ما بين علامتي تنصيص في هذا المقال، يُنسب إلى الشاعر الراحل مريد البرغوثي، وأما ما دون ذلك فهو تحليل لآرائه المنشورة في الصحف أو في الكتب أو على منصات التواصل الاجتماعي.
مثل عُصفورٍ أبيض أثخنته جراح الحرب والشتات حتى بدا كالعُرجونِ القدِيمِ، جَلس الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي، على ضفاف معبر الكرامة الواصل بين المملكة الأردنية والضفة الغربية، وحيدًا يجترُّ مأساته وقضايا وطنه المسلوب، وما إن اتكئ على فخذه وحملق في الأفق؛ حتى أشاع بياض عينيه 30 عامًا من الشتات والنفي والطرد والتشريد والإبعاد عن الوطن.
“ها أنت تعود إلى أرضك وموطنك يا مريد، مؤتمرًا بأوامر سلطة ترفض الاعتراف بها، كما ترفض الاعتراف بك، تعود حاملًا في يديك تصريح دخول إسرائيلي. أهكذا تنتهي الأمور إذن؟”. ربما حدثته نفسه بذلك قبل أن يفيقَ من سهوته على صوت ضابطٍ اسرائيلي يطلب منه التقدم نحو غرفة ضيقة ذات شبابيك قصيرة وتحيطها الأعلام الإسرائيلية من كل جانب.
وقبل أن يتتابع الارهاص في ذهنه، قدَّ قميصه بسؤالٍ آخر بدا أكثر منطقية من سابقيه: لماذا تحيطها الأعلام الإسرائيلية رغم وجودها -نظريًا- داخل أرض عربية تتبع السلطة الوطنية الفلسطينية؟ حسنًا، هذه الأضغاث آثرت في نفسه حنينًا من نوع مختلف، وجب معه العودة لما قبل ذلك بثلاثين عامًا كي يستطيع الإجابة.
“قبل أن يعيد الرجل العظيم تشكيل مجتمعه، فإن مجتمعه يشكله ابتداءً”
هربرت سبنسر
(1)
“أنا مريد البرغوثي، أكبر عُمرًا من دولة إسرائيل بأربع سنوات”. وبينما كان العالم العربي بأسره يتشكل على مقاس جمال عبد الناصر، وجدتُ نفسي لاحقًا به في ليلة شتوية عام 1963، حين لملمت الحقائبَ مسرعًا مخافة أن أفقد السيارة المتجهة صوب مصر في رحلة دراسية، ظننتها قصيرة، فإذا بها تمتد بين المنافي حتى يومنا هذا. “في رام الله كنا نتلصص الاستماع إلى خطب جمال عبدالناصر من صوت العرب؛ لأن الاستماع كان يعرض الشخص للشبهة وربما للمساءلة، وفي رام الله رقصنا للوحدة بين سوريا ومصر وإعلان الجمهورية العربية المتحدة، وفيها بكينا يوم إعلان الانفصال، وفيها سمعنا لأول مرة بقرارات “الاشتراكية” الصادرة من مصر، وأصبحنا، نحنُ طلابُ المدارس الصغار، نتساءل ما الذي يمكن أن يعنيه ذلك المصطلح”.
لهذا فقد كنتُ متلهفًا للقاء مِصره حقًا، وأنا الشاهد على عصره وأفراحه وأتراحه، ولم أزل مشتاقًا، رغم الهزيمة والفقد والسنوات الطويلة، لصرخته أمام الكاميرات بألا تفاوض مع إسرائيل، ولا صلح مع إسرائيل، ولا اعتراف بإسرائيل. كلمات لم يستطع تطبيقها فعليًا؟ معك كامل الحق، بل سأزيدك من الشعر أبياتًا بأنه لم يسعَ لتطبيقها ابتداءً، فمن يريد الوحدة بين الأقطار العربية المنكوبة، وجب عليه تأسيس نظام ديمقراطي صلب يحترم الإنسان، ومن أراد بلدًا كبيرًا، وجب عليه التخلي عن السلطة طوعًا ليسمح بتداولها بين عموم الناس في إطار دستوري واضح.
“الديكتاتورية هي أُم الكبائر السياسية”، وبالتبعية فهي كبيرة عبد الناصر التي قضت عليه قبل أن يصل إلى مسعاه، لكنه رغم ذلك، ظل أقومُ قيلًا وفعلًا من البقية. فهو من بدأنا معه كفاحنا المسلح لاسترداد الأرض، بعدما كلف ممثل فلسطين في الجامعة العربية، أحمد الشقيري، في مؤتمر القمة العربية بالاسكندرية عام 1964، بمتابعة اتصالاته بالفلسطينيين أينما وُجدوا لتنظيم صفوف المقاومة. فكانت هي الخطوة الأولى لتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وذراعها العسكري “جيش التحرير الفلسطينى”، متخذةً من الكفاح المسلح طريقًا وحيدًا لتحرير كامل الأراضي المحتلة من الماء إلى الماء، وهنا قد يحضر سؤال هام: إذا كانت المنظمة ذات طابع ثوري، فلماذا ارتضت بالأمر الواقع بعد عبد الناصر؟
في حقيقة الأمر هناك أسباب كثيرة يمكن اختصارها في أنها فكرة ناصرية صالحة، حملت داخلها جرثومة سقوطها في الوقت ذاته، لماذا؟ لأن عبد الناصر أدارها بطريقته الخاصة، فلم يحشد لها – كعادته- تنظيمًا مؤسسيا يحملها من بعده، ولم يعتمد على أصحاب الكفاءات في تسوية أمورها، بل على أهل الثقة، فانهارت بأيدي من وثق بهم وأمنهم، وتحولت سريعا إلى النقيض كأي تجربة ناصرية قُتلت في مهدها أو بعد وفاته، ولنا في سقوط نظامه الاشتراكي فور رحيله عبرة لمن يعتبر.
وهناك دليل آخر؛ تلك الصورة المعلقة أمامي في هذه الغرفة الحدودية الضيقة: ياسر عرفات، رجل عبد الناصر الأثير في فتح، والصاعد على أكتافه نحو رئاسة منظمة التحرير، مصافحًا إسحاق رابين، عرَّابُ حرب الأيام الستة. أليس هذا هو السبب الرئيسي فيما حل بنا وبقائدِكَ من مصاب بعد النكسة؟ منذ متى وأصبح هذا الرجل صديقًا حميمًا يا أبا عمار؟
جمال عبد الناصر ظل ينأى بنفسه عن ارتكاب مثل هذا الفعل أو تلك المصافحة، لكنه لم يربي رجاله على هذا الأمر، ولم يضع تصورًا واضحًا للقضية يخرجه هو، كشخصٍ، من المعادلة، واعتمد في تسيير القضايا على نمط من الحكم الفرداني لم أكن من داعميه يومًا، لكنني رغم ذلك، لازلت أشعر بالحنين إلى حُلمه الكبير، لأنه على الأقل، كان يحمل داخله مكانًا للجميع، كما كان يحمل مكانًا خاصًا لي شخصيًا، وأقولُ لي شخصيًا، لأن مرارة الفقد بعد ذلك ستجيء متنكرة في زي علاقات مطبعة بين محمد أنور السادات والقيادة الصهيونية. فما إن قررتُ الاحتماء بالقاهرة الناصرية من براثن الغبن والتشتت بعد النكسة، حتى وجدت نفسي “مرحلًا بالقوة الجبرية من البلد الأمين مخافة أن اعترض على معاهدة السلام المزمع إقامتها بين مصر وإسرائيل، على أنني لم أفقد الوطن فقط هذه المرة، بل فقدت معه أواصر العلاقة مع زوجتي الحبيبة رضوى عاشور وولدي تميم ذو الخمسة أشهر”.
ولهذا ظللت حاملًا في قلبي غصة خاصة تجاه أنور السادات، جبت ما قبلها من مرارة: “فالكريم يظل كريمًا حتى وإن جُرح بالهزيمة، والذليل يظل ذليلًا حتى وإن ادعى النصر”.
“ما أُخِذَ بالقوّة لا يُسترَدّ بالتوسُّل والتّسوُّل”
مريد البرغوثي
(2)
“أنا مريد البرغوثي، أكبر عمرًا من دولة اسرائيل بأربع سنوات”، وأريد أن أسأل سؤالًا: لماذا يكيل صديقي محمود درويش الكلمات في مديح ياسر عرفات، وهو العالِمُ بتلابيب رحلتي منذ البداية؟ لماذا يكتب عن الخِتيار، وأنا الفلسطيني والظل العالي والوحيد كمًا وكيفًا. لذلك فأنا أعلم صدقًا أن الخلافات داخل الهيكل التنظيمي لمنظمة التحرير قد ارتفعت وتيرتها، بعدما قررت القيادة ترك السلاح والسير على درب كامب ديفيد. لدرجة جعلت من الأيام السابقة لوفاة عرفات، المُحاصر في مقر حكمه منذ عام 2002، بؤرة للكثير من المعارك الخفية بينه وبين خليفته المنتظر محمود عباس على السلطة، وليست للمعارك الميدانية ضد قوات الاحتلال، أو لفك الحصار عن رئيس الدولة.
عرفات الذي استحوذ على السلطة لفترة طويلة أصبح فجأة يشعر بالتهديد بعد صعود عباس إلى منصب رئيس الوزراء، خاصةً بعد تعيينه رجل أميركا الأول في المنظمة، محمد دحلان، في منصب وزير الدولة لشؤون الأمن، فما كان من عرفات إلا تقويض سلطة حكومة عباس عن طريق تعيين هاني الحسن في منصب “المفوض العام لفتح في الضفة وقطاع غزة”. صراعات كثيرة على لا شيء، وهذا تحديدًا ما كانت تهدف إليه إسرائيل منذ كامب ديفيد مرورًا بوادي عَرَبة وإرهاصات بشير جميل وصولًا لأوسلو، “فبعدما فشلت نكسة حزيران في تحقيق أهدافها، ووجدتنا إسرائيل يدًا واحدة اقتصاديًا وسياسيًا نحو حربها و”استنزافها”، كان لابد لها من تغيير استراتيجيتها نحو فتح جبهات للصراع الداخلي يأكل فيها بعضُنا بعضًا”.
كما حاولت الآليات الصهيونية إقناع القادة ما بعد عبد الناصر بالانقضاض على نموذجه المقاتل والجنوح للسلم، وهذا بالضبط ما جنت ثماره بعد كامب ديفيد التي أقامها السادات دون سند شعبي، فأفقدت مصر سيطرتها الفعلية على سيناء، بما في ذلك المعبر الحدودي الواقع -نظريًا- تحت سيادتها والسلطة الفلسطينية، كذلك بعد أوسلو التي أقامها عرفات بدعم من الفصائل المسلحة وبعض الحكام العرب، حيث تحوّلت منظمة التحرير من حركة تحرر وطني إلى ما يشبه حكومة بلدية صغيرة بلا صلاحيات حقيقية، مع بقاء ذات الحفنة من الأشخاص في القيادة، فلم تكن سوى ورقة تعترف فيها إسرائيل بحق الفلسطينيين في إقامة حكم ذاتي على الأراضي التي ستنسحب منها في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهذا الحكم الذاتي لا يعني بالضرورة الاعتراف بوجود دولة مستقلة ذات سيادة كاملة.
“كما أضحت كذلك صفقة القرن الحقيقية، إذا ما دققتم في ما أوصلتنا إليه من كوارث: انهيار المعنى، وتآكل الأرض وتوَحُّش المستوطنات والتعاون المعلن والمستتر مع الاحتلال وانقسام الصف وموت روايتنا عن حقنا وصعود رواية العدو وفساد النخب”.
“سبب انقراض الديناصورات أنها قبل ملايين السنين وافقت على اتفاقيات أوسلو”
مريد البرغوثي
(3)
“أنا مريد البرغوثي، أكبر عمرًا من دولة اسرائيل بأربع سنوات”، ولطول العمرِ والتجربة فأنا أعلم تمام العلم أن السُلطة في عالمنا العربي هي المرادف الوحيد للتسلُّط. سمعت مرة من صديقي ناجي العلي أن حنظلة كان ولا يزال مكتوف اليدين، لأنه يرفض التطبيع، وهكذا سيظل مقيدًا هكذا حتى تُستعاد الكرامة العربية؛ فهل لهذا الرأي ربطتك الصحافة والخبراء السياسيين باغتيال ناجي يا أبا عمار؟
وحتى لو لم تكن أنت المسؤول عن حادثة مقتله تلك، فهذا لا يعني أنك بريء منها تمامًا، لأن ربطك بالجريمة أصلًا له دلالات مختلفة، وله سوابق يمكننا أن نسأل فيها محمود درويش نفسه، ليحدثنا عن سبب الخلاف بينك وبينه بعد أن داهمت مركز الأبحاث لإلقاء القبض على صديقه إلياس خوري إثر مقالة انتقد فيها ممارسات المنظمة، فما كان من درويش إلا الاستقالة من رئاسة المركز اعتراضًا على ما فعلت.
كانت تلك الحادثة قبل توقيع أي اتفاق سواء في “غزة – أريحا” أو في أوسلو، وهذا دليل على الجنوح للعنف والتسلُّط قبل أن يكون هناك كراسٍ -ولو اسمية- يمكن الصراع عليها، فما هو حال القيادة الآن بعد أن فقدنا المقاومة الشرعية الوحيدة مقابل شبه دولة؟ ما حال حنظلة بعد أن سلمنا عدونا الرصاصة الأخيرة من أجل الصراع على الفُتات والبقايا؟
هل هذا مهم حقًا في تلك المرحلة؟ لا نعلم، لكن ما نعلمه يقينًا، وما تثبته التجربة أن إسرائيل لم تكن يومًا تريد السلام لكينونته، وأن دعوات السلام الملقاة علينا لا تصح إلا من خلال إيمانِ الجميع بها، كما أن مهادنة العدو واستدرار عطفه دون أن يهابك أو يخاف منك ليست إلا دعوة للانتحار الجماعي، كما أن المثل العُليا للعيش في سلام ومحبة لا يمكن العمل بها إن لم يقتنع أحد الأطراف، وبالتالي فلا مكان لمثل هذه الاتفاقات على الطاولة، لأن عقد أي سلام حقيقي سيوقف إسرائيل عن التوسع، وهو ما لا ترضاه بالطبع، وفي المقالب تسعى جاهدة لعقد اتفاقات جزئية تضمن تقويض العرب بحجة السلام، شرط الانقلاب عليها في الوقت الذي تراه مناسبًا.
“لن نسمح بتكرار خطأ أوسلو مرةً أخرى”
بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء اسرائيل، بعد 65 يومًا من شن عملية “طوفان الأقصى”.
في كتابه “Arab Attitudes to Israel” يرى يهوشافات هركابي، رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق، أن العربي يظلُّ فارس مقدام في المعارك، لكنه ملول بطبعه، لذلك فمن الأفضل جره لمعركة مفاوضات يسهل الانتصار عليه فيها، بدلًا من استدراجه لمعارك دامية لن تكن يومًا سهلة المنال لذلك فلا عجب من أن المفاوضات والاتفاقات وعمليات التطبيع التي يسعى لها الكيان الصهيوني قد ولدت ميتة بالفعل في عيون الشعوب العربية والمقاومة الحقيقية، وفي عيون جيلٍ قادم لثمته الكوفية الفلسطينية، فأدرك بها ومنها طبائع الأمور، وعمل بالتبعية على الإمساك بزمام المقاومة مرةً أخرى.
مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن “زاوية ثالثة”.