظة الإسماعيلية قبل سنوات جريمة مشابهة تمامًا، ومنذ أيام قليلة، تتكرر الجريمة الأكثر بشاعة في الشارع المصري، تزامنًا من تزايد وتيرة العنف بشكل غير مسبوق في ظاهرة باتت تهدد المجتمع المصري بشكل خطير.
تشهد جرائم العنف تزايدًا مقلقًا داخل المجتمع المصري، خلال السنوات الماضية بشكل عام، وفي يناير الجاري بدا الأمر وكأنه سلسلة متصلة من العنف الذي يمثل مؤشر خطير على الأمن الاجتماعي، بحسب مراقبين تحدثوا إلى زاوية ثالثة، إضافة لحادث الأقصر المروع، وفي اليوم ذاته قُتل ضابط داخل أحد البنوك بمحافظة الفيوم، وقبلها بأيام انتفض المجتمع نتيجة مقطع فيديو انتشر بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، يُظهر واقعة اعتداء مروع على طالبة من جانب زميلتها بإحدى المدارس الخاصة، كذلك تداولت مواقع صحفية خبر تحرير فتاة بعد ست سنوات من احتجازها وتقييدها بالسلاسل بمنزل عمها، لطلبها الانفصال عن زوجها.
وقائع العنف وعلى تنوعها واختلاف محيطها الجغرافي، تثير حالة من القلق لدى المصريين بشكل عام، كونها غريبة على المجتمع، وتعكس مؤشر على حالة من الانهيار الاجتماعي، بحسب عدد من الخبراء والمراقبين الذين تحدثنا معهم، ورغم عدم وجود إحصائيات دقيقة حول معدلات العنف الاجتماعي في مصر خلال السنوات الأخيرة، إذ تركز معظمها على العنف الأسري خاصة الموجهة ضد الأطفال والنساء، لكن تتبع الجرائم خلال السنوات الأخيرة يكشف زيادة لافتة وتحول كبير في نوعها حيث باتت أكثر وحشية إلى حد كبير.
ووفق تصنيف موسوعة قاعدة البيانات العالمية (NUMBEO) التي تهتم بتقييم مستوى الجريمة ودرجة الأمان في دول العالم، تحتل مصر المرتبة السادسة عربيًا بمعدل 47.3 نقطة في مؤشر الجريمة لعام 2024، علاوة على ذلك يشير تقرير المؤسسة الصادر في 2024 إلى ارتفاع معدل الجريمة في مصر إلى 60.64% خلال السنوات الثلاث الماضية، وتشير الإحصاءات إلى أن ما يقرب من ثمانية ملايين امرأة وفتاة تتعرض للعنف سنويًا في مصر. نسبة كبيرة من هذا الإحصاء يقع تحت بند العنف الأسري، وتدخل النسبة الأخرى في إطار العنف المجتمعي، ويُظهر المسح الصحي للأسرة المصرية، الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في عام 2022، إلى أن نحو ثلث السيدات اللاتي سبق لهن الزواج في العمر 15-49 قد تعرضن لصورة من صور العنف من قبل الزوج.
وتقول الرواية الرسمية إن معدل الجريمة بمصر انخفض، وفي تصريحات جاءت احتفالًا بعيد الشرطة الـ73، أكد وزير الداخلية محمود توفيق انخفاض معدل الجريمة بنسبة 14% عن العام الماضي.
وقد شهدت السنوات الماضية جرائم مروعة منها على سبيل المثال، جريمة “سيدة فاقوس” التي أقدمت في عام 2023 على ذبح طفلها، فيما تحدثت تقارير عن قيامها بطهيه وتناول أجزاء منه، كذلك هزت جريمة ذبح الطالبة نيرة أشرف على يد زميلها أمام جامعة المنصورة مشاعر المصريين بالعام نفسه، وفي عام 2024 تصدرت قضية سفاح التجمع اهتمام المصريين، إذ ألقي القبض على شاب بعد قيامه بقتل ثلاث سيدات بطريقة وحشية بعد استدراجهم لمنزله، كذلك تصدرت قضية مضيفة الطيران التونسية المتهمة بقتل ابنتها مشهد الجدل القانوني والإعلامي في مصر.
نوصي للقراءة: هل تتحمل الأوضاع الاقتصادية مسؤولية ارتفاع معدلات الجريمة في مصر؟
لماذا يتزايد العنف؟
تقول انتصار السعيد – المحامية بالنقض ورئيسة مجلس أمناء مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون- إلى زاوية ثالثة إن أسباب ازدياد وتيرة العنف في المجتمع المصري في السنوات الأخيرة، يمكن تلخيصها في عدة عوامل متداخلة، في مقدمتها التوترات الاقتصادية، إذ أن تدهور الأوضاع الاقتصادية من تضخم وارتفاع الأسعار وزيادة معدلات البطالة، يعزز من مشاعر الإحباط والضغوط النفسية، مما يؤدي إلى تصاعد العنف كوسيلة للتنفيس عن الغضب. بالإضافة إلى ذلك يؤثر الفقر والظروف الاجتماعية الصعبة على تزايد الفجوة بين الطبقات الاجتماعية وضعف الخدمات الاجتماعية الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية، يعمق الإحساس بعدم العدالة الاجتماعية ويزيد من السلوكيات العدوانية.
وترى أن تراجع القيم المجتمعية، أدى إلى تغيرات في التركيبة الاجتماعية وانخفاض الوعي بالقيم الإنسانية والتسامح، زادت من انتشار السلوكيات العدوانية والعنف كجزء من سلوكيات الاحتجاج أو الدفاع عن النفس، إضافة إلى أن تعدد مصادر الأسلحة والمخدرات في بعض المناطق يجعل العنف أكثر شيوعًا، إذ تصبح الوسائل سهلة ومتاحة لتحقيق أهداف فردية أو جماعية، مشددة على أن المجتمع المصري في الوقت الحالي يواجه تحديات مركبة تتطلب تدخلات شاملة في مجالات التعليم، الاقتصاد، الأمن، والعدالة الاجتماعية للحد من ظاهرة العنف.
يتفق معها عبد العظيم الخضراوي – إخصائي الطب النفسي والأمراض العصبية وعلاج الإدمان- إذ يُعزى ازدياد العنف إلى عدة عوامل متداخلة، تشمل الضغوط النفسية المتزايدة، وشعور الفرد بأنه لا يستطيع الحصول على حقه إلا بالقوة، بالإضافة إلى بعض المفاهيم الثقافية التي تُمجّد العنف كشكل من أشكال البطولة.
ويقول إلى زاوية ثالثة: “تُسهم الصورة النمطية للبطل في وسائل الإعلام، خاصةً في الأفلام والمسلسلات التي تُروّج للعنف، في تفاقم المشكلة، يُضاف إلى ذلك تعاطي المخدرات بأنواعها المختلفة، بدءًا من الحشيش وصولًا إلى الأنواع الحديثة كـ الأستروكس والشابو، الذي يُؤدّي إلى زيادة العنف إما بسبب تأثيرها النفسي أو الحاجة إلى المال لشرائها.”
تشير الإحصائيات إلى أن نسبة تعاطي المخدرات في مصر بلغت في العام الماضي 2024، 45.1% بين الفئة العمرية من 15 إلى 20 عامًا، و34.1% بين الفئة العمرية من 20 إلى 30 عامًا، ما يعكس خطورة الوضع مع ازدياد معدلات الإدمان وما يترتب عليه من ارتفاع في معدلات الجريمة، وذلك وفق تقرير صادر عن الاتحاد العربي للاقتصاد الرقمي، يؤكد أن الأمر لا يتوقف عند الحاجة المادية للمخدرات، بل يتعداه إلى التأثيرات النفسية العميقة التي تحدثها المواد المخدرة.
إلى جانب المخدرات، يعد الفقر والعنف ظاهرة متصلة، فيما تشير تقديرات الخبراء إلى زيادة وتيرة العنف في مصر مع تنامي مستوى الفقر، ووفقًا لخط الفقر الذي حدده الجهاز، فإن مستوى دخل ثمانية آلاف و 827 جنيهًا للفرد سنويًا، يرمي به في خانة الفقراء، في حين يوجد خط الفقر المدقع الذي يقدر أن نحو 6% من المصريين تحته، وهؤلاء هم الذين يبلغ دخلهم نحو خمسة آلاف و 890 جنيهًا في السنة.
ووفقًا لدراسة نشرتها “فاستر كابيتال” حاضنة ومسرّعة الأعمال، فإن هناك العديد من العوامل المختلفة التي يمكن أن تسهم في زيادة معدلات الجريمة في مصر، أبرزها البطالة، وتعاطي المخدرات والكحول، وقضايا الصحة العقلية، والعزلة الاجتماعية، والضغوط الاقتصادية التي ينتج عنها زيادة معدلات الفقر وتآكل الطبقات المجتمعية. ويمكن لهذه العوامل أن تخلق شعورًا باليأس، ما قد يؤدي بدوره إلى السلوك الإجرامي وارتفاع معدلات الجريمة.
وفي 25 أكتوبر 2023، أوضحت هبة الليثي – أستاذة الإحصاء بجامعة القاهرة ومستشارة الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء-، تطور نسبة الفقر في مصر، مشيرة إلى أن النسبة بلغت 31.4% في عام 2020-2021 نتيجة جائحة كوفيد-19، ثم ارتفعت إلى 33.3% في 2021-2022 بسبب الحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع الأسعار، لتصل إلى 35.7% في عام 2022-2023.
لاحقًا، في 24 أبريل 2024، كشف البنك الدولي في وثيقة صادرة عنه عن ارتفاع معدل الفقر الوطني في مصر إلى 32.5% في عام 2022، وأوضح البنك أن الحكومة المصرية نفسها ذكرت هذه النسبة في طلبها للحصول على تمويل بقيمة 250 مليون دولار لبرنامج الإنتاج الزراعي المرن لتغير المناخ.
وحسب نتائج بحث القوى العاملة للربع الرابع “أكتوبر – ديسمبر” لعام 2023، الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن معدل البطالة وصل إلى مستوى 6.9%، إذ سجّل تقدير حجم قوة العمل 31.101 مليون مواطن، بينما كانت 31.956 مليون مواطن خلال الربع السابق بنسبة تراجع بلغت 2.7%، فيما سجل مُـعدّل البطالة بين الذكور نحو 4.6% من إجمالي الذكور في قوة العمل، بينما بلغ بين الإناث 17.7% من إجمالي الإناث في قوة العمل.
نوصي للقراءة: محاكم التفتيش الأخلاقيّة في مصر: تمييز طبقي وانتهاك لحقوق المرأة بمادة غير دستورية
هل كل المجرمين مرضى؟
يأتي الخلل النفسي عاملًا مشتركًا بين غالبية الجرائم، بحسب البيانات التي تصدر عن جهات التحقيق، وفي حادث الأقصر على سبيل المثال، أكدت التحقيقات أن المتهم مختل نفسيًا، وأنه لا يتعاطى المخدرات، لكن العديد من الدراسات تشير إلى أن المرض النفسي لا يعد المسؤول وحده عن زيادة وتيرة العنف المجتمعي.
إلى ذلك، يقول عبد العظيم الخضراوي في حديثه معنا إن “العنف ليس حكرًا على الأمراض النفسية وحدها، صحيح أن بعض حالات العنف ترتبط باضطرابات نفسية خطيرة تُسبّب للشخص الشكّ والتهيّج وسهولة الاستثارة، إلا أن هذه النسبة تُعتبر قليلة نسبيًا، كما هو متعارف عليه علميًا، من أمثلة هذه الاضطرابات: الفصام، والاضطراب الوجداني (الذي يُعرف أيضًا بالاضطراب ثنائي القطب)، وأحيانًا الاكتئاب في حالات مُعيّنة كالانتحار، أو ما يُعرف بالانتحار الموسّع الذي يمتد ليشمل أفراد الأسرة. في هذه الحالات، يكون المرض النفسي عاملًا مُحفّزًا أو مُباشرًا للسلوك العنيف.”
ويضيف: “من المهم التمييز بين هذه الحالات وبين حالات أخرى يكون فيها العنف ناتجًا عن تركيبة شخصية مُختلّة، تتشكّل عبر الزمن نتيجة عوامل مُتعدّدة، منها التنشئة والظروف الاجتماعية والخبرات الحياتية. هذه التركيبة المرضية تُؤدّي إلى تصرّفات عنيفة، إضافة إلى سمات أخرى كعدم القدرة على التعاطف مع الآخرين، ما يُسهّل إلحاق الأذى بهم دون الشعور بالندم أو التأنيب. في هذه الحالة، لا يُعتبر الشخص بالضرورة مُصابًا بمرض نفسي بالمعنى الطبي، بل يُعاني من اضطراب في الشخصية يُؤثّر على سلوكه وعلاقاته.”
شهدت مصر خلال السنوات الماضية زيادة كبيرة في حجم انتشار الأمراض النفسية، إذ يعاني نحو 25% من المصريين من الأمراض والاضطرابات النفسية – بمعنى أن كل واحد من أربعة أشخاص من المفحوصين لدية عرض أو اضطراب نفسي-، وفق بيانات رسمية صادرة عن وزارة الصحة (المسح القومي للصحة النفسية)، التي تستهدف قياس معدل انتشار الاضطرابات النفسية، تتصدرها اضطرابات المزاج (الحزن والاكتئاب والقلق) بنسبة 43.7%، تليها اضطرابات تعاطي المخدرات بنسبة 30.1٪.
هالة دومة – المحامية والباحثة القانونية، رئيسة مكتب حرية للمحاماة والاستشارات القانونية- تؤكد أهمية التمييز بين جرائم العنف الموجهة ضد النساء، أو الأطفال، أو الفئات المهمشة، وبين الجرائم العامة الأخرى، وتشير إلى أن الجرائم العامة مغطاة بشكل جيد في قانون العقوبات المصري والقوانين المكملة له، سواء من ناحية التجريم أو الإجراءات، لكن فيما يتعلق بالعنف الأسري، لافتة الانتباه إلى غياب هذا المفهوم عن القانون المصري، حيث لا توجد مادة قانونية تُعرِّف أو تعترف بمصطلح “العنف الأسري”.
وتضيف أن القانون يغطي بعض صور الجرائم التي قد تحدث داخل الأسرة، ويضع ظروفًا مشددة للعقوبة في بعض الحالات، على سبيل المثال، الجرائم مثل التحرش، التنمر، أو الاعتداءات الجنسية إذا ارتكبها شخص له صلة أسرية أو سلطة داخل الأسرة، أو كان مسؤولاً عن رعاية الطفل أو المرأة، فتُضاعف العقوبة أو تُشدد، ومع ذلك، يشير القانون إلى هذه الجرائم كـ جرائم “عامة” دون أن يأخذ في الاعتبار البعد الخاص بالجندر أو الحساسية الاجتماعية المتعلقة بالنوع.
توضح هالة أن القانون يتعامل مع الجرائم داخل الأسرة أو ضد النساء والأطفال بمنظور مجرد، وكأنها جرائم عادية تقع على أي شخص، دون وضع اعتبارات خاصة تتعلق بالنوع الاجتماعي. وتعتبر أن هذا التعامل يُظهر ضعف القانون في توفير حماية حقيقية ومباشرة للنساء والأطفال من العنف الموجه ضدهم. مشيرة إلى الجهود المبذولة حاليًا لتقديم مشروع قانون موحد لمناهضة العنف ضد المرأة، معتبرة إياه خطوة جيدة على الطريق الصحيح، ومع ذلك، تشير إلى أن هذا المشروع بحاجة إلى تعديلات وصياغات تتماشى مع التعديلات التشريعية التي تمت مؤخرًا، وتؤكد أهمية إدراج بنود من قانون موحد لمناهضة العنف ضد المرأة في أي تعديل تشريعي، لتلبية احتياجات الفئات الأكثر عرضة للعنف، ولإيجاد حلول أكثر شمولًا.
وتضيف أن البرلمان دائمًا ما يعمل على تغليظ العقوبات، وهو أمر جيد من الناحية النظرية، لكنه يفتقد التركيز على تسهيل الإجراءات القانونية، مشيرة إلى أن العقوبات المُشددة وحدها ليست كافية، بل يجب أن تُرافقها إجراءات بسيطة وفعّالة للوصول إلى العدالة.
تعتبر هالة أن هناك مشكلات كبيرة في المنظومة القانونية تعيق تحقيق العدالة، إذ تبرز مشكلتان رئيسيتان: الأولى تتعلق بصعوبة الإجراءات القانونية، حيث تعاني الفئات المهمشة، مثل النساء والأطفال والطبقات الاجتماعية الأقل قدرة ماديًا، من تعقيدات تجعل الوصول إلى العدالة مهمة شبه مستحيلة. وعلى الرغم من تغليظ العقوبات وتشديد النصوص القانونية، إلا أن تعقيد الإجراءات يقلل من قدرة الضحايا على متابعة حقوقهم بشكل فعال. المشكلة الثانية تكمن في ضعف تنفيذ الأحكام، فحتى مع النصوص العقابية المشددة، غالبًا ما يفلت الجناة من العقاب نتيجة ضعف آليات التنفيذ، مما يقلل من تأثير القوانين الرادعة ويفقدها قدرتها على تحقيق الردع المطلوب.
وتضيف المحامية والباحثة القانونية أن القوانين الحالية تضع النساء في وضعية المستضعفات ليس لطبيعتهن، بل لأن القانون لا يعترف بحاجتهن إلى حماية خاصة. وعلى الرغم من أن الدستور في مادته رقم 11 ينص على التزام الدولة بحماية المرأة من العنف، إلا أن هذه المادة لم تُترجم إلى قوانين فعّالة على أرض الواقع، النساء ما زلن يُعاملن كأي فئة أخرى دون تمييز إيجابي يضمن لهن الحماية اللازمة، ويتساوين مع الرجال في مواجهة العنف المجتمعي أو الأسري دون وجود أي امتيازات أو وسائل حماية إضافية. وتشير دومة إلى أن بعض المبادرات السابقة، مثل الاستراتيجية الوطنية للمرأة أو إنشاء محاكم خاصة بالنساء، لم تُحدث تغييرًا ملموسًا في واقعهن ولم تؤثر على معدلات العنف الموجه ضدهن.
وترى أن القانون المصري بحاجة ماسة إلى تعديلات شاملة تراعي خصوصية العنف الموجه ضد النساء والأطفال، مع ضرورة تبسيط الإجراءات القانونية وجعلها أكثر يسراً، بالإضافة إلى تحسين آليات تنفيذ الأحكام لضمان تحقيق العدالة. وتشدد على أهمية تبني منظور جندري في التشريعات، مما يضمن توفير حماية حقيقية وفعّالة للنساء والفئات المهمشة على أرض الواقع، بما يعكس التزام الدولة بحقوق المرأة ومناهضة كافة أشكال العنف ضدها.
نوصي للقراءة: جرحٌ عميقٌ يُدمّر حياة النساء.. العنف الرقمي والتشهير في مصر
عنف داخل المدارس
من اللافت وصول العنف للمدارس وانتشاره بشكل كبير بين الطلاب، لعل الواقعة الأبرز خلال يناير كانت اعتداء طالبة على زميلتها بشكل مروع داخل إحدى المدارس الخاصة بمنطقة التجمع، ما تسبب بإصابات خطيرة للثانية، وبالحديث عن ظاهرة انتشار العنف بين الأطفال، يقول عبد العظيم الخضراوي في حديثه معنا إن الطفل نتاج تربية والديه، فسلوكياته العنيفة قد تكون انعكاسًا مباشرًا لمعاملة الأهل العنيفة، أو قد تنشأ نتيجة إهمال الأهل لتقويم سلوكه العنيف بل وتشجيعه عليه بشكل أو بآخر.
ويؤكد أن التصدي لظاهرة العنف يبدأ من أساس المجتمع، وهو الأسرة، فالأهل يتحملون مسؤولية كبيرة في تشكيل سلوك أبنائهم من خلال الطريقة التي يتعاملون بها معهم، سواءً كانت تربية قائمة على الحوار والتفاهم والاحترام، أو على العنف والإهمال. إلا أن هذه المسؤولية لا تقع على عاتق الأهل وحدهم، بل تتطلب تضافر جهود المجتمع بأكمله.
ويضيف: “هنا يبرز دور السلطة في وضع السياسات والبرامج التي تُساهم في توعية الأهل وتثقيفهم بأساليب التربية السليمة. كما يلعب الإعلام والفن دورًا حيويًا في صياغة القدوة المجتمعية الإيجابية، ونشر الوعي الجمعي بأهمية نبذ العنف وتبني قيم التسامح والمحبة. إضافة إلى ذلك، تُعدّ مكافحة المخدرات بكل أنواعها ووسائل انتشارها خطوة حاسمة في الحد من العنف، حيث تُعتبر المخدرات سببًا مباشرًا وغير مباشر في زيادة مستويات العنف، وغالبًا ما تكون متورطة في الجرائم والقضايا التي تُثير الرأي العام.”
من جهتها، ترى انتصار السعيد أن مواجهة العنف بين الأطفال، سواءً بينهم أو بينهم وبين المعلمين في المدارس، اتخاذ إجراءات وقائية وعلاجية متكاملة تهدف إلى الحد من هذه الظاهرة وتعزيز بيئة تعليمية آمنة. تشمل هذه الإجراءات جوانب متعددة، أهمها التثقيف إذ يمثل حجر الزاوية في منع العنف، ويتضمن ذلك تعليم الأطفال والمراهقين قيم التسامح واحترام الآخر والتعامل بلطف من خلال الأنشطة الصفية وورش العمل والبرامج التعليمية التي تُركز على القيم الإنسانية.
وتقول في حديثها معنا: “يتطلب ذلك مراقبة مستمرة لسلوك الطلاب في الفصول الدراسية والممرات والساحات، وتوفير بيئة يشجع فيها الطلاب على التعبير عن مشاعرهم بطريقة صحيحة. من الضروري أيضًا توفير أماكن آمنة داخل المدرسة، كغرف الإرشاد أو مكاتب المستشارين، ليتمكن الطلاب من التحدث مع مختصين في حال تعرضهم لموقف عنف أو شهادتهم عليه. علاوة على ذلك يلعب المعلمون دورًا حاسمًا في منع العنف والتعامل معه. لذا، يجب أن يتلقوا تدريبًا مُكثّفًا حول كيفية التعامل مع السلوكيات العدوانية وتطبيق استراتيجيات تهدئة فعّالة. كما يُعدّ تدريبهم على تقنيات إدارة الصراع أمرًا بالغ الأهمية، إذ يُساعدهم ذلك في التعامل مع المواقف المتوترة قبل أن تتصاعد إلى العنف.”
وتضيف: “مع انتشار استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح التنمر الإلكتروني يُمثّل تحديًا جديدًا، لذا، يجب توعية الطلاب بكيفية التصرّف بمسؤولية في العالم الرقمي، إضافة إلى تعليمهم كيفية التصدّي للتنمر الإلكتروني وحماية أنفسهم منه.”
هل نلوم الدراما والسينما؟
عادة ما يلقي البعض باللوم على صناع السينما والدراما باعتبارها أحد الأسباب التي ربما أسهمت بتعزيز بيئة العنف خلال السنوات الماضية، في ضوء انتشار بعض الأعمال التي يعتمد ابطالها على الترويج للعنف باعتباره رمزًا للقوة والبطولة.
إلى ذلك، يقول الناقد والباحث في تاريخ السينما، محمد سميح إلى زاوية ثالثة إن “العلاقة بين العنف والسينما والدراما علاقة معقدة، إذا طرحنا سؤال، هل يصنع الفن العنف؟ للإجابة على هذا السؤال يجب التفكير أولًا في عدة أمور، وطرح أسئلة أكثر، هل الأعمال الفنية وحدها متهمة بصناعة العنف؟ لا فالبعض يرى الدين أو الأيدلوجيا صانع العنف، ومن وجهة نظري لا يمكن رد العنف البشري لسبب واحد، فهناك عدة مؤثرات أولها فطرة الإنسان، فقد مارس الإنسان العنف منذ بدايات نشأته، وعلى رأسها قصة قابيل وهابيل، وحتى أبحاث الأنثروبولوجي، فمن أخترع السكين واستخدم الحجارة والخشب في القتل، لا يمكن القول بأنه كائن مسالم، والأمر نسبي بعض البشر لا يحبون العنف، لكن في الغالب يضطر البعض لممارسته تحت ظروف معينة.”
ويضيف: “الاتهام الموجه هنا للفن هو ضد الفن، البعض يحاول النيل من الأعمال الفنية بمثل هذه الاتهامات مثلما يحدث مع الدين والإيديولوجيا، والبعض ينحاز للفن لكنه يرفض تقديمه للعنف، لكني لا أعتقد أن عمل فني يدفع أحد لممارسة عنف، هناك العديد من الحوادث والجرائم العنيفة في مصر، هذا يعود لأسباب نفسية واجتماعية أكثر، وعلى الفن أن يعكس عنف الشارع.”
ويتابع: “ممارسة العنف البشر قد تكون أقدم من الفن تاريخيًا، هل تأثر قابيل عند قتل هابيل بعمل فني؟ أحيانًا علينا تقبل فكرة أننا طبقا لثلاثة أديان كبرى، أبناء القاتل، وحتى طبقا للتطور فنحن أبناء من نجا من الصراع حول البقاء. ولم نجد أحد يخرج قائلًا، أن الفن دفع مواطنا لمقاومة العنف، السينما والدراما أدوات خطيرة جدًا يمكن قول عنها كل شيء وأيضًا يمكن نفي كل شيء.”
ويعكس تصاعد وتيرة العنف في المجتمع المصري تحديات معقدة ومتشابكة، تشمل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وغياب العدالة الاجتماعية، وارتفاع معدلات البطالة والفقر، فضلًا عن تأثير المخدرات وضعف التماسك القيمي والأسري. في حين يشير الخبراء إلى ضرورة التمييز بين الحالات المرتبطة بالاضطرابات النفسية وتلك الناتجة عن ظروف اجتماعية ضاغطة أو اختلالات في بنية الشخصية.
وللحد من هذه الظاهرة، بات من الضروري تبني سياسات شاملة تستهدف تعزيز التعليم، وتحسين الخدمات الصحية والاجتماعية، ودعم الفئات الأكثر تضررًا. كما يجب التركيز على تقوية القيم المجتمعية عبر الإعلام والتوعية، مع وضع آليات فعالة لمكافحة انتشار المخدرات. معالجة هذه القضايا لن تكون مسؤولية فرد أو جهة واحدة، بل هي مسؤولية جماعية تحتاج إلى تكاتف جميع أطياف المجتمع من أفراد ومؤسسات وحكومة، لضمان بناء مجتمع أكثر أمانًا واستقرارًا.