أثارت حركة الترقيات الأخيرة الصادرة عن المجلس الخاص للشؤون الإدارية لمجلس الدولة، بجلسته المنعقدة في 17 فبراير الماضي، برئاسة المستشار أحمد عبود، نقاشًا واسعًا داخل الأوساط القضائية، نظرًا لما وصفه البعض بأنه تفاوت بين مجلس الدولة والجهات والهيئات القضائية الأخرى. وتعد هذه الحركة هي الأكبر في تاريخ مجلس الدولة، حيث طالت عددًا كبيرًا من المستشارين، وسط مطالبات بضمان تكافؤ الفرص بين مختلف الهيئات القضائية.
وتزامن هذا الجدل مع مطالبات بتدخل رئيس الجمهورية، بصفته رئيس المجلس الأعلى للهيئات والجهات القضائية، للنظر في مدى توافق حركة الترقيات مع قانون إنشاء المجلس الأعلى، الذي ينص في مادته الثامنة على ضرورة تحقيق التوازن بين الهيئات القضائية وتقليل الفجوات الزمنية في الترقيات خلال مدة لا تتجاوز عشر سنوات.
في هذا السياق، برزت أصوات تدعو إلى إعادة النظر في هيكلة القضاء المصري عبر تطبيق نظام “القضاء الموحد”، الذي يقضي بدمج الهيئات القضائية المختلفة تحت مظلة واحدة، وهو النظام المعمول به في بعض الدول العربية والأجنبية، بهدف تقليص الفوارق بين القضاة وضمان معايير موحدة للترقيات والتعيينات.
وبينما تم التصديق على الحركة في الجمعية العمومية لمستشاري مجلس الدولة في 26 فبراير، يظل النقاش مستمرًا حول مدى تحقيقها للتوازن الذي ينشده قانون المجلس الأعلى للجهات القضائية، ومدى تأثيرها على المشهد القضائي في السنوات المقبلة.
وأثارت حركة الترقيات الأخيرة لمجلس الدولة تساؤلات حول مدى توافقها مع قانون إنشاء المجلس الأعلى للجهات والهيئات القضائية، الذي ينص على تقليل الفجوة الزمنية في الترقيات بين أعضاء الجهات القضائية المختلفة. وبحسب معارضين للحركة، فإنها لم تسهم في تحقيق هذا الهدف، بل يُرجَّح أنها زادت من الفجوة بين أعضاء الجهات المختلفة من ذات دفعات التخرج والتعيين والدرجة الوظيفية.
وبحسب البيان الرسمي الصادر عن مجلس الدولة، شملت حركة الترقيات ترقية 341 عضوًا إلى درجة نائب رئيس مجلس الدولة، و329 إلى درجة وكيل مجلس الدولة، كما شهدت الموافقة على أكبر حركة ترقيات في تاريخ المجلس، حيث تمت ترقية 1754 عضوًا، بينهم 480 إلى درجة مستشار، و93 إلى درجة مستشار مساعد (أ)، و274 إلى درجة مستشار مساعد (ب)، و375 إلى درجة نائب، و532 إلى درجة مندوب.
وفي ظل هذه الأرقام، يظل الجدل مستمرًا بين من يرى أن الحركة جاءت لتعزيز الكفاءة داخل المجلس، وبين من يطالب بتعديل سياسات الترقيات لضمان التوازن بين الهيئات القضائية المختلفة، وفقًا للمحددات القانونية.
نوصي للقراءة: بالمستندات.. تجاوزات مالية وتضارب مصالح في ندب القضاة.. والبرلمان يتحرك
التفاوت في الترقيات بين الهيئات القضائية
كشف تحليل حصري لـ”زاوية ثالثة”، أعده مجموعة من المستشارين والقضاة في جهات قضائية مختلفة، عن وجود تفاوت كبير في الترقيات والدرجات الوظيفية بين مجلس الدولة من جهة، والهيئات القضائية الأخرى من جهة أخرى، وهو ما أثار حالة من الغضب داخل الأوساط القضائية. يُظهر هذا التحليل، الذي اختص به المستشارون والقضاة موقع “زاوية ثالثة” حصريًا، أن أعضاء مجلس الدولة يتدرجون في الترقيات بشكل أسرع وأكثر انتظامًا مقارنة بنظرائهم في النيابة العامة وهيئتي النيابة الإدارية وقضايا الدولة، مما يؤدي إلى فجوة زمنية قد تصل إلى 20 عامًا بين القضاة المنتمين لنفس دفعة التخرج، الأمر الذي يفاقم التفاوت في الامتيازات المالية والوظيفية داخل الجهات القضائية.
يحصل عضو مجلس الدولة على درجة نائب رئيس مجلس الدولة، وهي أعلى درجة وظيفية في هيكل الترقيات، عند سن 37 أو 38 عامًا، بينما لا يصل نظراؤه في الجهات القضائية الأخرى إلى درجات مماثلة إلا بعد عقد كامل من الزمن، إذ يُرقّى القاضي في القضاء العادي إلى رئيس محكمة استئناف، أو نائب رئيس محكمة النقض، كما يصل العضو في هيئتي النيابة الإدارية وقضايا الدولة إلى نائب رئيس الهيئة، عند سن 47 أو 48 عامًا. هذا التفاوت الكبير في الترقيات ينعكس مباشرة على الفروق الشاسعة في الأجور والمزايا المالية، مما يعمّق الإحساس بالتمييز داخل المنظومة القضائية ويزيد من حدة الاعتراضات على حركة الترقيات الأخيرة.
يكشف الرصد التحليلي تفاوتًا واضحًا في هيكل التدرج الوظيفي بين مجلس الدولة والجهات القضائية الأخرى، وهو ما يكرّس الفجوة بين أعضائها من حيث الترقيات والمزايا المالية.
يتبع أعضاء مجلس الدولة سلمًا وظيفيًا يتألف من: مندوب مساعد، مندوب، نائب، مستشار مساعد (ب)، مستشار مساعد (أ)، مستشار، وكيل مجلس دولة، ونائب رئيس مجلس الدولة. في المقابل، يمر القاضي في القضاء العادي بمسار مختلف، يبدأ من معاون نيابة، مساعد نيابة، وكيل نيابة، وكيل نيابة ممتازة، رئيس محكمة (ب)، رئيس محكمة (أ)، مستشار، نائب استئناف، وأخيرًا رئيس استئناف.
لكن اللافت في هذا التدرج أن القضاة في مجلس الدولة يترقّون بوتيرة أسرع مقارنة بنظرائهم في القضاء العادي، حيث تتيح درجات مجلس الدولة انتقالًا سلسًا ومنتظمًا بين المناصب، بينما يتخلل المسار القضائي العادي درجات إضافية، مثل معاون نيابة، التي لا نظير لها في مجلس الدولة، مما يؤخّر الترقية لمراحل لاحقة.
كما أن هناك اختلافًا ملحوظًا في الدرجات العليا، حيث تعادل درجة رئيس استئناف في القضاء العادي درجة نائب رئيس محكمة النقض، وهي نفس الدرجة التي يصل إليها عضو مجلس الدولة تحت مسمى نائب رئيس مجلس الدولة ولكن في سن أبكر بكثير، ما يزيد من الفجوة الزمنية بين الهيئتين.
كشف الرصد التقريبي عن تباين في مسارات الترقية بين أعضاء مجلس الدولة وأقرانهم في الهيئات القضائية الأخرى، حيث يبدأ التفاوت الزمني في الترقية منذ المراحل الأولى من العمل القضائي، ويتسع تدريجيًا ليصل إلى أكثر من عقد من الزمن عند الدرجات الوظيفية العليا.
ففي مجلس الدولة، يُعيَّن المندوب المساعد عند سن 25 عامًا، وهو نفس السن الذي يُعين فيه مساعد النيابة. ثم يُرقّى مندوب مجلس الدولة إلى درجة مندوب عند سن 26 عامًا، بالتزامن مع ترقية مساعد النيابة إلى وكيل نيابة. عند سن 28 عامًا، يصل عضو مجلس الدولة إلى درجة نائب، في حين يُرقّى وكيل النيابة إلى درجة وكيل نيابة ممتازة.
يبدأ الفارق في الاتساع عند درجة المستشار المساعد (ب)، حيث يحصل عليها عضو مجلس الدولة عند سن 30 عامًا، بينما لا يصل القاضي في القضاء العادي إلى درجة رئيس محكمة (ب) إلا عند سن 33 عامًا. ثم يُرقّى عضو مجلس الدولة إلى مستشار مساعد (أ) عند سن 32 عامًا، بينما يصل القاضي إلى درجة رئيس محكمة (أ) عند سن 35 عامًا.
عند سن 33 عامًا، يصبح عضو مجلس الدولة في درجة مستشار، بينما لا يصل نظيره في القضاء العادي إلى منصب مماثل (مستشار استئناف أو محامٍ عام) إلا عند سن 43 عامًا، أي بفارق زمني يصل إلى عشر سنوات. ويستمر هذا التفاوت في التوسع، حيث يُرقّى عضو مجلس الدولة إلى وكيل مجلس دولة بين سن 34 و35 عامًا، بينما لا يصل القاضي إلى درجة نائب محكمة استئناف إلا عند سن 45 عامًا.
عند قمة التدرج الوظيفي، يحصل عضو مجلس الدولة على درجة نائب رئيس مجلس الدولة بين سن 36 و37 عامًا، في حين لا يبلغ القاضي في الجهات القضائية الأخرى درجة رئيس استئناف أو نائب رئيس محكمة النقض إلا بين سن 47 و48 عامًا، مما يعكس فجوة زمنية تتجاوز العقد الكامل، تؤثر بدورها على الفوارق في الامتيازات المالية والوظيفية بين الطرفين.
نوصي للقراءة: قبيل انتخابات النادي.. غضب قضاة بعد رسوب أبنائهم في الدورات العسكرية

“شعرت بالظلم وفكرت في الاستقالة”
“لم أكن أتخيل أن يكون الفرق بهذه الفجوة الكبيرة” – هكذا يبدأ رئيس محكمة (أ)، الذي طلب عدم ذكر اسمه، حديثه لـ”زاوية ثالثة”، متحدثًا عن تجربته الشخصية مع التفاوت بين الجهات القضائية. القاضي، أحد أوائل دفعته في كلية الحقوق لعام 2011، حصل على تقدير امتياز، وكان من المقبولين في مجلس الدولة عام 2012، لكنه استجاب لرغبة والده في الالتحاق بالنيابة العامة، فانتقل إليها عام 2013، متوقعًا أن تكون الفروقات في التدرج الوظيفي بين الجهات القضائية محدودة، لكن ما واجهه لاحقًا كان صادمًا.
بعد 12 عامًا من الخدمة، يجد نفسه رئيس محكمة (أ)، يعمل في محكمة تبعد عن منزله ساعتين، في ظل ضغط عمل لا يهدأ، بينما زملاؤه الذين استمروا في مجلس الدولة تدرجوا إلى درجة وكيل مجلس دولة، وهي درجة تعادل مستشارًا بمحكمة النقض أو نائب رئيس محكمة استئناف، بفارق أكثر من عشر سنوات في الترقيات والامتيازات. “الأمر لا يتعلق فقط بالمسمى الوظيفي”، كما يوضح القاضي، “بل يتجاوز ذلك إلى الرواتب، الأعباء الوظيفية، وساعات العمل. نحن نعمل بلا توقف، بينما يتمتع زملاؤنا في مجلس الدولة بجداول عمل أقل ضغطًا، ومقرات قريبة من منازلهم”.
يتحدث القاضي عن لحظة أدرك فيها حجم الفجوة لأول مرة: “كان لدي إحساس دائم بأن الترقيات في مجلس الدولة تسير بوتيرة أسرع، لكن حين قابلت أحد زملائي السابقين، واكتشفت أنه أصبح وكيل مجلس دولة بينما لا أزال أنا في درجتي الحالية، شعرت وكأنني خسرت سنوات من عمري المهني”. لم يكن مجرد فرق في الترقيات، بل امتد ليشمل الدخل، الامتيازات المالية، وحتى المكانة داخل النظام القضائي.
يستند القاضي إلى المادة 176 من دستور 2014، التي تنص على المساواة بين القضاة، لكنه يصفها بأنها “نصوص معطلة”، حيث أصبح مجلس الدولة “كيانًا منفصلًا داخل السلطة القضائية”، يتمتع بمزايا تفوق تلك الممنوحة لقضاة المحاكم العادية، على الرغم من أن الأخيرين هم أصحاب “الولاية العامة” للفصل في القضايا.
لم يتوقف القاضي عند مسألة الترقيات فحسب، بل كشف عن امتيازات مالية إضافية تُمنح لأقرانه في مجلس الدولة، قائلاً: “زملائي هناك يُنتدبون إلى جهات خارجية تمنحهم ما يعادل 100% من إجمالي رواتبهم، أي ضعف ما نحصل عليه في القضاء العادي”. يتساءل القاضي، الذي فضل عدم ذكر اسمه، عن مدى تعارض هذا الانتداب مع مبدأ الحياد القضائي: “كيف يمكن لقاضٍ إداري أن يفصل في قضية تخص جهة إدارية هو نفسه منتدب بها؟ أليس ذلك إخلالًا باستقلال القضاء؟ هل يُعقل أن يكون القاضي في الوقت ذاته الخصم والحكم؟”.
ولا يقتصر الأمر على الامتيازات المالية، بل يتعداه إلى تجاوز مجلس الدولة لنصوص قانون المجلس الأعلى للجهات والهيئات القضائية، وفقًا لشهادته. يوضح القاضي أن القانون ينص بوضوح في مادته الثامنة على ضرورة القضاء على الفجوة في الترقيات بين الجهات القضائية خلال عشر سنوات من إقراره في 2021، بحيث يتحقق التكافؤ بحلول 2031. إلا أن الواقع يسير في الاتجاه المعاكس، إذ “ضرب مجلس الدولة بهذه القاعدة عرض الحائط، واستمر في منح أعضائه ترقيات متسارعة دون أي اعتبار لمبدأ التوازن الوظيفي داخل السلطة القضائية”.
ويشير القاضي إلى أن استمرار هذا الوضع يمثل “إخلالًا جوهريًا بمبدأ العدالة داخل السلطة القضائية”، مضيفًا: “مجلس الدولة لم يعد يهتم بتحقيق العدالة كمنظومة، بل بات يدير الأمور وفق مصالح أعضائه فقط، متجاهلًا تأثير ذلك على باقي الهيئات القضائية”. في ظل هذا الواقع، لم يعد يرى القاضي مستقبلًا واضحًا داخل المؤسسة التي يفترض أن تكون منبعًا للعدل، مؤكدًا أنه يفكر جديًا في تقديم استقالته، بعد أن بات يشعر أن الظلم الذي يواجهه داخل القضاء يفوق الظلم الذي يفترض أن يقف ضده خارجه.
ورغم أنه لا يزال يمارس عمله، إلا أن التفكير في الاستقالة بات يراوده أكثر من أي وقت مضى، مثل كثيرين من زملائه الذين يرون أن التفاوت الوظيفي بات يشكل “تمييزًا ممنهجًا”، لا يتناسب مع فكرة العدالة التي يفترض أن تكون أساس المؤسسة القضائية.
نوصي للقراءة: النيابة العامة المصرية تتغاضى عن التحقيق في شكاوى تعذيب المحتجزين

القضاء الموحد؟
يرى المستشار محمد ناجي دربالة، نائب رئيس محكمة النقض السابق، في تصريحاته إلى “زاوية ثالثة”، أن أزمة التفاوت في الترقيات والامتيازات المالية بين الجهات القضائية ليست جديدة، بل هي نتيجة تراكمات استمرت لسنوات، وكان ينبغي معالجتها منذ وقت طويل. وأوضح أن أحد الحلول التي طُرحت سابقًا هو منح مجلس القضاء الأعلى والمجلس الخاص بمجلس الدولة والجمعية العمومية للمحكمة الدستورية العليا ميزانيات مستقلة محددة الموارد، بحيث تُعتمد في مجلس النواب كرقم واحد، تمامًا كما هو الحال بالنسبة لمجلس النواب ومجلس الشورى ورئاسة الجمهورية، حيث لا يتم التدخل في تفاصيلها. وأضاف أن هذا الأمر تحقق بالفعل للمحكمة الدستورية العليا، لكنه لم يُطبق بعد على قضاة السلطة القضائية أو مجلس الدولة، مما أدى إلى استمرار التفاوت المالي والوظيفي داخل المنظومة القضائية.
ويوضح دربالة أن الحل الفوري للأزمة يكمن في قيام الدولة بدورها في دعم الترقيات وتوفير الدرجات المالية اللازمة لتحقيق التوازن بين الجهات القضائية، بحيث يتم ربط الترقيات بعدد الدفعات وأعداد القضاة في جميع الهيئات القضائية. مشيرًا إلى أن هذا الدور يقع على عاتق الدولة باعتبارها الجهة المسؤولة عن توفير الموارد المالية وإدراج الدرجات الوظيفية ضمن الموازنة العامة.
أما الحل، فيرى نائب رئيس محكمة النقض السابق أن تطبيق نظام “القضاء الموحد” هو السبيل الأهم للقضاء على جميع أوجه التفاوت، إذ يضمن توحيد الهيئات القضائية تحت مظلة واحدة، مما ينهي الفروق في الترقيات والامتيازات المالية ويخلق نظامًا أكثر عدالة واستقرارًا. مشيرًا إلى أن هذا الطرح كان أحد المشاريع التي تبناها أثناء مشاركته في الجمعية التأسيسية لوضع دستور 2012، لكنه قوبل بمقاومة شديدة من ممثلي مجلس الدولة والمحكمة الدستورية العليا، الذين رأوا أن توحيد الجهات القضائية سيؤدي إلى فقدان بعض الامتيازات والمزايا الخاصة.
ويؤكد دربالة أن استمرار الوضع الحالي سيؤدي إلى تفاقم التفاوتات بمرور الوقت، حيث ستزداد الفجوات بين القضاة داخل الجهات المختلفة عامًا بعد عام. ويرى أن القضاء الموحد هو النموذج المعتمد في معظم دول العالم، سواء التي تتبع النظام الأنجلوساكسوني أو النظام اللاتيني، بينما يؤدي تعدد الجهات القضائية دون مبرر إلى خلق مراكز قوى داخل القضاء، وهو أمر لا يخدم استقلالية السلطة القضائية أو تحقيق العدالة.
أكد القاضي السابق بمجلس الدولة، عصام محمد رفعت، في تصريح إلى “زاوية ثالثة”، أن حركة الترقيات الأخيرة أثارت حالة من الغضب بسبب التمييز الواضح والتفاوت بين الجهات والهيئات القضائية، مشيرًا إلى أن جذور الأزمة تعود إلى مرونة القوانين والمعايير في يد أصحاب القرار، وهو ما يسمح بتفاوت معايير الترقي داخل المؤسسات القضائية المختلفة. وشدد على أن الأصل في التشريعات المنظمة للوظائف السيادية، ومنها القضاء، هو أن تضع معايير موحدة تضمن العدالة والمساواة بين القضاة، بعيدًا عن أي اعتبارات شخصية أو ضغوط تؤجج الانقسامات داخل الهيئات القضائية المتعددة.
وأضاف رفعت أن هناك مطالب متزايدة بتطبيق نظام “القضاء الموحد”، بحيث تصبح هناك مظلة قضائية واحدة تحت اسم “مؤسسة القضاء المصري”، تضم جميع الفروع القضائية، مثل النيابة العمومية، القضاء الجنائي، القضاء الإداري، القضاء الشرعي، القضاء الاقتصادي، القضاء المدني، المحكمة العليا للنقض والطعون، الإفتاء القانوني، والتشريعات القانونية. وأوضح أن هذا النموذج أصبح ضرورة ملحة لضبط أداء المنظومة القضائية، وتوحيد معايير الترقي والامتيازات، بما يحقق تكافؤ الفرص بين القضاة بمختلف الجهات.
وأشار القاضي السابق بمجلس الدولة إلى أن العديد من الدول، مثل إنجلترا، الولايات المتحدة، المغرب، والجزائر، اعتمدت نموذج القضاء الموحد، حيث يخضع القضاة لنظام قانوني واحد يعرف باسم “القانون المشترك”. ويُطبق هذا النظام في الدول التي لا تعتمد على الازدواجية القانونية، حيث تختص السلطة القضائية بكافة أنواع النزاعات، بغض النظر عن طبيعتها، ضمن إطار قانوني موحد وإجراءات موحدة، وهو النموذج السائد في الدول الأنجلوسكسونية.
وأوضح رفعت أن القضاء الموحد يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات، وهو ما يضمن استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، ويعزز حياديتها، خاصة عند الفصل في النزاعات الإدارية. وأضاف أن هذا النظام يؤكد على مبدأ المساواة أمام القانون، بحيث يكون القانون أداة عامة ومجردة تسري على الجميع دون تمييز، وهو ما يمنع التفاوت في الامتيازات والقرارات القضائية بين الجهات المختلفة.
نوصي للقراءة: تداخل المصالح: الأندية الرياضية المصرية كساحة للصراعات السياسية

تساؤلات دستورية
أكد الدكتور محمد محمود مهران، المتخصص في القانون الدولي وعضو الجمعيتين الأمريكية والأوروبية للقانون الدولي، في تصريحات خاصة لـ”زاوية ثالثة”، أن التفاوت الكبير في الترقيات والمرتبات بين الهيئات القضائية المختلفة يثير تساؤلات حول مدى توافقه مع المبادئ الدستورية ومعايير القانون الدولي.
وأوضح مهران، تعليقًا على الجدل الذي أثارته حركة الترقيات الأخيرة بمجلس الدولة، أن القانون الدولي لا يعتبر كل تفاوت في الامتيازات والدرجات الوظيفية شكلاً من أشكال التمييز المحظور، لكن عندما يؤدي هذا التفاوت إلى اختلافات جوهرية في المسارات الوظيفية للقضاة من نفس الدفعة، قد يصبح الأمر متعارضًا مع مبدأ المساواة أمام القانون.
وأشار أستاذ القانون الدولي إلى أن الدستور المصري ينص في مادته 94 على أن استقلال القضاء وحصانة القضاة هما ضمانتان أساسيتان لحماية الحقوق والحريات، كما تؤكد المادة 11 على مبدأ المساواة، وهو ما يستدعي إعادة النظر في نظام الترقيات الحالي، لضمان عدم تعارضه مع المبادئ الدستورية. وأضاف أن العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وكذلك الإعلان العالمي لاستقلال القضاء، يشددان على ضرورة توفير ضمانات مالية عادلة للقضاة، وهو ما يتطلب مراجعة التفاوت الحالي في الامتيازات بين مختلف الجهات القضائية.
وعن الحلول المقترحة، أشار مهران إلى أن العديد من الدول المتقدمة تتبنى نظام القضاء الموحد، مع الحفاظ على التخصصات المختلفة داخل هذا النظام، وهو ما يسمح بتقليل التفاوت في الامتيازات دون المساس باستقلالية كل جهة. ولفت إلى أن المغرب يعد الدولة العربية الأكثر تقدمًا في هذا الاتجاه، بعد إصلاحاته القضائية الأخيرة التي أدت إلى إنشاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية للإشراف على جميع القضاة، تليه تونس والأردن اللتان تبنتا خطوات مماثلة من خلال إنشاء مجالس قضائية موحدة. ومع ذلك، أوضح مهران أن الدول العربية عمومًا لا تطبق نظام القضاء الموحد بصورته المتكاملة، إذ تحتفظ بأنظمة قضائية متعددة بدرجات ومسارات وظيفية متفاوتة.
وأكد الخبير القانوني أن القضاء الموحد لا يعني إلغاء التخصصات، بل توحيد الهيكل التنظيمي والقواعد العامة للترقيات والأجور، بما يضمن العدالة بين القضاة في مختلف الهيئات، دون المساس بخصوصية واختصاص كل جهة قضائية. وأضاف أن الحل الأمثل يكمن في إنشاء نظام عادل للترقيات يراعي طبيعة عمل كل هيئة، ويضمن تقارب مستويات المعيشة بين القضاة في مختلف الجهات القضائية، عبر رواتب عادلة تحفظ كرامة القاضي وتليق بمكانته واستقلاليته.
نوصي للقراءة: الحصانة القضائية: درع حماية أم سلاح للفساد في مصر؟
سرعة الترقيات
قال مصدر قضائي بارز بمجلس الدولة، لـ”زاوية ثالثة”، أن السرعة الملحوظة في ترقيات أعضاء مجلس الدولة مقارنة بنظرائهم في الجهات القضائية الأخرى تعود إلى قلة أعداد المعينين سنويًا في المجلس مقارنة بالنيابة العامة وهيئتي قضايا الدولة والنيابة الإدارية.
وأوضح المصدر، الذي طلب عدم ذكر اسمه، أن تعيينات مجلس الدولة عادة ما تكون محدودة العدد، فعلى سبيل المثال، إذا كانت النيابة العامة تستقبل سنويًا نحو 1000 عضو جديد، فإن مجلس الدولة لا يعين سوى 100 إلى 150 عضوًا فقط، وهو ما يتيح توفير الدرجات المالية اللازمة لترقية جميع الأعضاء دون تأخير. ونتيجة لهذه الأعداد القليلة، تُمنح الترقيات بوتيرة أسرع مقارنة بالجهات القضائية الأخرى، التي تواجه تأخيرات بسبب العدد الكبير من المستحقين للترقية، مقابل محدودية الدرجات المالية المتاحة.
وأضاف المصدر أن في القضاء العادي، عندما يحين موعد ترقية دفعة مكونة من 1000 عضو إلى درجة نائب رئيس محكمة النقض أو رئيس محكمة استئناف، فإن الإمكانيات المالية لا تسمح سوى بترقية 100 إلى 200 عضو فقط، ما يؤدي إلى ترحيل بقية الأعضاء إلى حركات الترقيات اللاحقة. أما في مجلس الدولة، فإن عدد المستحقين للترقية يكون متقاربًا مع عدد الدرجات المالية المتاحة، مما يحول دون حدوث أي تأخير في الترقيات.
وأشار المصدر إلى أن هذا الفارق في الآلية بين الجهات القضائية المختلفة تسبب في تراكم أعداد القضاة المؤجل ترقيتهم في القضاء العادي، ما أدى بمرور السنوات إلى اتساع الفجوة الوظيفية بين قضاة مجلس الدولة ونظرائهم في النيابة العامة وهيئتي قضايا الدولة والنيابة الإدارية، لتتحول إلى أزمة واضحة في الترقيات والامتيازات.
في ظل هذه الأزمة المتصاعدة وحالة الغضب داخل الأوساط القضائية، أرسل مجلس الدولة يوم الخميس الموافق 27 فبراير الماضي، وفقًا لمصدر قضائي بارز بالمجلس، ملف حركة الترقيات إلى رئاسة الجمهورية؛ تمهيدًا لاستصدار قرار جمهوري باعتمادها ودخولها حيز التنفيذ خلال الأيام المقبلة. يأتي ذلك في وقت تتزايد فيه التساؤلات حول إمكانية تدخل مؤسسة الرئاسة، بصفتها رئيسة للمجلس الأعلى للجهات والهيئات القضائية، لوقف هذا التفاوت والتمييز في الترقيات، وتطبيق النصوص القانونية التي تُلزم بالعمل على تقليص الفوارق الوظيفية والمالية بين أعضاء الجهات والهيئات القضائية المختلفة.